بدايةٌ سيئة

بدأ الموقف خطيرًا ومُتوترًا … لقد كانت مشكلتُهم الأولى هي اختفاء «عم سالم»، ولكن المشكلة أصبحَت ثلاث مشاكل؛ «سالم» و«زنجر» و«لوزة» …

والمكان مُوحِش وبعيد عن العمران، وليس هناك من يمكن سؤالُه وطلبُ المساعدة منه، والوصول إلى الشرطة يستدعي وقتًا طويلًا.

جلسوا جميعًا في صالة الفيلَّا وقد ران عليهم صمتٌ كئيب، كانوا جميعًا يفكرون في حلٍّ، ولكن الحلَّ الوحيد كان انتشارهم مرةً أخرى للبحث، وذلك يُعرِّضهم لخطر اختفاء واحدٍ منهم؛ فهناك عدوٌّ مجهول متربص بهم يمكن أن يخطفهم واحدًا واحدًا. وهكذا تحدَّث «تختخ» قائلًا: لن يخرج أحدٌ وحده بعد ذلك … لا بد من السير اثنَين اثنَين، حتى إذا وقع مكروهٌ لواحدٍ استطعنا أن نعرف مِنَ الثاني ما حدث.

محب: وما هي خطوتُنا القادمة؟

تختخ: هذا ما أفكِّر فيه كما تعلمون، وليس هناك حلٌّ الآن إلا متابعة آثار الأقدام على الرمال، صحيحٌ أنها مختلطة، ولكن كانت ربما آثار أقدام «زنجر» هي الوحيدة المختلفة، والتي يمكن أن تدُلَّنا … وإذا عثَرنا على «زنجر» فربما نعثُر على الباقين!

نوسة: هذا معقولٌ جدًّا … هيَّا بنا.

تختخ: سنذهب أنا و«محب» و«نبيل» … وستبقي أنت و«عاطف»، إن «نبيل» يعرف المنطقة أفضَلَ منا؛ لهذا فمن الأفضل أن يأتي معنا ليدُلَّنا.

وخرج الثلاثة معًا، وبدءوا البحث عن آثار مخالب «زنجر» في الرمال، ولم يكن في ذلك مشكلة؛ فلم تكن هناك آثار كلبٍ آخر في المنطقة، واستطاعوا برغم كثرة ما تركه «زنجر» من آثار أن يعثروا على أثَرٍ وحيد له يتجه ناحية حبل الرمال.

قال «نبيل» وهم يتتبَّعون الأثَر: هناك بعض المعلومات الهامة عن هذه المنطقة كنتُ أُريد أن يَرويَها لكم «عم سالم»، ولكن ما دام متغيبًا فيجب أن أقولها لكم. إن هذه السلسلة من الرمال — التي نُسمِّيها حبل الرمال — تحتوي في أجزاءٍ منها على آبارٍ مدفونة من الصعب تمييزها، وهذه هي الآبار الرومانية التي تُوجَد هنا منذ آلاف السنين.

وسكت «نبيل» مُتردِّدًا ثم عاد يقول: وأخشى ما أخشاه أن تكون «لوزة» قد سقطَت في إحدى هذه الآبار.

توقَّف «محب» و«تختخ» عند سماع هذه الجملة … إن المسألة أخطر كثيرًا مما يتصوَّرون.

وقال «محب»: وهل يمكن أن يكون قد حدث هذا ﻟ «عم سالم»؟

نبيل: لا … من المستبعد … ﻓ «عم سالم» خبير بدروب هذه المنطقة وآبارها وآثارها … بل إن من أسباب بقائه في هذه المنطقة ما يُردِّده باستمرار أن هناك طرقًا تحت الرمال محفورة منذ آلاف السنين، وهو يتصوَّر أن هناك حياةً خلف حبل الرمال لا يعرفها أحد، والحقيقة أن بعض الشواهد تؤكد ما يقول! إن حبل الرمال ينتهي في البحر، وهناك بعض الأماكن الساحلية لا يمكن أن يصل إليها الإنسان إلَّا عن البر!

تختخ: مدهش … مناطقُ ساحلية ولا يمكن الوصول إليها عن طريق البحر!

نبيل: نعم … ويقول «عم سالم» إن سفينة «النجمة الخضراء» التي غرقَت منذ ٤٠ عامًا غرقَت مقابل منطقة من هذه المناطق … وهو يشُكُّ في أن كنوز هذه السفينة قد نُقلَت إلى البحر بطريقةٍ ما، وأنها موجودة في حبل الرمال.

حاول المغامران أن يتناسيا الواقع المر، وهو أن «لوزة» قد تكون الآن في إحدى الآبار القديمة، وأنهما ربما لا يريانها بعد ذلك. نعم حاولا أن يتناسيا ذلك، فلا يمكن أن تضيع المغامِرة الصغيرة بهذه البساطة، وهي التي شاركَت في عشرات المغامرات.

بدا السير في الرمال والشمس مُجهِدًا … وأَحَس الثلاثة أنهم يضربون على غير هُدًى، خاصة أن آثار «زنجر» اختفَت تمامًا عند مساحات الأعشاب الواسعة التي تُشكِّل الجانب الشرقي لحبل الرمال …

توقَّف «نبيل» عن السير قائلًا: لا فائدة مما نفعل، لا بد أن نذهب فورًا إلى الشرطة، إن عندنا دراجةً قديمة كنتُ قد أحضرتُها منذ عامَين … وبها بعض الإصلاحات، ومن الممكن أن تساعدنا على الوصول إلى نقطة شرطة العجمي، وهي موجودة عند الكيلو ٢٠.

تختخ: إن علينا أن نقطع نحو ٥٥ كيلومترًا بالدراجة!

نبيل: هذا أفضلُ من الانتظار … إنكم ضيوفي، ومن واجبي أن أُحافِظ عليكم.

تختخ: دعكَ من هذا، إننا أصدقاء، وما حدث ليس لك دخل فيه، وعلى كلِّ حالٍ ليس أمامنا إلَّا هذا الحل، فهيا بنا نعود لإصلاح الدراجة.

عاد الثلاثة بعد سيرٍ طويل مُجهِد، ووجَدوا «نوسة» في حالةٍ يُرثى لها من الخوف والجزع على «لوزة» و«زنجر»، وذهب الجميع إلى المخزن الملحَق بالفيلَّا، وأخرجوا الدرَّاجة القديمة، ووجدوا بعض الأدوات التي يمكن استخدامُها في الإصلاح، وطلب «تختخ» من «نوسة» و«عاطف» أن يُجهِّزا الغَداء؛ فقد مالت الشمس للمغيب دون أن يتناولوا أي طعام.

كان الموقف مقلقًا والاحتمالات كثيرة، ولكن «تختخ» كان يُحسُّ بشعورٍ غريب … إن ذهنه المتوقِّد كان قادرًا على الثبات أمام هذا الاضطراب، كان يفكِّر أنه ليس من المعقول أن تقع «لوزة» ببساطة في البئر، أو في يد عصابةٍ خفيَّة تُحاربهم، ولكن لماذا تُحاربهم؟ إنهم لم يفعلوا شيئًا مطلقًا … إنهم حتى لم يَرَوا مخلوقًا واحدًا منذ حضَروا إلى حبل الرمال.

وبينما أخذَت «نوسة» و«عاطف» في إعداد طعام الغَداء، أخذ الأصدقاء الثلاثة يعملون في إصلاح الدراجة بهمة ونشاط، وكانت المشكلة الرئيسية هي الصدأ؛ فالجو رطبٌ قُرب البحر يجعل المعادن تصدأ بسرعة وبكثافة، ولهذا فكَّوا الدراجة قطعةً قطعة، ووضَعوها جميعًا في كمية من الجاز وتركوها حتى يُمحى الصدأ.

وقالت «نوسة» بصوتٍ خافت: هل نأكل بدون «لوزة»؟

رد «تختخ» مطمئنًا: لا تخافي يا «نوسة»، قلبي يُحدثني أن «لوزة» لم يُصبْها مكروهٌ، ولولا ذلك لما جلستُ لحظةً واحدة!

وضَعوا الغَداء على المائدة … وجلس الخمسة حولها يتناولون الطعام في صمت … وحاول «تختخ» أن يُخفِّف أثَر غياب «لوزة» فقال: لعلها وجدَت لغزًا تُحاول حلَّه وحدها!

ولكنَّ أحدًا من الجالسين لم يضحك … لقد ابتسموا فقط مجاملةً له؛ فليس من صناعة «تختخ» قول النكات.

وانتهَوا من الطعام والشمسُ تُوشِك على المغيب، وخرج «تختخ» وحده يشهد غروب الشمس وهو يفكِّر فيما سيفعل، إنه الأكبر والأرشد وعليه أن يأخذ قرارًا، وهو يحسُّ أن ركوب الدراجة إلى نقطة الشرطة مسافة ٥٥ كيلو مترًا ليس مسألةً سهلة، والحل أن يصلوا أولًا إلى الطريق المرصوف، وينتظروا سيارةً قادمة من مرسى مطروح أو السلوم تحملهم إلى نقطة الشرطة.

غَربَت الشمس وهبط ظلامٌ هادئ موحش على المكان الخالي، ولمعَت أضواء الكهرباء على واجهة الفيلَّا، وانعكسَت من بعيد على مياه البحر.

كان هناك قمرٌ وليد تغطِّيه السُّحب، والجوُّ أمْيَل إلى البرودة، وظل «تختخ» واقفًا مكانه حتى خرج «محب» يحمل له كوبًا من الشاي، وتناوَل «تختخ» الكوب شاكرًا، ورشف رشفةً عميقة وتنهَّد … إن هبوط الظلام مشكلةٌ أخرى، ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان؛ ففي هذه اللحظة — و«محب» يقول ﻟ «تختخ»: إننا في مأزقٍ حرج، ومهما حاولتَ أن تطمئننا فإنني أُحس بالقلق — في هذه اللحظة حدث الشيء الوحيد الذي يُمكِن أن يبعَث الأمل والتفاؤل في قلوب المغامرين … لقد ظهر شبحٌ أسود يمشي على حبل الرمال، كان القمر يُخفيه ويُبديه كأنه شبحٌ أسطوري قادم من عالمٍ بعيد.

كان «زنجر»، وعندما اقترب منهما صاحا معًا: زنجر … زنجر. وتقدَّم الكلب مُتعثِّرًا إليهما … كان واضحًا أنه منهوك القوى، وأنه لا يكاد يستطيع أن يقف … ولكن المهم أنه كان يحمل في فمه شيئًا مهمًّا جدًّا للكشف عن غموض اختفاء «لوزة».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤