نهاية البداية

تقدَّم الصديقان بهدوءٍ شديد … برغم أنه لم يكن هناك أي صوتٍ يدُل على وجود أشخاص بالقرب منهما … اقتربا حتى وصلا إلى باب الكوخ حيث كان «زنجر» يقف في تحفُّز …

لم يكن الباب مغلقًا، فدفعه «تختخ»، وعلى ضوء الفجر المُتسلِّل من الفتحات المستطيلة بين البوص شاهَد رجلًا عجوزًا مُتكَوِّمًا على الأرض … وقد قُيِّدت قدماه ويداه، ولم يشُكَّ لحظةً أنه «عم سالم» … وتأكَّد من ذلك عندما دخل «نبيل» وقال بصوتٍ مختنق: «عم سالم»!

أسرع الصديقان يفُكَّان وَثَاق الرجل العجوز … ثم أوقفاه على قدمَيه، واستنَد عليهما للخروج من الكوخ.

تمَّ كل ذلك في هدوءٍ شديد وبسرعة، ولم تمضِ سوى دقائقَ حتى كان «عم سالم» قد استعاد نشاطه، وبدأ يستعمل قدمَيه بشكلٍ طبيعي ويسير مع الصديقَين …

قال «نبيل» متسائلًا: ماذا حدث يا «عم سالم»؟

رد الرجل العجوز: لا شيء سوى أنهم خطفوني، وكانوا قد قرَّروا أن يأخذوني اليوم ويُلقوا بي في منتصف البحر لأموت غريقًا … لم يكن قد بقي على الموعد الذي حدَّدوه سوى نصف ساعة!

تبادَل الصديقان النظرات، لقد كان الرجل يتحدث عن موته غريقًا بمنتهى البساطة، وكأنه موت رجلٍ آخر.

وعاد «عم سالم» يقول: لم أعُد مهتمًّا بالحياة، الموت أفضل لرجلٍ في سني!

نبيل: كيف تقول هذا يا «عم سالم»؟

عم سالم: هذه هي الحقيقة يا ولدي، لقد عشتُ نصف عمري الأخير أبحث عن شيءٍ مجهول وعن رجلٍ أعرفه، ولكنه ميتٌ حي، أو حيٌّ ميت، لا أدري، وفي النهاية ها أنا ذا لا أصل إلى أي شيء!

نبيل: هل تقصد «النجمة الخضراء»؟ وكيف غَرقَت؟

عم سالم: نعم … إنني لا أُصدِّق حتى الآن أن هذه السفينة الرائعة يمكن أن تغرق ببساطة وتختفي في قاع البحر … وتختفي فيها كنوز جدك … لقد مات جدُّك كسير القلب بسبب هذه الحادثة … وكنتُ من أقرب الناس إليه … وقد عشتُ أبحث عن هذا السر … ولكني لم أصل إلى شيء؟

تختخ: ومن هو الرجل المجهول الذي تقول إنه ميتٌ حي، أو حيٌّ ميت!

عم سالم: إنه قبطان السفينة «النجمة الخضراء» لم أكن أثق فيه قط … ولا أدري كيف سمحنا له بقيادة السفينة من فرنسا إلى هنا … لقد مرض القبطان الأصلي وكان اسمه «طه» فاضطُررنا للاستعانة بقبطانٍ فرنسي … وقد تسرَّعنا في قبوله، ولكن هكذا كانت مشيئة الله.

بعد نصف ساعةٍ كانوا قد أشرفوا على الفيلَّا … وكان بقية الأصدقاء يقفون بالباب، وهم يحملون أكواب الشاي وينظرون إلى الشمس وهي تصعد فوق البحر ككُرة من النار.

صاح الأصدقاء فرحين … لقد عرفوا جميعًا أن الرجل العجوز القادم ليس إلا «عم سالم» … إذن فقد انتهت المشكلة … وعليهم أن يقضُوا إجازةً طيبة.

ووضَعوا طعام الإفطار ﻟ «عم سالم» … وكوبًا كبيرًا من الشاي، وأقبل الرجل العجوز على طعامه بشهيةٍ مفتوحة، وسَعِد بالتعرُّف إلى الأصدقاء الجدد، وقال لهم: لقد كنتُ دائمًا أقول ﻟ «نبيل» أن يُحضر بعض أصدقائه معه … فليس هناك إجازةٌ طيبة إلا مع أصدقاءَ طيبين.

كالعادة، كانت «لوزة» هي السبَّاقة إلى الحديث عن المغامرات والألغاز، فسألَت «عم سالم»: ولكن يا «عم سالم» … كيف خطفك هؤلاء الناس؟

رد «عم سالم»: كنتُ أصطاد السمك في الفجر، كعادتي كل صباح؛ فهذا هو طعامي الدائم هنا، وقد اصطدتُ كميةً لا بأس بها، ووضعتُها في حفرة بها ماء …

صاحت «لوزة»: لقد رأيناها وأحضرنا السمك!

مضى «عم سالم» يقول: وظهر شبَحٌ أسودُ على الشاطئ، لا أدري من أين أتى؛ فمن النادر أن أُشاهِد أحدًا في المنطقة، وعندما نظرتُ إلى البحر رأيتُ قاربًا ضخمًا يقف في نفس المكان الذي غَرقَت فيه «النجمة الخضراء» … ودُهِشتُ جدًّا … وعلى ضوء الفجر الخفيف لم أعرف من هو هذا الشبح، ولكنه اقترب مني، واستطعتُ أن أتبيَّن أنه يرتدي ملابس الغوص، ولا أدري هل خرج إلى الشاطئ بالمصادفة أم كان يقصدني شخصيًّا، كان جسمه كله مغطًّى بملابس المطَّاط السوداء، وكذلك وجهه، لم أستطع أن أرى أكثر من ذلك … وقبل أن أتحدَّث إليه وجدتُه يُبرِز بندقيةً مما يصطادون بها السمك … ووقفتُ مذهولًا، وقبل أن أتمكَّن من فهمِ ما حدَث فُوجئتُ برجلٍ آخر يبرُز من المياه ويربط عينيَّ بعصابةٍ سوداء، وسرت معهما لا أدري إلى أين، ولكن لكثرة ما عشتُ في هذه المنطقة أدركتُ أننا متجهون إلى حبل الرمال … وسرنا نحو نصف ساعة، ثم نزلنا إلى بئرٍ بها ماء … وطلبوا مني كَتْمَ نَفَسي ثم غُصْنا، وأحسستُ أنني أُدفَع إلى نفق، ثم عُمنا في هذا النفق حتى وصلنا إلى بوابةٍ حديدية … وصَعِدنا … وقاداني إلى سجن من البوص وقيَّداني فيه وخرجا.

وصمت «عم سالم» وهو يرشُف من كوب الشاي رشفة كبيرة ثم عاد يقول: وبعد ساعة تقريبًا حضر شخصٌ يبدو أنه أجنبي، وأخذ يسألُني عن سبب وجودي في هذا المكان باستمرار، وهدَّدني بالقتل إذا لم أُغادِر الشاطئ والمكان كله، وقلتُ له إن حياتي كلها انقضَت في البحر … وعلى شاطئ البحر … وإنني لا أستطيع الحياة بعيدًا عن البحر، وسمعتُه يتحدَّث مع بعض الأشخاص بلغةٍ لا أفهمها، ثم سمعتُ أحدهم يقول باللغة العربية: أفضلُ شيء أن نُغرِقه غدًا عند خروجنا للعمل، وتركوني بلا طعام ولا ماء حتى حضر شخصٌ قبل مجيئكم بنصف ساعة وهدَّدني مرةً أخرى … ولكني لم أُذعِن لتهديده، فقال لي إنهم سيُلقونَني في البحر بعد نصف ساعة.

ولدهشة الأصدقاء ابتسم «عم سالم» ابتسامةً صافية وهو يقول: إنهم الآن في غاية الذهول … لن يعرفوا أبدًا كيف هربتُ.

وساد الصمت بعد حديث «عم سالم»، وأخذ الجميع يفكِّرون، وقد كان تفكيرهم جميعًا في شيءٍ واحد: ماذا بعد ذلك؟

وكأنما كان «عم سالم» يقرأ أفكارهم فقد قال: إنني طبعًا لن أُغادِر هذا المكان مطلقًا، سوف أبقى حتى أعرف ماذا يحدُث هنا!

محب: وماذا يحدُث هنا يا «عم سالم» بالضبط؟ … أو على الأقل ماذا تتصوَّر؟

ردَّ «عم سالم» على الفور: ما أتصوَّره هو شيءٌ واحد: أن هناك من يحاول العثور على كنز «النجمة الخضراء»، لقد غَرقَت السفينة وعليها كميةٌ رائعة من الذهب والمجوهرات، إنها ثروة رجلٍ شريف يحاول بعض اللصوص سرقتَها.

تختخ: ولماذا لا نُبلغ رجال الشرطة؟

عم سالم: لقد حاولتُ عشرات المرات أن أُقنع الجهات المسئولة بأن تبحث عن هذا الكنز، ولكنَّ أحدًا منهم لم يُصدِّقني، لقد ظنوا جميعًا أنني رجلٌ مخرِّف، وإذا لم يقتنعوا بكلامي فلن يقتنعوا بكلامكم.

كان منطق الرجل العجوز قويًّا، ولا يمكن نقضه بسهولة، وكان أمام الأصدقاء أحد حلَّين … إما أن يرحلوا ويتركوا الرجل العجوز مع أحلام كنز «النجمة الخضراء»، وإما أن يبقَوا ويواجهوا الأخطار.

وقالت «نوسة»: من الأفضل أن نعقد اجتماعًا نقرِّر فيه ماذا نفعل.

عاطف: وأقترح قبل كل شيءٍ أن نقضي بعض الوقت على الشاطئ … من غير المعقول أن نأتي لقضاء إجازة ثم تكون النتيجة هذه السلسلة من المغامرات بدون راحةٍ واحدة.

وافق الجميع على هذا القرار بحماس … وسرعان ما ارتدَوا ثياب البحر وأسرعوا إلى الشاطئ … وبقي «عم سالم» وحده في الفيلا؛ لأنه أراد أن ينام.

كانت الرمال في لون الذهب، والمياه في لون الزمرُّد، والشمس ما تزال تحبو في الأفق، فاندفع الجميع ومعهم كرة للَّعب والمرح، ونسُوا مؤقتًا الأخطار التي قد يتعرَّضون لها، واستمَروا يلعبون ويسبحون حتى ارتفعَت الشمس، وقرَّروا العودة إلى الفيلَّا للغداء، وعندما عادوا كانت في انتظارهم مفاجأة …

ما هي هذه المفاجأة؟

وهل تجعلهم يحزمون أمتعتهم ويعودون إلى المعادي؟

أم تجعلهم يقبلون التحدِّي … ويخوضون المعركة؟

هذا ما تعرفه في اللغز المثير القادم «لغز النجمة الخضراء».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤