الفصل الرابع والأربعون

الأفكار

«أرجوك، يجب أن أفعل شيئًا. هل أنظِّف حذاءَك، اسمع سأنحني وأُقبِّل حذاءَك.» ويا إخوتي، فلتصدقوا ذلك أو لتلعقوا مؤخرتي، ركعتُ بالفعل على ركبتي وأخرجتُ «يازيكي الأحمر ميلًا ونصف إلى الأمام كي ألعقَ حذاءَه «الجرازني، الفوني» بَيْد أن كلَّ ما فعله هذا «الفيك» هو أن ركلني ركلةً خفيفة على فمي، وعند ذاك بدا لي أن الغثيان والألم لن يعاوداني إذا أنا اقتصرتُ على القبض على كاحلَيه بذراعي وألقيت بهذا «الجرازني، البراتشني» أرضًا وهذا ما فعلته، مما شكل له دهشة «بولشية» حقيقية، أنه سقط طريحًا وسط ضحكات عالية من الجمهور الفوني»، ولكنني حين طرحتُه أرضًا أحسستُ بذلك الشعور المخيف يزحف عليَّ، لدرجة أنني مددتُ إليه ذراعي لمساعدته على النهوض، ونهض فعلًا وحينما كان يستعدُّ لإعطائي ركلةً محترمة وقاسية على «الليتسو» قال الدكتور برودسكي: حسنًا، يكفي هذا.

وهكذا، انحنى ذلك «الفيك» المخيف نصف انحناءة وابتعد في خطوات راقصة، كأنه ممثل، بينما أُضيئَت الأنوار من فوقي فرمشتُ بعيني وبدأ فمي يتهيأ للعويل، وقال الدكتور برودسكي للجمهور: كما ترَون حضراتكم، يشعر بموضوعنا بدافع إلى فعل الخير لأنه يشعر بدافع إلى فعل الشر؛ ذلك أن النيَّة إلى اللجوء إلى العنف تبدو مواكبةً لمشاعر عميقة من التعب الجسماني، وحتى يخفف من ذلك التعب، يتعين على الموضوع أن ينتقل إلى اتجاه مضاد. هل من أسئلة؟ فدمدم بصوتٍ شَرِهٍ عميق، حدَستُ أنه صوت «شابلين» «السجن» «الاختيار. ليس أمامه أيُّ نوع من الاختيار، أليس كذلك؟ إن المصلحة الشخصية، الخوف من الألم الجسماني، هي التي دفعَته إلى القيام بذلك العمل الشائن من تحقير الذات، إن عدم الصدق في هذا التصرف واضح للعيان؛ إنه لم يَعُد شخصًا يقوم بعمل شرير، بل لم يَعُد أيضًا مخلوقًا قادرًا على الاختيار الأخلاقي».

أنتوني بيرجيس: البرتقالة الميكانيكية (١٩٦٢)

إن مصطلح «رواية الأفكار» يُوحي عادةً بكتاب لا يهتمُّ كثيرًا بالناحية القصصية، تُناقش فيه شخصياتٌ ذات براعة تعبيرية خارقة للمألوف مسائلَ فلسفيةً وتتبادل فيما بينها الأفكار، مع فترات راحة قصيرة للطعام والشراب والغزل، وهو تقليد راسخ يعود إلى محاورات أفلاطون، بَيْد أنه الآن قد عفَّى عليه الزمن؛ ففي القرن التاسع عشر، مثلًا، نُشرت المئات من الروايات، جرى فيها عرضُ أوجه النظر المتصارعة حول الإنجليكانية بأنواعها، والكاثوليكية والمنشقين، والمتشككين، بهذه الطريقة، مع شيء من الميلودراما كي تجعل الروايةَ تُناسب متطلباتِ المكتبات المتنقلة، ومعظم هذه الروايات منسيةٌ تمامًا في أيامنا هذه عن حق؛ ذلك أن الأفكار التي تتضمَّنها لم يَعُد لها أيُّ أهمية، وعرضُها بتلك الصورة قد جرَّد الشخصيات والأحداث من كل حياة.

ويُطلق أحيانًا على هذا النوع من الروايات اسم Roman a These أي الرواية ذات الرسالة؛ وكوننا استعرنا ذلك الاصطلاح من اللغة الفرنسية أمرٌ ذو مغزًى؛ ذلك أن رواية الأفكار، سواء احتوَت على رسالة معينة أو كانت أوسعَ نطاقًا من ذلك من الناحية التأملية والجدلية، كانت دائمًا فيما يبدو تتبدَّى في أفضل حالاتها، في أدب أوروبا القارية عنه في الأدب الإنجليزي، وربما كان ذلك يتصل بما لُوحظ غالبًا من عدم وجود طبقة من الإنتليجنسيا، التي تُحدِّد هويتَها على ذلك النحو، في المجتمع الإنجليزي، وهي حقيقةٌ تُعزَى أحيانًا إلى أن بريطانيا لم تمرَّ بثورة منذ القرن السابع عشر، وأنها بقيَت بعيدةً نسبيًّا عن الاضطرابات التي مرَّت بها أوروبا في تاريخها الحديث. ومهما كان السبب، فإن دستويفسكي وتوماس مان وروبرت موزيل وجان بول سارتر، هم روائيون لا نجدُ لهم مقابلًا حقيقيًّا في الأدب الإنجليزي الحديث، وربما كان د. ﻫ. لورانس هو الأقرب إليهم، خاصة في روايته «نساء عاشقات»، ولكن الأفكار التي تناقشها وتعرضها أعمالُه شخصية للغاية، وتكاد تكون غريبة، واتخذَت وجهةَ نظر بعيدة عن التيارات الرئيسية للفكر الأوروبي الحديث.

وبطبيعة الحال، فإن أيَّ رواية ذات قيمة أكبر من مجرد نظرة عابرة، تتضمن أفكارًا وتُثير أفكارًا، ويمكن مناقشتها على أساس الأفكار، بَيْد أننا نعني بتعبير «رواية أفكار» الروايةَ التي تكون الأفكارُ فيها هي مصدر حيوية العمل، وهي التي تُؤصل وتُشكل وتدفع الزخمَ القصصي، بدلًا مثلًا، من العواطف، أو الاختيار الأخلاقي، أو العلاقات الشخصية، أو تحولات المصائر الإنسانية، ومن هذا المنطلق، كان الروائيون الإنجليز يفضِّلون معالجةَ الأفكار معالجةً مباشرة، إما في القصص الكوميدية والساخرة (بما فيها روايات الحياة الجامعية)، أو في مختلف أشكال الحكايات الخرافية، أو الخيال الطوبائي أو المضاد للطوبائية، وقد أوردتُ سابقًا لمحاتٍ عن أمثلة من النوعين، «رجل التاريخ» لمالكولم برادبري، و«إيرهون» لصمويل بتلر، على سبيل المثال، وتنتمي رواية «البرتقالة الميكانيكية» لأنتوني بيرجيس إلى النوع الثاني.

وقد أورد «أنتوني بيرجيس» في سيرته الذاتية، أنه قد استلهم هذه الروايةَ من السلوك الإجرامي لشباب الأشقياء، الذين تجمَّعوا تحت الاسم القبلي «مودز وروكرز» في بريطانيا قرب الستينيات، والمشكلة الأزلية التي طرحها وجودهم: كيف يمكن لمجتمع متمدين أن يحميَ نفسه دون المساس بمستوياته الأخلاقية الخاصة؟ ويُشير بيرجيس الكاثوليكي: «لقد أحسستُ أن الرواية يجب أن تقوم على أساس ميتافيزيقي أو ديني، الاستئصال الزائف للإرادة الحرة عن طريق التكيُّف العلمي؛ والقضية هي أنه يمكن لهذا أن يكون شرًّا أكبر من الشر الذي يمثِّله الاختيار الحر».

وتُقصُّ الرواية بأسلوبِ الاعتراف العامي على لسان أليسكي، وهو شقيق شاب وغد مُدان بجرائم جنس وعنف فظيعة، وقد وافق كي يحصلَ على إطلاق سراحه من السجن، على الخضوع لعلاج النفور البافلوفي، وفيه يجري إطْلاعُه على أفلامٍ تمتلئ بأنواع الجرائم التي ارتكبها، مصحوبة بإعطائه حبوبًا تُفضي إلى الشعور بالغثيان. وتستبين فعاليةُ العلاج في المشهد الذي تُصوره القطعة المقتبسة من الرواية؛ ففي حضور جمهور من علماء الجريمة، يقوم ممثلٌ مأجور لهذا الغرض، بإغاظة أليكس والإساءة إليه، ولكن حينما يشعر أليكس بدافعٍ للرد عليه يتغلَّب عليه الإحساسُ بالغثيان، وينتهي إلى الوضع السلمي الذي رأيناه عليه، ويتساءل واعظُ السجن عمَّا إذا كان قد فقد آدميَّتَه في هذه العملية.

وكما هو الحال في كثير من روايات الأفكار المماثلة — «لا أنباء من أيِّ مكان» لموريس، «عالم جديد جسور» لهكسلي، «١٩٨٤» لأورويل، مثلًا — يجري أحداث البرتقالة الميكانيكية في المستقبل (ولكن ليس المستقبل البعيد)، وذلك حتى يكون بوسع المؤلف أن يُحدد ملامح قضيته الأخلاقية باقتصاد درامي، ودون أن يتقيَّد بالالتزامات التي تفرضها الواقعيةُ الاجتماعية، وتتمثل «ضربة المعلم» التي قام بها بيرجيس هنا، في التوفيق بين تلك الوسيلة المألوفة بصيغة مبتكرة للغاية مما أسميتُه، عند مناقشتي رواية سالنجر «الحارس في الحقول»، بأسلوب «السرد الشفاهي في سن المراهقة» (انظر الفصل الرابع)، فالمراهقون والمجرمون على السواء، يستخدمون اللهجة العامية كعبارات قبلية مبتذلة جوفاء، وذلك من أجل أن يميِّزوا أنفسهم عن مجتمع الكبار المحترمين. ويتخيَّل بيرجيس بريطانيا في السبعينيات، وقد اتخذ الشباب المنحرف أسلوبًا في الكلام خاضعًا لتأثر اللغة الروسية (وهو خيالٌ لم يكن غريبًا في الأيام التي شهدَت إطلاقَ روسيا قمرَها الصناعيَّ الأول، عنه في أيامنا هذه). وأليكس يحكي قصته لجمهور يفترض أنه «دروجز» (أصدقاء بالروسية)، في تلك الرطانة المعروفة بكلمة «نادسات» (وهي كلمة تُفيد سنَّ المراهقة)، رغم أنه يستخدم الإنجليزية الرصينة في تعامله مع الرسميِّين من المسئولين، وهناك شيءٌ من العامية المقفاة في تلك الرطانة (شارلي= شارلي شابلن= شابلين)، بَيْد أنها مشتقة أساسًا من اللغة الروسية، ومع ذلك، لا يتعين على القارئ أن يكون عارفًا بالروسية، كيما يخمِّن أن كلمة «يازيك» تعني اللسان، و«جرازني» معناها قذر، بينما «فوني» عفن، خاصة إذا كان قد قرأ المائة صفحة السابقة على القطعة المقتبسة من الرواية، وقد أراد بيرجيس لقُرَّائه أن يتعلَّموا تدريجيًّا لغةَ اﻟ «نادسات» وهم يُطالعون الرواية، ويستنبطون معنى الكلمات المستعارة من الروسية من السياق، ومن دلائل أخرى، وبهذا يتعرَّض القارئ ذاته إلى نوع التكييف البافلوفي، وإن كان مدعومًا في هذه الحالة بجائزة «استطاعته متابعة وفهم الرواية» بدلًا من عقاب، وثَمة حافز مضاف، هو أن اللغة المقدَّمة بذلك الأسلوب، تُبقِي الأعمال المفزعة التي تَصِفها، على مبعدة جمالية خاصة، وتحمينا من أن نشعرَ بالتقزُّز، أو الإثارة، أكثر من اللازم. وحين قام المخرج ستانلي كوبريك بتحويل الرواية إلى فيلم، نتج عن ذلك دليلٌ ساخر آخر على قوة التكييف فيها؛ ذلك أن ترجمة كوبريك البارعة لأحداثها العنيفة، إلى الوسائل المرئية للسينما، وهي أكثرُ خداعًا وأسهل منالًا، قد جعلَت من الفيلم حافزًا للقيام بأعمال الانحراف ذاتها، التي يُخضعها للدراسة، مما دعا المخرج إلى سحبِه من دور العرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤