أين «مُحِب»؟

أسرعَ «تختخ» إلى النافذة ونظرَ من خلالها إلى الحديقة … كان «عاطف» و«نوسة» و«لوزة» يتحدثون ولم يكن «مُحِب» معهم فصاح فيهم: أين «مُحِب»؟ نظروا إليه في دهشةٍ … لم يكن من المتوقع مطلقًا أن يجدوه في هذه الغرفة في هذه الساعة … وقالت «نوسة»: لقد خرج قبل أن أخرج بقليل.

تختخ: وأين ذهب؟

نوسة: لا أدري … كان معه القلم العجيب الذي عثر عليه. وكان يستمع إليه كأنه يستمع إلى راديو!

صمت «تختخ» كأنما أُصيب بطلقة رصاص … وفكَّر أن الصوت الذي كان يسمعه «مُحِب» من القلم ليس صوتَ رادیو … ولكنه صوت القنبلة؛ فالقنابل الزمنية تُصدر صوتًا منتظمًا كصوت الساعة.

وصاح «تختخ»: ألم يَقُل لك شيئًا؟

نوسة: لا … ولكنه كان يبدو مهتمًّا كأنما عثَر على شيءٍ خطيرٍ.

تختخ: طبعًا … خطيرٌ جدًّا … لقد عثر على قنبلة!

نوسة: قنبلة؟!

أشار لهم «تختخ» أن ينتظروه، وغادر النافذة ونزل مُسرعًا حتى وصل إلى الحديقة وانضمَّ إلى المغامرين … وقال «عاطف»: ما هي الحكاية … تقول إن «مُحِب» عثر على قنبلةٍ؟!

قال «تختخ» وهو يجلس مُنهارًا على أحد الكراسي: نعم … إن القلم الذي عثرتُ عليه أمس ليس إلا قنبلة … وصاحبه عرض عليَّ أن أُعطيَه له مقابل مبلغ كبير … من المال … أو حتى أُلقيَ به في النيل … ولكن المشكلة أنه مع «مُحِب» ولا أدري أين ذهب «مُحِب»؟

ساد الصمت بعد هذه الجملة … وأدرك المغامرون لماذا كان «تختخ» في غرفة «مُحِب» في هذه الساعة … ولماذا يبدو منزعجًا!

قالت «لوزة»: على كل حال … ليس في إمكاننا عملُ شيءٍ الآن … و«مُحِب» على كل حالٍ ليس ساذجًا … ومن المؤكد أنه يستطيع التفرقة بين صوت القنبلة وصوت الراديو، أو أي صوتٍ آخر … لقد قرأ الكثير عن أنواع القنابل الخداعية التي تبدو بريئة المظهر!

تختخ: وماذا فعلتم أنتم؟

ردَّ «عاطف»: قُمْنا بالبحث عن العنوانَين اللَّذَين عثرَت عليهما «نوسة» في الإعلانات المبوَّبة، وأحد الإعلانَين كما تعلم عن فيلا للبيع، وقد ذهبنا إلى هناك وعثرنا على الفيلا فعلًا، وليس في هذا العنوان ما يُريب.

تختخ: والعنوان الآخر؟

عاطف: عنوانٌ زائف، الشارع رقم ۳۳ موجودٌ فعلًا، لكن رقم ۱۱۰۰ غير موجود ولا أحد هناك يسمع عنه.

تختخ: طبعًا … ولكن ماذا كان يعني هذا العنوان إذن؟

لوزة: ربما ليست له علاقة بالمغامرة كلها … ربما كانت الورقة التي في جَيب الرجل مجردَ قصاصة ورق وُجدت بالمصادفة … وأنه لم يكلمك عنها … ولم يطلبها كما طلب القلم!

•••

بينما كان هذا الحوار يدور بين المغامرين الأربعة … كان «مُحِب» يقوم بمغامرة مثيرة. أساسها الأرقام التي وُجِدت في الورقة … هذه الورقة التي كانت «لوزة» تظنُّ أنها وُجِدت بالمصادفة لقد كانت ورقةً في غاية الأهمية … فعندما تسلَّم «مُحِب» القلم من «تختخ» وعاد به إلى البيت أخذ يفحصه بدقةٍ … كان من الواضح أنه أثقلُ من القلم العادي … وأن ثمةَ أشياء غريبة فيه «شرائح زجاجية من الأمام»، وظل «مُحِب» يفحص القلم ويحاول فَهْمَ الأرقام … واللمبات الصغيرة جدًّا المُعلَّقة فيه … وبعد الغَداء أحسَّ أن رأسَه تُؤلمه فلم يخرج مع «لوزة» و«نوسة» و«عاطف» للبحث عن الفيلا المعروضة للبيع ولا عن الرقم ۳۳ و۱۱۰۰. وهكذا ظل متمددًا في الفراش بعد أن تناول قرصَين من الأسبرين … وعندما استيقظ في المساء كانت الشمس قد غَرُبت … وأحسَّ بأنه أصبح على ما يُرام … وبعد أن اغتسل عاد يُمسك القلم ويفحصه … وفجأة سمع صوتًا يصدُر منه … صوتًا متقطِّعًا كضربات بالقلم الرصاص على قطعة من الخشب … ثم صُفَّارة متقطعة … وأحسَّ «مُحِب» بانفعال شديد، قد عرَف على الفور أن القلم ليس إلا جهاز إرسالٍ واستقبال من نوع نادر … وأخذ يحاول فكَّ رموز الشفرة التي يسمعها «تك. تاك. تك. تك»، ولاحظ أنه عندما يُدير الجهاز إلى اتجاهٍ معيَّن … فإن صوت الصفَّارة يتزايد … والصوت المتقطع يقلُّ … وأخذ «مُحِب» يحوِّل الجهاز إلى اتجاهاتٍ مختلفة … حتى وجده يتزايد في اتجاه الشرق … فنزل إلى الحديقة، وإذا بالصوت يتزايد تدريجيًّا … وهكذا خرج من الحديقة إلى الشارع وهو يضع القلم في جيبه كأي قلمٍ … وفي نفس الوقت يسمع الصفير المتقطع الذي يصدر منه، ويقوده عبر الشوارع من ارتفاع الصوت حتى وجد نفسه قريبًا من منزل «تختخ» ثم زاد الصفير في اتجاه شارعٍ جانبيٍّ صغيرٍ … واتجه «مُحِب» مع الصفير المتقطع حتى وجد نفسه أمام فيلا صغيرة في نهاية الشارع الجانبي … كانت فيلا مهجورةً … مُظلمة.

كان الصفير الآن يبلغ أقصى درجاته … وعلى غطاء القلم في الجزء المعدني منه، لمعَت لمبة صغيرة حمراء أكَّدت أن الجهاز قريبٌ جدًّا من مصدر الإرسال، واقترب «مُحِب» من الفيلا الصغيرة … ثم توقَّف خارجها وأخذ ينظر إلى اللمبة الحمراء … وهي تتوهج وتنطفئ … والصوت المتقطع وقد ازدادت ضرباتُه. وتأكَّد «مُحِب» أن الفيلا الصغيرة هي مصدر الإرسال، ودهش كيف يمكن أن يوجد جهاز إرسال في هذا المكان.

دخل «مُحِب» حديقة الفيلا … وكان الظلام مُخيِّمًا … والصمت يلفُّ المكان، وليس هناك بارقة ضوءٍ … كان كل شيءٍ يؤكِّد أن الفيلا مهجورة تمامًا، فكيف يمكن أن يكون بها جهاز إرسال؟ ومَن الذي يعمل عليه؟ ولأي غرضٍ؟!

اجتاز «مُحِب» حديقة الفيلا، وأحنَى قامته، ومشى بين الأشجار والأعشاب الكثيفة …

كانت الحديقة مهملةً لا أثرَ للعناية بها … فقد نمَت فيها كلُّ أنواع الأعشاب دون أن يُشذِّبَها أحدٌ فتكاثفَت حتى أصبحت مثلَ الغابة … وأخذَت الفيران والحشرات تقفز هنا وهناك.

وفجأةً وجد «مُحِب» فأرًا ضخمًا يصطدم بقدمه … وكان ينفر من الفيران فأحسَّ بخوفٍ مفاجئٍ وسقط على الأرض … ووقع منه جهازُ اللاسلكي بين الأعشاب الكثيفة. عندما استعاد «مُحِب» توازنَه توقَّف قليلًا يُنصت، ولكن لم يكن هناك أيُّ صوتٍ فأحسَّ ببعض الاطمئنان أن أحدًا لم يرَه أو يشعر به … وبدأ يبحث عن جهاز اللاسلکی الصغير … وفي البداية كان يظن أنه سيعثر عليه سريعًا … ولكن الجهاز اختفى بين الأعشاب الكثيفة ولم يعثر له على أثرٍ … وأحسَّ بضيق شديد … وأخذ يُضاعف جهدَه في البحث عن الجهاز ولكنه اختفى تمامًا كما تختفي إبرةٌ في كومة من القشِّ.

لم يتصور «مُحِب» أن ينتهيَ كلُّ شيءٍ بهذه السرعة … وقرَّر أن يدخل الفيلا مهما كلَّفه الأمر، وأن يرى لماذا كان جهاز اللاسلكي يقوده إلى هذا المكان بالذات، واقترب من إحدى النوافذ، ووضع أُذُنَه عليها يستمع لعله يسمع أيَّ صوتٍ يدلُّه على ما يحدث داخل الفيلا، ولكن لم يكن هناك صوتٌ على الإطلاق … كانت الفيلا صامتةً صمْتَ القبور.

تلفَّت «مُحِب» حوله، لم يكن هناك أيُّ شخصٍ قريب … وأخذ يجذب المصراع الخشبي للنافذة محاولًا فتْحَه … ولكن المصراع كان قويًّا على غير ما توقَّع من منظره البالي …

وأحسَّ «مُحِب» بالغضب … وأخذ يحاول باذلًا أقصى قوته … وبدأ مصراع النافذة ينجذب إلى الخارج … ولكن في هذه اللحظة أحسَّ «مُحِب» بخطواتٍ خلفه … والتفتَ سريعًا … ولكن قبل أن يرى مَن القادم أو يعرف ما يحدث … كانت ضربةٌ قوية قد هبطَت على رأسه ورأى آلاف النجوم تبرُز أمام عينَيه … ثم هبط ظلامٌ كثيف وسقط على الأرض فاقدَ الوعي.

لم يَطُلْ إغماءُ «مُحِب» … فقد استيقظ على ضوءٍ قويٍّ يكاد يُعمي عينَيه واضطره إلى وضع يده على وجهه لحظات … ثم بدأ يواجه ما أمامه … وجد نفسه مُلقًى على الأرض في غرفة صغيرة بلا نوافذ … كان واضحًا من ماء الرشح الذي يُغطِّي جدرانها أنها تحت الأرض … وكانت اللمبة ذات النور القوي التي أغشَتْ عينَيه مُعلَّقة في منتصف الغرفة … ولاحظَ على الفور أنه وحده … وأن باب الغرفة مغلقٌ … وهناك شُرَّاعة زجاجية أعلى الباب.

وضع يدَه على رأسه حيث كان يشعر بألمٍ شديد … ثم أدار رقبتَه يمنةً ويسرةً ليتأكد أنها ما زالت في مكانها … وحرَّك أعضاء جسمه كلها … وعندما اطمأنَّ إلى عدم وجود كسورٍ بجسمه أخذ يزحف حتى اقترب من الباب … وسمع صوتَ دقاتٍ تأتي من بعيدٍ … دقَّات تُشبه الدقات التي كانت تصدُر من جهاز اللاسلكي الصغير، وإن كانت أقوى وأوضح.

ظل «مُحِب» يستمع إلى الدقَّات لحظات، ثم مدَّ يدَه، وأخذ يحاول تحريكَ النافذة الزجاجية حتى ينظر إلى ما يحدث خارج الغرفة … ولم يجد صعوبةً في تحريك الزجاج جانبًا ثم وقف على أطراف أصابعه ونظر، كان أمامه دهليزٌ طويل مُظلم تمامًا … لا يُضيئه سوی شعاع من الضوء يخرج من غرفة جانبية … وكان في نهاية الدهليز بابٌ يلمع على ضوء الشعاع البعيد … ورجَّح «مُحِب» أنه بابٌ من الحديد … وقبل أن يسترسل في فحصه، انقطع شعاعُ الضوء بشبح ضخم يخرج من الغرفة المضاءة، وأغلق «مُحِب» زجاجَ النافذة بهدوءٍ ثم أسرع إلى حيث كان مُلقًى على الأرض … فاستلقى مرة أخرى. وأغمض عينَيه.

سَمِع المفتاح يدور في قُفْل الباب ثم سَمِع خطواتِ رجلٍ تقترب منه … ثم أحسَّ بالرجل ينحني عليه ويُقلِّبه، وفجأةً نزل على وجهه سيلٌ من الماء البارد وسمع الرجل يقول: استيقظ!

لاحظ «مُحِب» أن لهجة الرجل ليست مصريةً … وتظاهر بأنه يتألَّم ثم وضع يدَيه على عينَيه لحظات، ثم فتح عينَيه ونظر إلى الرجل، كان طويلَ القامة، شعرُه نصف أشيب … له شاربٌ غليظ، وعلى وجهه آثار القسوة والدهاء.

قال الرجل: لماذا كنت تحاول دخول الفيلا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤