الفصل الخامس عشر

المفاجأة

«لا يمكنني البقاءُ بدونك، لم أعرف ذلك إلَّا بعد رحيلِك لقد انقلب البيت على عقبَيه. لم يَعُد المكان نفسه، لقد اختلطَت حساباتي كلُّها مرة أخرى. لا بد أن تعودي، عودي يا عزيزتي «بيكي»، فلتعودي.»

ولهثَت ربيكا قائلةً: «أعودُ، بأيِّ صفة يا سيدي؟»

وقال البارون وهو يقبض على قبَّعة حداده السوداء: «عودي بصفتك السيدة كرولي إن شئتِ. هاكِ، أيرضيكي هذا؟ عودي لتُصبحي زوجتي. إنك أهلٌ لذلك، ولتذهب عراقة المَولد إلى الجحيم. إنك لَسيدةٌ فُضْلَى مثل أيِّ سيدة أعرفُها. إن في رأسك من الذكاء أكثر مما لدى زوجةِ أيِّ بارون في المقاطعة. هل ستعودين؟ أجل أم لا؟»

قالت ربيكا وهي بالغةُ التأثر: «أوه سير بت!»

وواصل السير بت كلامَه: «قولي أجل يا بيكي إنني شيخ، ولكنْ شيخ طيب. إن أمامي عشرين عامًا. سأجعلك سعيدة. سترَين ذلك. سوف تفعلين ما تشائين؛ وتُنفقين ما تريدين، وتعيشين كما تحبِّين، سوف أدفع لكِ مهرًا، سوف أفعل كلَّ شيء بالصورة الواجبة، انظري!»

وركع الشيخ على ركبتَيه وتطلَّع إليها بنظرة تتلمَّظ شراهةً.

وتراجعَت ربيكا إلى الخلف في انزعاج شديد، ولقد رأينا طوال هذه القصة أنها لم تفقد أبدًا سرعةَ بديهتها؛ ولكنها لم تكن هكذا الآن، وسفحَت بعض أصدق الدموع التي خرجَت من عينَيها.

قالت: «أوه، سير بت. أوه يا سيدي … إنني … إنني متزوجة بالفعل.»

وليام ماكبيس ثاكري: سوق الغرور (١٨٤٨م)
يحتوي معظم القَصَص على عنصر من المفاجأة. فلو كان بوسعنا التنبؤ بكل منحًى من مناحي الحبكة، لما كان فيها ما يجذبنا إليها، ولكن مناحي الحبكة لا بد أن تكون مقنعةً كما هي غير متوقعة. وقد أطلق أرسطو على هذا الأثر مصطلحَ peripeteia ويعني به «انعكاس الوضع»، التحول المفاجئ من حالة معينة إلى عكسها، يصاحبه أحيانًا «اكتشاف» أي تحوُّل الشخصية من الجهل بشيء إلى معرفته، وكان المثال الذي ضربه أرسطو لذلك، هو المشهد من مسرحية «أوديب ملكًا»، الذي يقوم فيه الرسول الذي جاء ليطمئنَّ أوديب بشأن أصله بالكشف له، في واقع الأمر، بأنه قد قتل أباه وتزوج أمَّه.

وحين نسردُ من جديد قصةً معروفة كقصة أوديب، فإن مَن يشعر بالمفاجأة هي الشخصيات وليس الجمهور؛ فالأثر الأساسي لدى الجمهور هو فعل سخرية الأقدار (انظر الفصل ٣٩ أدناه)، ولكن الرواية تختلف عن جميع الأشكال السردية السابقة عليها، باضطلاعها (أو تظاهرها) بسردِ قصصٍ جديدة تمامًا، وعلى ذلك، فقراءة معظم الروايات للمرة الأولى تنطوي على مفاجآت، وإن كانت بعض الروايات تحتوي على مفاجآت أكثر من روايات أخرى.

وقد نجح ثاكري في حشدِ عددٍ من المفاجآت في هذا المشهد من «سوق الغرور»؛ ﻓ «بيك شارب» مربيةٌ مفلسة ويتيمة، تُفاجأ بعرض للزواج من أحد البارونات؛ ويُفاجأ السير «بت كرولي» والقارئ معه باكتشاف أنها متزوجة بالفعل. ولكن ثاكري يستفيد أكثر من ذلك من هذا الموقف. فكما لاحظت «كاثلين تلتسون» في كتابها «روايات عقد ١٨٤٠»، جاءت هذه القطعة، التي تختتم الفصل الرابع عشر من الرواية لتختتم أيضًا العددَ الرابع من الكتاب الأصلي الذي كان يُنشر مسلسلًا، وبهذا يكون القرَّاء الأوائل قد مرُّوا بوقت من الترقب والقلق (أشبه بما يمرُّ به مشاهدو المسلسلات التليفزيونية الحديثة) فيما يتعلق بهُوِيَّة زوج بيكي شارب، ويضارع ما حدث لمعاصري ثاكري من جرَّاء ذلك، ما يحدث عند انتهاءِ فصلٍ من فصول مسرحية ما، ولوحة الشيخ المتهتك راكعًا على ركبتَيه أمام الشابة الجميلة الحائرة، هو مشهد مسرحي في أساسه، وعبارة بيكي شارب «أوه، سير بت. أوه يا سيدي، إنني … إنني متزوجة بالفعل»، هي عبارة مسرحية كلاسيكية تُنزل الستار بعدها، وتضمن أن يظلَّ النظارة في ترقُّب طوال فترة الاستراحة.

ويتناول الفصل التالي السؤالَ عمَّن هو الرجل الذي تزوجَته بيكي، دون أن يُجيبَ عليه توًّا؛ ذلك أن مس كرولي، الأخت غير الشقيقة لسير بت، تندفع إلى الحجرة لتجدَ أخاها راكعًا على ركبتَيه أمام بيكي، فتُذهلها «المفاجأة» خاصة حين تعلم أن العرض قد قُوبل بالرفض، ولا يكشف ثاكري، حتى نهاية الفصل، أن بيكي متزوجةٌ سرًّا من ابن أخ مس كرولي، ضابط الفرسان المسرف «رودون كرولي».

ولا بد من التحضير لمثل تلك النتيجة وبعناية شديدة، فكما يحدث في عرض من استعراضات الألعاب النارية، تنتهي شعلةٌ بطيئة الاحتراق بأن تُفجر سلسلة متتابعة سريعة من الانفجارات، فلا بد من تغذية القارئ بمعلومات كافية كيما تصبحَ المفاجأة حين تقع، مقنعةً؛ ولكن ينبغي عدم الإفراط في ذلك إلى الحد الذي يسمح للقارئ أن يتوقَّع حدوثَها بسهولة. فثاكري يحجز المعلومات، ولكنه لا يُخاتِل، وهو يستخدم الرسائل كثيرًا في هذا الجزء من الرواية، كيما يُضفيَ واقعيةً على تحفُّظِه غير المميز كراوٍ للقصة.

فبعد أن فشلَت بيكي المفلسة من محاولتها اصطيادَ شقيق صديقتها أميليا كزوجٍ قبل ذلك في الرواية، تُضطرُّ إلى قبول وظيفة المربِّية لبنتي السير بت من زوجته الثانية العليلة، وتشرع من فورها في إثبات قيمتها الغالية للبارون العجوز الشحيح الفظ في منزله الريفي المسمَّى «كوينز كرولي»، وأيضًا لأخته غير الشقيقة الثرية العانس. وتشعر «مس كرولي» بالإعجاب ببيكي إلى حدِّ أن تُصرَّ على أن تقوم هي بتمريضها حين تمرض في منزلها بلندن، ويوافق «سير بت» بتردُّد على تركِ بيكي تذهب إلى هناك؛ ذلك أنه لا يريد أن يُضيع آمال قيام «مس كرولي» بذِكر ابنتَيه في وصيتها، ولكن حين تموت زوجةُ «السير بت» (وهذه واقعة لا يكاد يُبالي بها أيٌّ من شخصيات الرواية) يُضطرُّ إلى طلب عودة بيكي إلى منزله الريفي بأيِّ ثمن، حتى ولو كان الزواج بها، وكانت «مس كرولي» قد استبقَت وقوع ذلك الخطر — ولم تكن ترحِّب بانضمامِ بيكي إلى العائلة رغم كلِّ محبَّتِها لصحبتها — فقامت ضمنًا بتشجيع ابن أخيها «رودون كرولي» على إغواء بيكي؛ حتى تمنعَها بذلك من أن تُصبحَ ليدي كرولي الثالثة، ولكن رودون يتصرَّف بأمانة رغم تهورِه، فيقوم بالزواج منها بدلًا من إغوائها، وتأتي تصرُّفاتُ بقيةِ الشخصيات بدافع من الحرص والمصلحة الشخصية تمامًا، وما الحب أو الموت إلَّا مجردُ وسائل في طريق الجري وراء الثروة والجاه.

وسخرية ثاكري لا رحمةَ فيها. فبيكي تُصبح «بالغة التأثر»، ودموعها، هذه المرة، حقيقية. ولكن، لماذا؟ لأنها قد تزوَّجَت رودون المأفون وهي تطمع أن يرثَ ثروةَ عمته؛ لتجد أنها قد أضاعَت ثروةً أكبر وأكثر ضمانًا: أن تُصبح زوجة بارون، ثم إذا سارَت الأمور على طبيعتها، أرملة أحد الأشراف بعد وقتٍ قصير «فادِّعاء السير بت بأن أمامه «عشرين عامًا» إسرافٌ في التفاؤل، وهو بالتأكيد يقلل من جاذبيته لها.» ويحظى المشهدُ بكثير من القوة من التوصيف الكوميدي لشخصية «سير بت»، الذي يقول الراوي عنه قبل ذلك إنه «لم يكن من بين جميع بارونات ونبلاء إنجلترا — والعامة فيها كذلك — مَن يضاهي هذا الشيخ في مكرِه ووضاعتِه وأنانيته وحمقه وحقارته.» وحين يصف «ثاكري» صورتَه وهو ينظر إلى بيكي بتلمُّظ شهواني، فهو يمضي إلى أقصى مدًى يسمح له به التحفظ الفيكتوري في الإلماح إلى أنه ليس بمستبعد أن يشعر «السير بت» تجاه بيكي بشعور جنسي محض. وبكاء بيكي على فقدانها مثل هذا الزوج هو تعليقٌ مدمرٌ لا عليها فحسب، بل على كلِّ مجتمع «سوق الغرور».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤