الفصل الثاني عشر

الفتنة والحرب

وقضى علي في ذلك أيامًا لا يخلو مجلسه من الأمراء يخوضون في شئون الخلافة، فلم يرَ الحسن سبيلًا إلى مفاتحته في شأن أسماء، وكان هو نفسه في شاغل بتلك الشئون. فلما فرغ علي من تنصيب العمال وقلَّ ورود الناس على بابه، رأى الحسن أن يخاطبه في الأمر، وكان يطلع محمدًا على ما ينويه وهو لا يعلم ما في نفسه من أمر أسماء. وكان محمد إذا خاطبه الحسن في هذا حدثته نفسه أن يطلعه على ما يكنه لها في قلبه ثم يمسك، فقضى أيامًا لا يدري ما يعمل، وكان إذا ذكر له الحسن أنه عزم على مخاطبة أبيه في الأمر سكت أو نقل الحديث إلى شيء آخر. فلقي الحسن محمدًا ذات يوم قاصدًا إلى المسجد وقال له: «أرى أمير المؤمنين قد فرغ من إرسال العمال إلى الأمصار، ولا أرى أمير المؤمنين أصلح من هذه الساعة لأكلمه في شأن أسماء، فأرجو منك أن تكون عونًا لي في هذا.»

فحار محمد في أمره لا يدري بمَ يجيبه، فقد كان يتنازعه عاملان: حب أسماء، وصداقة الحسن، فلبث لا يبدي ولا يعيد، ثم حانت منه التفاتة إلى ما بعد سور المدينة، فأخذ يحدق كأنه يرى شبحًا قادمًا لم يتبينه. ونظر الحسن ليرى هدف محمد في تحديقه، فتراءى له هجَّان مقبل من بعيد.

قال محمد: «كأني به رسول.» فقال: «ممن يكون يا تُرَى؟»

قال محمد وقد سُرَّ لتبديل الحديث: «إني والله ما رأيت رسولًا مقبلًا إلا تشاءمت خيفة أن يأتينا بما يسوء.»

فقال الحسن: «ومن أين ترى الرسول قادمًا؟»

قال: «يظهر لي أنه من الشام، فلعله رسول معاوية.»

قال الحسن: «هيا نستقبله وسنرى ما هناك.»

قال محمد: «هلم بنا فإنه إن كان رسول معاوية فما جاء إلا لحرب لا سلم، لأن أمير المؤمنين كتب إليه منذ ثلاثة أشهر ولم يجب بعد.» ثم انطلقا. وكان الرسول قد دخل باب المدينة، فلما دنا منهما تفرسا فإذا هو رجل من بني عبس وعليه قيافة أهل الشام، وقد التف بالعباءة وتلثم وعلاه غبار السفر. فلما دخل المدينة أخرج من جيبه صحيفة مختومة قبض عليها من أسفلها ورفعها والناس وراءه ينظرون إليها، فاستوقفه محمد وقال له: «ممن أنت؟»

قال الرسول: «من معاوية بن أبي سفيان.» قال: «إلى من؟»

قال: «إلى علي بن أبي طالب.»

قال الحسن: «وماذا تحمل إليه؟» قال: «هذا الكتاب.» فقال: «اذهب إلى أمير المؤمنين إنه في داره.» فانطلق الرسول وهما في أثره وقد شُغِلا بما عسى أن يكون في ذلك الكتاب، ولولا حرمة أمير المؤمنين لفضَّا الختم تلهفًا على علم ما فيه.

ووصل الرسول إلى دار علي فترجل واشتغل بعقل جمله، فسبقه محمد والحسن إلى الخليفة وكان متكئًا في حجرته، فأعلماه بقدوم الرسول فأمر بإدخاله إليه.

فدخل وعليٌّ جالس ومحمد والحسن وغيرهما من الصحابة بين يديه، فتقدم الرسول في غير تهيب ورفع الكتاب بيده، فهمَّ بعض الحاضرين بأن يتناوله منه ولكنه أبى أن يسلمه لغير الإمام علي.

فمد عليٌّ يده وتناول الكتاب فقرأ على ظاهره: «من معاوية إلى علي»، ثم فضه والناس كأن على رءوسهم الطير، فلم يجد فيه شيئًا فبُغِت وغضب، والتفت إلى الرسول وقال: «ما وراءك؟!» قال: «آمنٌ أنا؟» قال: «نعم، إن الرسول آمن.» قال: «تركت ورائي قومًا لا يرضون إلا بالقَوَد.» قال علي: «ممن؟» قال: «من خيط رقبتك. وتركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد جعلوه على منبر دمشق.»

فنظر علي إليه وقال: «أمني يطلبون دم عثمان؟! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، قد نجا والله قتلة عثمان إلا من يشاء الله.» قال ذلك وأدار وجهه عن الرسول كأنه لم يعد يستطيع أن يراه، وأشار إليه أن يخرج.

قال: «أأخرج وأنا آمن؟» قال: «وأنت آمن.» فمشى الرجل يريد الخروج فاعترضه بعض رجال علي وهموا بقتله فصاح فيهم عليٌّ ومنعهم، فنجا العبسي وهو لا يكاد يصدق.

وأشار الإمام إلى الناس فخرجوا، وخلا إلى خاصته وفيهم أولاده ومحمد بن أبي بكر، وبعث إلى عبد الله بن عباس، وقال لهم: «قد سمعتم ما قاله معاوية، فلم يبقَ ثمة بدٌّ من القتال فتهيئوا.» فقالوا بصوت واحد: «إنا معك أنَّى سرت، وما تنتدبنا إليه فإنا طوع أمرك.» فجنَّد جندًا عقد لواءه لابنه محمد بن الحنفية، وجعل على ميمنته عبد الله بن عباس وعلى ميسرته عمرو بن سلمة. وتثاقل أهل المدينة في بادئ الأمر ولكنهم أطاعوا أخيرًا.

وقضى عليٌّ أيامًا يعُد الجيش ويجند الجند، ومحمد والحسن في مقدمة العاملين معه. ولكنه لم يندب محمدًا للقتال فصغرت نفسه في عينه لعلمه أنه أولى بالمسير إلى الحرب، وكان يذكر أسماء فيود لو يبقى ليعلم ما يئول إليه أمرها، ثم ترجع إليه حماسته ليقوم على خدمة علي ويحمل معه عبء القتال.

ذهب محمد بن أبي بكر إلى علي فرآه وحده في غرفته، ورأى في يده رقعة يقرؤها ويعيد تلاوتها وقد أخذ القلق منه مأخذًا عظيمًا، فتهيب الدخول عليه وظل واقفًا عند الباب مترددًا. فلمحه علي فناداه فدخل وحيَّا، فرد علي التحية وهو مقطِّب الوجه فلم يجرؤ محمد أن يبدأه بالكلام وتربص عساه أن يسمع منه خبرًا جديدًا. وظل علي يذرع الحجرة حتى وقف إلى نافذة من نوافذها وأجال نظره إلى الأفق وهو غارق في بحار التفكير، ثم تحول إلى محمد بغتة وقال: «أين الحسن؟»

قال: «لعله في المسجد، فهل من أمر أقوم به؟»

قال: «سأطلعك على ما حدث عما قليل. وبماذا جئت أنت، إني أرى في وجهك خبرًا؟»

قال: «إنما جئت ألتمس من أبي الحسن أن يساويني بأهل الثقة من رجاله.»

قال: «وماذا تعني؟»

قال: «أعني أنك استنفرت الناس وأمرت من أمرت للجهاد، وتركتني وأنا أولى منهم به.»

فتبسم الإمام علي تبسمًا يشوبه قلق وقال: «بُورِك فيك يا ابن أول الخلفاء! لأنت عندي بمنزلة ولدي، ولكنني أمرت سميك محمدًا ابن الحنفية في هذه الحملة واستبقيتك أنت لأخرى.»

قال: «إني طوع بنانك، وأراني مكلفًا بعبء هذه الحرب قبل سواي.»

قال: «لا تستعجل الأمر يا بني، فلن تعدم طريقًا تسير فيه إلى حرب أخرى فقد كثرت إليها الطرق.»

فلمح محمد من وراء ذلك أمرًا مكتومًا فقال: «وماذا يعني مولاي بالحرب الأخرى؟ وهل حدث ما يدعو إلى حرب؟»

فألقى علي الرقعة إليه وقال: «اقرأ هذه فقد أتتني الآن بالخبر اليقين.»

فتناولها محمد ونظر فيها فإذا هي كتاب أم الفضل من مكة تنبئ الإمام عليًّا باجتماع طلحة والزبير وأم المؤمنين على الطلب بدم عثمان، وأنهم تهيئوا للسير إلى البصرة.

فبُغِت محمد وتلا الرقعة مثنى وثلاث. وتحوَّل عليٌّ إلى مصحف على منضدة أمامه فتناوله وجعل يقلب صفحاته.

وهمَّ محمد أن يتكلم فرآه يقلب صفحات القرآن، فلبث صامتًا وقد هاله ما أحاط بهذا الخليفة من البلاء، وتذكر أخته وأسماء عندها.

ورفع علي رأسه ونظر إلى محمد وقال له: «أرأيت ما فعلت بنا أختك؟»

فقال محمد: «إني أعجب من عملها، ولا أكاد أصدق أنها تقدم على هذا! فما الذي حملهم جميعًا على الانتقاض؟!»

قال علي: «أتسألني يا محمد عن السبب وقد أنبأتكم بهذه الأحداث قبل وقوعها؟! كم قلت لكم: دعوا عثمان وشأنه لا تقتلوه، لأن قتله سيؤدي إلى الفتنة لطمع بعضهم في الخلافة! فلو ظل عثمان حيًّا لم يكن ثمة ما يبعث على هذه الحروب، وقد بايعوني وأنا أعلم أنهم يضمرون غير ما يظهرون، فإن طلحة والزبير يريدها كلٌّ منهما لنفسه دون سواه فهما في انقسام عليها، وسترى إذا كُتِب لهما النصر أن الحرب ستقوم بينهما حتى يفني أحدهما الآخر ويُقتَل الألوف من المسلمين. ولو تيقنت أن خلعي من الخلافة يخمد الفتنة لتنازلت عنها اليوم، ولكنها تصبح بعدي فوضى كلٌّ منهم يتطلبها لنفسه. ناهيك بمعاوية في الشام وما يجول في خاطره من الطمع فيها، ولا يغرنك ما يدعيه من الثأر لدم عثمان لأنه لو أهمه لنصره قبل أن يُقتَل، ولكنه اتخذها ذريعة إلى التماس الخلافة لنفسه على علمه أني أولى الناس بها. فالغيرة على الإسلام تدعوني إلى الدفاع عن خلافتي لعلهم يجمعون على بيعتي فترقد الفتنة، وأما خروجها من يدي طوعًا أو كرهًا فإنه يدعو إلى فتنة عظمى أخشى أن تقضي على الإسلام والعياذ بالله!»

وكان يتكلم والعرق يقطر من جبينه وخديه على لحيته وقد احمرَّت عيناه واغرورقتا بالدمع، وتجلت في وجهه ملامح تشف عما قام في نفسه من الغيرة على الإسلام، فازداد مهابة حتى لم يعد محمد يستطيع النظر إليه تهيبًا من غضبه وخجلًا من نفسه لأنه كان في جملة الذين رأوا قتل عثمان، فارتُجَّ عليه ولبث صامتًا.

وكأنه أراد أن يعتذر لأخته فقال: «يلوح لي يا مولاي أن أختي لم تقم للأمر إلا بتحريض طلحة والزبير وقد خرجا من المدينة غاضبَين، وإني لأرجو إن لقيتها أن أحولها عن عزمها. ولكنني لم أرَ وجه الحكمة في مسيرهم إلى البصرة دون سواها.»

قال: «أظنهم رأوا أهل المدينة بايعوني فاستنهضوا أهل مكة على نقض البيعة، وساروا يفعلون مثل ذلك في البصرة والكوفة.»

قال محمد: «وهل سألت الرسول عن تفصيل الأمر؟»

قال: «لم أسأله إلا قليلًا.»

فقال: «أتأذن لي أن أستقصي منه؟»

قال: «لا أراه يعلم شيئًا كثيرًا، وأرى أن تسير إلى مكة لتستطلع سر الأمر بنفسك، وأنت أجدر الناس بذلك وأختك أم المؤمنين في جملة القائمين به.»

فسُرَّ محمد بهذه المهمة سرورًا عظيمًا، لأنه يخدم بها الإسلام ويُرضِي الإمام ويستطلع حال أسماء.

فأجاب قائلًا: «لبيك يا مولاي، وعلى خيرة الله. وأرجو أن أحول أختي عن عزمها، فقد يكون طلحة والزبير هما اللذان حرضاها عليه. وهل أكتم مسيري؟»

قال: «لا أرى أن يعلم به أحد.»

قال: «هل تأذن لي أن أرى الرسول الذي حمل الكتاب إليك لأسأله شيئًا؟»

قال: «إنه في دار الأضياف.»

فخرج محمد وسار إلى دار الأضياف، فلقي الرسول فعرفه فسأله عن «عجوة» هل لقيها في مكة، فأجاب بأنه رآها يوم سفره عند أم الفضل ومعها فتاة مريضة.

فقال محمد: «وهل تعرف الفتاة؟»

قال: «لا أعرفها فإنها غريبة الدار، ولكنني علمت أنها جاءت مع العجوز عند أم المؤمنين ثم انتقلت إلى بيت أم الفضل، ورأيتها تشكو من حمى شديدة.»

فأحس محمد بنار تلك الحمى في أحشائه وخاف أن تكون أسماء قد أُصِيبت بسوء، فأصبح يدفعه إلى الإسراع في الرحيل دافعان: خدمة أمير المؤمنين، والبحث عن أسماء.

فودع عليًّا وخرج لساعته وركب هجينًا واصطحب خادمًا من السبئية، وركب قاصدًا إلى مكة يود لو يطير إليها على أجنحة النسيم. فبات ليلته في قباء فتذكر أول مرة رأى فيها أسماء تندب أمها، وأصبح قبل الفجر على هجينه يطوي السهل والوعر وهو لا يصدق أنه يصل إلى مكة ويرى أسماء على قيد الحياة.

وكان كلما اقترب من مكة تعاظم الأمر لديه، وثارت فيه الحمية الإسلامية والغيرة على الإمام علي وهان عليه أمر الحب وعوامله، فلم يخلُ باله من هذه الهواجس لحظة. وتذكر نصح أسماء وما تنبأت به من عواقب الفتنة، وكم أشارت على الناس بالكف عن عثمان منادية ببراءة ساحته! فعظمت في عينيه وازداد إعجابًا بتعقلها ودقة نظرها، وأيقن أنهم لو انصاعوا إلى رأيها لكانوا تجنبوا هذه الحروب.

قضى طريقه كله في مثل هذه الخواطر، وكان يستحث جمله لا يلتفت يمنة ولا يسرة مخافة أن يضيع عليه الوقت، فأمسى وهو على بضعة أميال من مكة فشق عليه المبيت خارجها وصمم على مواصلة السير حتى يدخلها ولو ليلًا. فأشار عليه خادمه أن يستريح هنيهة ويريح الجمل ريثما يطلع القمر فيسيران على نوره، فاستحسن الرأي ونزلا بمكان رأيا فيه بيتًا عند بابه شيخ توسد حصيرًا من سعف النخل وأمامه جِرار وأكواب من الخشب يسقي بها من يستسقيه في تلك الصحراء.

فسلم على الشيخ وحيَّاه، فرحب به ونادى ابنة له وعيالًا ليقدموا لضيفهم ما يحتاج إليه من الماء أو العلف للجمال. فصعد محمد إلى رابية خلا فيها إلى نفسه وقد غابت الشمس، فأجال نظره إلى مغيبها في الأفق وكان الجو صافيًا وقد ظهر الشفق بألوانه من خلال أغصان الأشجار المبعثرة على الآكام، وكان الجو قد هدأ فلم يعد النسيم يهب إلَّا عليلًا، وأوت الطيور إلى أعشاشها إلا الخفاش فإنه خرج يطير. فاتكأ محمد على بساط فرشه له خادمه وعيناه شاخصتان إلى الأفق يراقب تلونه، فما زالت ألوانه تتحول من الزهو إلى الكمود حتى خيم الظلام، فأوقد الشيخ نارًا يهتدي بها المارة إلى ذلك المستقى.

وظل محمد غارقًا في هواجسه حتى غاب وجدانه فنبهه ضب مر عند قدميه، فوقف وقد لفت نظره من الأفق أشباح تتراءى بينه وبين السماء، فتفرس فيها فإذا هي بضعة جمال على أحدها هودج وعلى سائرها أناس قد حجب البعد هيئتهم، وأسرعوا في المسير فخُيِّل إليه أنهم خارجون من مكة يريدون المدينة، فلما تواروا عن بصره ولم يرَ أحدًا في أثرهم علم أنهم ليسوا من الطلائع. ولكنه عجب من خروجهم من مكة في ذلك الليل وإسراعهم بالسير في غير الطريق العام كأنهم سائرون خلسة، وتمنى أن يعلم أمرهم ولكن الظلام حجبهم عنه فعاد إلى هواجسه. ولم تمضِ هنيهة حتى طلع القمر من وراء تلك الأكمة كأنه رقيب أطل للكشف عن لصوص في الظلام، فلما رأوا وجهه بادروا إلى الفرار إلا من كان منهم قريبًا ولم يستطع فرارًا فاختبأ وراء التلال وفي أعماق الأودية ثم لحق برفاقه وتلاشى. وكان القمر ساعتئذٍ دون البدر وقد ابيضَّ وجهه وسطع نوره فحرك ما في نفس محمد من الشجون، فنادى خادمه فهيأ الهجن وودع الشيخ وركب قاصدًا مكة.

•••

ولم يسر ساعة حتى أشرف على مكة، وهي في منبسط من الأرض تحدق بها جبال من كل ناحية، فصعد إلى أكمة وأطل منها على ضوء القمر، فكانت الكعبة أول ما لفت نظره، وكان يتوقع أن يرى مضارب أو جنودًا في مكة أو حولها فلم يرَ شيئًا. فواصل السير يريد منزل أخته أم المؤمنين، فمر بالأسواق فلم يجد ما كان ينتظره من الجلبة والازدحام، حتى بلغ دار أخته فترجل عند بابها وقرعه، فأطل عليه عبد حبشي عرف من صوته أنه من عبيد أم المؤمنين فناداه باسمه، ففتح له الباب فدخل فرأى المنزل خاليًا فسأله عن أم المؤمنين فقال: «إنها خرجت من مكة بالأمس.»

قال: «وإلى أين؟» قال: «ألم تسمع بما أجمعوا عليه؟»

قال: «هل ساروا إلى البصرة؟» قال: «نعم».

فسأله عمن سار معها فأنبأه، فاستعاذ بالله وتكدر لوصوله بعد سفرهم. وأراد العبد أن يحل جمله ويهيئ له الطعام، فقال: «لا تفعل إني خارج، وقد أعود.» وأمر خادمه أن يمكث هناك حتى يرجع، وخرج وهو بلباس السفر قاصدًا إلى بيت أم الفضل وهو يكاد يتعثر بأذياله مسرعة مشيته، فوصل إلى منزلها فرآه مغلقًا وقد أُطفِئت مصابيحه، فظن أهله نيامًا فتردد في أن يوقظهم أو يصبر إلى الغد، ولكن شوقه إلى رؤية أسماء هوَّن عليه إيقاظهم. فدنا من الباب وأمسك بحلقته وشدها فرأى الباب موصدًا فقرعه قرعًا شديدًا فأجابه البستاني فقال: «افتح»، فلما فتح سأله عن أم الفضل فقال: «إنها ذهبت إلى فراشها وأظنها لم تنم.» قال: «قل لها إن ابن أختك محمدًا بالباب.»

فلما علم البستاني أنه ابن أبي بكر هرول إلى مصباح أناره ودعا محمدًا إلى الجلوس على المصطبة، ودخل إلى أم الفضل فأخبرها فأسرعت إليه وقد علتها البغتة وصاحت قبل أن يحييها: «ما الذي جاء بك يا محمد؟! وأين كنت؟!»

فعجب للهفتها وقال: «إني قادم من المدينة. أين أسماء؟»

قالت: «كيف تسألني عنها وقد بعثت في استقدامها؟!»

قال: «إلى أين؟!» قالت: «ألم تبعث إليها كتابًا تستقدمها به؟»

فقال: «ومن قال لك ذلك؟»

قالت: «رأيت رسولك بأم عيني ومعه كتابك دفعه إليها عند العصر، وكانت لا تزال ضعيفة لا تقوى على السفر فلم تصبر إلى الغد وشدت رحلها وسافرت.»

قال: «ماذا تقولين؟! هل سافرت أسماء؟! لقد زوَّروا الكتاب على لساني! من جرؤ أن يفعل ذلك؟! من هو النذل الذي أقدم على هذه الجريمة؟!»

فضربت أم الفضل يدًا بيد وصاحت: «ماذا تقول يا محمد؟!»

فأُخِذ محمد ولم يجب ثم قال: «في أي الطرق سارت؟»

قالت: «سارت في هذا الطريق المؤدي إلى المدينة.»

فتذكر محمد الأشباح التي رآها خارج مكة، وقال: «لقد لقيتها والله في طريقي، يا ليتني اعترضت ذلك الركب وهي معهم! ولو كانت في عافيتها لما خفت عليها بأسًا ولكنها مريضة فأخشى إن أحرجوها أن تموت غيظًا! لا حول ولا قوة إلا بالله!» وصمت برهة يفكر فلم يستطع إدراك سر الأمر، ثم هبَّ من مكانه وقال: «أستودعك الله»، وخرج.

قالت: «تمهل يا محمد.» قال: «إن الوقت ثمين، دعيني أتعقب الركب الذين رأيتهم في طريقي لعلي أظفر بها معهم.» ولم يكد يخرج من الباب حتى وقف بغتة كأن شيئًا اعترضه، فعاد إلى أم الفضل وسألها عن الحملة ووجهة مسيرها، فقصت عليه خبرها فوعى ذلك في ذهنه وخرج مسرعًا يلتمس الطريق الذي رأى الركب سائرين فيه.

فمر بخادمه في منزل أخته فرآه غارقًا في نومه من شدة التعب وقد أرسل الجمال إلى المربط للشرب والعلف، فأيقظه وأمره أن يتهيأ للرجوع فنهض وعيناه لا تنفتحان من النعاس. وعلم أهل المنزل بمجيء محمد فجاءه قيم الدار يدعوه إلى الطعام فاعتذر بأنه لا يستطيع المكث، ولما ألح عليه قيم الدار وأظهر له أن الجمال تحتاج إلى الراحة اقتنع وأكل قليلًا مما أعدوه وهو يحث الخادم للتأهب للمسير. وما لبث أن ركب وسار على أسرع ما يكون، وكان القمر قد تكبد السماء وصفا الجو فالتمس الطريق الذي ظن أن الركب ساروا فيه، فقضى برهة لا يتكلم ولا يسمع صوتًا إلا جعجعة الجمال. وانتصف الليل والخادم يتوقع أن يأمره بالنزول للمبيت فلم يرَ إلا حثًّا على الإسراع، ثم رآه يسلك طريقًا غير الذي جاءوا فيه فنبهه إلى ذلك مخافة أن يكون قد ضل السبيل، فأجابه بأنه يعرف الطرق ولا يحتاج إلى تنبيه، فسكت وظل سائرًا حتى بلغا مكانًا يتشعب فيه الطريق إلى شعبتين؛ إحداهما تتصل بطريق المدينة والأخرى تنتهي إلى طريق البصرة، فوقفا هناك صامتَين.

•••

لم يجرؤ الخادم أن يستفهم من محمد عما يريد وإن كان قد رابه قلقه وغضبه، فلما وقفا في مفترق الطرق وكان الرجل من النباهة والذكاء على جانب عظيم عارفًا بالأسفار خبيرًا بمسالك البر حاذقًا في قيافة الأثر؛ تشجع وسأله: «هل من خدمة أقدمها لمولاي؟»

وكأن محمدًا أفاق من سبات، فانتبه وتذكر مهارة خادمه في قص الأثر فقال في نفسه: «لعله ينفعنا».

وكان الخادم كهلًا عركه الدهر، قضى معظم أيامه في الأسفار وتحمل مشاقها، وكان طويل القامة سريع الحركة لا يبالي بالتعب ولا يخاف الموت، فقال له محمد: «هل لك في قيافة الأثر يا مسعود؟»

قال: «إني من أمهر القائفين يا مولاي.»

قال: «أترى على الرمل أثرًا لمشاة أو فرسان؟ وهل تستطيع تحقق ذلك على ضوء القمر؟»

قال: «نعم يا مولاي.» ونزل عن راحلته وجعل يتفرس في رمال الطريق كأنه يقرأ كتابًا ومحمد بالقرب منه يراقب حركاته، فرآه يتنقل بخفة ولباقة فلا يضع قدمه إلا حيث يرى أنها لا تفسد أثرًا سابقًا، وما زال يروح ويجيء وهو يتفرس ويعد ويحسب ويقيس بأشباره وأصابعه ويراقب جهة الأقدام أو الخفاف أو الحوافر، ومحمد يعجب لما يبدو من خفته وحذقه حتى كاد يمل الانتظار، وأدرك مسعود قلقه فقال وهو لا يزال يتفرس في الرمال: «لا تضجر يا مولاي من طول الانتظار، فإني أرى ارتباكًا في الركب الذين مروا من هذا المكان وكأنهم وقفوا فيه برهة يروحون ويجيئون وربما تضاربوا وتقاتلوا، فاصبر قليلًا إن الله مع الصابرين.» وعاد مسعود إلى عمله وهو يجلس القرفصاء ويحني رأسه يتفرس في الرمال حتى يكاد يلامس وجهه الأرض، وقضى في ذلك ساعة ومحمد كأنه واقف على الجمر، وربما خُيِّل إليه لعظم قلقه أن الليل قد انقضى. وفيما هو في ذلك رأى مسعودًا وقد انتصب بغتة وتحدَّب وتمطَّى كأنه تعب من القرفصاء والانحناء ومشى إليه، فتقدم محمد نحوه وقال: «ماذا رأيت يا صاح؟»

قال: «إن الآثار تشابهت عليَّ لاختلاطها، ومع هذا علمت أنها آثار قافلة صغيرة مؤلَّفة من بضعة جمال بينها جملان يسيران متواليَين كأنهما يحملان هودجًا، ومعهما مشاة من الرجال أكثرهم يحملون رماحًا لأني أرى آثار كعابها بجانب الأقدام، ويظهر أن القوم وقفوا هنا وترددوا في المسير واختل نظامهم. وقد يكونون تخاصموا أو تقاتلوا، يدلك على ذلك ما في آثار أقدامهم من الارتباك مع كثرة الأبعار المتجمعة، ثم بدا لي أنهم اتفقوا أخيرًا على سلوك هذا الطريق.»

قال محمد: «وإلى أين يؤدي؟» قال: «يؤدي إلى البصرة أو الكوفة.»

فسكت محمد وقد رجح لديه أنهم هم الركب الذين رآهم في ذلك الليل عن بعد، فأعمل فكره وحدثته نفسه أن يتبع الآثار ولكنه خاف أن يشغله ذلك عن المهمة التي جاء بها إلى مكة، فوقف صامتًا يتردد بين أن يطلع مسعودًا على سر الأمر وبين أن يظل على كتمانه، فتحير في أمره ثم سأله بغتة: «وما ظنك يا مسعود بالزمن الذي مر على مسيرهم؟»

قال: «أظنهم مروا في أوائل الليل منذ أربع ساعات أو خمس، وهم سائرون على عجل.»

فقال: «وهل تظننا ندركهم إذا اقتفينا أثرهم؟»

قال: «إذا ظلوا هم على مسيرهم لا إخالنا ندركهم قبل يومين أو ثلاثة.» قال ذلك وقد مل من تكتم محمد الغرض من هذا البحث، فأراد استطلاع السر فقال: «هل يرى مولاي أن يطلعني على ما أهمه من هذا الركب لعلِّي أستطيع أن أحسن خدمته؟»

قال: «يهمني يا مسعود من هذا الركب أمر كبير، هل تعرف خادمتنا العجوز التي كانت في المدينة؟» قال: «نعم أعرفها».

قال: «إنها جاءت مع فتاة أموية إلى مكة وأقامت عند أختي أم المؤمنين، فلما أجمع أهل مكة على المسير إلى البصرة جاءهما أناس بكتاب مزوَّر على لساني يدعونهما إلى المدينة فسارتا معهم في غروب هذا اليوم، ولا أدري من تجرأ على هذا الفعل، ولا إلى أين ساروا بهما، ولكن يظهر مما بينته قيافتك أنهم هم الركب الذين مروا بهذا المكان.»

فقال مسعود: «هل ترى أن أقتفي آثارهم وآتيك بالخبر وإذا استطعت إنقاذهما فعلت؟»

فاستحسن محمد رأيه وأثنى على غيرته وأوصاه بأن يحتاط لنفسه وحثه على الإسراع وودعه، وركب هجينه ويمَّم شطر المدينة.

•••

أما الإمام علي فإنه خلا إلى نفسه بعد خروج محمد من عنده وفكر فيما هم فيه، فرأى من الحزم أن يحول عزمه عن الشام إلى البصرة، فاستشار ابن عباس وغيره من كبار الصحابة فوافقوه على ذلك، فدعا وجوه أهل المدينة وخطب فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح أمركم.» ولكنه رأى تثاقلًا منهم وقد كان يتوقع تلبية ونهضة، فلم يقلل ذلك شيئًا من عزيمته. على أن جماعة من الصحابة تقدموا لنصرته واستحثوا الناس فعادوا إلى نصرته، فعبَّأ التعبئة التي أعدها لأهل الشام آخر ربيع الثاني سنة ست وثلاثين، وانضم إليه من نشط من الكوفيين. وبينما هو في تأهبه إذ أقبل محمد بن أبي بكر وأنبأه بما كان من خروج عائشة وطلحة والزبير ومن معهم إلى البصرة، فعجَّل بالمسير. وكان الناس يتوقعون أن يرسل الحملة ويبقى هو في المدينة حفظًا لمكانته فيها، فلما رأوه ركب في مقدمة الحملة تقدم إليه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: «يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها فوالله إن خرجت منها لن يعود إليها سلطان المسلمين!»

فقال: «لا بد من خروجي.»

فتكاملت الحملة واجتمعت في الربذة على ثلاثة أميال من المدينة، وتأهبوا للخروج ومحمد والحسن معهم. وكان الحسن لانهماكه بمهام الخلافة ربما مرت أسماء في ذهنه فيصبر نفسه إلى ما بعد ما هو فيه.

واستبطأ محمد خادمه وهو لا يدري ما صار إليه، فقلق عليه ولكنه سُرَّ لمسيره هو في الحملة لعله يعلم شيئًا عن أسماء.

ولما اجتمع جند عليٍّ في الربذة جاءه رجال من طيٍّ وأسد وانضموا إلى جنده فاشتد أزره. على أن الحسن لم يكن راضيًا عن خروج أبيه في تلك الحملة، فلما رآه عازمًا على ذلك قال له: «لقد نصحتك فعصيتني، فستُقتَل غدًا ولا ناصر لك.»

فقال له علي: «إنك لا تزال تحن حنين الجارية. وما الذي نصحتني فعصيتك؟»

قال: «نصحتك يوم أُحِيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيُقتَل ولستَ بها، ثم نصحتك يوم قُتِل ألا تبايَع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل مصر فإنهم لن يقطعوا أمرًا دونك فأبيت علَيَّ. ونصحتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يد غيرك … فعصيتني في ذلك كله.»

فقال: «أي بني، أما قولك: «لو خرجتَ من المدينة حين أُحِيط بعثمان»، فوالله لقد أُحِيط بنا كما أُحِيط به. وأما قولك: «لا تبايَع حتى يبايع أهل الأمصار»، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر. ولقد مات رسول الله وما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر الصديق فبايعته، ثم إن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر فبايعته. ثم إن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحدًا أحق بهذا الأمر مني، فجعلني سهمًا من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعته. ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين. فأنا مقاتل كل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير، فكيف لي بما قد لزمني؟ أو من تريدني؟ أتريد أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال: ليست ها هنا حتى يُحَلَّ عرقوباها؟ وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكفَّ عنك يا بني.»

وفي الربذة أعد علي بن أبي طالب حملته، فجعل ابنه محمدًا بن الحنفية صاحب الراية، كما كان الشأن عند عزمهم على غزو الشام، وأعدوا لعلي ناقة حمراء يركبها وفرسًا كُمَيْتًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤