صديقان

بعد محطة واحدة داخل الشارع الرئيسي في «غيط العنب»، نزل «تختخ» مع الولد الذي لم يكَد يضع قدمَيه على الأرض حتى أشار إلى كوخٍ من الصفيح الصدئ وقال: هنا ستجد «عباس الأقرع». هاتِ الخمسين قرشًا.

وضع «تختخ» يده في جيبه الأيمن حيث اعتاد أن يضع نقوده … ولكن لم يكن هناك نقود … فزع قليلًا ولكنه تصوَّر أن يكون قد نقلها من هذا الجيب إلى الجيب الآخر في أثناء قطع التذاكر … وأسرعت أصابعه إلى الجيب الأيسر … ولكن لم يكن هناك شيء … وتسارعت دقَّات قلبه … وأخذ يتحسَّس بقية جيوبه كالمجنون … ولكن لا أثر للنقود … وصاح الولد: لقد خدعتني! … إنك لم تكن تملك نقودًا!

قال «تختخ»: أبدًا … لقد نُشِلت في الأوتوبيس!

ولم يتلقَّ «تختخ» ردًّا على كلماته … لقد تلقَّى لطمةً قاسيةً من يد الولد، وأحسَّ أنه سيسقط، ولكن تمالك نفسه … ولكن الضربات انهالت عليه مع مجموعة منتقاة من السباب واللعنات … وتجمَّع عدد كبير من الأولاد أحاطوا بهما … وحاول «تختخ» أن يتَّقي الضربات بدون أن يتشاجر … ولكن الولد استمرَّ في تسديد اللكمات إليه … ولم يجد «تختخ» بُدًّا من الرد … فوجَّه إلى الولد لكمةً بقبضة يده اليسرى في بطنه … أتبعها بأخرى بيده اليمنى في وجهه … وترنَّح الولد … وتصايح الأولاد … ولكن الولد قام مُسرعًا واتجه كالصاروخ ناحية «تختخ»، وضربه برأسه ضربةً موجعةً في بطنه … فترنَّح وكاد يسقط، ولكنه استند إلى عمود الإنارة … ثم طوَّح بقدمه في بطن الولد الذي صرخ من الألم … واشتبك الاثنان بالأيدي، والأولاد حولهما يتصايحون … اضرب … اضرب … وخُيِّل ﻟ «تختخ» أنه في حلم … ماذا حدث بالضبط؟! إنه مشتبك في معركة في مكان بعيد مع ولد لا يعرف اسمه!

وفجأةً في وسط هذه الفوضى يظهر ولد رفيع حاد الملامح ويقول: قف … ما هذا؟

دخل بشجاعة إلى ساحة «الخناقة»، وابتعد الأولاد جميعًا من طريقه … ورآه «تختخ» وعرف على الفور أنه «عباس الأقرع» … فقد كان رأسه خاليًا من الشعر … وقد بدت في وجهه آثار جراح قديمة تُؤكِّد أنه ذو ماضٍ عريق في المشاجرات و«الخناقات» … وتوقَّف «العجلاتي» عن توجيه الضربات ﻟ «تختخ»، الذي توقَّف هو الآخر … ووقفا وقد تسارعت أنفاسهما ينظران إلى الولد ذي الملامح القاسية الذي اقتحم المكان.

قال «العجلاتي»: لقد وعدني بخمسين قرشًا إذا أوصلته إليك! ولكنه بعد ذلك ادَّعى أنه نُشِل في الأوتوبيس ولم يُعطني النقود!

نظر «الأقرع» إلى «تختخ» الذي كان يتأمَّله وقال: هل نُشِلت حقًّا؟

تختخ: طبعًا … كيف أعده ولا أعطيه؟!

الأقرع: من أين أنت؟

تختخ: من القاهرة!

الأقرع: وماذا تُريد مني؟

تختخ: سأتحدَّث إليكَ على انفراد.

التفت «الأقرع» إلى الولد «العجلاتي» وقال: سأُعطيك الخمسين قرشًا … تعالَ في المساء! وسحب «الأقرع» «تختخ» من يده، وسارا مبتعِدَين عن مجموعة الأولاد الذين وقفوا يُتابعونهما بالنظرات حتى دخلا العشَّة الصفيح.

أشار «الأقرع» إلى حوض صغير وقال: اغسل وجهك ويدَيك … سأعود لكَ حالًا.

وأسرع «تختخ» يغتسل. كان يشعر أنه متعبٌ وجائع … فلمَّا انتهى من الاغتسال وجد حصيرةً موضوعةً على الأرض، فجلس عليها … ومضى ربع ساعة بدون أن يظهر «عباس الأقرع»، ثم سمع صوت خطوات مُقبلة، وفتح الباب ووجد «عباس» … يدخل وقد حمل بين يدَيه لفَّةً من «السندوتشات» … كانت رائحتها تُؤكِّد أنها «ساندويتشات» كبدة ومخ. وفتح «عباس» اللفَّة وجلس بجوار «تختخ» على الأرض، وقال ببساطة: كُل … لا بد أنك جائع.

لم ينتظر «تختخ» دعوةً ثانية؛ فقد انقضَّ على الطعام، ووجده لذيذًا وحاميًا، خاصةً مع قطع المخلَّل المتبَّلة بالثوم … وأحسَّ وبطنه يمتلئ بالعرفان بالجميل لهذا الولد الشرير … وتحيَّر ماذا يقول له … هل يخدعه؟ … أو يقول له الحقيقة كلها؟ … إنه ليس بالتأكيد من العصابة التي خطفت «لوزة»؛ فمثل هذا الولد لا يكون عضوًا في عصابة خطف … إنه مجرَّد أداةٍ استُخدمت، ثم انتهى دورها.

دخلت سيدة عجوز تلبس السواد، وبيدها صينية عليها أكواب الشاي … وعندما رشف «عباس الأقرع» أول رشفة من كوبه قال ﻟ «تختخ»: والآن … ماذا تُريد مني؟

رشف «تختخ» رشفةً من كوبه هو الآخر ليأخذ ثواني أخرى للتفكير، ثم قال: اسمع يا «عباس» … إنك متهم في قضية خطيرة!

لم يبدُ على الولد المتشرِّد الأقرع أي أثر لهذه الجملة التي اختارها «تختخ» بعناية لإحداث أكبر تأثير في الولد … بل قال على الفور: دعك من هذه المقدِّمات … ماذا تُريد مني؟

ذُهل «تختخ» أمام ثبات الولد … وفكَّر لحظات، ثم قال: ما جئتك من أجله متصل بهذه القضية؛ فأنت قُمت بإحداث ثقبٍ في «رادياتير» سيارة «مرسيدس» كانت تقف في جراج «الوفاء» بحي «رشدي»!

انتظر «تختخ» لحظات … لعله مخطئ … لعل «عباس الأقرع» ليس هو الذي أحدث الثقب في جهاز تبريد السيارة … ولكن «عباس» قال ببساطة متناهية: نعم … هذا حدث!

تختخ: إن هذه كانت بدايةً لخطة إجرامية لخطف بنت من والدَيها!

لأول مرة بدت على وجه «عباس الأقرع» بعض الانفعالات وقال: خطف! لقد قالوا لي إنهم يُريدون شراء السيارة «المرسيدس» من صاحبها … ويُريدون إقناعه أن بها خللًا حتى يخفض الثمن، وطلبوا مني إحداث الثقب، حتى إذا ما أدار السيارة وسخن الموتور قالوا إنها سيارة معيبة حتى يرضخ صاحبها ويخفض الثمن.

تختخ: لقد خدعوك! … وشرطة مصر كلها تُطاردهم الآن … وسوف يقعون في أيدي الشرطة مهما حاولوا … وسيصل التحقيق إليك … وفي هذه الحالة ستُحاكم بصفتك شريكًا في جريمة الخطف … وهي جريمة خطيرة … بل هي من أخطر الجرائم، وعقوبتها سنوات وسنوات وراء أسوار السجون.

ساد الصمت لحظات … ولم يكن يقطعه إلا صوت رشفات الشاي … ولا يدري «تختخ» لماذا أحسَّ بأن هذا الولد برغم شهرته الشريرة يحمل قلبًا طيبًا! وقد كان ذلك صحيحًا؛ فقد ردَّ الأقرع قائلًا: لقد جرَّبت دخول إصلاحية الأحداث مرات ومرات … ولستُ أخاف أن أذهب مرةً أخرى … إن ذلك لا يُهمُّني، ولكن ما يُهمُّني حقًّا هو هذه البنت التي خطفوها!

ثم أخذ رشفةً طويلةً من كوب الشاي، ونظر إلى «تختخ» وقال: هل هي قريبتك؟

ردَّ «تختخ»: إنها أكثر من قريبتي … إنها صديقتي!

عباس: وما هو اسمك؟

تختخ: اسمي «توفيق»!

عباس: واسمها؟

تختخ: نحن نُناديها باسم مختصر هو «لوزة»!

عباس: وهل جئتَ خصوصًا لمقابلتي لهذا الغرض … لإنقاذ صديقتك؟

تختخ: نعم …

عباس: إنك ولد شجاع … وأنا أحب الشجعان، وسوف أُساعدك … ولكن قُل لي أولًا … كيف عرفت أنني ثقبت «رادياتير» السيارة «المرسيدس»؟

وروى «تختخ» له ما سمعه … وذهابه إلى «الجراج» … وسؤاله عنه … والمشوار من «رشدي» إلى «غيط العنب»، وكيف تمَّ نشله!

وضحك «عباس» وقال: سأُحضر لك ما نُشل منك!

ذُهل «تختخ» وقال: كيف؟

عباس: إنني أعرف كل نشَّالي الإسكندرية … خاصةً الذين يعملون على خط «غيط العنب» … وسوف نذهب الآن لمقابلتهم … إنهم يعودون في المساء ويجتمعون عند المعلم «كنجة»، ونحن لا ننشل أصدقاءنا، وأنت صديقي فقد أكلنا معًا عَيْشًا وملحًا!

ابتسم «تختخ» لأول مرة منذ الصباح … فقد أصبح صديقًا لهذا الولد المشهور بالشر … وأنه قد وضع يده على أول الطريق إلى معرفة كيف خُطفت «لوزة»، ومن الذي خطفها … ولكن لم يسترسل طويلًا في خواطره … فقد سمعا صوت خطوات سريعة أمام باب العشَّة الصفيح … ثم فتح الباب فجأةً وأطلَّ وجه ولد متسخ الثياب، وصاح الولد: بصاص … بصاص …

وقفز «عباس» وجذب «تختخ» معه وهو يقول: هيا … اجرِ!

جرى «تختخ» بجوار «عباس» بدون أن يدري ما السبب … ووجد نفسه في مكان مُظلم لا يدخله بصيص من النور … ثم يجتاز دهليزًا طويلًا تناثرت على جانبه الغُرف المغلقة، وانتشرت فيه رائحة السمك المملَّح، وشاهد مجموعةً من البراميل الكبيرة الموضوعة في ساحة واسعة … اجتازاها جريًا، ثم وصلا إلى سور مرتفع من الحجر عليه الأسلاك الشائكة، وتسلَّق «عباس» السور كالقرد، ونفذ من خلال فتحة في الأسلاك، وتبعه «تختخ» وانحدرا إلى الأرض … وكانت مُغطاةً بعشرات من قضبان السكة الحديد … واجتازاها جريًا … ثم قفزا من سور آخر، وأصبحا وحيدَين في منطقة من البراري الموحشة … واشتمَّ «تختخ» رائحة المياه العطنة، وأدرك أنه قريب من بركة كبيرة من المياه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤