الفصل الثامن عشر

موقعة صفين

رأى الإمام علي بعد أن انتصر في وقعة الجمل ونزل البصرة فبايعه أهلها، أن يستعمل عليها عبد الله بن عباس، ثم سار إلى الكوفة فنزلها. وانتظم له الأمر بالعراق ومصر واليمن والحرمين وفارس وخراسان وبايعه أهلوها، ولم يبقَ خارجًا عليه إلا الشام وفيها معاوية وأهل الشام مطيعون له في المطالبة بدم عثمان.

وكان عليٌّ قد ولَّى على مصر قيسًا بن سعد بن عبادة وهو من خيرة [الأنصار] ودهاة العرب، وكان في مصر جماعة ﺑ «خربتا» يرون غير رأيه ويطالبونه بدم عثمان ولكنهم معتزلون لا يتحركون لحرب، فرأى قيس من السياسة والدهاء أن يكف الحرب عنهم ويداهنهم لئلا ينضموا إلى معاوية.

وكان معاوية قد كتب إلى قيس يستميله ويبذل له الوعود الخلَّابة فلم يجبه، فاصطنع معاوية على لسان قيس كتابًا قرأه على الناس في الشام يوهمهم أن قيسًا معه وأنه لذلك لم يقاتل المعتزلين في خربتا، فبلغ ذلك عليًّا فصدَّق الوشاية في قيس وعزله عن مصر وولى محمدًا بن أبي بكر.

ولم يكن لعلي شاغل يشغله بعد وقعة الجمل إلا معاوية وجنود الشام، فرأى أن يبعث إليه يطلب بيعته فبعث إليه جريرًا بن عبد الله البجلي ليطلب منه الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار، فسار جرير إلى الشام فماطله معاوية مدة ريثما أراه حال أهل الشام وما يقاسونه من البكاء والعويل عند قميص عثمان وأصابع نائلة، فرجع جرير بالخبر إلى علي فعلم أن لا بد من الحرب، فسار من الكوفة إلى الشام في جيش عظيم، وقد علم بما تحالف عليه معاوية وعمرو. وسار معاوية وعمرو من الشام يطلبان عليًّا ولكنهما أبطأا السير حتى التقى الجيشان في «صفين»، ودخلت سنة ٣٧ﻫ والجمعان في صفين.

وصفين هذه موضع بقرب «الرقة» على شاطئ الفرات الغربي، أمام «الرقة» على الضفة الشرقية. وبين صفين والكوفة نحو ثلاثمائة ميل أو أكثر.

هناك نزل الجيشان العظيمان يقودهما أعظم رجال الإسلام ونخبة المهاجرين والأنصار، وفي ذلك السهل الواسع جرت وقعة صفين المشهورة التي قُتِل فيها عشرات الألوف من الرجال، وقد نال فيها علي بن أبي طالب ما ناله في وقعة الجمل من النصر والغلبة. ولكن هل انتظم له الأمر بعدها؟ كلا، فإنها كانت خاتمة انتصاراته على مناظريه في الخلافة وبداية دسائسهم عليه، ولم يكن ذلك لضعف عزيمته ولكنها حيلة دبرها عمرو بن العاص فنفذت فيه، وفشل رجاله وانقسموا فيما بينهم.

•••

لبثت أسماء أيامًا وأسابيع عند القسيسة تنتظر عودة القسيس من بيت المقدس فلم يرجع، فحسبت لإبطائه ألف حساب واضطرب بالها ولم ترَ خيرًا من أن تسير هي إليه بنفسها، واستشارت القسيسة في الأمر فاستغربت هذه قلقها وتعجلها رؤية القسيس فقالت لها: «هل تحتاجين إلى القسيس في أمر يدعو إلى كل هذا؟»

فتأوهت الفتاة وسكتت وبدت كأنها تريد مكاشفتها بما في ضميرها لعلها تفرج كربتها.

فقالت لها القسيسة: «قولي يا ابنتي ما الذي أوجب تنهدك عسى أن أنفعك»

قالت: «إني أحتاج إلى القسيس في سر عنده عن أمي لا يعرفه أحد سواه، وقد كانت تعرفه وحدها وباحت به للقسيس، وأما الآن فلم يبقَ غيره عارفًا به.»

فأدركت القسيسة أن أمها ماتت فلم تشأ أن تذكرها بها، ولكنها أحبت أن تعرف ما هو موضوع ذلك السر فقالت: «هل يجوز أن أعرف موضوع ذلك السر؟»

قالت: «أعترف لك يا سيدتي أني رُبِّيت في دمشق في حجر أمي ورجلٍ كنت أحسبه أبي، فأخبرتني أمي ذات يوم أن الرجل ليس أبي فسألتها عن أبي الصحيح فوعدتني بإطلاعي عليه في فرصة أخرى.» وقصت عليها أسماء قصتها من أولها إلى آخرها. وكانت تتكلم والقسيسة تنظر إليها وتتأمل في ملامحها، فلما فرغت من كلامها تبسمت القسيسة وهشت لها وضمتها وقالت: «لعلك ابنة مريم؟»

قالت: «نعم يا سيدتي.» واستأنست بحنوها ومعرفتها اسم أمها فقالت: «وهل تعرفينها؟»

قالت: «مسكينة أمك! إني أعرفها جيدًا قبل أن تتزوج، وكانت كثيرًا ما تأتي الكنيسة للصلاة، وكنت أنا يومئذٍ شابة وهي صبية، وكنت أحبها كثيرًا فلا يمضي عيد من أعيادنا الكبرى كالفصح والشعانين والميلاد وغيرها إلا دُعِيت أنا والقسيس إلى مائدة جدَّيْك رحمهما الله! وأذكر أنه كان لأمك أخ جميل الصورة حاد الذهن، كان يأتي معها وأبويهما للصلاة. وظللنا على ذلك حتى جاءنا العرب منذ بضع وعشرين سنة ففتحوا المدينة واستولوا عليها فتفرق شملنا، وكانت أمك قد أصبحت شابة، وهي في مثل حالك جمالًا وذكاءً، ولم أعد أرى جديك، ولكنني سمعت أنهما قُتِلا. أما أمك فأخذوها سبية ولم أعد أراها، إلى أن جاءت في العام الماضي إلى القسيس، وأذكر أني رأيتها وهي داخلة فمكثت عنده برهة وأنا أحسبني أعرفها، ولما خرجت سألت القسيس عنها وقلت: «أليست هذه مريم بنت قسطنطين — وهو اسم جدك؟» قال: «بلى». ولكنني رأيت على وجهه بعد خروجها من عنده أثر الانقباض ورأيت الدمع في آماقه، فاضطربتُ ولم أسأله عن السبب مخافة أن يكون سؤالي تطفلًا لعلمي أن القسيس مستودَع أسرار كثيرين، وقلت في نفسي: «لو كان خبر مريم مما يجوز ذكره لما تأخر عن ذكره.» أما هو فكأنه أدرك قلقي وتشوقي لمعرفة خبر أمك لما يعلمه من رابطة المودة بيننا، فلما جلسنا على المائدة في المساء أخبرني عن قصتها وسبب غيابها عنه كل هذه المدة، وفهمت من خلال كلامه أن الرجل الذي كان معها يومئذٍ ليس أباك وأن أباك رجل آخر.»

فقالت أسماء بلهفة: «ألم تعرفي اسم أبي؟»

قالت: «كلا، لأني لم أسأله.»

فاستأنست أسماء بالقسيسة وازدادت ميلًا إليها، فقالت لها: «بماذا تشيرين عليَّ الآن؟ أأنتظر رجوع القسيس أم أسير إلى القدس فأستطلعه السر؟»

فصمتت القسيسة كأنها تفكر في أمر، ثم تغير لونها بغتة وانقبض وجهها ونظرت إلى أسماء والدمع يتلألأ في عينيها وقالت: «أرى أن تذهبي إلى بيت المقدس لأن القسيس أصبح شيخًا هرمًا.» قالت ذلك وغصت بريقها.

فأدركت أسماء أنها تخاف انقضاء أجله عاجلًا، فتجاهلت ما بدا من عواطفها وقالت: «ها أنا ذا ذاهبة، والاتكال على الله.» ونهضت فودعت القسيسة وخرجت تلتمس الخان وفيه خادمها والجوادان فأمرت الخادم بالاستعداد، وفي صباح اليوم التالي ركبت وسارت قاصدة إلى بيت المقدس.

•••

وكان القسيس مرقس يعرف جدَّيْ أسماء وأسرتها قبل الفتح ويعطف عليها بالتخصيص، فلما تسلَّم السر من أمها شاركها مصابها وازداد عطفًا عليها وود لو استطاع أن يفرج كربتها. فلما جاءته في المرة الأخيرة قبل سفرها إلى المدينة وأخبرته أنها عازمة على كشف أمرها لذوي الشأن هناك، سره هذا ولكنه رآها ضئيلة مريضة فتشاءم وتوقع قرب انقضاء أجلها، فأوصاها بأن تبعث إليه بما يحدث لها، وهو إنما يريد بذلك أن يتحقق من وصولها إلى مأمنها حية. فلما انقضى العام ولم يأته منها نبأ قلق عليها، وكان كلما سمع اسم يثرب (المدينة) يتجدد بلباله ويود لو يرى أسماء ليطلعها على اسم أبيها، ولكنه لم يكن يعرف مقرها. فلبث وهذا شأنه حتى جاء الأمويون بقميص عثمان وأصابع نائلة، وكان ما كان من بكائهم وعويلهم، وعلم ما حدث من الفتنة في المدينة فازداد قلقه وأثر ذلك في صحته، فاضطُرَّ مع كبره وضعفه إلى أن يبرح دمشق إلى مكان يستقر فيه ريثما تهدأ الأحوال. فخطر له الذهاب إلى بيت المقدس لأن له فيها أهلًا يرتاح إلى مجاورتهم، فركب إليها قبل وصول أسماء إلى دمشق، ومكث هناك مدة وهو يزداد ضعفًا، ولم يُجْدِه ترحيب أهله واحتفاؤهم به نفعًا، وأحس بقرب الأجل.

فخطر له الشخوص إلى أنطاكية حيث الكرسي البطريركي الذي سِيم فيه قسيسًا، فيرى البطريرك الأنطاكي ويتزود بالأسرار المقدسة على يده قبل الوفاة. واتفق أن سفينة إمبراطورية كانت راسية في مياه عسقلان أنفذها الإمبراطور قونسطانس الثاني ليحمل البطريرك الأورشليمي إلى أنطاكية للبحث مع بطريركها في بعض الشئون الدينية التي كان الخلاف قائمًا عليها في تلك الأيام، وكأن البطريرك الأورشليمي قد علم بعزم القسيس على الذهاب إلى أنطاكية، فدعاه ليسافر معه بحرًا لأن الفصل صيف ولا خوف من الأنواء، والطريق في البر شاقٌّ لما يقتضيه من ركوب الدواب وقطع الجبال والأودية، فسُرَّ القسيس بتلك الدعوة وسار في حاشية البطريرك إلى عسقلان، على أن يسيرا منها إلى أنطاكية في السفينة الإمبراطورية.

واتفق وصول أسماء إلى القدس بعد خروج القسيس منها ببضعة أيام، ولما أخبروها أنه قصد أنطاكية استعاذت بالله مما ابتلاها به من النحس في أسفارها، وباتت ليلة وصولها مسهَّدة حزينة لم يجف دمعها لفرط ما تولاها من القنوط، فأصبحت شديدة الاعتقاد بسوء طالعها.

على أنها أصبحت في اليوم التالي وقد هدأ روعها وعادت إليها رباطة جأشها، فقالت في نفسها: «لأذهبن إلى أنطاكية على عجل قبل أن يخرج القسيس منها. والاتكال على الله.» فركبت جوادها وسارت والخادم في رفقتها يقوم لها بما تحتاج إليه من الخدمة في السفر، وكانت حيثما توجهت تتنكر بلباس الرجال مخافة أن يعلم مروان بها، ولا ينجيها منه شيء إلا القتل. وكان المسافر من القدس إلى أنطاكية يغلب أن يمر بدمشق، ولكنها جعلت طريقها لبنان. وبعد مسيرة أيام وليالٍ أشرفت على أنطاكية.

وكان وصولها قبل طلوع الشمس، والشمس لا تطلع على أنطاكية إلا متأخرة لاحتجابها بجبلها الشرقي. وأشرفت أسماء على تلك المدينة العظيمة أم مدن الشام ومقر بطاركتها، بل هي ثالثة مدائن تلك الأيام (رومية والإسكندرية وأنطاكية)، فأطلت عليها من مرتفع مشرف فإذا هي مستطيلة الشكل على ضفة نهر «العاصي» الجنوبية، وتحدق بها البساتين الغناء وفيها الثمار والفاكهة من كل الأنواع. فدُهِشت أسماء لعظمة تلك المدينة وما فيها من الأبنية الشاهقة، وأكثرها من الكنائس فوقها القباب المزخرفة وفيها الطرق التي لا تكاد تشرق الشمس حتى تغص بالناس. وأذهلها بنوع خاص سورها العظيم وما عليه من الأبراج التي يبلغ عددها ٣٦٠، وله خمسة أبواب. وتتبعت ذلك السور الواسع بنظرها لعلها تحيط بسعة المدينة فرأت أنها تحاول عبثًا، لأن السور يصعد مع الجبل إلى أعلاه ثم ينزل من الجهة الأخرى بحيث يحيط بالمدينة ومزارعها جميعًا، بما تزيد مساحته على بضعة عشر ميلًا مربعًا، فبُهِتت أسماء لتلك المناظر الفخمة. وكان بحر الروم يتراءى لها عن بعد في الأفق كأنه هلال مستطيل.

وبعد أن وقفت هناك برهة تتأمل عظمة هذه المدينة تحولت إلى باب من أبواب السور في الشرق، واتصلت منه بالطريق الأعظم الذي يقطع المدينة في طولها من الشرق إلى الغرب، وطوله أربعة أميال وعليه من الجانبين أربعة صفوف من الأعمدة الرخامية تعلوها أقواس جميلة، وفي الوسط طريق واسع مكشوف مرصَّف بالجرانيت، تحدُّه من الجانبين مقاعد من الرخام المنقوش، وهو كله على استقامة واحدة تتفرع منه طرق صغرى من الجانبين، فذُهِلت أسماء لما شاهدته من العظمة والبذخ في أنطاكية مما لم ترَ مثله قبلًا. ومما زاد ذهولها ودهشتها أنها رأت تيجان الأعمدة في ذلك الطريق الطويل محلَّاة بالذهب الخالص، مما يندر مثله في أعظم مدائن الأرض. على أن ذلك المنظر الجميل كان ممزوجًا بما يدعو إلى الأسف الشديد، لما توالى على هذه المدينة من الزلازل التي دكت معظم أبنيتها فشوهت وجهها وغيرت مجرى نهرها، على أن العظمة مع ذلك ما زالت تتجلى فيها.

وظلت أسماء سائرة تلتمس دار البطريرك لعلها ترى القسيس هناك، فوصلت إلى بناء شاهق يدخلون إليه من باب عظيم قائم على أعمدة من الرخام، عتبته العليا من الجرانيت الأحمر الجميل وعليها نقوش باليونانية لم تستطع قراءتها، فأطلت من ذلك الباب إلى فناء واسع رُصِّف بالفسيفساء ينتهي إلى سلم عريض يصعدون منه إلى دار رحبة، رأت فيها جماعة من القسيسين والشمامسة وغيرهم يخطرون في مشيهم، وكل اثنين أو ثلاثة منهم في شاغل بالحديث، فقالت في نفسها: «أأدخل؟ ولكن إذا كان القسيس ليس هنا فما الذي يدخلني؟» ثم سألت بعض الوقوف عند الباب عن القسيس مرقس فقال: «لا أعرفه». فتذكرت أنه قادم على سفينة البطريرك الأورشليمي وأنهما يصلان معًا، فسألت عن البطريرك فقالوا: «إنه لم يصل بعد، ولا يُعلَم زمن وصوله لأن السفر في البحر رهين بحالة الجو والريح. وقد يصل بعد يومين أو بعد أسابيع.» وما علمت أسماء ذلك حتى قالت: «لا بد لي إذن من التربص حتى تصل السفينة»، وأمرت الخادم أن يسير بها إلى خان تقيم به.

•••

قضت أسماء في الخان أيامًا وهي على مثل الجمر تصعد أحيانًا إلى الجبل للنظر منه إلى البحر لعلها ترى السفينة قادمة، ولكن بُعد البحر من أنطاكية كان كثيرًا ما يحول دون رؤيتها شيئًا، فإذا ملَّت الاصطبار أرسلت خادمها إلى البطريركية يسأل عن القادمين، حتى لم يبقَ لها صبر على البقاء هناك، وشكت سوء طالعها وقالت في نفسها: «لا يبعد أن تكون السفينة قد غرقت بمن فيها لشقائي!»

وكانت غرفتها تشرف على الطريق الأعظم، فاستيقظت ذات يوم على ضجيج الغوغاء وجلبتهم، فأطلت من النافذة فرأت جماعات من العرب بالعدة والسلاح سائرين على غير نظام يحمل بعضهم الأعلام وفيهم الفرسان والمشاة، تتقدمهم بعض النساء بالدفوف بين مربع ومستدير يضربن عليها وينشدن الأشعار الحماسية يحرضن بها الرجال وينهضن هممهم. فعلمت أسماء أنهم من جند أنطاكية ولكنها لم تفهم معنى جلبتهم، فنادت الخادم فلم يجبها لأنه كان قد انخرط في سلك المارة يحادثهم ويستفهم عما هم فيه. وبعد قليل عاد مسرعًا والبغتة بادية على وجهه، فقالت: «ما وراءك؟ من هؤلاء؟»

قال: «جماعة من جند أنطاكية سائرون لنجدة جند الشام في صفين.»

فقالت: «على من؟» قال: «على جند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.»

فقالت بلهفة: «وهل هم في حرب هناك؟!»

قال: «نعم يا سيدتي، إنهم هناك من زمن بعيد، وبعض الذين حدثتهم يزعم أنه شهد معركة حامية هناك انكسر فيها جيش الإمام.»

ولم يتم كلامه حتى اقشعر بدن أسماء وصعد الدم إلى وجنتيها غيرة وحمية، وقالت: «أين هي صفين؟»

قال: «على بضع مراحل من هذا المكان شرقًا.»

فلبثت في حيرة بين أن تظل في أنطاكية حتى يصل القسيس، وبين أن تسير إلى صفين وترى ما وقع لجند الإمام، فظلت صامتة برهة فتركها الخادم وخرج، أما هي فقالت في نفسها: «إن انتظاري سفينة قادمة في هذا البحر قد يطول كثيرًا لأن سفر البحر لا حدود له، وقد ينتهي انتظاري بالفشل إما بغرق المركب وإما بموت القسيس قبل وصوله.» قالت ذلك وتناثر الدمع من عينيها حزنًا على حالها وغيظًا مما أحدق بها من سوء الطالع فبكت، ثم عادت إلى تفكيرها فقالت: «وأما الحرب في صفين فإن عليها تتوقف سعادة المسلمين أو شقاؤهم، وما أنا خير من أحدهم ولا بد لي من الإسراع إلى هناك عسى أن أؤدي خدمة لعلي، أو أُقتَل في ساحة الوغى فأنجو من البلاء.» ثم نادت الخادم وقالت: «أسرع إلى دار البطريرك واسأل عن القسيس مرقس، فإن علمت أنه لم يأتِ فعد حالًا وأسرج الجوادين وأعد معدات السفر.»

فخرج الخادم، وبعد قليل عاد ومعه بعض الزاد مما لا غنى عنه في الطريق، وأخبرها أن السفينة لم تصل ولا يُعلَم زمن وصولها، وأنه أعد ما تحتاج إليه في الطريق.

فقالت: «نذهب إلى صفين، حتى إذا انقضت الحرب وظللنا على قيد الحياة عدنا إلى أنطاكية، وإلا فعلى الدنيا السلام.»

ولم تمضِ ساعة حتى ركبت أسماء وركب خادمها في أثرها، وخرجا من المدينة فالتقيا بالنجدة سائرة أمامهما. ففكرت أسماء فيما تستطيع أن تخدم به الإمام علي وهي يد واحدة لا تفيد في القتال فائدة تُذكَر، فلاح لها أن تخدمه في استطلاع حال العدو وكشف عوراته ومخبآته، ولا يتم لها ذلك إلا إذا اختلطت بجند الشام، وذلك لا يكون إلا إذا تنكرت وانخرطت في سلكه.

وقضت مسافة الطريق وهي تفكر في الأمر، وسبقت نجدة أنطاكية فأطلت في صباح الخميس بعد بضعة أيام على سهل صفين من جبل عالٍ، فهالها ما شاهدته في ذلك السهل من الخيام والأعلام والجند والخيل والجمال، ولم يكن في ذلك الحين قتال. فرأت هناك معسكرين أحدهما في الشرق والآخر في الغرب وبينهما ساحة خالية، فعلمت أنهما معسكرا علي ومعاوية في هدنة، وشاهدت الجمال سارحة في المرعى وراء الخيام ومعها العبيد ترعاها. وتأملت معسكر الشام لأنه أقرب إلى موقفها من ذاك، فرأت في وسطه قبة كبيرة حولها الرجال والخيول فعلمت أنها قبة معاوية أمير تلك الحملة.

وما كادت تتأمل في المعسكرين برهة حتى رأت فيهما حركة وقد تهيئوا جميعًا للقتال، والتحم الجيشان وتطايرت النبال وصهلت الخيول وخفقت الأعلام وصاح الفرسان من الجانبين، فلم ترَ بدًّا من العمل فقالت لخادمها: «أعطني ثيابك وخذ ثيابي، وابقَ أنت هنا بالجوادين.»

ارتدت أسماء ثياب خادمها فأصبحت تشبه رجال حملة أنطاكية، ثم انتظرت حتى وصل جنود النجدة فانخرطت في سلكهم وسارت مع المشاة لا ينتبه إليها أحد، حتى دخلت معسكر معاوية والحرب محتدمة وكل لاهٍ بنفسه. وما زالت تخترق صفوف المقاتلين وهي تتظاهر بالقتال معهم، حتى وصلت إلى قبة معاوية فرأت خمسة صفوف من الرجال قد عقلوا أنفسهم بالعمائم حولها للدفاع عن معاوية بحيث لا يستطيع أحد أن يفر وحده. فعلمت أنهم متفانون في سبيل نصرته أو يُقتَلون في الدفاع عنه، وتفرست من خلال الصفوف فرأت معاوية وإلى جانبه عمرو بن العاص، وكلاهما في وجل وعيونهما تكاد تطير شعاعًا تطلعًا لما سيكون من عاقبة تلك الوقعة، وهما يحثان الرجال على الدفاع ويحرضانهم على الثبات، والنبال تتطاير كأنها الجراد في السحاب. فاحتالت أسماء في الدخول إلى قبة معاوية، فرأت فارسًا جاء مسرعًا ودخل من شق بين تلك الصفوف، فدخلت في أثره ودخل غيرها أيضًا فلم ينتبه لها أحد، فسمعت معاوية يسأل الفارس عما به، فقال: «إن وطأة العدو شديدة، ولكننا سنغلبهم بإذن الله.»

ونظرت أسماء إلى وجه عمرو بن العاص فإذا هو ممتقع، وقد بان الخوف فيه وفي وجوه معاوية ومن معهما من الأمراء. ثم رأت ابن العاص خرج مسرعًا فركب فرسه وسار يخترق الصفوف يحث الرجال ويحرضهم، فظلت واقفة في جملة الوقوف وقد سُرَّت بما رأته من شعور معاوية بقوة رجال علي. وبعد هنيهة عاد عمرو واختلى بمعاوية فلم تسمع أسماء ما دار بينهما، ثم عادا إلى فرسيهما يشرفان على المعركة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤