الفصل السابع

مقتل عثمان

لم يلبث من في دار عثمان أن رأوا الدخان يتصاعد من جهة بابها، فحسبوا أن قد شب فيها الحريق فهاجوا وماجوا واشتغل كل بنفسه، وصاحت نائلة: «ويلاه! قد أحرقونا!» وهرولت مسرعة إلى حجرة زوجها.

وأطلت أسماء من نافذة على باب الدار، فرأت الناس قد تجمهروا وعددهم يزيد على ألف وجعلوا يرمون الدار بالنبال حتى أُصِيب كثيرون. ثم رأت بعضهم قد اقتحموا الدار عنوة، وأبناء الصحابة وفيهم الحسن والحسين يدفعونهم، ورأت آخرين قد أوقعوا النار في السقيفة فوق الباب ليحرقوها ويحرقوا الباب معًا. وسمعت جموعهم يصيحون: «ادفعوا إلينا مروان فنقتله وكفى!» فاضطربت أسماء وفتحت النافذة وخنجرها لا يزال في يدها، وسارت إلى غرفة عثمان لعلها تقنعه بتسليم مروان فينجو هو، فرأت الدار ملأى بالناس وقد دخل بعضهم من ناحية دار بني حزم، ورأت مروان وبيده السيف يريد أن يدفعهم فهجم عليه أحدهم وضربه بالسيف على عنقه فدار دورة ووقع، فصاحت أسماء: «بُورِك فيك يا من قتلته! فإنه أصل الشر كله.» ولكن الضربة لم تكن قاضية فقطعت أحد علياويه فعاش مروان بعد ذلك بينما حسبته أسماء قد مات، وسارت وسط الجماهير إلى حجرة الخليفة فرأته جالسًا والقرآن بين يديه وعنده نائلة واقفة والدموع ملء عينيها.

ولم تكد تقف حتى دخل الحسن والحسين وأولاد الصحابة وفي أيديهم السيوف مسلولة، ورأت ثياب الحسن مصبوغة بالدم، وكان عثمان لما سمع بدفاعهم عند باب داره خاف عليهم فبعث يستقدمهم إليه ليردعهم عن ذلك قائلًا: «أغمدوا السيوف وارجعوا، فإن الله قد عهد إليَّ وأنا صابر عليه، وقد علمت أن الناس قد أحرقوا السقيفة فلم يحرقوها إلا وهم يطلبون ما هو أعظم.» ثم وجه خطابه إلى الحسن فقال له: «ارجع يا بني، إن أباك الآن في همٍّ عظيم من أمرك.» فلم يصغِ الحسن وأبناء الصحابة لقوله وعادوا يدفعون الناس، وظل هو على مقعده يقرأ ولا يبالي الغوغاء وعنده زوجته نائلة.

وكانت أسماء منتبذة مكانًا بالقرب منها وقلبها يخفق خوفًا عليه، فما لبثت أن رأت رجلًا من قريش دخل عليه وقال له: «اخلعها وندعك» يعني الخلافة، فقال عثمان: «ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام، ولا تغنيت ولا تمنيت، ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله . ولست خالعًا قميصًا كسانيه الله تعالى حتى يكرم أهل السعادة ويهين أهل الشقاء.» فخرج الرجل. ثم رأت رجلًا عرفت بعد ذلك أنه عبد الله بن سلام قد وقف في الناس وقال: «يا قوم، لا تسلوا سيف الله فيكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه، ويلكم! إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة (السوط) فإن قتلتموه (أي الخليفة) لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه لتتركنَّها!» فصاحوا فيه: «ما أنت وهذا يا ابن اليهود؟!» فسكت.

كل ذلك وأسماء واقفة مضطربة القلب لا تدري ماذا تعمل، وكانت قد اطمأنت إلى ما أصاب مروان لظنها أنه قُتِل، ثم ما لبثت أن رأت محمدًا بن أبي بكر دخل مسرعًا ووراءه جماعة حتى دنا من عثمان، فأوجست خيفة من قدومه لعلمها بما في نفسه، ثم سمعت عثمان يقول له: «ويلك! أعلى الله تغضب؟! هل لي إليك جرم إلا حقًّا أخذته منك؟» فأمسكه محمد بلحيته وقال: «قد أخزاك الله يا نعثل!» وكان «نعثل» لقبًا يلقبون به عثمان. فقال عثمان: «لست بنعثل، ولكنني عثمان وأمير المؤمنين.»

قال محمد: «ما أغنى عنك معاوية وفلان وفلان!»

فقال عثمان: «يا ابن أخي، فما كان أبوك ليقبض عليها» أي على لحيته، فقال محمد: «لو رأى أبي أعمالك لأنكرها عليك، والذي أريد بك أشد من قبضتي عليها.»

فقال: «أستنصر الله عليك وأستعين به.»

فلما رأت أسماء ما دار بينهما خافت أن يفتك محمد بالخليفة فيحيق به العار، فدنت منه ووقفت بحيث يراها وأشارت إليه أن يكف عما هو فيه وأن يتبعها، فلما رآها محمد ترك لحية عثمان وخرج ليعلم منها ما تريد، فانتحت به جانبًا وقالت: «من أين دخلت الدار؟»

قال: «دخلت من دار بني حزم.» قالت: «وأنت أيضًا على عثمان؟! إنه بريء مما يفترون.» ثم سمعت صياح نائلة، فأسرعت إليها فإذا هي قد حلت شعرها ونشرته، وعثمان يقول لها: «خذي خمارك، فلعمري لدخولهم عليَّ أعظم من حرمة شعرك!»

ثم رأت رجلًا ممن دخلوا مع محمد بن أبي بكر همَّ بعثمان وبيده حديدة ضربه بها على رأسه فسال دمه على المصحف، وتبعه آخر ليضربه بالسيف فأكبَّت نائلة عليه والتقت السيف بيدها فقطع أصابعها، فثارت الحمية في رأس أسماء فاستلت خنجرها تريد قتل الرجل فأمسكها محمد، ولم تمضِ لحظات حتى قُتِل عثمان وفرَّ قاتلوه.

فلما رأته نائلة مجندلًا حملت يدها والدم يسيل منها وخرجت تبكي وتنادي الحسن والحسين، فدخلا فرأيا عثمان مذبوحًا يتخبط في دمائه فصاحا: «كيف يُقتَل عثمان ونحن في داره؟! وبماذا نجيب أبانا إذا سألنا في ذلك؟»

أما أسماء فأجهشت بالبكاء، وجعلت تنظر يمنة ويسرة لعلها ترى القاتل فتنتقم منه فإذا هو قد فرَّ. وتهافت الناس على بيت عثمان ينهبون ويسلبون، وعلت الضوضاء واختلط الحابل بالنابل.

•••

أما محمد فهمَّ بأسماء وأخذ بيدها وقال لها: «اتبعيني»، فتبعته حتى خرج بها من الدار وهي تود البقاء لترى ما حال نائلة ولكنها أطاعته طوعًا لقلبها، على أنها ما لبثت أن جذبت يدها من يده وقالت: «إلى أين نحن ذاهبان يا محمد؟»

قال: «هل ترين لك مأربًا في دار عثمان بعد؟ لقد نصحت لك بأن تخرجي منها منذ أيام فلم تذعني حتى رأيته يُقتَل أمامك، وهذا ما كنت أخشاه عليك.» قالت: «إنكم ظلمتموه يا محمد، ولو استطعت إنقاذه من أيديكم لفعلت. تبًّا لمروان، إنه أصل هذا البلاء!» قالت ذلك واغرورقت عيناها بالدموع، فقال محمد: «دعينا من ذلك، لقد قُتِل عثمان ولم يعد بقاؤك في داره مستطاعًا والناس قد دخلوها ينهبون، فأفصحي الآن إن الوقت ضيق والأمر جلل ولا أستطيع البقاء معك إلا قليلًا.»

قالت: «وماذا تريد مني؟» فابتسم وقال: «ألا تعلمين ما أريده؟»

قالت: «نفسي تحدثني …» وسكتت حياءً، فقال: «أرجو أن يكون قلبك هو الذي يحدثك.»

قالت: «يلوح لي أن مقتل عثمان لا يهمك، إني والله لا أستطيع استعادة رؤيته والدم يجري من عنقه!»

فتنهد محمد وقال: «أتظنينني غير آسف لقتله؟»

قالت: «لا أظنك آسفًا وأنت البادئ بالقتل، ووالله لو لم يسبق إلى قلبي سابق ما استطعت النظر إليك!»

قال: «أراك تؤنبينني وما هذا وقته، ولو أطلعتك على أصل هذه الفتنة لطال بنا المقام ونحن في حال تدعو إلى المبادرة فلنجاوزها الآن، فإني مسرع إلى عليٍّ لأني أتوقع شقاقًا عظيمًا يقع بين الصحابة ولا بد لي من غشيان مجلسهم. وأما أنت فلا أرى أن تقيمي هنا والحال في اضطراب.»

قالت: «سأصبر حتى أسمع عذرك في قتل خليفة الرسول، فإن لم أقتنع …» وأطرقت حياءً مما كاد لسانها أن ينطق به.

فأُعجِب بصراحتها وسلامة مبدئها وازداد شغفًا بها، وقال: «إني واثق بتبرئتي نفسي من تبعة القتل فاصبري حتى نجتمع على سكينة، واذهبي الآن إلى مأمن.»

قالت: «إلى أين أذهب وأمتعتي وجوادي في دار عثمان؟»

قال: «لك عليَّ إحضارها. أما وجهتك فلا أدلك عليها قبل أن أعلم مرادك.»

قالت: «وما مرادك أنت؟» قال: «إني صريع حبك، فهل تأذنين؟»

فاحمرَّ وجهها خجلًا، وأرخت النقاب على وجهها ولم تجب.

قال: «زيديني بهذا الخجل غرامًا بك! قد عزمت يا أسماء أن أريحك وأنجيك من أبيك أو الذي يدَّعي أنه أبوك، وقد تركك منذ أيام ولا أظنك تعلمين مقره. وأما مروان فلا فضل لي في إنقاذك منه، وقد نال نصيبه.»

فلم يكد يذكر اسم مروان حتى تنهدت وقالت: «قبح الله مروان! إنه سبب هذا البلاء. وقد كنت أود قتله بيدي لأشفي غليلي منه.»

قال: «لا أظنه قُتِل وقد تركته في الدار يعصب عنقه على أثر جرح أصابه، دعينا منه ومن اسمه. أما أبوك الشيخ الغر فلا أظنه يجرؤ على الظهور بعد مقتل عثمان، وأرجو منك ألا تدعيه أباك بعد الآن فإنه بعيد عن هذا بعد الأرض عن السماء. وها أنا ذا ذاهب إلى بيت علي، وأظنه سيلي الخلافة لأنه أحق بها وأولى، وإنما دونها شقاق عظيم، فلا آمن من شر يصيبك إذا كنت في منزله فأرى أن أذهب بك إلى مأمن تبقين به حتى تهدأ الأحوال فنعيش معًا بإذن الله، ألا ترين ذلك؟»

فأطرقت أسماء وقد هاجت أشجانها وتذكرت أباها غير آسفة لفراقه، ولكنها أسفت لفراقها نائلة وهي على حزنها واضطرابها وزوجها ملقًى قتيلًا. على أن اتِّقاد الحب في قلبها أنساها كل شيء إلا محمدًا، وكانت أحبته من أول نظرة عندما ذكرت أمها اسمه، وأصبحت بعدما علمت منزلته من علي وأنه ابن أول الخلفاء شديدة الميل إليه. فظلت صامتة تهم بالكلام ويمنعها الحياء وقد تخلت عنها جرأتها، وانفثأت تلك الحمية التي كانت موضع إعجاب الرجال، وأحست بخفقان قلبها وهياج عواطفها، فأبرقت أسرتها وتلألأت عيناها كأن لسان حالها يقول: «إن الله يتَّمني ولكنه نظر إليَّ فحببني إلى خير أبناء الصحابة.»

وشعر محمد أنها تكتم حبه فلم يزد، وقال لها: «ما رأيك في أن أذهب بك الآن إلى إحدى ذوات قرباي في بعض أطراف المدينة، تقيمين عندها حتى تنقضي الأزمة التي نحن فيها ويبايَع عليٌّ بالخلافة فيرجع الأمر إلينا، فنقيم في رغد وهناء بإذن الله؟» قال ذلك ومشى، ومشت في أثره حتى انتهى إلى منزل في طرف المدينة، وإذا بامرأة عجوز لم تكد ترى محمدًا حتى همت به وقبَّلته مرحبة.

فقال لها: «جئتك بأعز شيء لديَّ فاحتفظي بها.» ثم التفت إلى أسماء وقال: «امكثي هنا يا أسماء ريثما أعود، ولا تضجري إذا طال غيابي.»

فقالت: «لا تنذرني بطول الغياب فقد لا أستطيع صبرًا على البقاء.»

قالت العجوز: «لعلك خشيت الإقامة بيننا، والله لأقومن على خدمتك أكثر من خدمتي ابني هذا!» وأشارت إلى محمد، وأخذتها بيدها ودخلت بها، فودعهما محمد ومضى.

•••

أحست أسماء بالوحشة فدخلت غرفة تخلو بها إلى نفسها، ولم تكد تفعل حتى تمثل لها عثمان مطروحًا أرضًا، ونائلة واقفة فوق رأسه وقد حلَّت شعرها وأخذت تلطم خديها وتندب. وسرى الحزن في جوانبها واقشعر بدنها وندمت على تركها نائلة على تلك الحال.

فقضت يومها وحيدة كئيبة، ولما أمسى المساء قصدت إلى الفراش تلتمس النوم فلم يغمض لها جفن، ولم تغب صورة عثمان وداره عن عينيها. فباتت ليلتها تتقلب على مثل الجمر، تفكر تارة في محمد وأخرى في يزيد وهي لا تعرف مقره، وآونة في عثمان ونائلة، حتى مضى هزيع من الليل فغلبها النعاس فنامت. وأصبحت في اليوم التالي وضميرها يبكتها على هجرها صديقتها نائلة في ساعة الضيق، وحدثتها نفسها أن تذهب إليها، وخافت أن يجيء محمد في أثناء غيابها فيغضب. وانقضى النهار ولم يأتِ محمد فاضطربت، على أنها التمست الفراش مبكرة عسى أن تنام فتنسى ما هي فيه، فطال ليلها ولم تنم إلا في فترات حتى بدأ الفجر، فأغمضت فرأت طيف نائلة في حالة يُرثَى لها وقد احمرَّت عيناها من البكاء وقطَّعت شعرها في الندب. فلما صحت وتذكرت الرؤيا غلبها الخجل على أمرها، وشعرت أن خيال نائلة يؤنبها على خروجها على تلك الحال، فأفاقت مذعورة وقد بلَّل الدمع وسادتها، ونظرت إلى السماء فرأت الشمس قد طلعت، فهمَّت بالمسير إلى دار عثمان تفتقد نائلة، ثم تذكرت أن محمدًا أوصى العجوز بالاحتفاظ بها فخافت أن تمنعها. فقضت نهارها قلقة مضطربة، تتردد بين الذهاب والبقاء حتى أمسى المساء وذهبت إلى فراشها، فجعلت تتقلب كأنها توسَّدت شوكًا، فانقضى نصف الليل وهي في أرقها وقلقها، حتى اشتد بها الأمر ولم تعد تستطيع صبرًا. فنهضت وارتدت بردائها وتقلدت خنجرها وانطلقت تطلب دار عثمان على عجل، وكان الوقت صيفًا فجعلت طريقها في أطراف المدينة لئلا يراها أحد، وأرخت نقابها على وجهها.

وما كادت تسير بضع خطوات حتى رأت أشباحًا تفرست فيهم، فعرفت من قيافتهم أنهم من بني أمية يُهرَعون بين راكب وراجل فرارًا من المدينة كأنهم يُطارَدون، فسارت في حذاء الجدران مخافة أن يكون مروان فيهم فيعرفها حتى مروا. وطال بها المسير ولم تصل إلى دار عثمان لأنها كانت تجهل الطرق، فأرادت الرجوع إلى منزل العجوز فضلَّت الطريق إليها. وكان الفجر قد دنا فخُيِّل إليها أنها إذا أشرفت على المدينة من مرتفع هناك تمكنت من تعيين محل الجامع، فإذا عرفته عرفت منزل عثمان. فتحولت إلى سور المدينة في مكان خارج البقيع وهناك أرض مهجورة قلَّ من يمر بها، ولم تكد تدرك المكان حتى رأت بضعة عشر رجلًا مهرولين من بعيد، وفيهم أناس يحملون لوحًا عليه شيء، فحسبتهم من الهاربين يحملون أمتعتهم وأنهم إنما طلبوا الطريق البعيد خوفًا من العيون، فتنحَّت إلى زقاق ضيق واستترت بنخلة بحيث ترى المارة ولا يرونها. فلما دنوا منها عرفت منهم أناسًا منهم مروان وعبد الله بن الزبير وكانت قد رأته فيمن جاء للدفاع عن عثمان من أبناء الصحابة، فلما رأت مروان بالغت في الانزواء، وتفرست فيما يحملونه فإذا هو جثة مطروحة على باب وجمجمتها عارية تقرع الباب لإسراعهم في المسير من شدة الخوف، ورأت على الجمجمة لحية كبيرة غضة مضفرة عرفتها أنها لحية عثمان، ونظرت إلى الثياب فإذا هي ثيابه ولا يزال الدم عليها، فلم تشك أن الجثة جثته. فخفق قلبها، وارتعدت فرائصها لما لحق بهذا الخليفة العظيم بعد موته، وأدركت أنهم خرجوا به ليلًا ليدفنوه، ولبثت مستترة وراء النخلة تنظر إلى تلك الجنازة المحزنة، فلما وصلوا إلى حائط هناك يقال له «حش كوكب» حفروا له حفرة دفنوه فيها وهم يتلفتون يمينًا وشمالًا جزعًا.

فصبرت حتى انتهوا وتفرقوا، فصعدت إلى مرتفع أطلت منه على المدينة فأشرفت على جامعها، فإذا هو بعيد عنها كثيرًا، فجعلته وجهتها ونزلت تخترق الأسواق فلم تجد فيها إلا نفرًا قليلًا، فخافت أن يلاقيها محمد وهي على تلك الحال، وما زالت حتى وصلت منزل عثمان والشمس تملأ الفضاء فرأته موصدًا، فالتمست باب بني حزم فرأته مغلقًا أيضًا، فتسمَّعت فلم تسمع صوتًا فوقفت برهة ثم همَّت بالباب فقرعته فلم يجبها أحد، فأعادت القرع فأطل رجل من كوة عرفت أنه من خدم عثمان فلما رأته أومأت إليه أن يفتح، فلما عرفها فتح لها فدخلت وسألته عن نائلة فأشار إليها ألا تتكلم وسار أمامها، فتبعته فدخل بها حجرة رأت فيها نسوة أحطن بنائلة وهي ما زالت محلولة الشعر كما رأتها في منامها بالأمس.

•••

فلما وقع نظر نائلة عليها صاحت قائلة: «ما الذي جاء بك يا أسماء يا حبيبتي؟! هل أتيت لتري أمير المؤمنين؟! لقد فاتك ما لاقاه من إكرام المسلمين له بعد موته.» قالت ذلك وأجهشت في البكاء.

أما أسماء فألقت نفسها على نائلة تبكي وتشهق وتقول: «إن خسارتك خسارة المسلمين كافة فقد فسد أمرهم بعد عثمان، لأنهم سفكوا دمًا بريئًا بجوار قبر الرسول.»

فلطمت نائلة خديها بكفيها، فرأت أسماء إحدى يديها معصوبة فتذكرت أنها اليد التي أُصِيبت بالسيف فقُطِعت أناملها. وقالت نائلة: «يا ضيعة تعبك يا أسماء! ويا خيبة مسعاك! لقد خدعونا والله وغدروا بنا فأرسلوا أبناءهم يذبون عنه وبعثوا يقتلونه مع آخرين، ألم تري ابن أبي بكر يقبض على لحيته؟!»

فلما سمعت اسم محمد حزنت على فعله، ولم تجد ما تدافع به عنه فسكتت وهي تفكر في عبارة تعزيها بها فلم يُفتَح عليها، فقالت: «اصبري إن الله مع الصابرين، فقد كنت بالأمس تعزينني وتواسينني وأنت اليوم أولى بالمواساة وبالعزاء.»

فصاحت نائلة: «أواه يا أسماء! كيف أصبر وقد قتلوا عثمان شر قتلة؟! لقد طعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين ضربة أسرعت في العظم. والله لكأني أسمع صوته يرن في أذني وهو يقرأ القرآن ولا يبالي ما يفعلون، وأحسبك رأيتني وقد سقطت عليه أتقي عنه وهم يهمون به يريدون قطع رأسه حتى أتت هذه الفتاة بنت شيبة (وأشارت إلى فتاة بجانبها)، فألقت بنفسها عليه دفاعًا عن أمير المؤمنين.»

ثم تنهدت تنهدًا عميقًا وقالت: «ولم يكتفوا بقتله في بيته وعلى فراشه، ولكنهم منعوا الناس أن يصلوا عليه وقالوا: «لا يُدفَن في مدافن المسلمين.» كأنه كفر أو كان من المشركين، جزاهم الله بما فعلوا! فظل في بيتنا ثلاثة أيام وجثته ملقاة بين أيدينا ونحن نبكيه ونبكي الإسلام من بعده، ولو لم نلقَ إخوانًا من أهل المروءة يحملونه خلسة في الليل لظل غير مدفون. وكم أحزنني ما أصاب الذين قُتِلوا معه، فقد جروهم بأرجلهم ولعلهم ألقوهم على التلال لتأكلهم الكلاب! ولا أدري إذا كان أبوك المسكين قد أصابه مثل مصابهم.»

فلما سمعت أسماء ذكر أبيها ارتجفت وامتُقِع لونها وصاحت: «وماذا أصاب أبي؟!»

قالت: «ألم تعلمي ما أصابه وقد كنت معنا في الدار؟»

قالت: «لا، ماذا أصابه؟»

قالت: «بُلِّغت أنه قُتِل مع الخليفة في بعض جوانب الدار.»

فلطمت أسماء وجهها وصاحت: «ويلاه يا أبتاه!» وأوغلت في البكاء مذعورة وصاحت: «وأين هو الآن؟! أروني أين هو؟!»

ولم تكن نائلة تتوقع من أسماء حزنًا شديدًا على أبيها لما تعلمه من حديثها عنه.

أما أسماء فبكت وناحت والنساء يخففن عنها ويقلن: «اصبري فإن له أسوة بأمير المؤمنين وسوف يلقيان ربهما معًا، والله ينتقم من القوم الظالمين! وسوف يثأر له بنو أمية جميعًا، إنهم لم يدركوه حيًّا ليدفعوا عنه القتل، ولكنهم سوف يسرعون إلى الثأر إذا رأوا قميصه الملوث بالدم وأصابعي المبتورة، فقد أرسلت القميص والأصابع إلى معاوية في الشام، وأصبح الأمر لبني أمية وهم سواد قريش. ولقد ظن بنو هاشم أنهم إذا قتلوا عثمان ضعف شأن بني أمية، ووالله إنهم أكثر رجالًا وأوفر عدة وأصعب مراسًا! وسوف يلقى بنو هاشم عاقبة ما جنته أيديهم.»

فلما سمعت تهديد نائلة وحكاية قميص عثمان وأناملها وما ذكرته من تفضيل بني أمية على بني هاشم؛ علمت أنها أرسلت الأصابع والقميص استحثاثًا لبني أمية على الثأر لدم عثمان، وتحققت أنها تضمر السوء لعلي، فلم تسكت عن الدفاع عنه وقالت: «لقد كان بنو هاشم أكثر الناس دفاعًا عنه، فإن عليًّا أرسل الحسن والحسين لرد الناس عن بابه، ولو أذن لهما أمير المؤمنين لجاهدا في الذب عنه إلى آخر نسمة من حياتهما. أمثل هؤلاء يطالَبون بدم عثمان أم يقال إنهم دافعوا عنه جاهدين؟»

قالت: «دعك من هذا، فوالله لو أرادوا دفاعًا لما مات عثمان! إنما أخذوا الأمر بالتريث والمداورة وأظهروا العجز، وساء ما يضمرون! ولا يغرنك إرسالهم أولادهم.» قالت ذلك وحرقت أسنانها وسكتت، فعذرتها أسماء لما رأت من هياج عواطفها على مقتل زوجها ولم تجبها. ولكنها عادت إلى السؤال عن أبيها، فقالت لها إحدى النساء: «لا تتعبي يا أسماء، إن أباك قُتِل مع الذين قُتِلوا مع عثمان وهم اثنان هو ثالثهم، وقد حملوا جثثهم خلسة إلى حيث لا ندري. فتعزي وتأسي بمقتل أمير المؤمنين خليفة رسول الله.»

وظلت أسماء تبكي مع الباكين حتى هدأ روعها وذكرت أن وفاة أبيها خير لها في مستقبل حياتها، فنظرت إلى نائلة وقالت: «وما الذي اعتزمته الآن؟»

قالت: «لقد عزمت على الرحيل من هنا إلى حيث لا أرى هاشميًّا ولا أسمع بهاشمي، ولكنني لا أستطيع الخروج إلا خلسة وما مقامنا هنا إلا خفية، ولو عرف هؤلاء الظالمون مقامي لأدركوني وقتلوني، ولكن بني حزم أهل جوار فقد خبئوني، جزاهم الله خيرًا!»

ثم تذكرت أسماء أنها تركت بيت العجوز على غرة، فخافت أن تقلق عليها إذا افتقدتها ولم ترها ولا سيما إذا عاد محمد ولم يجدها، وزد على ذلك أنها خافت أن يجيء مروان في حين أنها لا تريد أن ترى وجهه. فنهضت واستأذنت محتجة بالذهاب إلى بعض ذوي قرابتها في أطراف المدينة.

فقالت نائلة: «لو كان لي بيت لدعوتك إليه يا ابنتي، ولكني أصبحت غريبة بين أهلي أتوقع الشر في كل لحظة. فاذهبي حرسك الله ووقاك! وإذا منَّ الله علينا باللقاء فعسى أن أكافئك على صنيعك.»

قالت ذلك وضمتها إلى صدرها وودعتها وهي تبكي، وبكت أسماء أيضًا وقد انفطر قلبها لما سمعت من كلام نائلة، وشق عليها أن تراها هكذا وقد كانت بالأمس زوجة أمير المؤمنين وصاحبة الأمر والنهي.

•••

خرجت أسماء تلتمس بيت العجوز وهي تحسب أنها تعرفه، لكنها تاهت لأن البيت صغير لا يُرَى عن بعد، ووصلت إليه بعد لَأْي وقد مالت الشمس إلى المغيب، فوجدت الباب مغلقًا فقرعته مرارًا فلم يجبها أحد.

فوقفت تفكر فيما تفعله فلم ترَ خيرًا من الذهاب إلى بيت علي تفتقد محمدًا، فإذا لم تجده باتت تلك الليلة هناك فقد طالما دعاها للإقامة عنده، ولكنها خشيت إن هي سارت بلباس النساء أن تكون هدفًا للناس في الطريق أو في فناء الدار، لأن بيت علي كان يعج بالغادين والرائحين. فأخفت نفسها، وكانت ممنطقة بكوفية فحلتها ولفت بها رأسها كما يفعل الرجال في أسفارهم، وتزملت بعباءة كانت قد خرجت بها بالأمس، وسارت صوب بيت علي فلم تبلغه إلا عند العشاء، فرأت نفرًا قليلين في فناء الدار وكانت تتوقع أن ترى ازدحامًا، ثم علمت أن أهل البصرة والكوفة والمصريين الذين كانت تزدحم بهم المدينة قبل مقتل عثمان، ذهبوا إلى مضاربهم خارج المدينة للمبيت. فسألت عن علي فقيل لها إنه في خلوة مع بعض الأمراء لا يدخل عليه أحد، فوقفت تنظر في الأمر فحدثتها نفسها أن تدخل المنزل فتبيت عند بعض نساء علي، ولكنها هابت الدخول عليهن وهي لا تعرفهن من قبل.

وبينما هي في ذلك رأت محمدًا بن أبي بكر خارجًا من الدار فتبعته، فلما رأى عباءتها ومشيتها عرفها فدنا منها وتفرس فيها، فقالت: «محمد؟» قال: «أسماء؟» قالت: «نعم، أين أنت؟»

قال: «لقد قلقتُ لغيابك، أين كنت؟»

قالت: «خرجت لحاجة سأقص عليك أمرها الآن. وأين هي عجوزك؟»

قال: «أتتني في الصباح وهي قلقة لغيابك، وقد قضينا نهارنا كله في البحث عنك، فشُغِلنا به عما نحن فيه من عظائم الأمور. تعالي معي أدخلك إلى أمي.»

قالت: «هي تقيم أمك في منزل علي؟»

قال: «نعم، وهي زوجته بعد أبي، واسمها مثل اسمك، بُورِك في هذا الاسم!»

فسُرَّت أسماء لمعرفة أمه ورأت بابًا للفرج بالإقامة عندها، فقالت: «وهل تزوجها علي من زمان طويل؟»

قال: «تزوجها بعد موت أبي، وكنت أنا طفلًا فرُبِّيت في حجره، فأنا أعده بمنزلة الأب وهو يحبني كأحد أولاده.»

قالت: «لقد آنست فيه هذا البر، فرحم الله والدًا ولدك، وعاش والد رباك!» قالت ذلك وقد أبرقت أسرتها إعجابًا ولكنها أظهرت فتورًا في كلامها لم يعهده فيها، فشعر هو بذلك فقال: «أراك قد تغيرت يا أسماء بعد خروجك اليوم من بيت العجوز.»

قالت: «بل أنا باقية على ما تعلم، ولقد كنت سألتني عن سبب خروجي منه؟»

قال: «نعم، وإلى أين كان ذهابك؟»

قالت: «خرجت إلى تلك المسكينة التي قتلتم زوجها وتركتموها حزينة وحيدة، عسى أن أستطيع تعزيتها مثلما عزتني في أيام محنتي.»

قال: «هل ذهبت إلى نائلة؟»

قالت: «نعم، سرت إليها ورأيت دفن قتيلكم رحمه الله! فقد حملوه على باب وساروا به خلسة ليدفنوه خارج المدينة، وسمعت طعنًا فيك ساءني سماعه، كما ساءني ألا أستطيع دفعه، فإني رأيتك داخلًا متعمدًا قتل الخليفة.» قالت ذلك وفي رنة صوتها ما لا يصدر إلا عن سلطة الدالَّة وسلطان الدلال.

فأدرك محمد أن اعتقادها هذا سيكون صفحة سوداء في كتاب حبها فساءه ذلك، ولكنه أُعجِب بأنفتها وصدق أدبها وأحب أن يبرئ نفسه في عينيها، فقال وهو يبتسم تأكيدًا لبراءة ساحته: «لقد قلت لك يا أسماء إن الرجل لم يُقتَل ظلمًا، على أني لو كنت أنا القاتل فلست بنادم، وسأبرر الأمر لديك عما قليل. أما الآن فهيا بنا أدخلك على أمي وهي تتولى تقديمك إلى علي.»

•••

ولم يكد يدنو من الباب حتى سمع وقع أقدام في الدار ثم رأى الحسن بن علي يمر به ويسلم، فأجابه محمد: «وعليك السلام يا ابن أمير المؤمنين.» فقال الحسن: «أراك تبشرني بخلافة أنا خائف منها.»

قال: «لا تخف يا ابن بنت الرسول، إنكم أولى الناس بها.»

وكان الحسن يكلم محمدًا وينظر إلى أسماء ليعرف المتلثم، فابتدره محمد قائلًا: «إن صاحبي أموي جاء للمبيت عندكم فهل تقبلونه؟»

قال: «أهلًا به أيًّا كان، فليدخل.» قال ذلك ودخل، فدخلا في أثره وأسماء لا تزال ملثمة والحسن ينظر إليها ويتوقع حسر اللثام. ولما وقع نظره عليها تذكر أنه رآها في منزل عثمان يوم الدار، فوقعت من نفسه موقعًا حسنًا وأُعجِب بها، فقال: «أهلًا بك يا أخية.»

أما أسماء فتهيبت الموقف ونظرت إلى الحسن، فإذا هي أمام شاب أبيض اللون مشرب بالحمرة، أدعج العينين، سهل الخدين، كث اللحية، ربع القامة، جعد الشعر، لم يتجاوز الرابعة والثلاثين من عمره، وكان أشبه الناس بالنبي. وغلب عليها الحياء فأطرقت وقالت: «بُورِك في بيت شرفه الله!» فقال محمد للحسن: «وأزيدك معرفة بها، فهذه أسماء بنت يزيد التي جاءت منذ بضعة أسابيع تدعو مولاي أبا الحسن إلى أمها على فراش الموت لتطلعه على سر، فقضت رحمها الله قبل وصوله وذهب السر معها إلى القبر.»

قال الحسن وهو ينظر إلى أسماء: «إن أبي لا يزال يذكر ذلك ويأسف لضياع السر، ويعجب بما آنسه في هذه الفتاة من الهمة والأنفة.» قال ذلك وسار أمامهما فمشيا في أثره وقد اتقدت نار الحب والغيرة في قلب محمد وكأنه ندم على مجيئه بها، فسأل الحسن: «أين نحن ذاهبون؟»

قال الحسن: «إلى خالتي أمامة أعرفها بأسماء فتبيت عندها الليلة.» فلم يرق الأمر لمحمد لأن الحجاب يمنعه من الدخول معهما إلى أمامة، فبقي خارجًا على مثل الجمر، ودخل الحسن إلى حجرة أمامة بلا استئذان. وكانت جالسة وحدها وقد لبست ثوبًا بسيطًا وفي عنقها قلادة من جزع كانت شديدة الاحتفاظ بها، فلما رأت الحسن داخلًا أرادت أن تسأله عن أمر الناس والخلافة فإذا هي بأسماء تتبعه، فلما رأتها أُعجِبت بطلعتها. فدنت أسماء تهم بتقبيل يدها فمنعتها وقبَّلتها، فابتدرها الحسن قائلًا: «هذه يا خالة أسماء، وأظنك تذكرين حديث أبي عن أمها وعن سرها الذي مات معها.»

ثم التفت إلى أسماء وقال: «إنك بين يدي أمامة زوجة أبي، بنت زينب بنت الرسول، وكان جدي يحبها كثيرًا. وانظري إلى هذه القلادة في عنقها، فقد أهداها إليها رسول الله، وكانت أحب أهله إليه.»

فازدادت أسماء إجلالًا لأمامة، وظلت واقفة حتى دعتها إلى الجلوس فجلست على وسادة بالقرب منها. فقال الحسن: «إني أوصيك بضيفتك، ولا سيما وقد علمت مكانتها عند أبي.» قال ذلك وخرج فرأى محمدًا في انتظاره على مثل الجمر، فقال له: «كيف عرفت هذه الفتاة يا محمد؟» قال: «عرفتها يوم جاءت تدعو مولاي أبا الحسن إلى أمها، وقد صحبتها إلى قباء وهي في زي الرجال ثم رأيتها مرة في دار عثمان، ورأيتها اليوم جاءت تبحث عن منزلكم فإنها غريبة، وكان أبوك قد دعاها إلى الإقامة عندكم تعزية لها على حزنها ويُتْمها.»

فقال الحسن: «إنها والله ذات جمال ووقار، وليتها تبقى عندنا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤