من هي الفتاة الثانية؟

دخلا إلى عشة من البوص، وجلسا يلهثان … كان «تختخ» في دُوامة من التفكير فيما حدث … وكان هناك تفسير واحد … إن الشرطة تُطارد «عباس الأقرع» … فهل كانت تُطارده بسبب قضية خطف «لوزة»؟ أم لسبب آخر؟! إذا كان بسبب قضية «لوزة»؛ فمعنى هذا أن المفتش «سامي» قد التقط نفس الخيط … وأنه في مكان قريب منه … فماذا يفعل؟

وكأنما كان «عباس» يقرأ أفكاره فقد قال: طبعًا فهمت … الشرطة تطاردني … ولست أعرف لماذا؟ فهناك عشرات الأسباب لكي تُطاردني الشرطة … وكل ما أرجوه إذا كنتَ حقًّا صديقي ألَّا تُبلغ عني.

لم يردَّ «تختخ» على هذه الملاحظة … ولكن سأل «عباس»: متى نخرج من هنا؟

ردَّ «عباس»: عندما يهبط الظلام … ولن نعود إلى «غيط العنب» الليلة … فلا بد أن الشرطة ستُفتِّشها شارعًا شارعًا، وحارةً حارة، ومنزلًا منزلًا …

تختخ: ولكن بقي وقت طويل على هبوط الظلام!

عباس: تستطيع أن تنام … فأنا شخصيًّا سأنام … وليس هناك حل آخر … أنصحك ألَّا تُحاول الخروج … فهذه منطقة خطرة يعيش فيها الهاربون والخارجون على القانون.

تختخ: لن أخرج … ولكن هناك معلومات هامة أُريد أن أسمعها منك!

عباس: بعد أن نستيقظ … فأمامنا وقت طويل في الليل للحديث.

وتكوَّم «عباس» مكانه … وبعد لحظات سمع «تختخ» صوت تنفُّسه المنتظم، وعرف أنه قد نام … وعجب كيف يستسلم للنَّوم بهذه البساطة وقوات الشرطة تُطارده … ولم يكن أمامه هو الآخر إلا أن ينام … فقد قضى يومًا مُرهقًا … وتكوَّم مكانه هو الآخر … وسرعان ما استسلم للرقاد.

استيقظ «تختخ» على يد تهزه … فتح عينَيه فوجد الظلام يُحيط بكل شيء … وللحظة لم يدرِ أين هو، ثم سمع صوت «عباس» يقول له: هيا بنا!

وقام «تختخ»، كان أكثر انتعاشًا … وخرج إلى الفضاء الذي يُحيط بالعشَّة … كانت السماء مُلبَّدةً بغيوم خفيفة تُخفي وجه القمر … وتجعل الرؤية متعذِّرة … ولهذا قال «عباس»: ابقَ بجانبي … إنني أحفظ الطريق كما أحفظ حارتنا.

ومشيا معًا … وساد الصمت لحظات … لم يكن هناك سوى نقيق الضفادع، وصرير صراصير الحقل … ونسمات الريح … وطَنِين الناموس الذي كان يطير في مجموعات كثيفة كأنه غمامة بيضاء.

قال «تختخ»: إن ما جئتُ من أجله لم يتحقَّق منه شيء … إنني أُريد أن أعرف الرجال الذين اتفقوا معك على ثقب «الرادياتير».

لم يردَّ «عباس» على الفور … ومضى يمشي و«تختخ» بجواره وهو يُحاول إبعاد البعوض المتكاثف عن وجهه … وأحسَّ بالقلق … إن «عباس» لا يُجيب … وفي النهاية نطق «عباس» قائلًا: هل تعرف أن هناك كلمة شرف بين اللصوص؟

لم يردَّ «تختخ»، فمضى «عباس» يقول: هذا يعني أن لصًّا لا يمكن أن يشي بلص آخر …

سكت «عباس الأقرع»، فقال «تختخ»: إن القضية ليست سرقة بضعة جنيهات. إنها قضية خطف فتاة ليس لها ذنب … ثم إن هؤلاء الناس خدعوك … لقد حدَّثوك عن سيارة ستباع … ولكنهم لم يُحدِّثوك عن فتاة ستُخطف.

فكَّر «عباس» لحظات، ثم قال: نعم … أُوافقك … لقد خدعوني … وربما لو حدَّثوني عن فتاة ستُخطف لمَا اشتركتُ في هذه العلمية … لهذا …

وسكت دقيقةً كاملةً قبل أن يقول: سأُخبرك بكل ما قالوه لي … وما سمعتُه منهم، وتستطيع أنتَ أن تُفسِّره.

ومضت لحظات، ثم قال «عباس» وهو يسير ببطء وقد بدأت المياه تغمر أقدامهما: لقد ساعدوني في الالتحاق بالعمل في «الجراج» … وهناك شخص لا أعرفه أوصى بي عند صاحب «الجراج»، فالتحقتُ بالعمل … كنتُ سعيدًا به … فهذا من الأعمال الشريفة القليلة التي قمتُ بها في حياتي … وأنا أُريد أن أعيش شريفًا … ولكن لا أدري ماذا أفعل؟

وصمت لحظات، ثم مضى يقول: فرحتُ جدًّا … وقضيتُ في العمل بضعة أيام … كنتُ أعمل في تنظيف السيارات في جزء من الليل … وأحيانًا طول الليل في مقابل خمسين قرشًا في اليوم … وأمس الأول جاءنا الرجل الذي رشَّحني للعمل في «الجراج»، وقال لي إنه سيطلب مني خدمة … وبالطبع لم يكن في إمكاني أن أرفضها بعد أن ساعدني …

وتنهَّد «عباس الأقرع» وأكمل حديثه قائلًا: طلب مني — كما قلتُ لك — أن أثقب «رادياتير» السيارة «المرسيدس» … وقال لي إنهم يُريدون شراءها ويُريدون تخفيض ثمنها … وأعطاني عشرة جنيهات … وقبلت … وطلبوا مني التنفيذ قُرب منتصف الليل … وطلبوا مني الابتعاد عن «الجراج» فترةً على أن يُعيدوني للعمل فيه مرةً أخرى.

تختخ: وبالطبع كانوا يضحكون عليك.

عباس: نعم … واضح أنهم كانوا يضحكون عليَّ … ومن أجل هذا … وحتى نُنقذ صديقتك الصغيرة سأقول لكَ ما سمعتُ بعد ذلك.

تنبَّه «تختخ» لهذه الجملة … فهناك معلومات جديدة … واستمرَّ «عباس» يقول: ذهبتُ إلى المقهى بعد أن أعطَوني النقود … كنتُ أُريد أن أتعشَّى وأشرب كوبًا من الشاي … وكان النور مقطوعًا ساعتها من المنطقة … فاستخدموا بعض الشموع … وجلستُ أتناول «السندوتشات» بجوار الرصيف … وسمعتُ صوت المعلم «كنجة» وهو يتحدَّث … كان الهواء يحمل لي كلمات متقطِّعة … لم أفهم معناها في ذلك الوقت … ولكني فهمتُ الآن بعد أن حدَّثتني عن خطف الفتاة صديقتك … قلتَ لي ما اسمها؟

تختخ: اسمها «لوزة».

عباس: نعم «لوزة» … سمعتُ كلمات … أُحاول أن أتذكَّرها الآن … الاستراحة … الفتاة … «الرادياتير» … ولكن … ولكن … وتردَّد عباس لحظات، ثم قال: خُيِّل إليَّ أنني سمعتُ كلمة الفتاة الأخرى!

وصمت «عباس»، ودارت الكلمات في ذهن «تختخ» تترابط … وتتناثر … كأنها مجموعة من الخرز تنفرط من عقد … ثم تعود لتجتمع … الفتاة الأخرى … الأخرى … الفتاة الأخرى … هل ينوون خطف «نوسة» … هذا يعني أنهم يقصدون المغامرين الخمسة وليس «لوزة» بالتحديد … إذن هناك عمليات خطف أخرى … وأحسَّ أن صوت قلبه قد أصبح مسموعًا على بعد كيلومتر … لقد تسارعت الدقَّات وارتفعت … إن هذه الكلمات على أكبر جانب من الأهمية … ولكن ما الطريق إلى توصيل هذه المعلومات إلى المغامرين … أو إلى المفتش «سامي» … إنه لو فقد أثر «عباس الأقرع» هذه المرة فلن يصل إليه مرةً أخرى … إنه هارب من رجال الشرطة … وسيختفي ولن يعثر له على أثر … عليه إذن أن يعتمد على نفسه فقط … وأن يستفيد من هذه المعلومات …

ظلَّا يمشيان في الظلام … ولاحظ «تختخ» أنهما قد وصلا إلى شاطئ بحيرة عرف على الفور أنها بحيرة «مريوط» التي تقع غرب الإسكندرية … ومن بعيد بدت أنوار المقاهي الصغيرة والعشش الصفيح التي يُقيم بها صغار الصيادين الفقراء … وحلقات السمك الساهرة في انتظار عودة الصيادين …

توقَّف «عباس» عند منحنًى في الطريق، ثم قال ﻟ «تختخ»: تعالَ نقفز في أحد القوارب ونقطع المسافة الباقية.

تختخ: إلى أين نحن ذاهبان؟

عباس: سنذهب للعشاء عند صديق لي … وسنقضي الليل عنده!

تختخ: ولكنني لم آتِ لمجرَّد الزيارة والنزهة … وإذا كنتَ تعتبرني صديقكَ فعلًا … فساعدني في معرفة بقية القصة!

عباس: اصبر … ستعرف كل شيء في الوقت المناسب.

تختخ: ومتى يحين الوقت المناسب؟

عباس: الوقت المناسب عند منتصف الليل … عندما يعود المعلم «كنجة» من الإسكندرية للحساب مع رجاله … ستسمع الكثير.

قفزا معًا إلى القارب الصغير … وأمسك «عباس» بالمجدافَين القصيرَين، ومضى يدفع القارب بعيدًا عن الشاطئ … وبعد دقائق وجد «تختخ» نفسه وسط المياه … كان الصمتُ يسودُ المكان تمامًا عدا صوت المجدافَين في الماء … ومضى نحو نصف ساعة، وأخذ «عباس» يُهدِّئ من سرعة القارب … وكان «تختخ» يجلس وظهره للشاطئ فلم يرَ أين هو … وارتطم القارب بالشاطئ ارتطامةً خفيفة، ثم توقَّف، وقال «عباس» وهو يقف: هيا بنا!

نزلا من القارب وسارا نحو كيلومتر بمحاذاته … ثم توقَّف «عباس» عند عشة صغيرة ودقَّ بابها الخشبي الصغير ثلاث دقَّات وهو يقول: يا «شوقي» …

وبعد لحظات سمع صوت العشَّة يُفتح، وظهر وجه ولد في نحو السابعة عشر من عمره … أحمر الوجه … أصفر الشعر … طيب الملامح، وأخذ يُحدِّق في الظلام وهو يقول: «عباس»!

ردَّ «عباس»: نعم … معي ضيف.

شوقي: مرحبًا بالضيوف!

ودخل الاثنان إلى العشَّة … كانت مكوَّنةً من غرفتَين صغيرتَين … إحداهما بها فراش من الحديد الصدئ، عليه مرتبة قديمة ممزَّقة … والأخرى فيها أدوات الصيد وبعض الأطباق.

قال «عباس»: الأخ «توفيق» من القاهرة.

مدَّ «شوقي» يده مُرحِّبًا ﺑ «تختخ» وهو يقول: أهلًا وسهلًا.

عباس: عندك شيء نأكله؟

شوقي: خيرك موجود يا «عبس».

وأسرع إلى «وابور الجاز» وأخذ يُشعله … ثم رفع غطاء حلةٍ عن كمية من السمك الطازج … وأحسَّ «تختخ» بالجوع عندما شاهد شكل السمك النظيف، وبدأ «شوقي» يُعد الطعام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤