طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم

يقرِّر ابن خلدون في المقدمة الأولى من الباب الأول ثلاثة مبادئ أساسية:
  • (أ)

    ضرورة الاجتماع للبشر، واستحالة معيشتهم منفردين.

  • (ب)

    ضرورة وجود الوازع للبشر، وامتناع بقائهم بلا وازع يدفع عدوان بعضهم عن بعض.

  • (جـ)

    عدم ضرورة وجود الشرع للبشر، وإمكان دفع العدوان بسطوة الملك ولو لم يكن شرع.

يشرح ابن خلدون المبدأ الأول بتفصيل وافٍ في المقدمة المذكورة؛ ولذلك لا يرى لزومًا للتوسع فيه عندما يشير إليه في الفصول الأخرى.

غير أنه يعرض المبدءَين الآخرين في المقدمة المذكورة على وجه الإجمال، فيُضطر إلى شرحهما وتوسيعهما في عدة فصول من الكتاب، ولا سيما المبدأ الثاني، فإنه يعود إليه مرات عديدةً في فصول كثيرة، ويتناوله بالبحث والشرح والتفصيل، في كل مرة من وجوه جديدة.

فلأجل أن نحيط علمًا برأي ابن خلدون في «طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم» حق الإحاطة، يجب أن نبدأ بقراءة المقدمة الأولى التي أشرنا إليها، ونسعى لتحليل مضامنها بإنعام، ثم نُقْدِم على تتبُّع الشروح والتفاصيل الواردة عن كل منها — ولا سيما عن الثاني والثالث منها — في الفصول المختلفة من الكتاب، وعلى وجه الأخص في الفصول التالية:

فصل في أن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية، فصل في حقيقة الملك وأصنافه، فصل في معنى الخلافة والإمامة، فصل في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب.

١

  • (١)

    يبدأ ابن خلدون أبحاثه الاجتماعية في المقدمة الأولى بقوله: «إن الاجتماع الإنساني ضروري» (ص٤٠).

    ويبرهن على هذه الضرورة بأمرين هامين:
    • (أ)

      إن الإنسان مضطر إلى التعاون مع بني جنسه؛ للحصول على الغذاء الذي يحتاج إليه.

    • (ب)

      ومضطر إلى الاستعانة بأبناء جنسه؛ لدفع تعدي الحيوانات عليه.

    وذلك لأن «قدرة الواحد من البشر قاصرة على تحصيل حاجته من الغذاء»، «فلا بد من اجتماع القدر الكثير من أبناء جنسه؛ ليحصل القوت له ولهم»، كما أن «الواحد من البشر لا تقاوِم قدرته الواحد من الحيوانات العجم، سيما المفترسة، فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة». وأمَّا الأسلحة المعدَّة لدفع الحيوانات المفترسة فقدرة الواحد من البشر لا تكفي لصنعها؛ «فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه»، وما لم يكن هذا التعاون لا يستطيع الإنسان أن يحصل على الغذاء، وأن يدافع عن نفسه؛ فيكون فريسةً للحيوانات (ص٤٢).

    يتبيَّن من ذلك كله «أن الاجتماع ضروري للنوع الإنساني» (ص٤٢)، وأنه «يستحيل على البشر أن يعيشوا منفردين» (ص١٥١).

  • (٢)

    بعد سرد هذا المبدأ، «وتقرير» طبيعية الاجتماع وضروريته للإنسان، ينتقل ابن خلدون إلى المبدأ الثاني، ويقرر ضرورة وجود وازع في كل اجتماع، قائلًا:

    «ثم إن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر، فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض؛ لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم» (ص٤٣).

    إن دفع هذا العدوان لا يمكن أن يتمَّ بالأسلحة التي تُسْتَعْمَل لدفع عدوان الحيوانات العجم؛ لأن تلك الأسلحة «موجودة لجميعهم»، فلا بد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض، ومن البديهي أن هذا الوازع لا يمكن أن يكون من غير الإنسان، فمن الضروري أن يكون «واحدًا منهم، يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل إلى غيره بعدوان. وهذا هو معنى الملك» (ص٤٣).

    ابن خلدون يكرِّر هذا المبدأ — مبدأ عدوان البشر بعضهم على بعض — ويؤكِّد هذه الضرورة — ضرورة وجود وازع يدفع هذا العدوان، في عدة مواضع من المقدمة، بعبارات متنوعة وبوضوح أعظم.

    يقول في أحد الفصول: «فمن أخلاق البشر فيهم الظلم والعدوان بعض على بعض، فمن امتدَّت عينه إلى متاع أخيه، امتدَّت يده إلى أخذه إلى أن يصدَّه وازع.» كما قال:

    «والظلم من شيم النفوس، فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم» (ص١٢٨).

    كما يقول في فصل آخر: «إن البشر لا يمكن حياتهم ووجودهم إلا باجتماعهم وتعاونهم على تحصيل قوتهم وضرورياتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة واقتضاء الحاجات، ومد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه؛ لما في الطباع الحيوانية من الظلم والعدوان بعضهم على بعض، ويمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب والأنفة، ومقتضى القوة البشرية في ذلك، فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة، وهي تؤدي إلى الهرج، وسفك الدماء، وإذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع؛ ولذلك استحال بقاؤهم فوضى دون وازع يزع بعضهم عن بعض، واحتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم، وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم» (ص١٨٧).

    ولهذا لا يشك ابن خلدون بأن «الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض» (ص١٣٩).

  • (٣)

    هذا هو الأساس الذي يبني عليه ابن خلدون نظريته في «الاجتماع والملك والدولة».

    لا حاجة للبيان أن ابن خلدون لم يكن مبتكرًا لجميع أقسام هذه النظرية؛ فإن الشطر الأول منها لمما كان يقول به الحكماء من قديم الزمان، كما يشير إلى ذلك هو بنفسه، فإنه عندما يقول «إن الاجتماع الإنساني ضروري»، يعقِّب على ذلك بالعبارات التالية:

    «ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع؛ أي لا بد له من الاجتماع، الذي هو المدنية في اصطلاحهم، وهو معنى العمران» (ص٤١).

    إن هذا الرأي كان قد ساد على أذهان جميع المفكرين — في الشرق والغرب — منذ عهد أرسطو الذي قال: «إن الإنسان حيوان سياسي، ومخلوق مدني اجتماعي»، غير أن الفيلسوف الإنجليزي «هوبز» Hobbes — الذي عاش وكتب في أواسط القرن السابع عشر — اعترض على رأي أرسطو في «اجتماعية الإنسان»، و«طبيعية الاجتماع الإنساني» اعتراضًا شديدًا، وادَّعى بأن الحالة الطبيعية في الإنسان هي «الحرب والعدوان»، وتمسَّك بالنظرية القائلة «إن الإنسان ذئب للإنسان»، وزعم بأن الاجتماع ما هو إلا نتيجة من نتائج هذه الحرب والعدوان.

    يتبيَّن من ذلك أن ابن خلدون اقتبس القسم الأول من نظريته هذه من المفكرين الذين سبقوه، غير أنه لاحظ — في الوقت نفسه — ما سيلاحظه «هوبز» بعده بثلاثة قرون، وبنى القسم الثاني من نظريته على مبدأ «عدوان الإنسان على الإنسان»، و«التنازع الدائم بين بني الإنسان». فنستطيع أن نقول — لذلك — إن نظرية ابن خلدون في هذا الصدد كانت بمثابة خط واصل بين نظرية أرسطو القديمة، وبين نظرية هوبز المقبلة، لقد سبق ابن خلدون المفكر الإنجليزي هوبز في تقدير أفعولة العدوان والتنازع في الحياة الاجتماعية، كما أنه تفوَّق على المشار إليه؛ لعدم اعتباره ذلك منافيًا لاجتماعية الإنسان.

    فقد اعتبر ابن خلدون «الاجتماع» أو «العمران» طبيعيًّا في البشر، مثل «العدوان»، فربط فكرة «الدولة والملك»، و«الوازع والحاكم»، بمبدأ العمران من جهة، وبمبدأ العدوان من جهة أخرى، كما يتجلَّى بكل وضوح من الفقرة التالية التي تلخِّص ما شرحه وفصَّله في فصول مختلفة:

    «الدولة دون العمران لا تُتَصوَّر، والعمران دون الدولة والمُلْك متعذر؛ لما في طبع البشر من العدوان الداعي إلى التنازع» (ص٣٧٦).

    وإذا أردنا أن نعبِّر عن آراء ابن خلدون في هذا الصدد بالتعبيرات المألوفة في زماننا هذا — دون أن نخرج عن نطاق تفكيره، ومن غير أن نغير شيئًا من مميزات رأيه — نستطيع أن نقول:

    إن الطبيعة البشرية تستلزم الحياة الاجتماعية، كما أنها تحمل على التعدِّي، وتؤدي إلى التنازع بين الأفراد. فالحياة الاجتماعية لا يمكن أن تستمر إلا بوجود وازع يمنع التعدي ويرفع التنازع، وهذا هو الذي يولِّد الحكم والملك بوجه عام، والدولة بوجه خاص.

٢

  • (١)

    أمَّا علاقة المجتمع بالشرائع الدينية، فيبدي ابن خلدون رأيه فيها بوضوح؛ أولًا في مقدمة الباب الأول، وثانيًا في فصل الخلافة.

    إنه يعترض بشدة على رجال الدين الذين يزعمون بأن «الحكم الوازع للإنسان يكون بشرع مفروض من عند الله، يأتي به واحد من البشر، يكون متميِّزًا عنهم بما يودِع الله فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقَبول منه، حتى يتمَّ الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزييف» (ص٤٣).

    يفنِّد ابن خلدون هذه المزاعم قائلًا: «إن الوجود والحياة للبشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته.» ويبرهن على ذلك بقوله: «أهل الكتاب المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلًا عن الحياة» (ص٤٣-٤٤).

    يعود ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل الخلافة والإمامة، ويكرِّر رأيه فيها بوضوح أكبر وأسلوب أحسم:

    إن القول «بأن الوازع إنما يكون بشرع من الله يسلِّم له الكافة تسليم إيمان واعتقاد»، لا يستند إلى أساس صحيح؛ «لأن الوازع قد يكون بسطوة الملك، وقهر أهل الشوكة، ولو لم يكن شرع» (ص١٩٢).

  • (٢)

    يتبيَّن من ذلك أن ابن خلدون يميِّز تمييزًا صريحًا الوازع الباطني الذي ينشأ من الاعتقاد الديني، من الوازع الخارجي الذي يستند إلى سطوة الحكام وسلطتهم.

    إنه يكرِّر هذا التمييز في عدة مواضع من المقدمة، حتى إنه يسمِّي كلًّا منهما باسم خاص؛ يسمي النوع الأول باسم «الوازع الديني»، كما يسمِّي النوع الثاني باسم «الوازع السلطاني والعصباني» (ص٢٢١). ويلاحظ في الوقت نفسه أن الوازع الديني وازع ذاتي، وأمَّا الوازع السلطاني فأجنبي؛ بمعنى أن الوازع الديني يكون عند كل أحد من أفراد المجتمع — من نفسه وفي نفسه — في حين أن الوازع السلطاني يكون في خارج الفرد «أجنبيًّا» عنه.

  • (٣)

    وزيادة على هذين النوعين من الوازع، قد لمح ابن خلدون نوعًا ثالثًا؛ هو الوازع الذي ينشأ «من حكم العقل»؛ لأنه كتب في فصل الإمامة والخلافة — بعد الفقرة التي نقلناها آنفًا — عقب قوله: «إن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة، ولو لم يكن شرع»، العبارة التالية:

    «ونقول: يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه، بحكم العقل» (ص١٩٢).

    ومن البديهي أن هذه العبارة تشير إشارةً صريحةً إلى الوازع الذي يمكن أن يسمَّى «الوازع العقلي»، ومما يؤيد ذلك أن ابن خلدون يذكر الأنواع الثلاثة في عبارة واحدة، وإن لم يسمِّها بأسماء خاصة:

    «فادعاؤهم بأن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك، ونصْب الإمام هذا غير صحيح، بل كما يكون بنصب الإمام، يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة، أو بامتناع الناس عن التنازع والتظالم» (ص١٩٢).

    يعود ابن خلدون إلى البحث في «الوازع الديني» في عدة فصول، ويتوسَّع في شرحه بعض التوسُّع، كما أنه يعود إلى البحث في الوازع السلطاني والعصباني في فصول كثيرة، ويتوسَّع في شرحه توسُّعًا كبيرًا، غير أنه لا يعود إلى فكرة «الوازع العقلي»، ولا يتناوله بالبحث والتفصيل بعد هذه اللمحة الواضحة والإشارة الصريحة.

٣

  • (١)

    إن أنواع الوازع السلطاني والعصباني وأشكاله المختلفة من المواضيع التي درسها ابن خلدون، وشرحها بتفصيل وافٍ في فصول عديدة.

    لعل أهم هذه الفصول — من هذه الوجهة — هو الفصل القائل «بأن سكنى البدو لا يكون إلا للقبائل أهل العصبية»؛ لأن ابن خلدون يستعرض في هذا الفصل أنواع العدوان، ويشير إلى أهم القوى الوازعة لها.

    بما أنه يقسِّم أبناء البشر إلى صنفين أساسين؛ البدو والحضر، فإنه يدرس الوسائل الوازعة في كلٍّ من هذين الصنفين على حِدَة.

    إن أهل المدن والأمصار معرَّضون لنوعين من العدوان:
    • (أ)

      العدوان الذي يحدث داخلها.

    • (ب)

      والعدوان الذي يأتي من خارجها.

    «إن عدوان أهل المدن بعضهم على بعض تدفعه الحكام والدولة، وأمَّا العدوان الذي من خارج المدينة فيدفعه سياج الأسوار، وذياد الحامية، وأعوان الدولة» (ص١٢٧).

    وأمَّا أحياء البدو فإنهم أيضًا معرَّضون لنوعين من العدوان؛ داخلي وخارجي.

    وهناك وسيلة خاصة لدفع كل واحد من هذين النوعين من العدوان على حِدَة.

    «أحياء البدو يزع بعضهم عن بعض مشائخهم وكبراؤهم، بما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة.

    وأمَّا حللهم فيذود عنها حامية الحي، من أنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة» (ص١١٨).

  • (٢)

    وعلاوة على ما تقدَّم يتكلَّم ابن خلدون — في فصل آخر — عن العدوان الذي يحدث بين أهل الأمصار وبين أحياء البدو أيضًا.

    إنه يقرِّر في عنوان الفصل «أن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار»، ثم يشرح حاجة البدو إلى الأمصار، وحاجة الأمصار إلى البدو، ويبرهن على اضطرار البدو لإطاعة الأمصار والخضوع لها، ويشرح العوامل التي تحمل هؤلاء على الطاعة والخضوع:

    «إن كان في المصر ملك كان خضوعهم وغلبهم لغلب الملك، وإن لم يكن في المصر ملك، فلا بد فيه من نوع رئاسة، ونوع استبداد من بعض أهله على الباقين. وذلك الرئيس يحملهم على طاعته، والسعي في مصالحه، إمَّا طوعًا ببذل المال لهم، وإمَّا كرهًا إن تمَّت قدرته على ذلك» (ص١٥٣).

  • (٣)
    إن الفقرات التي ذكرناها آنفًا عن الوازع في أحياء البدو وحللهم، تتضمَّن ملاحظةً ثمينةً جدًّا من وجهة النظريات العلمية؛ لأن علماء الاجتماع يقسِّمون «الحكم والسلطة» في الحياة الاجتماعية إلى نوعين أساسيين:
    • (أ)
      السلطة المنتثرة Diffuse: التي لا يختص بها أشخاص معيَّنون، ولا تتعهَّدها هيئات منظمة.
    • (ب)
      السلطة المتعضية Organisé: التي يختص بها أشخاص معيَّنون، وتتعهَّدها هيئات متعضية وفق أنظمة معينة.

    إن ما كتبه ابن خلدون عن الوازع في أحياء البدو وحللهم يدل دلالةً قاطعةً على أنه قد لاحظ «الحكم المنتثر، والسلطة المنتثرة» ملاحظةً صريحة، وميَّزها من «الحكم المتعضي والسلطة المتعضية» تمييزًا تامًّا، وإن لم يسمِّ هذين النوعين بأسماء خاصة.

    فإن سلطة المشائخ والكبراء، تلك السلطة التي لا تستند إلى قوة غير «ما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والتجلة»، تعطينا مثالًا من أوضح الأمثلة على «السلطة المنتثرة» التي تختلف اختلافًا جوهريًّا عن السلطة المتعضية، تلك السلطة المنظمة التي تكون بيد الدولة.

    كما أن مهمة الذياد التي يقوم بها «الأنجاد والفتيان المعروفون بالشجاعة»، تعطينا مثالًا من أوضح الأمثلة على «القوة الحربية المنتثرة» التي تختلف اختلافًا جوهريًّا عن «القوة الحربية المتعضية»، تلك القوة التي تتألَّف من حاميات الدولة.

  • (٤)

    إن ما كتبه ابن خلدون عن الوازع في أحياء البدو مهم جدًّا من وجهة أخرى أيضًا؛ لأنه كان قد أكثر الكلام عن الوازع الذي يستند إلى القهر والغلب، ويعمل بالسطوة والشوكة، غير أن ما يقوله هنا يصحِّح ويتمِّم ما كان قد قاله في هذا الصدد عدة مرات.

    إنه يعلِّمنا — بهذه العبارات — بأن الوازع والحاكم قد يستند إلى «ما وقر في النفوس من التجلة والوقار»، من غير قهر وغلب أيضًا.

    يكرِّر ابن خلدون هذه الملاحظة في عدة مواضع من المقدمة، ويعبِّر عنها بصراحة تامة في بعض الفصول.

    وإذا استعرضنا ما كتبه عن الحكم وأنواعه؛ نجد أنه يميِّز بين الرئاسة والملك تمييزًا دقيقًا:

    «إن الرئاسة إنما هي سؤدد، وصاحبها متبوع، وليس له عليهم قَهْر في أحكامه، وأمَّا المُلْك فهو التغلُّب والحكم بالقهر» (ص١٣٩).

    ومع هذا لا يُغفل ابن خلدون العلاقة الموجودة بين هذين النوعين من الحكم، إذ يصرِّح بأن الرئاسة قد تنتهي إلى الملك:

    «لأن الملك أمر زائد على الرئاسة، والإنسان إذا بلغ إلى رتبة؛ طلب ما فوقها، وإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع، ووجد السبيل إلى التغلُّب والقهر؛ لا يتركه» (ص١٣٩).

    (وأمَّا رأي ابن خلدون في تطوُّر الحكم، فشرحناه بالتفصيل في الدراسة التي خصَّصناها لعرض وتحليل نظرية الدولة في مقدمة ابن خلدون.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤