الفصل العاشر

المونولوج الداخلي

تحسَّس عند عتبة الباب جيبَه الخلفيَّ بحثًا عن مفتاح الباب الرئيسي، ليس هناك في البنطلون الذي خلعتُه، لا بدَّ أن أجده. معي حبة البطاطس. الدولاب يُصدر صريرًا لا حاجة بي لإيقاظها، وتقلَّبَت في نومها تلك المرَّة، وجذب باب الردهة وراءه بهدوء شديد أكثر، إلى أن مسَّت سقاطتُه الأرض. غطاء رخو. يبدو مغلقًا. حسنًا، إلى أن أعودَ على كل حال.

وعبرَ الطريقَ إلى الناحية المشمسة، متفاديًا الحجارة المتكسرة أمام رقم ٧٥، وكانت الشمس تقترب من برج كنيسة جورج. أعتقد أنه سيكون يومًا دافئًا خاصة في هذه الملابس السوداء أشعر أكثرَ بالدفء، التوصيلات السوداء تعكس (أو هي تكسر؟) الحرارة ولكن ليس بمقدوري أن أذهب في تلك البذلة الخفيفة؛ فما أنا ذاهب إلى نزهة وكثيرًا ما أُطبِق جفناه في هدوء بينما كان يسير في الدفء السعيد.

هبطتا الدرجات من جهة «ليهي» بحذر «فراوين زيمر» ثم إلى الشاطئ المنحدر، وأقدامهن العريضة تغوص في الرمل المليء بالغرين مثلي ومثل «ألجي» تتجهان إلى أمنا العظيمة وأرجحت رقم واحد حقيبة الولادة بتثاقل بينما أخذت مظلة الأخرى تحفر في الرمل، تخرجان لنهار اليوم من حيِّهما «ليبرتيز» السيدة «فلورانس ماكَّابي» أرملة المرحوم «بات ماكَّابي» المأسوف عليه، من شارع برايد إحدى شقيقاتها جذبتني باكيًا إلى الحياة خلق من لا شيء ماذا في حقيبتها؟ جنين مجهض بقطر حبله السُّري وراءه مُدثَّر في صوفة حمراء، حبال الجميع مربوطة بعضها إلى بعض حبل مضفر لكل بني البشر هذا هو السبب في أن الكهنة الصوفيين، هل ستكون مثل الآلهة؟ تُحدق في سرتك. ألو. كينش على الخط أعطني عد نفيل، ألف ألف، صفر، صفر، واحد.

نعم لأنه لم يفعل شيئًا مماثلًا من قبل أن يطلب أن أُحضرَ له إفطاره في السرير وبه بيضتان منذ فندق «سيتي آرمز» حين كان يتظاهر بأنه مريض ويلازم الفراش بصوته النائح يضرب ضربتَه كي يحظى باهتمام تلك العجوز «مسز ريوردان» التي كان يظنُّ أنها ستذكرنا في وصيَّتها وهي لم تترك لنا مليمًا واحدًا وإنما أنفقت أموالها في إقامة القداس لنفسها وعلى روحها، أبخل شخصية على الإطلاق كانت حقيقة تخاف أن تدفع شلنًا لمشروباتها الروحية وتحكي لي على كل أمراضها، ثرثرة طويلة عن السياسة والزلازل ونهاية العالم، فلنتمتع بحياتنا أولًا، كان الله في عون العالم إذا كانت كل النسوة مثلها تهاجم المايوهات وفتحات الفساتين العريضة طبعًا لا أحدَ يريدها أن ترتديَ تلك الملابس أعتقد أنها متدينة لأنه ما من رجل يمكن أن ينظر إليها مرتين.

جيمس جويس: عوليس (١٩٢٢م)

إن عنوان رواية جويس «عوليس» هو الدليل الوحيد الثابت في النص بأكمله على أن حكايتها عن يوم عادي تمامًا في دبلن، ١٦ يونيو ١٩٠٤م، يُعيد تمثيل أو يُحاكي أو يحرِّف قصة هوميروس «الأوديسة» (التي يُسمَّى بطلها أوديسيوس التي هي باللاتينية عوليس) وليوبولد بلوم، وكيل الإعلانات المتجول، هو بطلها الذي لا بطولة فيه، وزوجته موللي تقصُر تمامًا عن محاكاة نظيرتها في الملحمة الإغريقية، بنيلوبي، بالنسبة لإخلاصها لزوجها، فبعد أن يجوب بلوم مدينةَ دبلن طولًا وعرضًا في مهام مختلفة لا تؤدي إلى نتيجة، مثلما ضلَّ أوديسيوس طريقَه في البحر الأبيض المتوسط بفعل الرياح المعاكسة، حين كان عائدًا إلى وطنه بعد حرب طروادة، يقابل «ستيفن ديدالوس» ويصادقه على نحوٍ أبويٍّ، وستيفن هو تليماك في الملحمة، وصورة لجويس في شبابه — كاتب فخور مفلس طموح متغرب عن والده.

و«عوليس جويس» ملحمة سيكولوجية أحرى من كونها ملحمةً بطولية؛ فنحن نتعرف على الشخصيات الأساسية فيها لا عن طريق ما نسمع عنهم، بل بالمشاركة في أفكارهم الأشد خصوصية، والتي تُقدَّم لنا بوصفها تياراتٍ للوعي تلقائية وموصولة لا تنقطع، والأمر بالنسبة للقارئ يكون كما لو أنه وضَع على أُذُنَيه سماعاتٍ موصولةً بذهن الشخصية، وهي ترصد تسجيلًا لا نهاية له لانطباعاتها وتأملاتها وتساؤلاتها وذكرياتها وتهويماتها؛ إذ يُثيرها إحساساتٌ مادية أو عن طريق تداعي الأفكار، ولم يكن جويس أولَ مَن استخدم المونولوج الداخلي (فهو قد أرجع ابتداعَ هذه الطريقة إلى «إدوار ديجاردان»، وهو روائيٌّ فرنسيٌّ مغمور عاش في أواخر القرن التاسع عشر). كما أنه لم يكن آخِر من استخدم هذا الأسلوب؛ ولكنه دفع به إلى حدٍّ عالٍ من الكمال جعل مَن استخدمه بعد ذلك من الروائيِّين، باستثناء «فوكنر» و«بيكيت» يبدوان باهتَين بالمقارنة به.

والمونولوج الداخلي هو بالفعل فنٌّ يصعب جدًّا استخدامُه بصورة ناجحة؛ إذ هو ينحو إلى فرضِ إيقاعٍ بطيءٍ على السرد، وإضجار القارئ بالكثير من التفاصيل التافهة، ويتفادى جويس تلك المزالقَ جزئيًّا بواسطة عبقريته في معالجة الكلمات، مما يخلع على أشد الأحداث أو المواضيع تفاهةً جاذبيةً تجعلنا نراها كما لو أننا نُصادفها لأول مرة، وكذلك يعمل جويس على تنويع التركيب النحوي لخطابه، مازجًا بين المونولوج الداخلي والأسلوب الحر غير المباشر والوصف السردي التقليدي.

والقطعة الأولى تتعلق ﺑ «ليوبولد بلوم» وهو يغادر منزله في الصباح الباكر كيما يشتريَ كلاوي خنزيرٍ لإفطاره. وعبارة «تحسَّس عند عتبة الباب جيبَه الخلفي بحثًا عن مفتاح الباب الرئيسي» تصف العمل الذي يقوم به بلوم من وجهة نظره هو، ولكنها تتضمن — نحويًّا — قصَّاصًا يقوم بالسرد، حتى وإن كان هذا القصَّاص غير مشخَّص، وعبارة «ليس هناك» مونولوج داخلي، وهي اختصار لفكرة بلوم التي لم ينطق بها: «المفتاح ليس هناك»، وحذف الاسم [الفعل في الأصل الإنجليزي] يوحي بفورية الاكتشاف، وما ينطوي عليه من إحساس طفيف بالجزع، ويتذكر أن المفتاح في بنطلون آخر خلعه لأنه يرتدي الآن بذلةً سوداء ليحضر بها جنازةً في موعد لاحق من النهار، وعبارة «معي حبة البطاطس» تبدو غريبةً تمامًا للقارئ الذي يطالع الرواية لأول مرة: ففي المكان المناسب نكتشف أن بلوم الذي يؤمن بالتطيُّر يحمل معه حبة بطاطس على سبيل التعويذة، ومثل هذه الألغاز تُضيف إلى أصالة الأسلوب؛ فمن الواضح أننا لا يمكن أن نُحيط إحاطةً كاملة بتيار الوعي لدى شخص، ويقرر بلوم عدمَ العودة إلى غرفة نومه لإحضار المفتاح الذي نسِيَه، لأن باب الدولاب يُصدر صريرًا ربما يُزعج زوجته، التي كانت لا تزال نائمة على السرير؛ وهذا دليل على طبيعة بلوم الطيبة أساسًا التي تُراعي الآخرين، وهو يشير إلى موللي بلوم بضمير الغائب؛ لأن زوجته تحوم دائمًا في وعيه إلى حدِّ أنه لا يحتاج إلى أن يُحدِّد لنفسه الاسم، كما لا بدَّ أن يفعل السارد الخارجي الذي يضع صالحَ القارئ نصْبَ عينيه.

والجملة التالية في القطعة نفسها، وهي جملة تتسم بالمحاكاة البارعة، تعود إلى الأسلوب السردي لتصفَ كيف جذب بلوم البابَ حتى أصبح شبهَ مغلق، ولكنها تلازم وجهةَ نظر بلوم وتبقى في نطاق الكلمات التي يستخدمها؛ وذلك حتى يمكن تضمين شذرة مونولوج داخلي تتمثل في كلمة «وأكثر» في الجملة دون حدوثِ أيِّ تنافر، ويميز الفعل الماضي: «بدَا مغلقًا» الجملةَ التالية بالأسلوب الحر غير المباشر، ويوفر نقلة سهلة للعودة إلى المونولوج الداخلي: «حسنًا، إلى أن أعودَ على كل حال»، التي تمثِّل فيه كلمة «حسنًا» اختصار العبارة «هذا سيكون حسنًا». ولا توجد في هذه القطعة عبارة واحدة سليمة من ناحية القواعد النحوية أو مكتملة بالمقاييس المحددة، باستثناء العبارات السردية؛ وهذا لأننا لا نفكر، ولا حتى نتكلم بطريقة عفوية بعبارات كاملة التكوين.

والقطعة المقتبسة الثانية، التي تَصِف «ستيفن ديدالوس» وهو يلمح امرأتين بينما يتمشَّى على الشاطئ، تُظهر التنوعَ نفسَه في أنماط الخطاب الروائي، ولكن، في حين كان تيارُ أفكار بلوم عمليَّ المنحى وعاطفيًّا، وكذلك علميًّا على نحو غير مدروس (فهو يلتمس على غير هدًى المصطلحَ العلمي الصحيح لتأثر الملابس السوداء بالحرارة)، فإن تيار أفكار ستيفن تأملي، لمَّاح، أدبي — ومتابعته أصعب بكثير. و«آجلي» إشارة مألوفة للشاعر «ألجرنون سوينبيرن»، الذي قال عن البحر إنه «أم رءوم عظيمة»، وكلمة «بتثاقل» (lourdily) هي إما اصطلاح أدبي قديم، أو هي كلمة اخترعها ستيفن من أيام حياته البوهيمية في باريس؛ إذ إن كلمة lourd تعني ثقيلًا بالفرنسية. وتحفز مهنة مسز «ماكَّابي» خيالَ ستيفن الأدبي إلى ابتعاثِ ذكرى مولده بتحديد مدهش «إحدى شقيقاتها جذبَتني باكيًا إلى الحياة»، وهي عبارة أخرى فيها محاكاة معجزة تجعل القارئ يشعر بجسم الطفل الوليد لزجًا بين يدي القابلة، أما الصورة السقيمة نوعًا ما بأن هناك جنينًا مجهضًا في حقيبة مسز «ماكَّابي»، فهي تعمل على تحويل تيار الوعي لدى ستيفن إلى خيالات معقدة وبالغة الغرابة، يتصل فيها الحبل السُّري إلى سلك يربط بين كلِّ بني البشر وبين أمِّهم الأولى، حوَّاء، ويُوحي بالسبب الذي يدعو الكهنة الشرقيين إلى تأمل سراتهم (من الكلمة اليونانية omphalos) رغم أن ستيفن لا يُكمل الجملة؛ إذ يقفز ذهنُه إلى فكرة خيالية استعارية أخرى، وهي تشبيهُ الحبل السُّري الجماعي بسلك التليفون، والذي عن طريقه يقوم ستيفن (الذي يُطلق عليه صديقُه باك ماليجان كنيةَ «كينش») بتخيُّل نفسه يتصل هاتفيًّا في نزوة من نزواته بجنة عدن.

ولم يكتب جويس «عوليس» كلها بأسلوب تيار الوعي؛ فبعد أن ذهب بالواقعية السيكلوجية إلى أقصى مدى يمكن أن تذهب إليه، تحول، في الفصول اللاحقة من روايته، إلى أنواع مختلفة من الأساليب وطرق المزج والتقليد التهكمي؛ فهي ملحمة لغوية كما هي ملحمة سيكلوجية. ولكنه أنهى الرواية بأشهر مونولوج داخلي على الإطلاق، المونولوج الداخلي ﻟ «موللي بلوم».

ففي آخر «حلقة» (كما تُسمى الفصول في «عوليس»)، تصبح موللي بلوم، زوجة ليوبولد بلوم، التي كانت حتى آنذاك موضوعًا لأفكاره هو وغيره وملاحظاتهم وذكرياتهم، هي نفسها الموضوع ومركز الوعي؛ ففي خلال أصيل اليوم نفسه، خانت ليوبولد مع متعهد حفلات يُسمى «بليزس بويلان» (فهي مغنية شبه محترفة)، والآن نحن في أواخر الليل، وقد دلف بلوم إلى الفراش، وأيقظ موللي عند ذاك، وهي ترقد إلى جواره، نصف مستيقظة، تتذكر غافية أحداثَ اليوم، وأحداث حياتها الماضية، خاصة تجاربها مع زوجها ومع عشَّاقها الآخرين، وفي الواقع لم يكن بلوم وزوجته يعيشان حياة زوجية طبيعية منذ سنوات كثيرة، بعد صدمة فقدان ابنهما وهو ما زال طفلًا، بَيْد أنهما يظلان مرتبطَين عن طريق الألفة ونوع من الودِّ الساخط بل وحتى الغيرة. وقد كان يوم بلوم ملبَّدًا بالقلق من جرَّاء معرفته بلقاء موللي وعشيقها، ويبدأ مونولوج موللي الداخلي الذي يكاد يخلو تمامًا من علامات الترقيم، بتفكيرها في أن بلوم لا بدَّ وأن يكون قد مرَّ بمغامرة غرامية ما دام قد خرج على عادته وفرَض شخصيته بأن طلب منها أن تُحضرَ له فطورَه إلى الفراش في الصباح التالي، وهذا شيء لم يفعله منذ زمنٍ قصيٍّ، حين كان يتظاهر أنه قعيد الفراش كيما يؤثرَ على أرملة تُدعى مسز ريوردان (التي هي في حقيقة الأمر خالة ستيفن ديدالوس، وهذه إحدى المصادفات البسيطة الكثيرة التي تشبك معًا أحداث «عوليس» التي تبدو عشوائية في ظاهرها فحسب) كان يأمل أن يتلقَّى منها إرثًا، ولكنها في الواقع لم تترك لهما شيئًا، بل خصصَت كلَّ مالِها للإنفاق على قُداسات تُتلى على روحها بعد مماتها … (والمرء ينحو حين يعيد حكاية مناجاة موللي الذاتية إلى استخدام أسلوبها الانسيابي الحر نفسه).

وفي حين أن تيار الوعي لدى «ستيفن» و«بلوم» يحفزه انطباعاتُهما الآتية من الحواس؛ فإن «موللي»، إذ ترقد في الظلمة ولا يشتت ذهنَها إلَّا ضجَّةٌ عابرة صادرة من الطريق، تحملها ذكرياتُها قُدُمًا، ذكرى تجرُّ أخرى عن طريقِ تداعٍ في الأفكار من نوع ما، وفي حين ينحو التداعي في وعي ستيفن إلى صور الاستعارة البلاغية (شيء يُوحي بشيء آخر عن طريق التشابه، وغالبًا ما يكون تشابهًا خاصًّا وغريبًا)، وينحو في وعي بلوم إلى صور الكناية البلاغية (شيء يُوحي بشيء آخر لأنهما يرتبطان بقانون العلَّة والمعلول، أو بالتجاور في الزمان أو المكان)، فإن تداعي الأفكار في وعي موللي هو تداعٍ حرفيٌّ ليس إلَّا؛ فإفطارٌ في الفراش يذكِّرها بإفطار آخر في الفراش، ورجل في حياتها يذكِّرها برجل آخر. ولما كانت أفكارُها عن بلوم تؤدي بها إلى التفكير في عُشَّاق آخرين، فليس من السهل دائمًا تحديدُ مَن تعني من الرجال حين تستخدم ضمير الغائب المذكَّر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤