مشهدٌ من النافذة

رغم سرعة إيقاع الأحداث التي مرَّت ﺑ «تختخ» إلَّا أنه لم ينسَ أن يحفظ أرقام السيارة، لقد تمَّ ذلك أوتوماتيكيًّا … فالمغامر الذكي تعمل حواسُّه تلقائيًّا … وهكذا قامت عيناه بالتقاط رقم السيارة … وقام مخُّه بتسجيل الرقم في ذاكرته … وكان الرقم ٧٥٧٥٧ على لافتة الأرقام الخضراء … فهي إذن سيارة دیبلوماسية … وانحنى «تختخ»؛ ليحمل «زنجر»، رفعَه بين ذراعَيه ووقف … وقعَت عيناه على شيءٍ يلمع كان مختفيًا تحت «زنجر» … فانحنى والتقطه … كان قلمًا أضخمَ قليلًا من الحجم العادي … وأثقل وزنًا … وفكَّر «تختخ» لحظاتٍ … ثم مضى يحمل «زنجر» …

كانت المشكلة كيف يدخل ﺑ «زنجر» … إلى الفيلا ليفحصه … كانت الساعة قد تجاوزت الثانية صباحًا ومن غير المعقول أن يدقَّ الجرسُ فيُوقظ والدَه الذي كان عادةً يستيقظ سريعًا.

ووقف أمام الفيلا لحظاتٍ … ثم ابتسم وهو يَلعن غباوته … فقد كانت هناك طريقةٌ وحيدة لدخول المنزل … وهكذا وضَع «زنجر» على الأرض وقال له وهو يربت عليه: لا تخَفْ يا «زنجر» سأعود إليك سريعًا.

ودار حتى وصل إلى الشجرة التي نزل عليها، وتسلَّقها سريعًا، ثم نزل من النافذة إلى غُرفته … ونزل سلالم الفيلا الداخلية بهدوءٍ، ثم ذهب إلى باب المطبخ الخلفي وفتحَه وخرج إلى حيث وضع «زنجر» وحملَه مرة أخرى، ودخل به إلى الحمَّام.

فكَّ الرباط الذي ربط به ساق «زنجر» المصابة … ولدهشتِه وجد أن الدماء قد توقَّفت عن النزف … وأدرك أن الجُرح ليس عميقًا … فقال ﻟ «زنجر»: تحمَّل قليلًا يا «زنجر» حتى أطمئن على إصابتك …

ثم أخذ يتحسَّس العظام هنا وهناك … ووجد العظام سليمةً، وكذلك المفاصل، ووجد أن الرصاصة قد أصابَت اللحم، ثم مضَت في طريقها، فقال مبتسمًا: كل شيءٍ على ما يُرام يا «زنجر» … ليس هناك أيُّ مشكلة … سنُطهِّر الجرح ونربطه وستتناول وجبةً ساخنة وستصبح على ما يرام في الصباح.

وحمل «زنجر» إلى الحمَّام، وقام بغسل الجرح جيدًا، ثم وضع عليه بعض المطهرات وربطه جيدًا، ثم عاد ومعه «زنجر» إلى المطبخ، فأعدَّ له وجبةً ساخنة من اللحم وضعها أمامه، ثم ذهب هو إلى الحمَّام فاغتسل … وغيَّر ثيابه … ثم عاد إلى «زنجر» … فوجده قد انتهى من طعامه واستغرق في نوم عميق فتركه وخرج.

عاد «تختخ» إلى غرفته … وتذكَّر قطعة القماش وقطعة الورق … والقلم، وضع قطعة الورق على الكومودينو، والقلم على الفراش … فوضعهما معًا أمامه على مائدة صغيرة، وجلس … أخرج قطعة الورق وأخذ يتأمَّلها … ولكنه تنبَّه فجأةً إلى صوت سيارة تُقبل من أول الشارع، فتابع صوتَها بأُذُنَيه، وعندما توقَّفت أدرك أنها توقَّفت في المكان الذي أُصيب فيه «زنجر»، فقام مُسرعًا والتصق بالجدار داخل غرفته، ونظر من النافذة … وعلى مصباح الشارع شاهد نفس السيارة، ونفس الرجل … كان الرجل قد أخرج بطاريةً وأطلق شُعاعها القويَّ على الأرض، وأخذ يبحث عن شيء … أدرك «تختخ» على الفور أنه يبحث عن القلم الذي وجده تحت «زنجر».

كانت جاكتة الرجل ممزَّقةً، وقد تهدَّل جيبُها في المكان الذي اقتطع منه «زنجر» قطعةَ القماش … وأخذ الرجل يدور ويدور وهو منحنٍ على الأرض … ثم رفع رأسَه ونظر حوله … ووقع نظرُه على نافذة «تختخ» … فأخذ ينظر إليها طويلًا … كانت هي النافذة الوحيدة المضاءة في هذه الساعة … وربما هكذا فكَّر «تختخ» أن يكون الرجل شاهد جاكتة البيجامة التي كانت ما تزال معلَّقةً على أغصان الشجرة.

ظل «تختخ» منكمشًا بجوار جدار الغرفة وهو يرى الرجل من بعيدٍ … كانت عشرات الخواطر تدور في ذهنه … تمنَّى أن يعرف ما هي حكاية هذا الرجل في هذا المكان … وما الذي جاء به قُرْب منزل «تختخ» بالذات … وما الأهمية البالغة التي بهذا القلم الذي يبحث عنه … وكيف جَرُؤَ على إطلاق الرصاص على «زنجر»؟ هل يحتمي بصفته الديبلوماسية التي تحميه من القبض عليه إلا بعد استئذان دولته، أو ضبْطه متلبِّسًا بجريمة؟

وتمنَّى أيضًا لو استطاع أن يتَّصل بالمفتش «سامي» فورًا … لعلَّه يجد في سلوك هذا الرجل ما يُريب … وهو مريبٌ فعلًا … وقبل أن يسترسل «تختخ» في مزيد من الخواطر، كان الرجل قد استدار وركب سيارته التي كان قد ترك محرِّكها دائرًا … ثم انطلق مُبتعدًا بسرعة كبيرة.

عاد «تختخ» إلى قطعة الورق التي ضمَّها «زنجر» مع قطعة القماش … وبحذر شديد أخذ «تختخ» يفرد قطعة الورق ثم انحنى عليها مدقِّقًا، محاولًا أن يقرأ بعض الكلمات التي تناثرت هنا وهناك … ولكن النعاس الذي أخذ يُثقل جفنَيه لم يُتِحْ له فرصةَ القراءة، فترك الورقة مكانها … ثم قام فأغلق النافذة خوفًا من أيِّ محاولةٍ للدخول كما حدث في مغامرات سابقة … ثم استلقى على الفراش وسرعان ما استغرق في النوم …

عندما استيقظ «تختخ» في صباح اليوم التالي كانت الساعة قد تجاوزَت التاسعة ولم يَكَد يفتح عينَيه، ویستوي في فراشه حتى سَمِع صوت «حُسنية» الشَّغالة وهي تُناديه … كانت هناك مكالمةٌ تليفونية له.

نزل «تختخ» من فراشه مسرعًا إلى الصالة، وأمسك سماعة التليفون، وكان المتحدث هو «عاطف» الذي قال: «تختخ» … ماذا حدث أمس؟

ذُهِل «تختخ» فلا أحدَ في العالم يعرف ماذا حدث أمس إلا هو و«زنجر»، فردَّ في دهشةٍ: ماذا هناك يا «عاطف»؟ ماذا تقصد بهذا؟

عاطف: لا أدري سوى أن الشاویش «فرقع» قد حضر منذ نحو نصف ساعة وروى لنا قصة غريبة عنك!

ابتلع «تختخ» ريقَه، فقد خشيَ أن تكون المسألة أكثر من هذا وقال: ماذا قال لكم بالضبط؟

عاطف: يقول إنه رآك بالمايوه على بلاج المعادي!

وضحك «عاطف» وعرَف «تختخ» أنه كالعادة يسخر منه، فقال له: احجز الشاويش عندك ولا تتركه يُغادركم حتى أحضر.

ثم وضع السماعة دون أن ينتظر ردًّا، وقفز إلى الحمَّام، ثم إلى دولاب الملابس … ثم إلى الصالة حيث تناول إفطارًا خفيفًا، ثم إلى المطبخ حيث اطمأنَّ على «زنجر» ثم خرج فقفز على درَّاجته، وانطلق بها في اتجاه منزل «عاطف».

عندما وصل «تختخ» إلى منزل «عاطف» شاهد الشاویش «علي» يجلس بين المغامرين وهو يتحدَّث بحماسٍ، فعرف أنه يُحدِّثهم عمَّا حدث أمس ليلًا، وربما أضاف من خياله تفاصيلَ أخرى لم تحدث … فمن غير المعقول أن الدقائق التي التقيَا فيها أمس تستحقُّ كلَّ هذا الحديث.

عندما ظهر «تختخ» عند مدخل الحديقة سكت الشاویش عن الكلام … ولمعَت عيونُ المغامرين، وبدَت البهجة على وجه «لوزة» فقد أدركت أن شيئًا ما سيحدث يُبعِد عنها هذه الحياة الراكدة التي تحياها بلا مغامراتٍ ولا ألغازٍ.

أخذ الشاويش يبرم شاربَه كعادته وهو ينظر إلى «تختخ» باستخفافٍ … كان يُشبه قِطًّا يُداعب فأرًا قبل أن يلتهمَه ولم يدرِ الشاويش أن «تختخ» مستعدٌّ لهذا الحوار وأنه لا يمكن أن يكون فأرًا في أيِّ وقتٍ.

وقد بدأ «تختخ» الهجوم فورًا فقال: ماذا قلت لأصدقائي يا حضرة الشاویش، لقد سمعت من «عاطف» قولك إنك رأیتني بالمايوه على كورنيش النيل!

تلعثم الشاويش أمام هذا الهجوم، واعتدل في جِلْسته ليردَّ ولكن «تختخ» سارعَ إلى معالجته بصدمة أخرى، فقال: ولنفرض أن هذا حدَث يا حضرة الشاويش فهل هناك قانونٌ يمنع الشخص من التواجد على شاطئ النيل بالمايوه؟

وقف الشاويش متضايقًا وصاح: إنني لم أَقُل أيَّ شيءٍ من هذا الكلام الذي تقوله، ولكن المشهد الذي رأيته أمس لا يمكن أن يكون من شخص عاقل! إنك كنت تتجول في الشوارع عاريَ الصدر بدون سبب واضح!

جلس «تختخ» وقال: هل يمكن أن تجلسَ لحظةً يا شاویش … إن هناك حديثًا هامًّا لا بد أن تسمعه بصفتك ممثِّلَ القانون في هذه المنطقة.

ظل الشاويش واقفًا لحظاتٍ كأنما لا يريد أن يسمع کلام «تختخ» ولكن لهجة «تختخ» أقنعَتْه أنه يتحدَّث عن شيء حقيقي … وأنه جادٌّ ولا يُعَدُّ مقلبًا كما اعتاد المغامرون أن يفعلوا.

جلس الشاويش … وترَك شاربه وقال «تختخ» موجِّهًا حديثَه إلى المغامرين: إن هذا الحديث يخصُّكم أيضًا … فنحن على أبواب مغامرة جديدة!

ثم أخذ «تختخ» يروي الأحداث التي مرَّ بها ليلة أمس بالتفاصيل … وأخذ الأصدقاء والشاويش يستمعون في شغفٍ واهتمامٍ … وظل «تختخ» يروي حتى انتهى من قصته … ولكنه أخفى شيئين هامَّين عن الشاویش، قطعة الورق التي وجدها داخل قطعة القماش التي انتزعها «زنجر» من بدلة الرجُل … والقلم غير العادي الذي سقط من الرجل … كان يُريد أن يُبقي هذين الدليلين معه حتى ينتهي من فحصهما ثم يسلِّمهما بعد ذلك إلى الشاويش.

وعندما انتهى «تختخ» من حديثه أطلق الشاویش قنبلةً، ولكنه لم يُفجِّرها … قال الشاويش: إنكم لا تعلمون … إن أجهزة الأمن في بلادنا كلها تبحث عن رجلٍ له هذه الأوصاف.

تختخ: لماذا يا شاویش؟ ماذا فعل هذا الرجل؟!

تغيَّر لونُ وجهِ الشاويش ثم هبَّ واقفًا وقال: لا يمكن أن أقول لكم … إنكم تتدخَّلون في عملي … إنني لا أسمح لكم …!

تحدَّث «عاطف» أخيرًا وقال: إنها فرصتُك أن تقولَ لنا يا شاویش لعلَّنا نستطيع أن نُساعدَك في القبض على هذا الرجل.

الشاويش: لا يمكن … إنني …

وقبل أن يُتمَّ جملتَه انطلق مسرعًا، وقفز على درَّاجته ثم اختفى عن عيون المغامرين الذين ظلُّوا ينظرون إلى الشارع الذي اختفَى فيه الشاویش … ثم انفجر «عاطف» ضاحكًا، وقال: لقد أُصيب الشاویش بأرتكاريا مفاجئة … إننا نُصيبه بحساسية شديدة كلَّما عرضنا عليه أن نُساعدَه.

قال «تختخ» بغموض: ونحن نستطيع أن نساعدَه فعلًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤