محطة الإرسال …

وقف «تختخ» في الظلام لحظات ساكنًا، ثمَّ مدَّ يدَه فأغلق النافذة … ثم خطَا إلى الأمام، وهو يُضيء طریقَه بخيط رفيع من النور أطلقه من بطاريته … كانت الغرفة التي يسير فيها واسعةً … تُغطِّي جُدرانَها رفوفُ الكتب. وفي جانب منها مكتبٌ ضخم قد تناثرَت عليه أوراقٌ وملفات مفتوحة … ولاحظَ «تختخ» أن التراب يُغطِّي المكان بشكلٍ مُلفتٍ للنظر … وكأنه لم يُستخدَم منذ فترةٍ طويلة.

وصل إلى الباب فوقف لحظاتٍ وأخذ يستمع، ولكن السكون كان شاملًا … فمدَّ يدَه وفتح الباب وخطَا إلى الخارج … توقَّف لحظات ثم أطلق شعاعَ الضوء الرفيع تدريجيًّا في الدهليز … ولاحظ مرة أخرى أن الأتربة تُغطِّي المقاعد واللوحات وكل شيء … وسار «تختخ» متمهلًا يستمع إلى كل صوت … ولكنه لم يسمع شيئًا على الإطلاق … وظل يسير في الدهليز حتى نهايته … ومرة أخرى أخذ يستمع … ولكن كل شيءٍ ظل ساكنًا وهادئًا حتى أحسَّ «تختخ» بشيء من الريبة يغزو نفسه … فهذا الصمت مريبٌ جدًّا وقد ينتهي فجأة بحادثٍ أو بشيءٍ غير متوقعٍ. وأخذت أعصابه تتوتَّر … وتذكَّر الرصاصة الصامتة التي أصابت «زنجر» وأحسَّ أنه من الممكن أن تُطلَق عليه رصاصةٌ مماثلة في أي وقتٍ …

ولكن لا شيء حدث وأخذ «تختخ» ينحرف بشكل أسرع … أخذ يفتح كلَّ باب يراه وينظر داخله … بدأ يحسُّ بإحساس المغامر الذي لا يُخطئ أن الوقت تزداد أهميتُه وقد صدقَ إحساسُه … فعندما فتح إحدى الغُرف وأطلق شعاع الضوء الرفيع سقط الشعاع على ساقٍ يعرفها جيدًا … ومرَّر خيط الضوء مع بقية الساقين، ولم يَعُد هناك أدنى شكٍّ أن هذا الجسد المُلقى على الأرض مُقيَّدًا هو «مُحِب» … وأحسَّ أن قلبه سيقف … فقد ظنَّ أن صديقه قد مات.

أسرع «تختخ» إلى صديقه، ولم يَعُد يهمُّه ماذا يحدث له … وضع البطارية على الأرض وانحنى عليه كان مقيدًا ببراعة … ومُكمَّمًا … ولكن من المُدهش أن الذين كمَّموه وقيَّدوه لم يكتفوا بذلك، بل خدَّروه أيضًا … فعندما حاول «تختخ» الحديث إليه لم يردَّ … وأخذ «تختخ» يُقلِّبه يمينًا ويسارًا ويناديه دون أن يحصل منه على كلمة واحدة … وعندما قرَّب أنفَه من أنفاس «مُحِب» البطيئة شمَّ على الفور رائحةً غريبة أدرك أنها أثر المُخدر الذي أُعطي له.

فكَّ وثاقَ صديقه بسرعة … وأخذ يُدلِّك صدرَه ورقبته كي يُفيقَ … ولكن بعد محاولات أدرك أن لا فائدة، وأخذ ذهنه يعمل بسرعة … المهم الآن أن «مُحِب» حيٌّ لم يَمُت … فهل يكتفي من هذه المغامرة كلها بإنقاذ صديقه أم أن عليه أن يُتابع هذه الأحداث التي مرَّت وانتهت به إلى هذه الفيلا الساكنة المظلمة!

سؤال … أتَت الإجابة عليه سريعًا … فقد قفز «تختخ» مسرعًا خارجًا من الغرفة، وأخذ ينتقل بين بقية الغُرَف ولمَّا لم يكن هناك أحدٌ … قرَّر يائسًا أن يعود إلى حيث كان «مُحِب». وبينما هو يخطو في الدهليز أحسَّ أن الأرض تحت قدمَيه ليست ثابتةً تمامًا … كأنها تهتز قليلًا … وسلَّط شعاع بطاريته إلى ما تحت قدمَيه ونظر … ولاحظ على الفور أن الخشب يتباعد في أجزاء على شكل مربع …

انحنى «تختخ» على هذا المربع وأخذ ينظر … كان واضحًا أنه بابٌ سريٌّ أُخفيَ بمهارة في الدهليز … ووضع «تختخ» أُذُنَه على الباب وأخذ يستمع … وخُيِّل إليه أنه يسمع صوتًا بعيدًا كأنه صوت موتور يدور … وسرعان ما أخرج أدواته الدقيقة وأخذ يتحسَّس طرفَ الباب حتى استطاع أن يدفعَه من مكانه بهدوء وحذر ونظر خلاله … لم يكن هناك سوى الظلام. ولكن، في جانب من الأرضية كان هناك طرفُ سُلَّم من الحديد الرفيع … وسمع «تختخ» الصوت الذي سمعه من قبل أكثر ارتفاعًا.

توقَّف لحظاتٍ يفكِّر … كان واضحًا أن نزوله السُّلَّم قد يؤدي إلى مغامرة رهيبة … ولكن هل هذه أول مرة يُلقي بنفسه فيها في أحضان المغامرة؟ لم يفكِّر سوى ثوانٍ قليلة … ثم وضع أدواته في جيبه … ومدَّ ساقَيه وبدأ ينزل السُّلَّم.

كان حديدُ السُّلَّم قديمًا ومتآكلًا … وكان وزن «تختخ» الثقيل يُهدِّد بانهيار السُّلَّم في أية لحظة … ولكنه ظلَّ مُصرًّا على النزول برغم إحساسه بأن السُّلَّم يهتز تحت ثِقَل جسمه … حتى إذا اقترب السُّلَّم من نهايته كان صوت الموتور الذي سمعه قد أصبح واضحًا تمامًا … وتأكَّد له أن ثمة سيارةً ضخمة تُدير محركاتها استعدادًا للانطلاق ودُهش أن توجد سيارة في هذا المكان … وتحت هذا العمق من الأرض.

عندما انتهى السُّلَّم ونزل «تختخ» إلى الأرض توقَّف لحظات … كان ثمة ضوءٌ ينفذ من خلال جدار من الصاج القديم، وعلى هذا الضوء استطاع «تختخ» أن يُحدِّد مكانه … كان تحت الأرض بنحو سبعة أمتارٍ … وعلى يساره جدارٌ أصمُّ من الأسمنت المسلح … وعلى يمينه جدارٌ من الصاج … وخلفه كانت آلات سيارة كبيرة تدور … وأصوات أشخاص يتحدثون.

اقترب «تختخ» على أطراف أصابعه من الجدار الصاج كانت هناك ثقوبٌ كثيرة يمكنه أن ينظر منها فيرى ماذا يدور خلف الجدار، واقترب من أحد الثقوب ونظر محاذرًا فرأى على الضوء المنبثق من مجموعة من اللمبات الضخمة سيارةً كبيرةً تُشبه سيارةَ نقل الأثاث وقد كُتب على جوانبها بالخطِّ العريض «موبيليات الفرنساوي» بدمياط وأرقام التليفونات والسجل التجاري. وكان ثلاثة من الرجال منهمكين في شحن السيارة ببعض الأجهزة بينما كان رجلٌ رابع قد فتح غطاء مُحرك السيارة وأخذ يَرقبه بانتباه كأنما هناك احتمالٌ لخطر وشيك.

كانت الفكرة التي طرأَت على ذهن «تختخ» هو ماذا يفعل هؤلاء الرجال في هذا المكان؟ وما هي هذه الأجهزة؟ وما هي علاقة هؤلاء الرجال «بمُحِب» الذي كان مُلقًى على الأرض مُخدَّرًا في غرفة مظلمة؟ وهل لهؤلاء الرجال الأربعة علاقة بالرجل الذي أطلَق على «زنجر» الرصاص؟

دارَت هذه الأسئلة في ذهن «تختخ» دون أن يَصِل إلى إجابة واحدة ثم طرأ له سؤالٌ أهم من هذا كله ماذا يفعل الآن؟ وجاءته الإجابة بأسرع مما توقَّع فقد انتهى الرجال من شحن الأجهزة وأغلقوا باب السيارة الخلفي ووقفوا يتحدَّثون معًا. وبالرغم من صوت محرك السيارة فقد استطاع «تختخ» أن يستمع إلى بعض الكلمات، سمع … السيارة الأخرى … الولد … المُخدَّر … الشاطئ.

ثم انصرف اثنان منهم مُسرعَين واختفيَا، أما الاثنان الآخران فقد ركبَا سيارةَ نقل الأثاث فقفز أحدهما في مقعد القيادة وجلس الآخر بجواره. أدرك «تختخ» أن السيارة ستتحرك بعد قليلٍ. فخطَا خطواتٍ سريعةً أوصلَته إلى الجدار ثم انبطح على الأرض وأخذ يزحف حتى أصبح خلف السيارة تمامًا، وبسرعة استطاع أن يفتح القُفْل الذي كان مثبَّتًا في باب السيارة الخلفي وفتح الباب بهدوءٍ. وفي نفس اللحظة التي قفز فيها إلى داخل الصندوق الخشبي كانت السيارة قد تحرَّكت خارجةً من مكمنها العجيب تحت الأرض.

أخذ محرك السيارة يهدر بشدة وكان واضحًا أن السيارة تصعد مطلعًا في طريقها إلى الخارج. وفي هذه اللحظات بدأ «تختخ» يفكِّر ما الذي جعله يقوم بهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر فيدخل في جوف سيارة لا يعرف إلى أين تذهب. واستمرت السيارة تهدر صاعدةً لمدة خمس دقائق قبل أن يعود المحرك إلى صوته العادي … وبهذا أدرك «تختخ» أن السيارة قد وصلت إلى الشارع فأسرع يفتح الباب الخلفي وينظر.

وعرَف على الفور أن السيارة تدور حول الفيلا وبعد ثوانٍ قليلةٍ ستمرُّ بالمكان الذي يقف فيه «عاطف» و«زنجر». وهكذا أخرج بطاريتَه واستعدَّ. وعندما أصبح قريبًا من مكان «عاطف» أضاء البطارية في اتجاه «عاطف» مباشرةً وأطلق الضوء ثلاث مرات، وعلى الفور سَمِع «زنجر» ينبح وأدرك أن رسالته الضوئية قد وصلت.

انطلقت السيارةُ مسرعةً في شوارع المعادي الهادئة، وأغلق «تختخ» على نفسه البابَ ثم أضاء بطاريته داخل السيارة وعلى ضوئها الرفيع الخفيف استطاع أن يرى أن هذا الصندوق الخشبي الكبير الذي يبدو كأنه مُعَدٌّ لنقل الأثاث ليس إلا محطة لا سلكية كاملة. وعلى الفور ربط «تختخ» بين هذه المحطة المتنقلة وبين جهاز اللاسلكي الصغير الذي عثر عليه تحت «زنجر» في الليلة السابقة.

وأدرك أنه وقَع بطريق المصادفة على شيء خطير ومثير؛ فقد يكشف عن نشاطٍ يُدَبَّر في الخفاء. وظلت السيارة تمضي مسرعةً، وغرق «تختخ» في تفكير عميق. وكان قد وجد مقعدًا في جانب السيارة جلس عليه وأخذ يُدير أشعةَ بطاريته في الأجهزة الغريبة المعقَّدة التي لم يرَ لها مثيلًا من قبل.

مضَت حوالي نصف ساعة والسيارة تقطع الطريق مسرعةً قبل أن يحدث فجأةً ما غيَّر مجرى الأحداث. فقد كان «تختخ» قد قرَّر أن يبقى في السيارة حتى تقف ثم يتَّصل بالمغامرين ليتصلوا بالأجهزة المختصَّة للحضور إلى مكان السيارة واكتشاف ماذا يدور فيها.

كان الذي حدث هو وقوع السيارة في مطبٍّ كبير أدَّى إلى اهتزازها اهتزازًا شديدًا أدَّى إلى فتحِ الباب الخلفي بشدةٍ فتوقَّفت السيارة. وقبل أن يُدرك «تختخ» ماذا حدث وأن يتصرف بسرعة وجد أحدَ الرجلين يقف عند الباب المفتوح وبیده کشافٌ قويٌّ وبيده الأخرى مسدسٌ ضخم موجَّه إلى قلب «تختخ» مباشرةً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤