البحث عن «عباس الأقرع»

مرَّ «تختخ» بمنزله فغيَّر ثيابه … وأخذ كلَّ ما ادَّخره من نقود، ثم انطلق إلى محطة قطار المعادي … ومن محطة باب اللوق استقلَّ تاكسيًا إلى باب الحديد … وأسرع إلى موقف السيَّارات وقفز إلى أول سيارة في طريقها إلى الإسكندرية … ولم تكَد السيارة تتحرَّك حتى استغرق في النوم … لقد استيقظ مبكِّرًا عن عادته … وهو في حاجة إلى أكبر قدر من الرَّاحة، خاصةً بعد ساعات التوتُّر التي مرَّ بها منذ عَلِم أن «لوزة» قد خُطفت.

استيقظ قُرب دمنهور … فعرف أنه نام نحو ساعة ونصف ساعة … وأحسَّ أنه نشيط ولكنه جائع … ولم يكد يصل إلى الإسكندرية حتى التهم بضعة «ساندويتشات» من الفول والطعمية، أتبعها بكوبٍ من الشاي … وأصبح مستعدًّا لخوض المعركة المقبلة … كان يعرف منزل «عاطف في «رشدي» فاتجه إليه … وعندما وصلَ قُرب «الجراج» الذي كان والد «عاطف» يضع فيه سيارته، توقَّف على الرصيف الآخر، وأخذ ينظر حوله، ثم اتجه بعينَيه إلى «الجراج» … وأدرك أنه من السهل أن يدخل شخص إلى الجراج، ويقوم بأيِّ عمل بدون أن يُحسَّ به «سايِس» «الجراج» إذا كان وحده … ﻓ «الجراج» له ثلاثة أبواب … اثنان منها على الشارع … والآخر يُطل على شارع جانبي ضيق. وكانت السيارات متراصَّة … وأي شخص يثني رأسه ويعبر بين السيارات من الصعب رؤيته …

أحسَّ بخيبة أمل … لقد جاء مُتحمِّسًا لأن يَصِل إلى الشخص الذي ثقب «الرادياتير»، ولكن الشواهد تقول إنه لن يصل إلى شيء … وفكَّر قليلًا، ثم عبر الشارع الواسع إلى «الجراج» … ودخل … ولم يرَ أحدًا في البداية؛ فقد كان «الجراج» واسعًا ومُظلمًا … ولكنه سمع من يقول: أي خدمة يا أستاذ؟

ثم ظهر رجل عجوز نحيل جدًّا … يلبس «الأفرول» الأزرق الذي يرتديه الميكانيكية عادة … وردَّ «تختخ»: جئتُ أبحث عن عم «سيد».

الرجل: إنني «سيد» … وأذكر أنني رأيتك من قبل.

تختخ: أعتقد أنني رأيتك أيضًا … لقد كنتُ أحضر مع صديقي «عاطف».

الرجل: تذكَّرتُ الآن … نعم منذ عامَين كنتَ هنا.

تختخ: هل تعلم ماذا حدث لأخته الصغيرة؟

الرجل: لا … آخر مرة رأيتها فيها كان بالأمس ليلًا، وكان والدها يحملها بين ذراعَيه وهو مستعجل للذهاب إلى القاهرة.

تختخ: لقد اختُطفت!

قالها وهو ينظر إلى الرجل نظرةً فاحصةً ليرى آثار ردِّ الفعل على وجهه … فلو كان مشتركًا في عملية الخطف … فلا بد أن يحدث له رد فعل يمكن ملاحظته على ملامح وجهه، ولكن الرجل أبدى دهشةً مقرونةً بالحزن وقال: اختُطفت! … كيف؟ ومتى؟

تختخ: لقد اختفت من السيارة!

الرجل: «المرسيدس» الزرقاء؟

تختخ: نعم … بالمناسبة … هل شككتَ في أي وقت أن بهذه السيارة أي خلل؟

الرجل: مُطلقًا … إنها سيارة ممتازة، وهي موضع رعاية صاحبها …

تختخ: إنكَ المسئول عن نظافتها ومراعاة كمية مياه التبريد فيها … فهل لاحظتَ في أي وقتٍ أن المياه تتسرَّب من «الرادياتير»؟

الرجل: مطلقًا …

تختخ: إن هناك يدًا آثمةً ثقبت «الرادياتير» … فقد كادت السيارة أن تحترق في الطريق ليلًا … لولا يقظة والد «عاطف».

وهنا خطرتْ ببال «تختخ» فكرة غريبة … لماذا ثقبوا «الرادياتير»؟ هل كان المقصود فقط إحراق السيارة؟ ولماذا؟

ولكن لم يكن هناك في هذه اللحظة وقت للاستغراق في التأمُّل … فعليه أولًا أن يعرف من الذي ثقب «الرادياتير» … وبعد ذلك يمكن سؤاله … وهكذا عاد لسؤال عم «سيد» العجوز: هل تعمل هنا وحدك؟

الرجل: لا … يُساعدني عادةً اثنان من العُمَّال … ولكنهم أصبحوا الآن ثلاثةً بعد أن انضمَّ إلينا منذ أيام «عباس الأقرع».

تختخ: وهل تعرفهم جميعًا؟

سيد: أعرف الاثنَين الأولَين … ولكن الولد «عباس» الذي انضمَّ إلينا مؤخَّرًا لا أعرفه جيدًا … لقد تعرَّفت به على المقهى الصغير في أول الحارة.

تختخ: وأين هو؟

سيد: لم يحضر هذا الصباح … لا أدري لماذا؟

تنبَّه «تختخ» لهذه الجملة وقال: هل كان سهران معكم أمس؟

سيد: قضى معنا أول الليل فقط … ثم استأذن في الانصراف.

تختخ: وكيف أستطيع مقابلته؟

سيد: إنني لا أعرف له مكانًا … في الأغلب ستجده على مقهى المعلم «سلامة» في أول الحارة … إنه ولد نحيل … في نحو السادسة عشر من عمره … وأقرع!

وأشار «سيد» بيده عدة إشارات يُوضح بها الطريق إلى المقهى، فقال «تختخ»: سأذهب للبحث عنه وقد أعود إليكَ بعد ذلك.

ومشى «تختخ» في اتجاه المقهى حسب إشارات «سيد» ووجده … كان مقهًى صغيرًا يضم مجموعةً من العجائز يلعبون الطاولة و«الدومينو» … وبعض العاطلين يلعبون الورق ويتصايحون … وكان ثمَّة رجل يجلس على نَصبة عالية في طرف المقهى يُدخِّن الشيشة وهو مستغرق في التفكير … وشمل «تختخ» المقهى بنظرة باحثة … ولم يجِد أحدًا تنطبق عليه أوصاف «عباس الأقرع» … فمضى إلى الرجل الذي يُدخِّن الشيشة والذي استنتج أنه المعلم «عباس» …

قال «تختخ»: صباح الخير يا معلم «عباس».

ردَّ الرجل بصوت ثقيل وهو يتأمَّل «تختخ»: صباح الخير يا أفندي!

تختخ: جئتُ أسأل عن «عباس الأقرع»؟

سرح المعلم لحظات وهو يكركر بالشيشة، ثم قال: لم يظهر اليوم … اسأل عنه في محل «العجلاتي» في آخر الحارة.

شكر «تختخ» المعلم وخرج … وقد ازداد إصراره على أن يصل إلى «عباس الأقرع» هذا مهما كلَّفه الأمر … سار في الحارة حتى نهايتها … وجد محل الدراجات، وكان ثمَّة خمسة أو ستة أشخاص يقفون حول المحل … وبعض الأولاد يستأجرون درَّاجات … وهناك ثلاثة أولاد يقومون بتصليح الدرَّاجات وغسلها … واختار «تختخ» أحد الأولاد الذين يغسلون الدرَّاجات وقال له: من فضلك … أسأل عن «عباس الأقرع».

ردَّ الولد: لم أرَه اليوم … اذهب إلى منزلهم واسأل عنه.

تختخ: وأين هذا المنزل؟

الولد: في «غيط العنب».

تختخ: إن هذا بعيد جدًّا! … هل عندك عنوانه؟

الولد: لا … إنني أعرف فقط أن أذهب إليه … ولكني لا أعرف العنوان.

تختخ: هل تأتي معي؟

الولد: وأترك شغلي؟!

تختخ: بعد أن تنتهي من شغلك … سأُعطيك خمسين قرشًا.

لعق الولد شفتَيه بلسانه وقال: سأستأذن من الأسطى وآتي معك … ولكن أعطني النقود أولًا.

تختخ: بعد أن تأخذ الإذن سأُعطيك النقود.

أسرع الولد في غسل أجزاء الدرَّاجة بالجاز … وعندما انتهى منها قفز إلى داخل المحل، وغاب دقائق، ثم ظهر مرةً أخرى بعد غسل يدَيه، وأشار إلى «تختخ» فسار بجواره …

قال الولد: لماذا تُريد «عباس الأقرع»؟ هل عندك تسليكة؟

حاول «تختخ» أن يفهم معنى التسليكة هذه … واستنتج أنها شيء ضد القانون، فقال: نعم.

الولد: أي صنف؟

تختخ: ستعرف عندما نُقابل «عباس».

الولد: يمكن أن أُساعدك أفضل من «عباس الأقرع» … إنه ولد شرير!

تختخ: إنني أُريده … فعندي رسالة له.

كان ذهن «تختخ» يعمل بسرعة … فما دام سيُقابل «عباس الأقرع»، وما دام هو ولد يُكلَّف بمهمَّات غير قانونية؛ فلا بد أن يخترع له حكايةً مناسبةً حتى يدفعه للكلام.

قال «الولد» عندما وصلا إلى الكورنيش: سنأخذ الأوتوبيس حتى محطة الرمل، ومن هناك نأخذ أوتوبيسًا آخر إلى «غيط العنب».

وقفا على محطة الأوتوبيس … كان ذهن «تختخ» مشغولًا تمامًا … إنه قد يضع يده قريبًا على أول خيط في عملية خطف «لوزة» … وعليه أن يكون حَذِرًا … ووصل الأوتوبيس، وأشار له الولد فقفزا معًا إليه. كان مزدحمًا … وخشي «تختخ» أن يفقد آثار الولد … فأخذ ينحشر بين الراكبين ليكون قريبًا منه … وسارَ الأوتوبيس حتَّى وصل إلى محطة الرمل … وقفزا منه … ثم ركبا أوتوبيسًا آخر كان أكثر ازدحامًا … وبين عشرات الراكبين أخذا يُحاولان البحث عن مكان لهما …

وسار الأوتوبيس … وجاء الكمساري فقطع «تختخ» تذكرتَين له وللولد … ثم أخذ ينظر إلى الشوارع من خلال النافذة … كان يسمع عن حي «غيط العنب» الشعبي في آخر الإسكندرية … وأخذ يتصوَّر اللحظات القادمة … هل سيقنع «عباس الأقرع» بالكلام عن المهمَّة التي قام بها أمس ليلًا؟ … إنها ستكون خبطةً موفقةً لو حدث هذا … وأخذ الأوتوبيس يقف من محطة إلى أخرى حتى عبر كوبري كرموز الضيق، ودخل إلى حي «غيط العنب» المزدحم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤