اللغز

جلس «عباس» بجوار «شوقي» عند «وابور الجاز»، وأخذا يتحدَّثان … ولم يكن في إمكان «تختخ» سماع حديثهما بسبب صوت «الوابور» … وهكذا جلس وحيدًا في جانب العشَّة … وأحسَّ أنه محتاج إلى هذه الوحدة ليُفكِّر في كلِّ هذه الأحداث المتعاقبة … يُريد إعادة ترتيبها وصياغتها لتُصبح وحدةً واحدة … تجاهل مؤقَّتًا أسباب الخطف التي ما تزال مجهولة … وأخذ يُرتِّب الوقائع كما سمعها من والدَي «لوزة»، ثم من «عباس الأقرع» …

لقد دبَّر مجهولون عملية الخطف، وكانت البداية ثقب «رادياتير» السيارة … ومن البداية أيضًا أحسَّ «تختخ» أن عملية ثقب «الرادياتير» هذه ليست مبرَّرة ولا معقولة ولا منطقية … فلماذا يُريد الخاطفون إيقاف السيارة في منتصف الطريق … إمَّا بإحراقها بنزول كل كمية المياه التي في «الرادياتير»، وإمَّا بتوقُّفها … فهل كان الهدف إحراق الموتور … أم إيقاف السيارة في منتصف الطريق الصحراوي؟

إن إحراق الموتور هدف غير منطقي … بالإضافة إلى أن عدَّاد الحرارة سوف يكشف عن سخونة الموتور … وسيستدعي هذا أن يتوقَّف والد «لوزة» في الطريق … فالهدف إذن هو إيقافه … ولكن لماذا؟ لقد خطفوا «لوزة» في المعادي … فالهدف إذن كان وصول السيارة إلى المعادي … ثم صعود والد ووالدة «لوزة» إلى شقة الأستاذ «يحيى»، ويتمكَّن الخاطفون من خطف «لوزة»!

هكذا فكَّر «تختخ» وهو يجلس صامتًا وحيدًا في جانب العشَّة … وقد ساد الصمت إلا من نقيق الضفادع، وصرير الصراصير … وهمهمة الفئران الضخمة التي أخذت تمرح حوله … فلماذا إذن ثقبوا «الرادياتير» لتقف السيارة في منتصف الطريق؟

إن الإجابة عن هذا السؤال وحده ستُلقي الضوء على عملية الخطف … فلماذا؟ لماذا؟ لماذا؟

أخذت كلمة لماذا تدور في ذهن «تختخ» كأنها طاحونة … ثم فجأةً قفز إلى ذهنه شيء آخر … الفتاة الأخرى! من هي الفتاة الأخرى؟ إنها لا بد أن تكون «نوسة» … ولكن هل تجرؤ العصابة على اختطاف فتاتَين في وقتٍ واحد؟ وهل الهدف من خطف «لوزة» هو نفس الهدف من خطف «نوسة»؟ ولأي سبب؟ لماذا لا تكتفي العصابة بفتاة واحدة؟

شيء ما قفز إلى ذهن «تختخ» فجأةً كأنه صاروخ … فكرة لامعة تأتي عندما يستجمع الذهن البشري قوته ويربط بين الأسباب والنتائج … ولأول مرة منذ الصباح أحسَّ بالارتياح … أحسَّ أنه وصل إلى شيء ما … تفسير ما يضع يده على طرف الخيط في هذه القضية المثيرة … وكان صوت «الوابور» ما زال مُرتفعًا، ولكنه سمع «عباس» يُناديه … وشمَّ في الوقت نفسه رائحة السمك تغزو أنفه … وقام من مكانه واتجه إلى «عباس» الذي قال له: لقد تحدَّثتُ مع «شوقي» الآن … إنه صديقي وتستطيع الاعتماد عليه … وهو يعتقد أنه من الخطر الآن أن نتحرَّك … إن الرجال الذين خطفوا صديقتك في منتهى القوة … ويمكن إذا علموا بوجودك أن يقضوا عليك.

قال «تختخ»: إنني بالطبع لا أعمل وحدي … إنني … وقبل أن يُكمل جملته قال «عباس»: أظن من الأفضل لنا ألَّا يتدخَّل رجال الشرطة في هذا الموضوع … هذا إذا أردتَ أن نُساعدك.

تختخ: ما مدى المساعدة التي يمكن أن تُقدِّماها لي؟

عباس: لا نعرف بالضبط … ولكننا سنُحاول أن نسأل لكَ عن الفتاة وأين أخفوها، ونحن بالطبع لا نُؤكِّد أننا سنصل إلى شيء محدَّد.

خطرت ﻟ «تختخ» مرةً أخرى الفكرة التي كانت بخاطره منذ دقائق … فكرة غريبة وافتراض مُدهش … ولكنه قد يحل اللغز …

كان «شوقي» منهمكًا في إعداد الطعام وقد أوشك على النضج، فقال «تختخ»: متى يمكننا أن نتحرَّك من هنا؟

عباس: بالنسبة لي أستطيع أن أتحرَّك ليلًا فقط لبضعة أيام … إنني معروف لرجال الشرطة في منطقتنا … إذا ظهرتُ فسوف يمسكونني فورًا.

تختخ: لنتحرَّك الآن!

عباس: بعد أن نأكل طبعًا!

تختخ: طبعًا … طبعًا.

عباس: وإلى أين نذهب؟

تختخ: سأقول لكم عمَّا في ذهني … وأنتما تُحدِّدان الاتجاه.

عباس: وماذا في ذهنك؟

فكَّر «تختخ» قليلًا … كان يُريد فسحةً أُخرى من الوقت ليُعيد التفكير فقال: بعد الأكل سأقول عمَّا يدور في ذهني.

ووضع «شوقي» الطعام … وجلس الثلاثة يأكلون … كان السمك ممتعًا حتى ليظن «تختخ» أنه لم يأكل مثله في حياته … وأكل بشهية مفتوحة … فقد كانت الفكرة التي تُلح على ذهنه رائعة … لقد ارتاح من القلق … ويستطيع الآن بينه وبين نفسه أن يقول إنه حلَّ اللغز … نعم … وصل إلى الحل الذي لا يُفكِّر فيه أحد … لقد كانت العصابة شديدة الذكاء. إنها فكَّرت في هذه الفكرة الجهنمية … ولكنه استطاع أن يصل إليها.

انتهَوا من الطعام، والشاي على «وابور الجاز»، وسرعان ما رُفع الطبق الوحيد الذي كانوا يأكلون فيه، ودارت عليهم أكواب الشاي الأسود … وقال «عباس» وهو ينظر إلى «تختخ» بإمعان: والآن ماذا تُريد؟

قال «تختخ» على الفور: هل هناك بنات صغار ممَّن تعرفان اختفَت أمس قُرب المساء؟

نظر «عباس» و«شوقي» كلٌّ منهما للآخر لحظات، ثم ردَّا في نفَس واحد: لا!

تختخ: إنني أُريد منكما أن تتأكَّدا من هذه المسألة؟

نظر الولدان مرةً أُخرى كلٌّ منهما للآخر … ثم قال «عباس»: إن هذا يستدعي أن نعود إلى «غيط العنب» مرةً أخرى لنسأل ونعود!

نعم … ولكن ليس مهمًّا … لقد وعدتُ أن أُساعدك ولا يُهمُّني ماذا يحدث لي!

تختخ: شكرًا … إنكَ ولد رائع!

عباس: سأخرج مع «شوقي» الآن … فهل تخاف أن تنام وحدك؟ … سنعود إليكَ في الصباح الباكر.

تختخ: إنني لا أخاف.

قام الولدان وقال «عباس»: لا أحد يعرف هذا المكان تقريبًا … لهذا يمكن أن تنام مرتاحًا.

قال «تختخ» باسمًا: الفئران تعرف المكان جيدًا!

عباس: لا تخَف منها … إنها لن تُؤذيك.

وخرج الولدان وتركا «تختخ» وحده … جلس دقائق، ثم فتح باب العشَّة وخرج … كان الظلام كثيفًا في الخارج … ولكن القمر كان قد ارتفع في السماء فاستطاع أن يرى ما حوله … كان شاطئ بحيرة «مريوط» على مسافةٍ بعيدة من المكان المأهول بالسكَّان … وكان القارب الصغير الذي جاءا به ما يزال مربوطًا في مكانه … كانت الفكرة التي فكَّر فيها والتي تحل لغز اختفاء «لوزة» ساطعةً في ذهنه … لقد أصبح كل شيء معدًّا الآن للإمساك بكل خيوط اللغز فماذا يفعل؟

هل ينتظر حتى يعود الولدان إليه … أو يكون الوقت قد فات؟ وفجأةً ودون أن يُفكِّر انطلق إلى القارب الواقف عند الشاطئ، وقذف بنفسه فيه، وأخذ يُجدِّف مبتعدًا … كان يُحس أنه مشترك في مطاردة لا بد أن يكسبها … وأخذ نشاطُه يزداد وهو يُفكِّر أنه سيتمكَّن من الوصول إلى القاهرة في نفس الليلة، وتذكَّر السائق «وجيه» الذي طالما اشترك معهم في بعض مُغامراتهم … وتمنَّى أن يجده … ووضح الشاطئ المضاء خلفه … وأخذ يُجدِّف سريعًا في الظلام دون أن يتوقَّف لحظةً واحدة … ومضت نصف ساعة … ثم نظر خلفه … كانت الأضواء تزداد اتساعًا، وزاد من نشاطه حتى استطاع أن يسمع جلَبة السيارات وصوت الباعة … وعرف أنه اقترب من «غيط العنب» … وما عليه إلا أن يقفز على السور ليعود إلى الشوارع الحافلة بالناس.

ارتطم القارب بالشاطئ فربطه «تختخ» في أقرب قطعة حجر … ثم نظر إلى الأرض وانطلق يجري … كان التجديف المتصل قد جعل جسمه ساخنًا فلم يجد صعوبةً في أن يجري بعض الوقت … ثم يصل إلى السور فيقفز من عليه … ثم يمر على قضبان السكك الحديدية سريعًا حتى يصل إلى السور الثاني … ويجد نفسه بمحاذاته، فيمشي حتى يصل إلى المرتفع الذي يُؤدِّي إلى كوبري «كرموز» فيمشي عبره مُنطلقًا … ثم يقفز في أول أوتوبيس يجده … وبعد لحظات وقبل أن يصل الكمساري يقفز منه إلى أوتوبيس آخر … كان يعرف أنه يرتكب خطأً فاحشًا أن يركب بدون تذكرة … وهو عمل غير أخلاقي … ولكن لم يكن أمامه وقت ليشرح للكمساري موقفه.

في النهاية وجد نفسه في باب الحديد … كان قلبه يكاد يقفز من بين ضلوعه تعبًا … وتطلُّعًا للعثور على السائق «وجيه». وأخذ يمضي بين عشرات السيارات الواقفة في موقف الإسكندرية-مصر … ولكنه لم يجده … وأحسَّ بأنه يكاد ينهار … ولكنه قرَّر أن يُحاول محاولةً أخيرة … اقترب من أحد السائقين وسأله: السائق «وجيه» من فضلك … هل رأيته؟

فكَّر السائق لحظات، ثم قال: أي «وجيه» فيهم؟ … هناك أكثر من «وجيه»!

تختخ: ذو الوجه الأحمر والشارب الغليظ.

السائق: آه … «وجيه حسني» … إنه ذهب يتناول عشاءه … وسيأتي بعد دقائق … وأشار إلى سيارة تقف في جانب الطريق، وقال: هذه هي سيارته.

مشى «تختخ» متثاقل الخطوات حتى وصل إلى السيارة … وجد بابها مفتوحًا فدخل … ثم مدَّ يده إلى جهاز الراديو فأداره وأخذ يستمع إلى الموسيقى … كان مرتاحًا وكأنه عاد إلى منزله … ومضى نحو ربع ساعة، ثم فُتح باب السيارة، وأطل وجه السائق «وجيه» القوي الباسم، وصاح عندما شاهد «تختخ»: أستاذ «توفيق»!

ومدَّ يده مُصافحًا … وقال «تختخ»: «وجيه» أُريد بعض النقود.

وجيه: تحت أمرك ما تريد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤