مكالمة تليفونية من مجهول

خُيِّل ﻟ «تختخ» أنه في حلم … فهناك يد تهزه ليستيقظ … وأنه يتقلَّب على جانبه حتى لا يصحو من النوم اللذيذ … فقد سهر طويلًا مع كتاب من الكتب التي يُحبها … ولم ينَم ما يكفي … فلماذا هذه اليقظة المفاجئة؟! … لا بد أنه يحلم … ولكنه لم يكن يحلم … فقد سَمِع صوت والده يقول: «توفيق» … «توفيق»، اصحُ!

فتح عينَيه وشاهد والده ينظر إليه … فجلس سريعًا في فراشه وعاد والده يقول: صباح الخير.

توفيق: صباح الخير يا أبي.

الوالد: هل أنت على ما يرام؟

توفيق: نعم … هل حدث شيء؟ هل كنتُ أهذي وأنا نائم؟!

الوالد: لا شيء من هذا … ولكن هناك مُكالمة تليفونية لك … من «عاطف».

ردَّ «تختخ»: من «عاطف»؟! … في هذه الساعة! كم الساعة الآن يا أبي؟

الأب: السادسة وخمس دقائق.

تختخ: ما زال الوقت مبكِّرًا جدًّا …

وأحسَّ بشيء من التوجُّس والضيق. هل حدث شيء؟! لماذا يتصل به «عاطف» في هذه الساعة المبكِّرة من النهار … إن المغامرين الخمسة ليسوا مشتركين في حل لغزٍ أو في مطاردة لص … فما هي الحكاية؟

كانت هذه الخواطر تتردَّد في رأسه وهو يُسرع إلى التليفون، وعلى الطرف الآخر سمع «عاطف» يقول في صوت حزين: يا «توفيق» … لقد اختفَت «لوزة»!

ظلَّ «تختخ» لحظات لا يتحدَّث … أما زال الحلم مُستمرًّا؟ أما زال يحلم؟ … ولكن صوت أقدام والده على السلَّم، وضوء النهار، وصوت السيارات، وحتى فنجان الشاي الممزوج باللبن الذي شاهده في يد الشغَّالة «سعدية»؛ كل ذلك أَكَّد له أنه لا يحلم … وقال: ماذا حدث بالضبط؟

عاطف: إنني مُرتبكٌ جدًّا … فوالدي ووالدتي في حزنٍ شديد … ولا أدري ماذا أفعل؟ … وقد اتصلتُ بالشرطة … وأول من وصل هو الشاويش «فرقع» … وهو في الحقيقة حزين … ويُحاول التسرية عن أبي وأمي … ولكن …

وأحسَّ «تختخ» أن صوت «عاطف» يخونه … فقال على الفور: سأحضر حالًا!

ووضع سمَّاعة التليفون لحظات وهو يُفكِّر أن يتصل ﺑ «محب» و«نوسة»، ولكن فضَّل أن يُسرع لمقابلة «عاطف» …

ارتدى ثيابه في دقيقتَين، ثم قفز إلى درَّاجته، واستدعى «زنجر» الذي قفز في سلَّته خلف «تختخ»، وانطلقت الدرَّاجة … وكان الولد السمين قائدًا ماهرًا للدرَّاجات … فقطع المسافة بين منزله ومنزل «عاطف» في دقائق قليلة، قضاها في تفكير مُتَّصلٍ حول اختفاء «لوزة» … ما معنى أنها اختفت؟ كم ساعة؟ أين؟ إنه يعرف أنها كانت في الإسكندرية مع والدتها ووالدها … فهل اختفت هناك؟ هل اختفت في القاهرة؟ هل لاختفائها طابع إجرامي؟ هل؟ هل؟ هل؟

عشرات الأسئلة بدون إجابة … ولكنه سيحصل على الإجابات الآن …

كان رأسه يموج بعاصفةٍ من الخواطر … وقلبه بعاصفةٍ من الحزن … ماذا حدث للمُغامِرة الصغيرة … صديقته وأكثر الناس في هذا العالم إعجابًا به؟!

وصل إلى منزل «عاطف» وقفز من على درَّاجته … وقفز خلفه «زنجر» الذي أطلق نباحًا حزينًا عندما وصل إلى سور الحديقة … من المؤكَّد أن هذا الحيوان الأعجم يُدرك ما حدث … فهو يتنسَّم رائحة صديقته الصغيرة التي طالما اهتمَّت بأمره وأطعمته بيدها.

دخل «تختخ» من الباب الرئيسي للفيلا … ووجد أمامه «عاطف» واقفًا … واجمًا … وسمع في غرفة مكتب والد «عاطف» أصواتًا تتحدَّث، وأسرع «عاطف» إليه، وألقى نفسه بين ذراعَيه قائلًا: «لوزة» … «لوزة».

تختخ: لا تخَف يا «عاطف» … ستعود «لوزة».

عاطف: أشكُّ في هذا كثيرًا … لقد اختفَت بطريقةٍ غامضة … اختفَت في المسافة بين باب السيارة وباب الفيلا! هل تُصدِّق هذا؟! هل تُصدِّق أنها يمكن أن تختفي بهذه البساطة؟!

تختخ: اهدأ قليلًا يا «عاطف» … وقل لي ماذا حدث بالضبط؟

عاطف: هل تسمع الحكاية من أبي؟

تختخ: نعم … هيا بنا!

دخلا إلى غرفة المكتب … كان والد «عاطف» يجلس على كرسي «فوتيه» … ويقف بجواره أحد أقاربه … وعندما شاهد والد «عاطف» المغامرين داخلين، بدت على وجهه مسحةٌ من الأمل … فقد كان يعرف أن المغامر السمين كثيرًا ما اشترك مع الشرطة في حلِّ الألغاز المستعصية هو ومجموعة المغامرين.

سلَّم «تختخ» على والد «عاطف» بكل احترام، وقام والد «عاطف» بتقبيله فقد كان يُحبه … وبدون كلمةٍ أخرى قال الأب: هل سمعتَ ما حدث؟

تختخ: سمعتُ أن «لوزة» متغيِّبة … ولكني لم أسمع التفاصيل.

الوالد: إن كلمة متغيِّبة مُهذبة جدًّا بالنسبة لما حدث … إنها مختفية … ولا أستبعد أن تكون قد اختُطفت.

تختخ: هل عندك أسباب للذهاب إلى حد الاختطاف يا عمي؟

الوالد: إن ما حدث لا يُفسِّره إلا أن هناك تخطيطًا لخطف «لوزة» … أمَّا الأسباب فأنا لا أعرفها.

دخل الشاويش «فرقع» ليُعلن عن وصول المفتش «سامي» الذي دخل بقوامه الفارع ونظَّارته السوداء التي لا تُفارق عينَيه … وسلَّم على الجميع، ثم جلس … وسرعان ما أُحضر له فنجان القهوة، وقال لوالد «عاطف»: لا تخشَ شيئًا … إن «لوزة» ستعود سليمةً معافاة.

قال الأب بصوتٍ حزين: أرجو ذلك.

المفتش «سامي»: إنها بمثابة ابنتي … وهي فتاة ذكية وشجاعة … وإذا لم نصِل إليها نحن … فسوف تجد هي وسيلةً للحضور.

وصمت المفتش «سامي» لحظات، ثم قال: لقد اطلعتُ بسرعةٍ على المحضر الذي كتبه الشاويش «علي» … ولكني أُفضِّل سماع القصة كلها منك … فالتفاصيل الصغيرة مهمَّةٌ جدًّا … هل تتفضَّل وتروي لي ما حدث؟

الأب: كنتُ في الإسكندرية أقضي يومَي الخميس والجمعة مع زوجتي و«لوزة»، في حين بقي «عاطف» هنا؛ فقد كانت درجة حرارته مُرتفعةً نسبيًّا … وفضَّلت ألَّا يُسافر بعد أن طلب الطبيب أن يبقى في فراشه … ونظر الأب إلى «عاطف» الذي قال: إنني الآن على ما يرام.

مضى الأب في حديثه قائلًا: ومضى يوم الخميس على ما يرام … فقد كنتُ مشغولًا ببعض الاجتماعات … في حين كانت «لوزة» ووالدتها تقضيان الوقت على البلاج … وجاء يوم الجمعة ومضى على ما يرام أيضًا … ونمنا حوالي الساعة الحادية عشرة مساءً. وفي منتصف الليل تقريبًا دقَّ جرس التليفون، وكان المتحدِّث شخصًا أعرفه من بعيد … وقال لي بصوتٍ لاهث إن أخي الأصغر المهندس «يحيى» قد أُصيب في حادث سيارة بالقاهرة … وإنه في حالة خطرة، ويُريد أن يراني.

صمت والد «عاطف» لحظات، في حين كانت كل العيون معلَّقةً به … ثم مضى يقول: قمتُ فورًا وقرَّرتُ العودة إلى القاهرة وحدي … ولكن زوجتي التي استيقظَت على صوت جرس التليفون أصرَّت أن تأتي معي … ولبسنا ثيابنا بسرعة … وكانت «لوزة» تنام وحدها في غرفةٍ بعيدةٍ فلم تشعر بما حدث … وفضَّلت ألَّا أوقظها فلففتها في بطانيةٍ وحملتُها معي … ووضعتُها في المقعد الخلفي للسيارة وانطلقت … كان الخواطر السوداء تملأ رأسي … وتصوَّرتُ أنني سأصل إلى القاهرة بعد فوات الأوان … وأنني سأجد أخي قد مات … وهو من أحب إخوتي إليَّ، وأقربهم إلى نفسي …

وصمت لحظات، ثم قال: واخترتُ الطريق الصحراوي لأنه أقرب وأسرع … ولم أكن أنوي الوقوف طبعًا في «الرست هاوس» فقد كنت مُتعجِّلًا … ولكنني لاحظتُ أن مؤشِّر الحرارة في السيارة يكاد يقترب من المائة … وكان لا بد من الوقوف وملء «الرادياتير» بالماء حتى لا يحترق الموتور … وهذه أول مرة يسخن فيها الموتور إلى هذا الحد … وتوقَّفتُ في «الرست هاوس» حوالي الساعة الواحدة والنصف صباحًا … وملأت «الرادياتير» بالماء، ثم استأنفتُ رحلتي إلى القاهرة، فوصلتُ حوالي الثانية والربع … واتجهتُ فورًا إلى مسكن أخي الذي يقع في العمارات الجديدة قرب مستشفى المعادي.

كان «تختخ» يُتابع القصة باهتمام … وقد علقتْ بذهنه نقطتان مُهمَّتان من حديث والد «عاطف» … ولكنه لم يسرح معهما وعاد إلى الاستماع … مضى والد «عاطف» يقول: والعمارة التي يسكن فيها أخي «يحيى» من العمارات التي لم ينتهِ تشطيبها بعد … وهي مكوَّنة من تسعة أدوار … وبعض هذه الأدوار غير مسكونة لأنها لم تتم … صعدتُ أنا وزوجتي وفضَّلنا أن نترك «لوزة» نائمة … بعد أن أحكمتُ حولها البطانية التي غطَّيناها بها من أول الطريق.

وتنهَّد والد «عاطف» وهو يُكمل قصته قائلًا: ووصلنا إلى شقة أخي وقد بلغ بي من التعب والحزن كل مبلغ … ودققتُ الجرس بأصابع مرتعدة …

قاطعه المفتش سائلًا: ألم يذهبوا به إلى المستشفى وهو مصاب؟!

ردَّ والد «عاطف»: الذي حدَّثني لم يقُل لي أكثر من أنه مُصاب في حادث سيارة وحالته خطرة، وأغلق التليفون قبل أن أسأله عن بقية التفاصيل … وكان من المنطقي أن أذهب أولًا إلى منزل «يحيى» لأسأل زوجته أو أحد أولاده عن مكانه …

المفتش: معقول جدًّا …

ومضى والد «عاطف» يقول: دققتُ جرس الباب فترةً طويلة … وأخيرًا فُتح الباب … وكانت المفاجأة … فالذي فتح الباب لي كان أخي … ولم يكن مُصابًا … بل كان في كامل صحته …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤