الفصل التاسع عشر

التكرار

وفي الخريف كانت الحرب دائمًا حاضرة، ولكننا لم نشارك فيها بعد ذلك، كان الجو باردًا في الخريف في ميلانو، وكان الظلام يهبط مبكرًا، وعندها تُضاء المصابيح الكهربائية، وكان التجول في الشوارع والتطلع إلى الفترينات أمرًا يبعث على البهجة. كانت هناك حيوانات مَصيدة معلَّقة خارج المحلات، ونُدَف الثلج تَعْلَق بفرو الثعالب والرياح تهزُّ ذيولها، وكانت الظباء معلَّقة في جمود وثِقَل وفراغ، وطيور صغيرة تتأرجح وسط الرياح التي تقلب ريشَها إلى الخلف، كان خريفًا باردًا وكانت الرياح تهبُّ من ناحية الجبال.

وكنَّا جميعًا نذهب إلى المستشفى كل أصيل، وكانت هناك طرق مختلفة للوصول إليها سيرًا عند الغسق، طريقان منها على طول القنوات، ولكنهما كانا طريقَين طويلَين، ومع ذلك فلا بد لك أن تعبر جسرًا فوق قناة كيما تدخل إلى المستشفى، وكان ثَمة خيارٌ بين ثلاثة جسور. وعلى واحدٍ منها امرأة تبيع حبَّات «أبو فروة» المشوية، وكان الدفء ينبعث عند الوقوف أمام النيران المشتعلة في قِطَع الفحم، وتشعر بعد ذلك بحبَّات «أبو فروة» دافئة في جيبك، كان المستشفى قديمًا، وجميلًا جدًّا، وتدخله من خلال بوابة وتمشي عبر فناء وتدلف من بوابة أخرى على الجانب الآخر، وعادة ما تكون هناك جنازة تنطلق من الفناء، وفيما وراء المستشفى كانت هناك المباني الحجرية الجديدة، حيث كنَّا نتقابل كل أصيل وكلُّنا في غاية الأدب ومهتمُّون بالأمر، ونجلس في الأجهزة التي كانت ستجعل كلَّ شيء مختلفًا.

إرنست همنجواي: في بلد آخر (١٩٢٧)

إذا كان لديك أيها القارئ وقتٌ وميل، فخُذ أقلامًا ملونة وارسم دوائر حول الكلمات التي تَرِد أكثر من مرة في الفقرة الأولى من قصة «همنجواي»، مستخدمًا لونًا مختلفًا لكل كلمة، وصِل ما بين الكلمات الواحدة، ولسوف تكشف بذلك نمطًا مركَّبًا لسلاسل لفظية تَصِل بين كلمات من نوعَين: الكلمات ذات المغزى الإسنادي: الخريف، بارد، الظلام، الرياح، تهب، وهي التي يمكن أن نسمِّيَها كلمات معجمية؛ ثم هناك أدوات التعريف وحروف الجر وحروف الوصل؛ مثل «ال» من، في، «و»، وهي التي يمكن أن نسمِّيَها كلمات نحوية.

ومن المستحيل تقريبًا أن نكتب بالإنجليزية دون تكرار الكلمات النحوية، لذلك فنحن لا نلحظها على ذلك المستوى؛ ولكن المرء لا يمكنه إلَّا أن يلاحظ العدد المدهش من حرف الوصل «و» في هذه الفقرة القصيرة، وهذا علامة على تركيبها اللغوي الذي يكثر فيها التكرار، والذي يُسلِك عبارات تقريرية معًا دون أن تكون إحداها معتمدة على الأخرى، أما الكلمات المعجمية، فهي تتكرر بنسق أقل انتظامًا؛ إذ هي تتركَّز في بداية الفقرة وفي نهايتها.

والتكرار المعجمي النموي على هذا النمط قد ينتهي بالحصول على أقل الدرجات في مواضيع «الإنشاء» المدرسية، وذلك عن حق؛ فالنموذج التقليدي للنثر الأدبي الجيد يتطلب «تنويعًا متميزًا»، فإذا تعيَّن عليك أن تُشير إلى شيء ما أكثر من مرة، ينبغي لك أن تعثر على طرق بديلة لوصفه، كما يجب أن تخلع على تركيبك اللغوي القدرَ نفسه من التنويع (والقطعة المقتبسة من «هنري جيمس» التي بحثناها في الفصل السادس غنيةٌ بالأمثلة على كلا الصنفين من التنويع).

ومع ذلك فقد رفض «همنجواي» البلاغةَ التقليدية، لأسباب أدبية في جزء منها وفلسفية في جزئها الآخر، فقد كان يعتقد أن «الكتابة الجيدة» تزييف المترجم، وجاهد كيما «يضع على الورق ما يحدث حقيقة في الواقع، والحالة الواقعية للأشياء التي أنتجَت الانفعال الذي مرَّت به الشخصية» ذلك عن طريق استخدام لغة بسيطة دالة خالية من زخرفة الأسلوب.

والأمر يبدو سهلًا، ولكنه ليس كذلك بطبيعة الحال، إن الكلمات بسيطة ولكن ترتيبها ليس بسيطًا، فهناك طرق عديدة ممكنة لترتيب كلمات الجملة الأولى، ولكن الطريقة التي اختارها همنجواي تُقسم عبارة «نشارك في الحرب» إلى عبارتَين، مما يُلمح إلى توتُّر لم يتمَّ الإفصاح عنه بعدُ في شخصية الراوي، مزيجًا من الارتياح والسخرية، وكما سنعلم بعد حين، فإن الراوي ورفاقه هم جنود أُصيبوا بجروح، حين كانوا يحاربون على الجبهة الإيطالية في الحرب العالمية الأولى، وهم يستشفون الآن، بَيْد أنهم قد أدركوا أن الحرب التي كادَت تقتلهم، ربما قد أحالَت حياتهم إلى شيء لا يستحق أن يُعاش، إنها قصة عن الصدمة، وكيف يتعامل الإنسان معها، أو يفشل في التعامل معها، والكلمة التي لا ينطقها أحد، والتي هي مفتاحُ كلِّ الكلمات المتكررة في النص هي «الموت».

والكلمة الأمريكية للخريف fall (بمعنى يسقط أيضًا)، تحمل بين ثناياها إشارة إلى موت النبات، وهي صدًى للعبارة التقليدية عمَّن يموت في المعركة «سقط في الميدان». وإن مقابلتها بكلمتَي «بارد» و«الظلام» في الجملة الثانية تُعزز من تلك الارتباطات الذهنية، وتقدِّم المحلات المنيرة، فيما يبدو، شيئًا من التلهية (وهو تأثير يزيده عدم وجود تكرار معجمي في هذه الجملة)، بَيْد أن انتباه الراوي يتركَّز بسرعة على الحيوانات المصِيدة المعلَّقة خارج الحوانيت، وهذا رمزٌ آخر للموت. ووصفُ الثلج المتناثر على فروها والرياح التي تعبث بريشها هو وصفٌ حرفيٌّ ودقيق، ولكنه يوثَّق من ارتباط كلمات الخريف والبرد والظلام والرياح وتهب، بالموت، وثَمة ثلاث كلمات من بين الكلمات المتكررة، تتجمَّع لأول مرة في الجملة الأخيرة حاملةً معها أثرًا شاعريًّا بالختام: «كان خريفًا باردًا وكانت الرياح تهبُّ من ناحية الجبال»، والجبال هي المكان الذي تجري فيه الحرب، والرياح، التي هي غالبًا ما ترمز للحياة والروح في الكتابات الدينية والرومانسية، ترتبط هنا بفقدان الحياة، لم يكن هناك حضورٌ قدسيٌّ في تلك القصص الأولى التي كتبها «همنجواي»، لقد تعلَّم البطل من صدمة المعارك ألَّا يثقَ بالقوى الميتافيزيقية عدم ثقته بالأدوات البلاغية، إنه لا يثقُ إلَّا بحواسِّه وينظر إلى التجربة من ناحية استقطابية حادة: بارد/دافئ، مضيء/مظلم، حياة/موت.

وتستمر الإيقاعات والتكرارات الطلسمية في الفقرة الثانية، فقد كان من السهل للمؤلف أن يجد بدائل أليق من كلمة «المستشفى»، أو أن يقوم ببساطة باستخدام ضمير الغائب للإشارة إليها أحيانًا، بَيْد أن المستشفى هو مركز حياة الجنود، والمكان الذي يحجون إليه يوميًّا، ومستودع آمالهم ومخاوفهم، ولذلك فإن تكرار الكلمة مؤثر، ومن الممكن تنويع الطريق الذي يذهب فيه المرء إلى المستشفى، ولكن المقصد واحد دائمًا، وثَمة اختياراتٌ للجسور، ولكن على المرء أن يعبر قناة (وربما هو إلماح خافت لنهر «ستايكس» في العالم السفلي)، والراوي يفضِّل الجسر الذي يستطيع فيه شراءَ حبَّات «أبو فروة» المشوية، التي تكون دافئة في الجيب كالرجاء في الحياة — إلَّا أنَّ «همنجواي» لا يستخدم هذا التشبيه بل يُلمح إليه فحسب؛ على النحو الذي عمدَ فيه في الفقرة الأولى إلى تحميل وصفه لفصل الخريف محملًا بقوة انفعالية، كما يحدث في أي مثال لأسلوب الإيهام الوجداني (انظر الفصل السابق) دون استخدام الاستعارة، إن الخط الذي يفصل بين البساطة المشبعة وبين الرتابة المتكلفة خطٌّ دقيق، وهمنجواي لا يظل دائمًا بمنأًى عنه؛ بَيْد أنه قد عمدَ في أعماله الأولى إلى صياغة أسلوب أصلي تمامًا بالنسبة لعصره.

وغنيٌّ عن القول إن التكرار لا يتصل بالضرورة بتقديم الحياة بصورة إيجابية كئيبة، مضادة لما هو وراء الطبيعة، على نحوٍ ما نجد في همنجواي؛ فالتكرار سمة مميزة للكتابات الدينية والصوفية، ويستخدمه الروائيون الذين ينحون في عملهم إلى ذلك الاتجاه، مثل د. ﻫ. لورانس. فلغة الفصل الأول من رواية «قوس قزح» التي تبعث طريقةَ حياة ريفية انتهَت منذ زمن، تعكس التكرارَ اللفظي والموازاة اللغوية للعهد القديم من الكتاب المقدس:

وتماوجَت أعوادُ القمح الطرية، وكانت حريريةَ الملمس، وسرَى رونقها في أطراف مَن شاهدها من الرجال، وأمسكوا بضروع الأبقار، وأعطَت الأبقار لبنها ونبضَت ضروعها بين أيدي الرجال، ودقَّ نبضُ الدماء في ضروع الأبقار في نبض أيدي الرجال.

والتكرار هو أيضًا وسيلة محببة للخطباء والوعَّاظ، وهي أدوار كان «تشارلز ديكنز» يتقمَّصها أحيانًا في دوره كمؤلف. وفيما يلي، مثلًا، ختام الفصل الذي كتبه ويصفُ فيه موتَ «جو»، الكنَّاس الفقير، في رواية «منزل قفر»:

ميت، يا صاحب الجلالة، ميت، أيها اللوردات والسادة، ميت يا أصحاب القداسة الصحيحة ويا أصحاب القداسة الخاطئة من كل مذهب، ميت، أيها الرجال وأيتها النساء، يا مَن وُلدتم وفي أفئدتكم عرقُ العطف السماوي، ويموتون هكذا حول كل يوم.

والتكرار يمكن، بطبيعة الحال، أن يكون فكاهيًّا، كما في هذه القطعة من رواية مارتن إيميس «المال»:

ومن الملغز أن الطريقة الوحيدة التي كان بوسعي أن أجعل «سالينا» ترغب في أن تُطارحني الهوى بالفعل هي ألَّا أرغبَ في أن أُطارحَها الهوى، هذه طريقةٌ لا تفشل أبدًا، فهذا يجعلها في مزاج رائق، والمشكلة هي أنه حين لا أرغب في أن أُطارحَها الهوى (وهذا يحدث أحيانًا)، لا أرغب في أن أُطارحَها الهوى. ومتى يحدث ذلك؟ متى لا أرغب في أن أُطارحَها الهوى؟ حين ترغب هي أن أُطارحَها الهوى، إني أحبُّ أن أُطارحَها الهوى حين يكون مطارحتي الهوى آخرَ شيء ترغب فيه، وهي تُطارحني الهوى دائمًا تقريبًا إذا صِحتُ فيها أو هدَّدتُها أو أعطيتُها ما يكفي من المال.

ولا حاجةَ إلى الإشارة إلى أن الإحباطاتِ والتناقضات التي تشهدها علاقاتُ الراوي الجنسية مع سالينا تُصبح أكثرَ فكاهة وسخرية، عن طريقِ تكرارِ عبارة مطارحة الهوى التي كان يمكن الاستعاضة عنها بعبارات أخرى بديلة كثيرة (وإذا كان لديك شكٌّ في هذا، فحاولْ أن تُعيد كتابة القطعة مع استخدام بدائل منمَّقة). وتمثِّل الجملة الأخيرة أيضًا نوعًا مهمًّا آخر للتكرار: ورود كلمة أساسية خاصة بالموضوع خلال الرواية كلها — وهي هنا كلمة «المال» — إن كلمة «المال» وليست عبارة «أطارحها الهوى» هي التي تحتلُّ حيزًا آخر كلمة في الفقرة التي اقتبستها أعلاه، وهو حيِّزٌ مهمٌّ وحاسم، وهكذا، يعمل نوعٌ من التكرار ينتمي للمستوى الكلي الكبير للنص، عملَ التنويع على المستوى الجزئي الصغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤