الفصل الثاني عشر
كان عزائى فى تلك الأيام قول القائلة:
أى والله! فقد تبينت أن مصر توشك أن تثور، فقلت أُعفى أهلى من المتاعب التى تجر إليها الثورات واضطراب حبل الأمور، فحملتهم إلى بيت جدى — لأمى — «على حدود الأبد»، وأصلحت فيه شقة اتخذتها لنا، ومضت شهور والثورة لا تقوم، حتى خالجنى الشك فى صحة رأيى، وكادت ثقتى بقومى تذهب، وكنت فى تلك الأيام أعانى أشد البرح، فقد كان عملى فى قلب العاصمة، وبيتى فى الصحراء، والمسافة بينهما أكثر من عشرة كيلو مترات أقطع نصفها وزيادة على قدمى غاديا رائحا كل يوم، ومعى ما يكفى لغذائى، فإنى أكره طعام السوق، وكتاب أقرأ فيه فى فترات الراحة من العمل، فلما هبت الأمة زاد العناء واشتد البرح، فقد بطل العمل. وخرج التلاميذ إلى الشوارع مواكب مواكب وكانوا يُعتقلون بالمئات، ويحُشرون فى كل مكان يخطر على البال، حتى فى مسجد محمد على بالقلعة، وكان الناجون من تلاميذى يرتدون إلى فى المدرسة التى كنت ناظرها يومئذ، ويقصّون عليّ ما جرى، ويذكرون لى أسماء المعتقلين من زملائهم، ومكان اعتقالهم، وكانت العلاقة بينى وبين تلاميذى علاقة أخ كبير بإخوة صغار، فكانوا لهذا لا يكتموننى شيئًا، ولا يحجمون عن مصارحتى بما يدور فى نفوسهم، وما تضطرب به صدورهم، ولا يترددون فى مشاورتى حتى فى أخص الأمور الشخصية، فكنا نعقد كل يوم اجتماعًا لتدبير ما يمكن تدبيره من وسائل الراحة لإخواننا الصغار المعتقلين من أبناء مدرستنا وكانت عقدة العقد أن المال لدينا قليل، وأن الوصول إلى المعتقلين عسير، فكيف نبعث إليهم ما عسى أن تكون بهم حاجة إليه من طعام أو ثياب أو فرِاش؟
ومن حسن الحظ أن الوقت كان صيفًا، ففى الوسع الاستغناء عن الأغطية واحتمال النوم على الأرض، فيبقي الطعام والثياب، ويطيب لى أن أروى أن بعض التلاميذ كان يرتدى عدة أكسية ويدس فى جيوبه ما تتسع له من الآكال الناشفة، ويقصد إلى المعتقل الذى يعلم أن فيه إخوانا له فيقدم نفسه على أنه شريك فيما جر الاعتقال على زملائه، أى فى المظاهرات وما إليها فيلقون به معهم — وقلما كانوا يصرفونه — فيخلع على زملائه أكثر ما كّوم على بدنه ويطعمهم مما حمل، وكان هذا يزيد المعضل تعقيدًا، لأنه يزيد عدد المعتقلين الذين نحاول تزويدهم بما يفتقرون إليه، غير أن الوقت كان أضيق من أن يتسع لطول التردد، فكنا نفعل كل ما يخطر على البال بلا حساب للعواقب، ما دام له غَنَاء إلى حين، وسهل الأمر قليلا أن المعتقلات كانت تضيق بمن فيها فيسرّح بعضهم ليكون فيها محل لمن يُقبض عليهم فى كل يوم.
وليس من همى أن أتحدث عن الثورة وما كان فيها، وإنما أريد أن أقول إنها زادت عنائى وضاعفت ماكنت أكابده من مشقات، وكل شىء عادة، فألفنا التعب كما كنا نألف الراحة والرغد، وسكنا إلى الأحوال الجديدة الحافلة بالمنغصات والمتعبات، وانقطع التبرم والضجر ووطنا أنفسنا بسرعة على احتمال كل ما عسى أن تجيء به الأيام.
وكان كل طريق إلى بيتى، يحُوج إلى اجتياز المقابر، فكنت أسلكها كل يوم، وأرى الاجداث المبعثرة فى كل صباج ومساء، وتحت ضوء القمر، وفى قدة الظهر، وفى الظلمة الحالكة، وفى البكرة المطلولة فنفعنى هذا وبلّد شعورى بالموت، ومحا استهوالى له وجزعى منه، وجعله فيما أرى وأحس، أمرًا عاديا لا غرابة فيه ولا جدة له، حتى لقد صار يتفق لى بعد ذلك أن أحتاج إلى الراحة بعد طول المشى، فأقعد على صوى قبر من القبور الكثيرة فى طريقى، وأشعل سيجارة، وأروح أدخن، وأدندن، بصوت خفيض، أو أرسل الصوت بالغناء، ولا أشعر بحرج أو استنكار.
وكان بدء التحول فى حياتى أن زوجتى ماتت، وإنى لأومن أن لكل أجل كتابا، ولكنى إلى هذه الساعة لا أستطيع أن أعفى نفسى منِ ثقل الاعتقاد أن الطبيب قتلها، وهو سكران، وقد مات هو أيضًا بعد سنوات: فإلى حيث ألقت، وما أعرفني شمتُّ بميت سواه، ولم يعتمد قتلها، ولكنا دعوناه — وقد جاءها المخاض — فشممت رائحة الخمر من فمه، وفحصها ثم قال لى إن الحالة طبيعية، ولم يكن ثم موجب لدعوتى، وسيحصل الوضع في أوانه، ولكنى جئت فلا داعى للانتظار (كذلك قال والله) وكنت أعاونه، فطهر الآلات وشرع فى العمل، وجر الجنين فإذا الآلة التى طوق بها رأسه قد حفرت فيه إخدودًا يسع الخنصر، وشغل نفسه دقائق بالجنين، والتنفس الصناعى على غير جدوى، فألححت عليه أن يتركه ويعنى بالأم، فما ثم شك فى أن الجنين مات، فرجع إلى الأم ليخرج «الخلاص» فكان والله يشده كما رأيت الفرق الرياضية تتجاذب شد الحبل بينها بأعظم ما يملك من قوة، ثم رأى أن هذا لم يجد، فدس يده وأخرج الخلاص مقطعًا إربا، ثم لفها، وقال ترقد ولا تسقوها ماء، وأخذنى معه، فقال لى إن الحالة خطرة، وإنه آسف. فلم أطق هذا اللف وسألته: «متى تتوقع أن تكون الوفاة..؟ إنى أسألك عن هذا لأنى أوثر أن أكون على بصيرة، ولا تخش جزعى، فإن واجباتى الآن لا تدع لى وقتا للجزع، فلم يجبنى جوابا صريحا، وقال: سترى ما يكون صباح الغد.
وعدت إلى زِوجتى فأدركت مما رأيت أن النزف يلح عليها، وأنها تموت شيئًا فشيئًا، فبقيت إلى جانبها أقوّى نفْسها — وأنا يائس — وأشد من عزيمتها، وأبتسم لها وقلبى يتفطر، وبالغت في التظاهر بالاطمئنان حتى لقد خلعت ثيابى وارتديت ملابس النوم، ولكنها كانت تحس من نفسها ما لا أحس، فأوصتنى بولدنا خيرا، وودعتنى، وجادت بالنفس الأخير ويدى على يدها.
وكاد عقلى يطير، وهممت بأن أشكو الطبيب، ولكن ما الفائدة؟! وكيف أثبت تقصيره أو خطأه أو سكره؟ وشق علىّ الأمر حتي لقد تغير رأيى فى الناس والحياة الدنيا، والخير والشر، وحدثت أكثر من طبيب بما كان ووصفت له ما حدث فكانوا يتعجبون، ولكن هذا لم يُجْدنى، ولم يمنع أن طبيبًا ثملا قتل امرأتى، وأين العزاء فى أنه غير عامد، وأن هذا قضاء وقدر على كل حال.
ولم ينجنى من الجنون إلا إكبابى على ابن الرومى والاشتغال بتصحيح الأخطاء فى ديوانه الذي كنت أستنسخه قبل ذلك وهذه أول مرة نفعنى فيها شاعر.
تغيرت جدًّا بعد هذه الحادثة فأنا فيما أحس وأرى مخلوق آخر غير الذى عرفته فى ثلاثين سنة، على أنى مع ذلك ظللت قادرًا على كبح النفس فلم يفلت من يدى العنان أو لم أدعه يفلت.
وانقضت الأربعون — وأحسب أن عادة استمرار المأتم أربعين يوما موروثة من أيام الفراعنة الذين كانوا يبقون الجثة أربعين يوما لتحنيطها — فلم أعد أطيق بيت جدى بعد أن خرجت زوجتى من دنياى فيه، فتركت فيه ما كانت زوجتى قد جاءتنى به فى جهازها واستأجرت بيتًا آخر حملت إليه أثاثنا القديم وعكفت فيه على ديوان ابن الرومى لأصححه على قدر الطاقة.
واتفق فى ذلك الوقت أن عقدت محكمة عسكرية لمحاكمة كثيرين فيما زعموه مؤامرة كبرى، وكان المتهمون أكثر من عشرين بينهم سكرتير اللجنة المركزية للوفد المصرى الذى كان يفاوض لجنة ملنر بلندن، وكنت أعمل يومئذ فى «الأخبار» مع المرحوم أمين الرافعى بك فسألنى: من نبعث إلى المحكمة لحضور جلساتها؟ قلت سأحضرها أنا. قال إنه عمل طويل شاق، فدعه لغيرك، قلت كلا، وإن بى لحاجة إلى عمل مضن يشغلنى عن نفسى، ويصرفنى عن التفكير فى أمرى، وما أُصبت به فى حياتى. فوافق ودعا لى بخير، ولم تدع لى المحكمة العسكرية وقتا لسواها؛ وكانت تعقد فى اليوم جلستين، وظللت كذلك من يوليو إلى سبتمبر، وكنت فى مساء كل يوِم أعود إلى البيت فأرتمى على الفراش وأنام كالميت، فنفعنى هذا أيضًا وإن كان أسقمنى.
ومن المضحكات أن جريدة الأخبار دعت الأمة إلى الاكتتاب لإقامة تمثال نهضة مصر للمرحوم مختار المثال وبلغت جملة ما جمعته حوالى ستة آلاف من الجنيهات وكانت الاكتتابات تودع بنك مصر أولا فأول.
ولكن بعض البلهاء ظن أن ما تتلقاه الأخبار من الاكتتاب يحفظ فى بيتى أنا، وكان البيت طبقة واحدة، وله فناءان، واحد قدامه وآخر خلفه، وفيه الفرن وما إليه، وكان الجدار الخلفى واطئًا، فأيقظنى ذات ليلة صوت جسم وقع فى الفناء الخلفى فتوهمت فى أول الأمر أن حجرًا مزعزعًا أسقطه قط أو نحوه، ولكني سمعت بعد ذلك حركة كحركة من يعالج فتح باب، فنهضت، ومضيت إلى الباب الموصد، وفتحت شباكه ونظرت فإذا واحد من أهل الحى ولم يخطر لى أنه جاء ليسرق، فما فى البيت ما يستحق أن يطمع فيه أشد اللصوص قناعة، وظننته جاء يطلب شيئًا، فحييته وإن كان قد أسخطنى عليه أن يجىء فى هذا الوقت المتأخر، وفتحت له الباب وقلت له «تفضل» وحملت ما بدا لى من تردده واضطرابه على محمل الخجل فألححت عليه فدخل، فمضيت به إلى المكتبة، وناولته سيجارة وقمت لأصنع له قهوة، فاستغرب سلوكى معه، وأعجبه على ما يظهر، فأقر لى بالحقيقة وسألنى الصفح، فضحكت، وقلت له والله إنى لجدير بأن أخجل منك، فإن البيت فارغ، ودرت به على الغرف ليرى بعينيه مبلغ فراغها فزاد خجله، وطال اعتذاره وعظم أسفه، فخطر لى أن من نقص المروءة أن أرده خائبًا، صفر اليدين، ولم أجد غير الكتب، فتناولت طائفة منها، وقلت له خذ هذه وبعها، وإذا احتجت إلى سواها فتعال إلى فقد مللت عبادة الأصنام، وكتبت له رقعة وقلت فيها إنى أعطيته هذه الكتب، حتى لا يزعجه الشرطة.
والطريف بعد ذلك أنه صار صديقى فقال لى يومًا إن هذا البيت غير مأمون لأنه «منطة» وأن الأولى أن أتخذ حارسًا، ولولا أنه مشغول بكسب رزقه لتولى الحراسة الواجبة. ولكنه سيجىء برجل أمين يقظ، يؤدى هذا الواجب.
وبعد بضعة أيام جاءنى بفقيه أعمى وقال هذا حارسك، فلم أر أن أرده، فكان يبيت كل ليلة عندى على الشرفة، وإلى جانبه نبوته. وكان خفيف النوم فكل شىء يوقظه، وإذا استيقظ ضرب الأرض بنبوته وصاح «من القادم»؟ فأستيقظ أنا أيضًا! فلم أجد لى فى هذه الحراسة راحة فحولته إلى المقبرة، وقلت له اقرأ على هذا القبر كل يوم ما تيسر من القرآن الكريم.
وانتقلت إلى بيت آخر آمن وأقل حاجة إلى هذه الحراسة.