رصاصة في الليل

استلقَى «تختخ» على فراشه وأطفأ النور … كان قد قرأ بضعَ صفحاتٍ في كتاب «تاريخ النقود» ثم تركه جانبًا وقرَّر أن ينام، فقد كانت الساعة قد تجاوزَت منتصفَ الليل بقليلٍ … ولم تكن والدتُه تُحِب أن ترى نورَ غرفته مُضاءً بعد العاشرة … فهي تُحِب أن تُطبِّق في حياتها وفي حياة كلِّ مَن في البيت مبدأَ «نَمْ مبكرًا واستيقظ مبكرًا» … وكان «تختخ» يعتقد أن من حقِّه ما دام في الإجازة أن يسهر حتى ينتهيَ الإرسال التليفزيوني … خاصةً إذا كان في البرنامج شيءٌ يُحِب أن يراه … وكثيرًا ما كان يدور بينه وبين والدته نقاشٌ حول هذا الموضوع … وكان والدُه يُفضِّل أن يقف على الحياد من المناقشة … فلا ينضمُّ إلى أحدِ طرفَي النقاش.

في هذه الليلة لم يكن في التليفزيون شيءٌ يستحقُّ المشاهدة … فصَعِد إلى غرفته وأخَذ يُقلِّب في كُتُبِه باحثًا عن شيءٍ يقرؤه حتى استقرَّ رأيُه على رواية لم يكن قد أتمَّها فانتهى من قراءتها في ساعتين … ثم أمسك بكتاب النقود يقرأ فيه ولكنَّه شعر برأسه يتثاقل، ففضَّل أن ينام … تقلَّب في فراشه فترة … ودُهِش لأنه لم يَنَمْ على الفور … وأخذ يُفكِّر … هل هناك شيءٌ يُقلقه؟

وكعادته استعاد إلى ذهنه شريطَ الأحداث الذي مرَّ به طول النهار … باحثًا عن شيءٍ يدعو إلى القلق … ولكن اليوم كان عاديًّا جدًّا … التقى بالمغامرين في الصباح … تمشَّوا على كورنيش النيل … أخذوا قاربًا وقضَوا ساعةً في النهر … عادوا إلى الكازينو ثم ذهبوا إلى حديقة منزل «عاطف» وجلسوا يتحدَّثون … كانت «لوزة» كالعادة متضايقةً؛ لأنهم لا يجدون لُغزًا يشتركون في حَلِّه … شاهدوا الشاویش «علي» على درَّاجته … لاحظوا أنه ينظر إليهم في استهتارٍ … فسَّرَت «نوسة» هذه النظرة بأن الشاویش مشتركٌ في حلِّ لُغزٍ لا يعرفه المغامرون … وسرعان ما حاولت «لوزة» استنتاجَ هذا اللغز … ولكن طبعًا لم يكن عندها أيُّ معلوماتٍ يمكن أن تبنيَ عليها استنتاجاتها …

وقُرْب الغَداء افترق المغامرون، وعاد «تختخ» مع «زنجر» إلى البيت ولم يُغادره حتى الآن … إذن ليس هناك ما يدعو إلى الأرق أو القلق … فلماذا لا ينام؟!

غادر فراشه، وسار على ضوء الشارع الخفيف الذي يُضيء غرفتَه إلى النافذة، فتحها ووقف ينظر إلى السماء. كان الجو ما زال مُنعشًا رغم أن شهر يوليو كان قد بدأ … ووقف قليلًا يَرقُب الشارع الخالي … ثم استدار ليعود إلى فراشه … ولكنه في هذه اللحظة سمع «زنجر» يُطلق زمجرةً خافتة، ثم ينطلق في الحديقة جاريًا … وعاد «تختخ» إلى النافذة مُسرعًا، واستطاع أن يرى «زنجر» وهو يقفز سور الحديقة من مكان اعتاد أن يقفز منه ثم ينطلق جاريًا بجوار السور … وسمع صوتَ أقدامٍ مسرعة وأدرك أن ثمة مطاردةً بين شخصٍ ما و«زنجر» … لعله لصٌّ حاول أن يدخل الحديقة … وأخذ «تختخ» يفكِّر بسرعةٍ فيما ينبغي عمله … هل يلبس ثيابه وينزل … أم أن اللصَّ سيبتعد سريعًا … وقبل أن يتَّخذ قراره … سَمِع صوتَ صراعٍ يدور بين «زنجر» وبين اللصِّ … واتَّخذ قرارَه على الفور … فتح النافذة على اتِّساعها … بدأ ينزل على الشجرة التي اعتاد أن ينزل، ويصعد عليها إذا أراد ألَّا يُزعجَ أبوَيه بدخوله وخروجه … ولكن لم يكَد ينزل من الفرع الأول إلى الفرع الثاني حتى مزَّق أحدُ الأفرع ظهْرَ البيجامة من ناحية الكتف، وحاول أن يتحرَّك، ولكنه وجد نفسه مُعلَّقًا في الغُصن كأنه معلَّقٌ على شمَّاعة … أخذ يتحرَّك بحذرٍ، ولكنَّ الغصن كان قد امتدَّ على طول جاكتة البيجامة وقيَّد حركته … وفي نفس الوقت سمع «زنجر» أثناء صراعه مع اللصِّ … ثم سمع أزیزًا حادًّا أدرك على الفور أنه صوتُ رصاصةٍ أُطلقت من مُسدسٍ صامتٍ ثم سمع «زنجر» ينبح في ألمٍ شديدٍ … وعاد يسمع صوت الأقدام مرةً أخرى … وبسرعةٍ خلع جاكتة البيجامة، وتركها مُعلَّقة في الغُصن، وأخذ ينزل كالقرد حتى وصل إلى الأرض، انطلق يجري إلى حيث كان الصراع الدائر بين «زنجر» واللصِّ … وقبل أن يَصِل إلى السور شاهد من بعيدٍ شخصًا يجري في اتِّجاه الشارع الرئيسي، ثم يختفي في ظلام سور الفيلات والعمارات العالية … ومن المؤكَّد أنه كان نفسَ الشخص الذي اشتبك معه «زنجر».

فتح باب الحديقة وخرج … كان «زنجر» ما زال ينبح، ولكنَّ صوتَ نُباحه مالَ إلى الخُفوت … فاتَّجه إليه مُسرعًا، وجدَه مُلقًى على الأرض وقد رفَع إحدى قدمَيه الخلفيَّتَين إلى فوق … وتحته كانت بركةٌ من الدماء …

انحنَى «تختخ» على «زنجر» وأمسك بقدمه، كانت الدماء تسيل بغزارةٍ ولم يتردَّد «تختخ» خلع فانلته ومزَّق جزءًا منها، وأخذ يربط قدَمَ «زنجر» المصابة وهو يُحدِّثه: لا تَخَفْ یا «زنجر» … ما دامت الإصابةُ بعيدةً عن القلب فلن تموت. وعندما نظر «تختخ» إلى وجه «زنجر» وجده يُمسك بين أسنانه قطعةً من القماش الأسود. وانحنَى عليه وأخرج القطعة من بين أسنانه … ولم يكَدْ يفتحها حتى طارت منها قطعةٌ صغيرة من الورق … فأسرع خلفها … وأخذَت الريح تعبث بالورقة … وتُحرِّكها من مكان إلى مكان و«تختخ» يجري خلفها … وعندما انحنى ليُمسكها بعد مطاردةٍ طويلة فُوجئ بما لم يكن في حُسبانه.

انشقَّت الأرض عن الشاویش «علي» يركب دراجته … كان قد خرج من شارع مجاور فلم يَرَه «تختخ» إلا وهو أمامه … وأمسك «تختخ» بقطعة الورق الصغيرة بين أصابعه ورفع رأسَه … كان الشاويش يقف بعد أن نزل من على الدراجة، وهو ينظر إلى «تختخ» بدهشةٍ شديدة.

كان «تختخ» قد نَسيَ تمامًا أنه خلَع جاكتة بيجامته … ثم خلع فانلَّته وربط بها ساقَ «زنجر» المصابة … لقد شغلَتْه مطاردةُ الورقة والحادث المُثير الذي حدث ﻟ «زنجر» عن تذكُّر ما جرى له هو شخصيًّا.

قال «تختخ» وهو ينظر إلى الشاويش في دهشة لا تقِلُّ عن دهشته: ماذا جرى يا شاویش «علي» … إنك تنظر إليَّ وكأنني حيوانٌ من حيوانات ما قبل التاريخ؟

لم يردَّ الشاويش … بل ظل يُبحلق في «تختخ»، وعاد «تختخ» يقول: ألَا تنطق يا حضرة الشاویش … ألم ترَ أحدًا من قبل يسير في الشارع في ساعة متأخرة من الليل؟!

مدَّ الشاويش إصبعَه، وأشار إلى صدر «تختخ» العاري … وتتبَّع «تختخ» اتجاه الإصبع وسرعان ما اتضحت له الحقيقةُ … إنه عاري الصدر تمامًا حتى وسطه. وأحسَّ بالخجل الشديد … ولكنه تمالَك نفسه سريعًا … وفي هذه المرة تحدَّث الشاويش وقال: ماذا حدث لك؟ ماذا تفعل في الشارع وأنت عارٍ بهذا الشكل؟

أخذ «تختخ» يُفكِّر سريعًا … هل يقول للشاویش عمَّا حدث؟ إنه في هذه الحالة لا بدَّ أن يذهب معه لكتابة محضرٍ في القسم بكل الأحداث التي مرَّت خلال الساعة الماضية ثم يضع نفسه تحت رحمة الشاویش لفترةٍ طويلة … فسوف ينتهز الشاويش الفرصةَ ويستدعيه كلَّ يومٍ ليسأله. وفي نفس الوقت فهو لا يستطيع أن يُخفيَ ما حدث عن ممثِّل القانون … فهناك رجلٌ قد حاول اقتحام منزله، وهناك رصاصةٌ أُطلقت … وهناك إصابة «زنجر» … ولكن قبل أن يَصِل إلى قرارٍ أسرع يقول للشاويش: ولكن يا شاویش «علي» أنت لم تَقُل لي ماذا تفعل أنت في هذا المكان في هذه الساعة من الليل؟!

بدأ الشاويش يعبث بشاربه كعادته كلَّما تضايَق وقال بغضبٍ: ليس من حقِّك أن تسألَني ماذا أفعل، ألستُ ممثِّلَ القانون في هذه المنطقة؟ إنني مسئولٌ عن أمنِ كلِّ مواطنٍ في هذا المكان، ومن حقِّي أن أتواجد في أيِّ وقتٍ!

وسكت الشاویش لحظةً يستجمع أنفاسَه ثم مضى يقول: إنني سوف أُخطر والدك بما حدث هذه الليلة.

وتضايق «تختخ» وقال: أعتقد أنه لا داعي لإقحام أبي في هذا الموضوع يا شاویش … ثم إننا أصدقاء نتعاون في تنفيذ القانون.

انتفخ وجهُ الشاویش وقال: أصدقاء! إنني لا أُصادق أطفالًا أمثالكم … أنا الشاویش «علي» ممثِّل القانون!

وعاد يركب درَّاجته وهو يقول: ثم هناك شيءٌ هامٌّ يجب أن تعرفه … إنك تُعرِّض نفسك لخطر شدید بنزولك إلى الشارع بهذا الشكل … فهناك إجراءاتٌ … ولكن قبل أن يُتمَّ جملتَه توقَّف … وارتسمَت على وجهه ابتسامةٌ غامضة ثم قال: إنكم تظنون أن عندكم القدرة على حلِّ الألغاز وخوض المغامرات … ولكن هناك أشياء لا يتدخَّل فيها أطفالٌ مثلكم!

قال «تختخ»: ولكن يا شاويش … كنت أريد …

ردَّ الشاویش بلهجةٍ خاطفة: تُريد أو لا تُريد، ليس عندي وقتٌ للحديث معك فهناك ما هو أهمُّ.

عاد «تختخ» يقول محاولًا سرْدَ ما جرى للشاويش: ولكن يا شاویش …

ولكن قبل أن يُكمل جملتَه كان الشاویش قد أطلق لدرَّاجته العِنان مُبتعدًا وترك «تختخ» واقفًا مكانه مذهولًا …

وفي هذه اللحظة مرَّت سيارةٌ فاخرة تسير ببطءٍ … ثم بدأت تتوقف في نفس المكان الذي كان «زنجر» يرقد عنده جريحًا … ولاحظ «تختخ» أن شخصًا نزل من السيارة فأسرع يجري تجاهه … وعندما سمع الرجلُ صوتَ أقدام «تختخ» التفت إليه … وعلى أضواء الشارع استطاع «تختخ» أن يلمح وجهًا غريبًا يُشبه وجهَ الفأر … وسُرعان ما أخفى الرجل وجهَه وراء يده … ونظر حوله في الأرض نظرةً شاملة … ثم أسرع مرةً أخرى إلى السيارة التي انطلقت به مسرعةً وترك «تختخ» يقف مذهولًا في وسط الشارع!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤