القنبلة

ظلَّت «نوسة» لحظاتٍ لا تُجيب ثم قالت: مدهش يريدك أن تتصل به.

تختخ: نعم جاء إلى المنزل ولم أكن موجودًا وترك لي ورقةً بها رقم التليفون.

نوسة: وماذا ستفعل؟

تختخ: سأتصل به طبعًا.

نوسة: ولكن!

تختخ: ولكن ماذا؟ إنه لن يخرج من جهاز التليفون شاهرًا مسدَّسَه.

نوسة: وبالنسبة للإعلانات؟

تختخ: اتَّصلي بالأصدقاء، واذهبوا إلى العنوان في الإعلان الأول واسألوا … فإذا لم تجدوا شيئًا ذا أهمية، فاذهبوا إلى العنوان الثاني.

نوسة: ألم تلاحظ شيئًا غير عاديٍّ في العنوان الثاني؟

تختخ: ما هو؟

نوسة: رقم ۱۱۰۰، من غير المعقول أن يوجد في شارع ۳۳ منزل بهذا الرقم، فليس في المعادي كلها شارع بهذا الطول، وأنا أذكر شارع رقم ۳۳، إنه ليس شارعًا طويلًا إلى هذا الحد.

تختخ: معك حقٌّ … ولكن ربما كان هذا خطأً مطبعيًّا!

نوسة: سنحاول على كل حالٍ.

تختخ: وسنلتقي في الثامنة مساء في حديقة منزل «عاطف»، وسنتبادل المعلومات فربما توصَّلْنا إلى شيء.

ووضع «تختخ» السمَّاعة وجلس ساكنًا يفكِّر … إن الأمور تسير بسرعةٍ غير عادية … والمفتش «سامي» ليس موجودًا … وعليهم الاعتماد على أنفسهم، بعد أن رفض الشاویش «علي» التعاونَ معهم … وأحسَّ «تختخ» بحواسِّه تستيقظ … وبرغبة المغامرة تسري في عروقه. وعندما نزل للغداء، كان واضحًا أنه مشغولٌ جدًّا … حتى إن والدته لاحظت أنه يملأ ملعقتَه بالطعام ثم يمدُّ يدَه بالملعقة إلى فمه … ثم يتوقف ولا يضع الطعام في فمه … بل يظل مُمسكًا الملعقةَ في يده، وعيناه تنظران إلى بعيد … كأنه يبحث عن شيء مجهول …

قالت والدتُه معلِّقة: ماذا جرى يا «تختخ»، يبدو عليك كأنك تبحث عن خاتم سليمان!

انتبَه «تختخ» وقال: خاتم سليمان … أين هو؟

قال والده مُندهشًا: هل تبحث حقًّا عن خاتم سليمان؟

تختخ: لا … ولكني سمعت الوالدة تتحدث عنه!

هزَّ والد «تختخ» رأسَه في دهشة وسكت … واحمرَّ وجهُ «تختخ» خجلًا، وأحنَى رأسَه على الأطباق، وأخذ يتناول طعامه بسرعة وتركيز … وبعد أن انتهى منه وغسل يدَيه، أسرع إلى غرفته ثم تمدَّد على الفراش واستغرق في التفكير.

•••

هبط المساء على المعادي بطيئًا، وكان «تختخ» يقف في نافذة غرفته، يتأمَّل بقايا أشعة الشمس الغاربة وهي تنسحب في جانب الأفق الغربي … حتى إذا تمَّ غروب الشمس، خلَّفت وراءها ضياءً خفيفًا أخذ يعتم تدريجيًّا … وسرعان ما ارتدَّ «تختخ» إلى داخل الغرفة ونظر إلى التليفون، ثم إلى ساعته، وجلس وأخذ يُدير قُرصَ التليفون. مرَّت لحظاتٌ ثم سَمِع صوتَ الجرس وهو يدقُّ عند الطرف الآخر … وسرعان ما سَمِع صوتَ رجل يردُّ …

قال «تختخ»: هل هذا رقم ۳۷۸۸۳؟

ردَّ الرجل: نعم … مَن أنت؟

قال «تختخ»: أنا الذي طلبتُ منه الاتصال بك بعد السابعة مساء!

بدأ التلهف على صوت الرجل وهو يقول: أنت «توفيق» صاحب الكلب الأسود؟

تختخ: نعم … الكلب الذي أطلقتَ عليه الرصاص!

الرجل: آسفٌ جدًّا … إنه هو الذي اضطرني إلى ذلك، إني أُحِب الكلاب جدًّا، ولا أستطيع أن أُوذيَ كلبًا مهمًّا كان، ولكنه انقضَّ عليَّ، ولم يترك لي فرصةً للدفاع عن نفسي … المهم كيف حاله الآن؟

تختخ: إنه على ما يرام … والآن ماذا تريد؟

الرجل: إنني أعتقد أنك عثرتَ على قلمٍ أسود اللون، أضخم من القلم العادي قليلًا ليلة أمس!

تردَّد «تختخ» لحظاتٍ، فقال الرجل يستحثُّه: إني أُحدِّثك من أجل مصلحتك!

تختخ: مصلحتي أنا؟

الرجل: نعم … فإذا كنت قد عثرتَ على القلم فلا تتردَّدْ في الإجابة!

تختخ: هل تُهدِّدني؟

الرجل: مطلقًا لا … ولكني أُحِب أن أقولَ لك إنه من الأفضل لك أن تُعيدَ القلم لي فورًا … دون أن تعبثَ به.

تختخ: وإذا لم أردَّه؟

الرجل: في هذه الحالة أكون غيرَ مسئولٍ عمَّا يحدث لك …

صمتَ «تختخ» لحظاتٍ يقيس كلام الرجل … ويفكر في الأضرار التي يُمكن أن تُصيبَه من قلمٍ وجدَه … ولم يُصدِّق أن هذا القلم يمكن أن يُحدِث أيَّ ضررٍ … ولكن الكلمات التالية كانت مفاجأةً كاملة …

قال الرجل: إن القلم الذي معك هو ببساطة «قنبلة».

أحسَّ «تختخ» أن خِنجرًا أصاب قلبَه … ذلك أنه أعطى القلم «لمُحِب» ومن المؤكد أن «مُحِب» الآن يعبث بالقلم … وربما انفجر وقتلَه … بل ربما يكون «مُحِب» الآن قد مات فعلًا بعد أن انفجرَت فيه هذه القنبلة التي على شكل قلم.

قال «تختخ» بصوت لا يكاد يُسمَع: تقول … قنبلة؟!

قال الرجل: نعم … قنبلة … وهناك جزءٌ خاصٌّ صغيرٌ جدًّا فيها إذا تحرَّك من مكانه فإنها تنفجر حسب المسافة التي تحرَّك فيها هذا الجزء. قد تنفجر بعد دقائق أو بعد ساعات … فهذا الجزء الصغير هو جهاز توقیت لضبط الوقت الذي تنفجر فيه القنبلة.

أخذت السماعة ترتعش في يد «تختخ» … فالمسألة أخطر مما تصوَّر بكثيرٍ … وأدرك في هذه اللحظة لماذا كان الرجل ملهوفًا وهو يبحث عن القلم … ولم يَدْرِ «تختخ» ماذا يقول وهو يسمع الرجل يتحدَّث قائلًا: أَعِد القلم فورًا. وسأُعطيك خمسين جنيهًا مكافأة لك على احتفاظك به … وإذا لم تكن تُريد إعادتَه … أَلْقهِ في النيل.

قال «تختخ»: ولكن …

قال الرجل: أنصحك … بل أرجوك ألَّا تتردَّدَ، إن حياتك، وربما حياة أسرتك كلها متوقفةٌ على إعادة القلم. وعلى كل حالٍ … إذا كنت لا تريد أن تمدَّ يدَك عليه خوفًا من أن ينفجر، فسوف أحضر فورًا لآخذَه منك.

تختخ: إنك لا تعرف ما حدث … لقد أخذه أحدُ أصدقائي.

صاح الرجل بغضبٍ جامح: ماذا تقول … ماذا تقول … صديقك؟!

ولكن «تختخ» لم يردَّ عليه … لقد وضع السمَّاعة وقفز كالملسوع، بل كالمجنون وأخذ يقفز السلالم دون أن يلتفت إلى أيِّ إنسانٍ … ولكن لم يَكَد يَصِل إلى باب الفيلا حتى تذكَّر أنه بدلًا من الإسراع إلى منزل «مُحِب» ففي إمكانه الاتصال به تليفونيًّا لعله يستطيع أن يُنبِّهَه إلى خطورة الموقف … وهكذا عاد يصعد السلالم جريًا مرة أخرى، ثم دخل غرفتَه وأمسك سمَّاعة التليفون، وأخذ يُنصت في انتظار صوت الحرارة عندما تدبُّ في جهاز التليفون ولكن كأنما القدَر كان يُعاكسه … كان التليفون صامتًا … وأخذ «تختخ» يدقُّ على الجهاز لعل الحرارة تَدُبُّ فيه … ولكنه ظل کالجثة الهامدة …

أحسَّ «تختخ» أن رأسه يكاد ينفجر، وكأنه قد ابتلع القلم القنبلة، إنه عاجزٌ تمامًا عن التصرُّف ولكن الحرارة دبَّت في التليفون فجأةً، فأخذ يُدير الأرقام بأصابعَ مرتعشةٍ وهو في انتظار النبأ المؤلم … ولكن عندما دقَّ جرس التليفون في الطرف الآخر وسمع صوتَ والدةِ «مُحِب» وهي تردُّ أحسَّ ببعض الراحة … فقد كانت تتحدث بطريقة طبيعية.

قال «تختخ»: أنا «توفیق» … هل «مُحِب» موجود؟

ردَّت السيدة: لا يا «توفيق» … لقد خرج منذ لحظات!

تختخ: وحده؟

الوالدة: نعم … لقد خرجت «نوسة» … مع «عاطف» و«لوزة» قبله … وبقيَ هو فترة ثم خرج وحده.

تختخ: ألم يَقُل أين سيذهب؟

الوالدة: لا.

تختخ: هل كان معه القلم؟

مرَّت لحظاتُ صمتٍ … وأدرك «تختخ» أنه أخطأ بهذا السؤال … فقد جاءه الردُّ ساخرًا: أيُّ قلمٍ تقصد يا «توفیق»؟ ليس عندي أيةُ فكرةٍ عن الأقلام التي يستخدمها «مُحِب»، وهل يخرج بها أو يتركها!

قال «تختخ»: آسف جدًّا يا عمتي … آسف جدًّا!

قالت السيدة وهي تتنهَّد: لا بأس يا بُنيَّ … لا بأس!

ووضع «تختخ» السمَّاعة وقد غمرَه عرقُ الخجل … لقد أحسَّ ببعض الراحة … ولكن القنبلة إذا لم تكن قد انفجرت حتى الآن فمن الممكن جدًّا أن تنفجر في أي لحظةٍ … فهل القلم مع «مُحِب» أم تركه في منزله … كان عليه أن يتأكَّد.

أسرع ينزل السلالم مرة أخرى كالمجنون، وقفز إلى دراجته، ثم أطلق لها العنان في طريقه إلى منزل «مُحِب» … كانت الأفكار تزدحم في رأسه فلم يسبق له من قبل أن مرَّ بمثل هذه التجربة العجيبة … مغامرةٌ تأتي حتى عنده … ثم تتطور تطوراتٍ سريعة … فهناك رصاصٌ صامتٌ … وقنابل … وتهديد … وإعلانات صحف … وأشياء متداخلة … وعناوين في المعادي بعضها معقول … وبعضها غير معقول … أشياء مدهشةٌ … والمفتش «سامي» غير موجودٍ ليطلب منه العون في هذه الموضوعات الخطرة … والشاویش «علي» غير متعاونٍ على الإطلاق … وظل يجري دون أن يلفت يمنةً أو يسرةً … ودون أن يرى أن هناك سيارة تتبعه.

وصل «تختخ» إلى منزل «مُحِب»، ونزل لاهثَ الأنفاس وأخذ يدقُّ الجرس حتى فتح له البابَ «فتح الله» الشَّغال عند أسرة «مُحِب»، فقال له «تختخ»: جئتُ آخُذ شيئًا من غرفة «مُحِب».

كان «فتح الله» يعرف علاقة «تختخ» و«مُحِب» فلم يتردَّد أن فتَح له الباب وأشار له بالدخول.

أسرع «تختخ» إلى غرفة «مُحِب» وفتح الباب ودخل …

كانت غرفةً جميلة تهتم «نوسة» دائمًا بتزيينها … وأغلق «تختخ» الباب خلفه وألقى نظرةً شاملة على المكان … ولكنه لم يرَ القلم القنبلة … فأسرع إلى مكتب «مُحِب» وأخذ يفتح الأدراج بسرعةٍ ولكن القلم لم يكن موجودًا … فتح الدولاب وأخذ يبحث في كل ركنٍ ولكن القلم ليس له أثر.

وقف «تختخ» وسط الغرفة كالمذهول … ماذا يفعل الآن … أين ذهب «مُحِب» وأين القلم … وفي هذه اللحظة سَمِع بعضَ الأصوات في الحديقة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤