سمكٌ بعيد عن البحر

ألهبَت هذه المعلومات خيال المغامرين الخمسة، وكانت «لوزة» كالعادة أكثرهم حماسًا، وهكذا وعدوا «نبيل» أن يتحدَّثوا إليه في صباح اليوم التالي بعد أن يحصُلوا على الموافقة، وفي الموعد المحدد كان «محب» يتصل ﺑ «نبيل» يقول له إنهم جاهزون للسفر معه.

قال «نبيل»: إنني سعيدٌ جدًّا … وغدًا في الساعة السادسة صباحًا ستكون السيارة التي تحملنا إلى المكان جاهزة … إنها ليست سيارةً مريحة، ولكن السيارات العادية لا تتمكَّن من السير على الأرض هناك … لهذا سنستقلُّ سيارة من طراز «لاندروفر»!

محب: إننا اعتدنا على هذه الرحلات الشاقَّة!

نبيل: إذن إلى اللقاء أمام الحديقة التي زُرتكُم فيها.

وفي الصباح — في السادسة تمامًا — كان المغامرون جميعًا، ومعهم الكلب الأسود الذكي «زنجر»، يقفون أمام حديقة منزل «عاطف»، وظهرت سيارةٌ رمادية اللون من طراز «لاندروفر» يقودها سائق أسمر البشرة يجلس بجواره «نبيل»، وتبادل الجميع تحية الصباح، ثم قفزوا جميعًا إلى السيارة، واختار «زنجر» مكانًا في نهاية السيارة بجوار «لوزة» … وأعمل السائق يدَيه وقدمَيه في أجهزة السيارة التي انطلقَت تقفز على الأرض.

كان الجوُّ رائعًا في هذا الصباح المبكِّر، ولم يكن هناك سوى حاجزٍ بسيط بين مقدمة السيارة ومؤخرتها. وهكذا أخذ الجميع يتبادلون الأحاديث المرحة، وبالطبع كان ﻟ «عاطف» النصيب الأوفر في الحديث، باعتباره أكثر المجموعة حبًّا للمرح والنِّكات.

ووصَلوا إلى «الرست هاوس» في السابعة والنصف، فتناولوا المثلَّجات ثم استأنفوا رحلتهم، وعندما أشرفَت الساعة على التاسعة كانوا قد انتهَوا من الطريق الصحراوي، ووصَلوا إلى بداية طريق العجمي، فانحرفَت السيارة يسارًا، ثم انطلقَت بين شاطئَين من المياه الضحلة حيث تكوَّنَت تلالٌ من المِلح الأبيض المشوب بألوان الطيف … ثم صَعِدوا إلى الطريق الممهَّد، وأصبح البحر إلى يمينهم، وهبَّت نسماتٌ طرية خفَّفتْ كثيرًا من الحرارة التي بدأَت تتزايد مع ارتفاع الشمس.

وبعد ساعة ونصفٍ من الوصول إلى طريق العجمي قال «نبيل»: الآن سننحرف إلى الممر الخاص الذي يؤدي إلى الميناء الصغير … وانحرفَت السيارة، وبدأَت تقفز كالضفدعة فوق الأرض غير الممهدة … وكانت أشجار التين الواطئة تُغطِّي الأرض، وقد برزَت ثمراتُ التين كأنها بالوناتٌ صغيرة مُلوَّنة.

بعد نصف ساعةٍ من القفز المتقطِّع وصلَت السيارة إلى قرب الفيلَّا القديمة، وكان مشهدًا لا يُنسى … كانت الفيلَّا تقف وحيدةً في الخلاء كأنها تمثالٌ ضخم من عهد الفراعنة، وقد لوَّحتِ الشمس بشرتها التي كانت خضراءَ فأصبحت باهتةً بلون الرمال، وأمامها كان البحر بزُرقتِه الرقيقة يمتد إلى الأفق، وحولها تَنبسِط الأرض الرملية، وقد انتشَرتْ فيها غاباتٌ صغيرة من البوص … وعلى مَبعَدة تَظهَر شُجيرات التين مرةً أخرى.

صاحت «لوزة» (بانبهار): يا له من مشهد!

أخذ السائق الأسمر الصامت يُنزِل حقائب المغامرين و«نبيل»، وبعد أن انتهى من ذلك قال: متى أَعودُ إليكم يا أستاذ نبيل؟

ردَّ «نبيل»: أُريدكَ أن تمرَّ علينا كل ثلاثة أيام، تأتي لنا بالخضراوات والفاكهة والخبز؛ فنحن لم نُحدِّد بعدُ متى نعود!

أدار السائق سيارتَه وانطلَق، وتقدَّم الجميع يحملون حقائبهم إلى الفيلَّا … وصاح «نبيل»: عم سالم … عم سالم.

مضى صوته يتلاشى في الصمت بدون أن يسمعوا ردًّا … وقال «نبيل» بصوتٍ مشحون بالانفعال: شيءٌ عجيب! كنتُ أتوقَّع أن أراه بمجرَّد أن يسمع صوتَ مُحرِّك السيارة، هذه عادتُه في كل مرةٍ آتي فيها إلى هنا.

سار الأصدقاء حول المسافة بين مكان وقوف السيارة والفيلَّا وهي نحو خمسين مترًا … فقد كانت الأرض رمليةً ناعمة لا تسمح للسيارة بالسير، وإلا انغرسَت فيها.

وصل الجميع إلى الفيلَّا … كان الباب والنوافذ كلها مغلقة والصمت يسود المكان، أَحسَّ المغامرون الخمسة كما أَحَس «نبيل» بشيء من القلق … حتى «زنجر» أطلق نُباحًا خافتًا حزينًا.

أخذ «نبيل» يدقُّ الباب وينادي ولكن بدون جدوى … وخطر في أذهانهم جميعًا خاطرٌ واحد: وهو أن يكون «عم سالم» قد مات ولم يكتشف أحدٌ موته … إن رجلًا عجوزًا في التسعين من عمره من المحتمل أن يموت في صمتٍ بدون أن يُحسَّ به أحدٌ … خاصةً في هذا المكان النائي البعيد عن العمران. وقف «نبيل» حائرًا وهو يقول: شيءٌ غريب! أين ذهب الرجل العجوز؟

لم يردَّ أحدٌ من الأصدقاء، ثم عاد «نبيل» يُجيب عن السؤال: لعله ذهب يصطاد السمك، وقد يعود في أي لحظة.

وقف الجميع في ظل الفيلَّا يرقُبون المكان حولهم … كان المشهد الطبيعي مذهلًا في تنوُّعه وجماله … ولاحظَت «نوسة» أن تلال الرمال تمتد إلى مساحةٍ بعيدة بشكلٍ منظَّم كأنها حباتُ عِقدٍ من اللؤلؤ الأصفر.

قالت «نوسة»: يا لها من تلالٍ رائعة! … إنها تُشبه عِقْد اللؤلؤ!

قال «نبيل»: إننا نُسمِّيها حبل الرمال … فهي تُشبه حبلًا مجدولًا من الرمال.

مضى الوقت وتجاوزَت الساعة منتصف النهار، دون أن يظهر «عم سالم»، وقال «نبيل»: تعالَوا نبحث عنه عند الشاطئ، لعله يجلس خلف تلٍّ من الرمال يُخفيه عن العيون، اتركوا كل شيء؛ فلا أحد هنا يُخشى منه.

قال «تختخ»: أشُك في هذا … إنني أُلاحِظ وجود آثارِ أقدامٍ كثيرة حول الفيلَّا.

ذُهل «نبيل» لحظاتٍ ثم قال: إنك تُفكِّر كرجال الشرطة.

ابتسم «عاطف» وهو يقول: إنك لا تعرفه … لقد اشترك في حل عشرات الألغاز.

تختخ: لستُ وحدي، إن المجموعة كلها تُشارِكني في حل هذه الألغاز.

نبيل: مُدهِش، هذه أول مرةٍ أسمع عنكم، لقد عشتُ أكثر حياتي خارج مصر!

تختخ: لقد لاحظتُ ذلك أيضًا.

نبيل: كيف ذلك؟

تختخ: إن طريقة نُطقِك للغة العربية له نغمةٌ غير مصرية.

نبيل: لقَدِ اشتغل أبي في البلاد العربية أكثر من عشر سنين.

تختخ: هيا بنا نبحث عن «عم سالم».

ساروا جميعًا في اتجاه الشاطئ … لم تكن المسافة تتعدَّى بضع عشراتٍ من الأمتار، فوصلوا إلى الشاطئ الذي كان يمثِّل ميناءً طبيعيًّا جميلًا، يمتَد إلى مسافة خمسين مترًا في البحر بواسطة لسانٍ من الرمال قد دعمَته قوائمُ خشبية وحديدية قديمة، ولكنها ما زالت متماسكة.

وقال «نبيل»: هذا هو مرسَى الميناء الصغير، لقد كان أكبر من هذا بكثير، ولكنَّ السنين أخذت منه الكثير!

كانت التلال تمضي على امتداد البحر العريض إلى الأفق، وزادت ضربات الموج على الشاطئ من رهبة المكان، فلم يكن هناك على مدى البصر مخلوقٌ سوى طيور النورس البيضاء.

لم يكن هناك أثَرٌ ﻟ «عم سالم»، وكان «زنجر» يقف متيقظًا مرفوع الأُذنَين، وأخذ يجري هنا وهناك خلف «الكابوريا» الصغيرة التي تعيش في جُحورٍ رطبة على الشاطئ، مرفوعة العينَين مثل مخلوقٍ خرافي، شاحبة اللون شبيهة بلون الضفادع … وفجأةً عوى «زنجر» والتفَت الجميع إليه … كانت إحدى «الكابوريات» التي يُطارِدها قد أنشبَت مخالبها الرهيبة في أنفه وهو يُحاول التخلُّص منها.

واضطُر الجميع إلى الضحك برغم توتُّر الموقف؛ فقد كان منظر «زنجر» وهو يجري ويعوي ويتمرَّغ على الرمال مثيرًا للضحك … وأخيرًا تخلَّص «زنجر» من المخالب، وأخذ ينبَح في خُفوتٍ وألم.

انقَسَم المغامرون إلى قسمَين، واتفَقوا على أن يسيروا على الشاطئ كل مجموعةٍ في اتجاهٍ بحثًا عن «عم سالم» أو عن أي أثَرٍ له … على أن يلتقوا جميعًا بعد نصف ساعة.

مضى كل فريقٍ في طريق … كانت «لوزة» مع «محب» و«نبيل»، وأخذَت تنظر حولها في اهتمامٍ بالغ، لم يكن هناك سوى الرمال وبعض مخلَّفات البحر التي تصل إلى الشاطئ مع الأمواج، كانت تتمنى أن تجد أي أثَر … لا بد أن يكون هناك أثَر … هكذا كانت تُحدِّث نفسها، ومضَت الدقائق وقد ابتعَدوا عن الميناء الصغير … وفجأة قالت «لوزة»: سمك!

وتوقَّف الجميع ونظروا إليها، كانت هناك مجموعةٌ من الأسماك الحية تتقافَز في حُفرةٍ صغيرة في الرمال بعيدةٍ عن الشاطئ بنحو ثلاثةِ أمتار.

والتفَت الجميع حول الحفرة وهم يفكِّرون … ماذا يعني وجودُ السمك في هذا المكان؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤