الدولة وتطوُّراتها

الدولة من المواضيع التي اعتنى ابن خلدون ببحثها اعتناءً كبيرًا، لقد خصَّص ما يقرب من ثلث المقدمة لهذا البحث؛ فإن مباحث الباب الثالث كلها تحوم حول «الدولة العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية وما يَعْرِض في ذلك كله من الأحوال»، ومن المعلوم أن هذا الباب من أطول أبواب المقدمة؛ لأنه يتألَّف من ثلاثة وخمسين فصلًا، تقع في ثمانية وثمانين ومائة صفحة، زِدْ على ذلك أن اثني عشر فصلًا من فصول الباب الثاني أيضًا تمت بصلة قوية إلى أمور الدولة؛ لأنها تبحث في منشأ الحكم وأُسس الملك.

ابن خلدون يعرض ويشرح في هذه الفصول الكثيرة آراءه في كيفية تأسُّس الدولة، وتوسُّعها وتقلصها، وانقسامها، وانقراضها، وتطوُّرها، ويستقصي أحوالها في كل دور من أدوارها وكل طور من أطوارها، ويتحرَّى العوامل التي تؤثر في كل ذلك؛ بتفصيل وافٍ وتعمُّق كبير.

إننا حلَّلنا وعرضنا آراء ابن خلدون في أُسس الدولة في الدراستين اللتين كتبناهما «عن طبيعة الاجتماع ومنشأ الحكم»، وعن «نظرية العصبية»، فنود أن نتمَّ هذا البحث هنا بدرس رأي ابن خلدون في كيفية تطوُّر الدول.

(١) نظرات تمهيدية

  • (١)

    لا يعرِّف ابن خلدون الدولة، بل يتكلَّم عنها كأنه يعتبرها من الأمور المعلومة والمفهومة التي لا تحتاج إلى تعريف، وكثيرًا ما يردفها بكلمة «الملك»، ويقول في مواضع كثيرة جدًّا «الدولة والملك»، ومع هذا يُسْتَدل من بعض العبارات التي يكتبها أنه لا يعتبر هاتين الكلمتين مترادفتين تمام الترادف، بل يستعمل كلمة الملك في بعض المواضع بمعنى أخص من معنى كلمة الدولة، فيقول لذلك عن بعض الأمراء إنهم «ملوك على قومهم، يدينون بطاعة الدولة»:

    «من كان فوقه حكم غيره كان ملكه ملكًا ناقصًا، مثل أمراء النواحي ورؤساء الجهات الذين تجمعهم دولة واحدة. وكثيرًا ما يوجد هذا في الدولة المتسعة النطاق، أعني يوجد ملوك على قومهم في النواحي القاصية يدينون بطاعة الدولة التي جمعتهم، مثل صنهاجة مع العُبيديين، وزنانة مع الأمويين تارة، والعبيديين تارةً أخرى، ومثل ملوك العجم في دولة بني العباس، ومثل ملوك الطوائف من الفُرْس مع الإسكندر وقومه اليونانيين» (ص١٨٨).

    يظهر من ذلك أن الدولة في نظر ابن خلدون هي «الملك التام» الذي لا يكون فوقه حكم آخر، وأنها قد تجمع تحت حكم واحد عدة أقوام، وعدة ملوك على تلك الأقوام؛ ولهذا السبب كثيرًا ما نرى ابن خلدون يضيف إلى كلمة الدولة صفة «العامة»؛ للدلالة على مقصوده هذا بوضوح أتم، فيقول «الدولة العامة» في مواضع كثيرة؛ تمييزًا لها عن «الدولة» على وجه الإطلاق.

    فنستطيع أن نقول: إن مفهوم الملك — في نظر ابن خلدون — ينطبق على مفهوم «الدولة» تمام الانطباق، ويختلف عن مفهوم «الدولة العامة» و«الدولة المتسعة النطاق» بعض الاختلاف.

    وأمَّا مفهوم «الملك» نفسه فيعرِّفه ابن خلدون في فصل الخلافة عندما يرى لزومًا لتمييزه منها:

    «المُلْكُ السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار.»

    «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها» (ص١٩١).

  • (٢)

    يلاحظ ابن خلدون أهمية الدولة بالنسبة إلى المجتمع، ويقرِّر أن الحياة الاجتماعية تستلزم الملك والدولة؛ لأنه يقول:

    «الدولة والملك للعمران (أي للاجتماع) بمثابة الصورة للمادة، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها، وقد تقرَّر في علوم الحكمة أنه لا يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر (أي انفكاك الصورة عن المادة)، فالدولة دون العمران لا تُتَصَوَّر، والعمران دون الدولة والملك متعذر؛ لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع» (ص٣٧٦).

    يشرح ابن خلدون هذا التأثير المتقابل — بين الدولة والعمران — بعض الشرح، ويستعمل خلال هذا الشرح تعبيرين جديدين؛ الدولة الكلية والدولة الشخصية. يقصد ابن خلدون بالدولة الكلية: الدولة في عهد أمة أو أسرة بأجمعها — على اختلاف أفراد الملوك — في حين أنه يقصد بالدولة الشخصية: الدولة في عهد ملك واحد من ملوك القوم، أو من أفراد الأسرة المالكة، إذ يقول:

    «فإذا كان «الملك والعمران» لا ينفكَّان، فاختلال أحدهما مؤثِّر في اختلال الآخر، كما أن عدمه مؤثر في عدمه.»

    «والخلل العظيم إنما يكون في خلل الدولة الكلية، مثل دولة الروم أو الفرس أو العرب على العموم، أو بني أمية أو بني العباس كذلك، وأمَّا الدولة الشخصية — مثل دولة أنوشروان أو هرقل أو عبد الملك بن مروان أو الرشيد — فأشخاصها متعاقبة على العمران، حافظة لوجود بقائه، وقريبة الشبه بعضها من بعض. فلا يؤثر اختلالها في العمران تأثيرًا كبيرًا؛ لأن الدولة بالحقيقة الفاعلة في مادة العمران، إنما هي العصبية والشوكة، وهي مستمرة على أشخاص الدولة، فإذا ذهبت تلك العصبية ودفعتها عصبية أخرى مؤثرة في العمران؛ ذهب أهل الشوكة بأجمعهم، وعَظُمَ الخلل» (ص٣٧١).

    غير أن ابن خلدون لا يعود إلى استعمال هذين التعبيرين في موضع آخر غير الموضع الذي ذكرناه.

  • (٣)

    إن الدولة — في نظر ابن خلدون — لا تبقى طول حياتها على حالة واحدة، بل إنها تتطوَّر تطوُّرًا مستمرًّا من نشأتها إلى انقراضها — من تمهيد أمرها إلى اختلال أحوالها وزوال كيانها — إن هذا التطوُّر يشمل نواحي عديدة، ويحدث في اتجاه معين وفق نظام ثابت؛ فإن كل دولة تنتقل من حالة إلى حالة ومن طور إلى طور، وهذه الحالات وهذه الأطوار تتوالى على وتيرة واحدة، تشمل جميع الدول في جميع الأقطار وجميع الأدوار بلا استثناء.

    يتبع ابن خلدون التطوُّرات التي تطرأ على الدول من ناحيتين أساسيتين:
    • (أ)

      التطوُّرات التي تحدث في الدولة من ناحية الأحوال العامة والأخلاق.

    • (ب)

      التطوُّرات التي تحدث في الدولة من ناحية العظم واتساع النطاق.

    يقرِّر ابن خلدون — من الناحية الأولى — أن كل دولة تنتقل في أطوار مختلفة، لا تعدو في الغالب الخمسة؛ الأول: طور الظفر بالبغية، الثاني: طور الانفراد بالمجد، الثالث: طور الفراغ والدعة، الرابع: طور القنوع والمسالمة، والخامس: طور الإسراف والتبذير.

    ويقرِّر — من الناحية الثانية — أن كل دولة يتسع نطاقها أولًا إلى نهايته، ثم يأخذ هذا النطاق في التقلُّص والتضايق طورًا بعد طور، إلى فناء الدولة واضمحلالها.

  • (٤)

    إن نظرية ابن خلدون في أطوار الدول وفي اتساع نطاقها، تستند — في حقيقة الأمر — إلى نظرية أخرى هي نظرية عمر الدولة، غير أن هذه النظرية أيضًا تستند إلى نظرية أخرى أعم منها هي «نظرية الحسب».

    ولذلك يجدر بنا أن ندرس هاتين النظريتين قبل أن نُمْعِنَ النظر في نظرية تطوُّر الدول نفسها.

(٢) عمر الدولة

  • (١)

    يقرِّر ابن خلدون في أحد فصول الباب الثاني «أن نهاية الحسب في العقب الواحد أربعة آباء» (ص١٣٦)، ويشرح هذه القضية ويعلِّلها كما يأتي:

    «الحسب من العوارض التي تَعْرِض للآدميين، فهو كائن فاسد لا محالة» (ص١٣٦). وبتعبير آخر: هو حادث وزائل حتمًا، إنه يكون ثم يفسد، يحدث ثم يزول.

    «فإن كل رئاسة وشرف وحسب تسبقه — حتمًا — حالة من الضَّعَة والابتذال وعدم الحسب» (ص١٣٧). كما أنه ينتهي في آخر الأمر إلى الضَّعَة والابتذال وعدم الحسب، وهذا الحسب يستمر عادةً من أربعة أجيال، وينتهي في أربعة آباء.

    وذلك لأن «باني المجد عالم بما عاناه في بنائه، ومحافظ على الخِلَال التي هي أسباب كونه وبقائه.

    وابنه من بعده مباشر لأبيه، فقد سمع منه ذلك وأخذه عنه، إلا أنه مقصِّر في ذلك تقصير السامع بالشيء عن المُعاين له.

    ثم إن جاء الثالث كان حظه الاقتفاء والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني تقصير المقلِّد عن المباشر.

    ثم إن جاء الرابع قصر عن طريقتهم جملة، وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهَّم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلُّف، وإنما هو أمر وجب لهم منذ أول النشأة بمجرد انتسابهم، وليس بعصابة ولا بخلال.» إنه يتوهم ذلك «لما يرى من التجلَّة بين الناس»، من غير أن يعلم «كيف كان حدوثها ولا سببها»، ويذهب إلى أن سبب ذلك هو «النسب فقط، فيربأ بنفسه عن أهل عصبيته، ويرى الفضل له عليهم؛ وثوقًا بما رُبِّي فيه من استتباعهم، وجهلًا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال»، ولا يدرك أن من تلك الخلال «التواضع لهم، والأخذ بمجامع قلوبهم»؛ فيحتقرهم لذلك. ومن الطبيعي أن هذا السلوك الذي يسلكه نحوهم يضطرهم إلى تغيير سلوكهم نحوه، إنهم «ينغِّصون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب»؛ وذلك إذعانًا لعصبيتهم «بعد الوثوق بما يرضونه من خلاله»؛ ولهذا السبب «تنمو فروع هذا وتذوي فروع الأول، وينهدم بناء بيته» (ص١٣٧).

    إن هذا القانون يشمل — على رأي ابن خلدون — جميع أنواع الحسب؛ فيصح في الملوك كما يصح في بيوت القبائل والأمراء وأهل العصبية أجمع، كما أنه يشمل بيوت أهل الأمصار أيضًا.

    ومع هذا يصرِّح ابن خلدون أن «اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب، وإلا فقد يندثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى وينهدم، وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس»، إلا أن ذلك يكون في حالة «انحطاط وذهاب».

    إن هذه الأجيال الأربعة بمثابة الباني، والمباشر، والمقلد، والهادم (ص١٣٧).

  • (٢)

    بما أن ابن خلدون كان يقول بصحة نظرية الحسب هذه بالنسبة إلى جميع أنواع البيوت — بما فيها البيوت المالكة — وبما أنه كان يعتقد في الوقت نفسه أن الدول تقوم — بوجه عام — على عواتق البيوت المالكة؛ كان من الطبيعي أن يطبِّق أُسس هذه النظرية على حياة الدول أيضًا.

    فإنه يقرِّر في فصل من فصول الباب الثالث «أن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص» (ص١٧٠-١٧١)، ويذهب إلى «أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال»، ويشرح رأيه هذا، ويعلِّله كما يلي:

    «لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة وخشونتها ووحشتها، من شظف العيش والبسالة والافتراس والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك سَوْرَة العصبية محفوظةً فيهم، فحدُّهم مُرْهَف وجانبهم مرهوب والناس لهم مغلوبون.»

    وأمَّا الجيل الثاني فقد «تحوَّل حالهم بالملك والترفُّه من البداوة إلى الحضارة، ومن الشظف إلى الترف والخصب، ومن الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد وكسل الباقين عن السعي فيه، ومن عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة، فتنكسر سَوْرة العصبية بعض الشيء، وتؤنَس منهم المهانة والخضوع»، ومع هذا «يبقى لهم الكثير من ذلك، بما أدركوا من الجيل الأول وباشروا أحوالهم وشاهدوا اعتزازهم وسعيهم إلى المجد، ومراميهم في المدافعة والحماية؛ فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية وإن ذهب منه ما ذهب» (ص١٧٠-١٧١).

    زد على ذلك أنهم «يكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول، أو على ظن من وجودها فيهم» (ص١٧١).

    «أمَّا الجيل الثالث، فينسون عهد البداوة والخشونة كأن لم تكن، ويفقدون حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من مَلَكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته بما يتبنَّقوه من النعيم وغضارة العيش، فيصيرون عالةً على الدولة، ويفقدون «العصبية بالجملة، وينسون الحماية والمدافعة والمطالبة». في الواقع إنهم يحاولون التظاهر بمظهر القوة؛ «يُلبسون على الناس في الشارة والزي وركوب الخيل، وحسن الثقافة، يموهون بها، وهم في الأكثر أجبن من النساء على ظهورها.»

    «فإذا جاء المطالب لهم» — أي إذا قام قائم عليهم — «لم يقاوموا مدافعته»، فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة، ويستكثر بالموالي، ويصطنع من يُغْنِي عن «أهل» الدولة بعض الغناء، حتى يتأذن الله بانقراضها؛ فتذهب الدولة بما حملت.

    «هذه ثلاثة أجيال، فيها يكون هرم الدولة وتخلُّقها؛ ولهذا كان انقراض الحسب في الجيل الرابع، كما مر من أن المجد والحسب إنما هو أربعة آباء.»

    إن عمر هذه الأجيال الثلاثة يبلغ مائةً وعشرين سنةً على وجه التقريب، «ولا تعدو الدول في الغالب هذا العمر، إلا إن عَرَضَ لها عارض آخر من فقدان المطالب»، وفي هذه الحالة يكون الهرم حاصلًا ومستوليًا، والطالب لم يحضرها، ولو قد جاء الطالب لما وجد مدافعًا، ولانقرضت الدولة وزالت من عالم الوجود.

    إن «هذا العمر للدولة بمثابة عمر الشخص، من التزيُّد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع؛ ولهذا يجري على ألسنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة» (ص١٧١).

  • (٣)

    لا مجال للإنكار أن الآراء التي يسردها ابن خلدون في هذا الصدد — والنظرية التي يضعها على هذا المنوال — طريفة وممتعة جدًّا، زِدْ على ذلك أنها تنطوي على نظرة فلسفية أيضًا؛ لأنها تقرِّر أن الدولة كائن حي، يتطوَّر على الدوام وفق نظام ثابت، كما تتطوَّر جميع الكائنات الحية.

    غير أن هذه النظرية — على الرغم من طرافتها — لا تنطبق على الحقائق الواقعة كثيرًا؛ لأنها تحصر الحسب عادةً في أربعة آباء، وتقول بانقراض الدولة في الجيل الرابع، وتقرِّر أن عمر الدولة يكون في الغالب مائة وعشرين سنة. ومن الواضح أن كل ذلك مما لا ينطبق إلا على بعض الدويلات البدوية وملوك الطوائف الصغيرة، وأمَّا الدول الكبيرة، فتواريخها لا تؤيد أبدًا النتائج التي يتوصَّل إليها ابن خلدون في نظريته هذه.

    غير أننا نلاحظ أن ابن خلدون نفسه كتب في عدة فصول من المقدمة ما يناقض هذه النظرية، أو ما يصحِّحها ويكمِّلها:
    • (أ)

      يقول ابن خلدون في الفصل الذي يقرِّر أنه «إذا تحكَّمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدَّعة؛ أقبلت الدولة على الهرم» (ص١٦٨–١٧٠):

      «ربما يحدث في الدولة إذا طرقها الهرم بالترف والراحة، أن يتخيَّر صاحب الدولة أنصارًا وشيعةً من غير جلدتهم، ممن تعوَّد الخشونة، فيتخذهم جندًا يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواءً للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها» (ص١٦٩).

      ثم يستشهد على ذلك ببعض الأمثلة التاريخية، وبعد ذلك يختتم الفصل المذكور بقوله: «فتَسْتَجِدُّ الدولة بذلك عمرًا آخر سالمًا من الهرم» (ص١٧٠).

      إن العبارة الأخيرة يجب أن تستوقف الأنظار؛ إذ من الواضح أن «العمر الآخر» إذا انضمَّ إلى العمر الأول يؤدي إلى إطالة عمر الدولة فيجعله أطول من المدة المقررة في النظرية الأصلية.

      نحن نلمح في هذه العبارة رأيًا لابن خلدون مكمِّلًا ومصحِّحًا لرأيه المسرود في النظرية الآنفة الذكر.

    • (ب)

      يشير ابن خلدون في أحد الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية — وهو الفصل المتعلق باتساع نطاق الدولة — إلى إمكان تجديد الدولة:

      «يضيق نطاق الدولة عمَّا كانت انتهت إليه في أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه، فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة.»

      «إن كل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولةً أخرى ومجددون» (طبعة كاترمير، ج٢، ص١٥٥).

      ومن الواضح أن «تجديد الملك» الذي يكون بمثابة «إنشاء دولة أخرى» يتضمَّن إكساب الدولة عمرًا جديدًا.

    • (جـ)

      يقول ابن خلدون في فصل طروق الخلل للدولة — حينما يتكلَّم عن انقسام الدولة:

      «تضعف الدولة المنقسمة كلها، وربما طال أمدها بعد ذلك، فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل أيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة» (ص٢٩٦).

      يلاحظ أن ابن خلدون يقرِّر هنا إمكان طول أمد الدولة عند استغنائها عن العصبية، ويشير إلى السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوَّليتها. من البديهي أن هذه العبارات لا يمكن أن تنصرف إلى المدة المقررة في فصل عمر الدولة.

    • (د)

      يعطينا ابن خلدون دستورًا صريحًا لتعيين «أمد الدولة» في الفصل الذي يقرِّر أن «عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة» (ص١٦٣-١٦٤)، وهذا الدستور لا يتفق مع المائة والعشرين سنةً المذكورة في فصل عمر الدولة.

      يوضِّح ابن خلدون رأيه في هذا الصدد كما يلي:

      «أمَّا طول أمدها أيضًا فعلى تلك النسبة (أي على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة)؛ لأن عمر الحادث من قوة مزاجه، ومزاج الدول إنما هو بالعصبية، فإذا كانت العصبية قوية؛ كان المزاج تابعًا لها، وكان أمد العمر طويلًا. والعصبية إنما هي بكثرة العدد ووفوره كما قلناه» (ص١٦٣).

      ثم يزيد ذلك إيضاحًا وتعليلًا بقوله:

      «والسبب الصحيح في ذلك أن النقص إنما يبدو في الدولة من الأطراف، فإذا كانت ممالكها كثيرة؛ كانت أطرافها بعيدةً عن مركزها وكثيرة، وكل نقص يقع لا بد له من زمن. فتكثر أزمان النقص لكثرة الممالك واختصاص كل واحد منها بنقص وزمان، فيكون أمدها طويلًا. وانظر ذلك في دولة العرب الإسلامية كيف كان أمدها أطول، لا بنو العباس أهل المركز، ولا بنو أمية المستبدون في الأندلس، لم ينقص أمر جميعهم إلا بعد الأربعمائة من الهجرة، ودولة العُبيدين كان أمدها قريبًا من مائتين وثمانين سنة، ودولة الموحدين لهذا العهد تناهز مائتين وسبعين» (ص١٦٤).

      وفي الأخير يكرِّر ابن خلدون القاعدة التي وضعها في هذا الصدد بصراحة تامة:

      «وهكذا نسب الدولة في أعمارها على نسبة القائمين بها، سنة الله قد خَلَتْ في عباده» (ص١٦٤).

      يلاحَظ أن ابن خلدون يتباعد هنا عن مبدأ الأجيال الثلاثة أو الأربعة، وعن مدة المائة والعشرين سنةً تباعُدًا كبيرًا.

  • (٤)

    إن الباحثين الذين درسوا نظريات ابن خلدون تكلَّموا كثيرًا عمَّا دوَّنه في فصل عمر الدولة، ولكنهم قلَّما لاحظوا ما جاء حول هذا الموضوع في الفصول الأخرى.

    إن الفرق بين أحكام الفصل المذكور وبين مقتضيات تلك الفصول كبير جدًّا، فيجدر بنا أن نتساءل: هل يجب علينا أن نعتبر الآراء الأخيرة مناقِضَةً للأولى؟ أم يجب علينا أن نعتبرها متمِّمةً ومكمِّلةً لها؟ إننا نميل إلى ترجيح الشق الثاني؛ فإن النظرية التي وضعها ابن خلدون عن عمر الدولة، إنما تستند إلى ملاحظاته حول تطوُّر أحوال العصبية بتوالي الأجيال. وبما أن ابن خلدون يقرِّر مبدئيًّا «أن الدولة قد تستغني عن العصبية، فإن الدولة التي تصل إلى طور الاستغناء عن العصبية يجب أن تخرج عن مصداق نظرية العمر التي ذكرناها.

    فيحق لنا أن نقول: إن النظرية الأولى — أي نظرية العمر — تتعلَّق بالدول العادية، وأمَّا النظرية الأخيرة — أي نظرية الأمد — فتحوم حول أحوال «الدول العامة»، و«الدول المتسعة النطاق»، كما يحق لنا أن نقول لذلك: إن ابن خلدون نفسه قد صحَّح وكمَّل نظريته الأولى بنظريته الأخيرة.

    ولكن هل كتب ابن خلدون هذه الفصول المختلفة منذ البداية، ووضع هاتين النظريتين في وقت واحد؟ أم أنه توصَّل إلى الأخيرة بعد مرور مدة على توصُّله إلى الأولى؟ إننا لا نجد مجالًا للإجابة على هذا السؤال ما لم ندرس نسخ المقدمة ونقارنها — على طريقة النقد الخارجي — وفقًا للخطة التي كنا رسمناها في الدراسة التي كتبناها عن تاريخ كتابة المقدمة.

(٣) أطوار الدولة

يَعْرِض ابن خلدون نظريته في تطوُّر الدول من وجهة الأحوال العامة والأخلاق — بصورة مجملة — في فصل خاص من فصول الباب الثالث؛ هو فصل «أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار» (ص١٧٥)، ولكنه يتكلَّم — قبل هذا الفصل الإجمالي العام — عن كل طور من تلك الأطوار، وكل حالة من تلك الأحوال، في فصل خاص، أو في عدة فصول.

مثلًا إن الفصل الذي يقرِّر «أن من طبيعة الملك الانفراد بالمجد» (ص١٦١)، إنما يشرح — في حقيقة الأمر — طورًا من أطوار الدولة، هو الطور الذي يُنْعَتُ في الفصل الإجمالي المذكور باسم «الطور الثاني». وأمَّا الفصول الثلاثة التي تلي ذلك، والتي تقرِّر «أن من طبيعة الملك الترف» (ص١٦٧)، وأن «من طبيعة الملك الدعة والسكون» (ص١٦٧)، و«أنه إذا تحكَّمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة؛ أقبلت الدولة على الهرم» (ص١٦٧)؛ «فهي تشرح وتعلِّل الأحوال التي ترافق الطور المذكور. فهذه الفصول الأربعة يجب أن تُقْرَأَ ككل، ويجب ألا يغرب عن البال أن فصل الأطوار يستند — في حقيقة الأمر — إلى أبحاث هذه الفصول الأربعة، ويلخِّصها نوعًا ما.

وأمَّا الفصول التي تقرِّر «أن الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك» (ص١٣٩)، و«أن الملك والدولة العامة إنما يحصلان بالقبيل والعصبية» (ص١٥٤)، و«أن من عوائق الملك حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم» (ص١٤٠)، و«أن من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة» (ص١٤٢)؛ فكلها تشرح الطور الأول من الأطوار المذكورة، وهو الطور الذي يسميه ابن خلدون باسم «طور الظفر بالبغية».

وأمَّا مباحث الفصول التي تقرِّر «أن الدولة لها أعمار كما للأشخاص» (ص١٧٠)، و«أن الترف يزيد الدولة في أولها قوةً على قوتها» (ص١٧٤)، والتي تشرح كيفية «انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة» (ص١٧٢)، و«استظهار صاحب الدولة على قومه وأهل عصبيته بالموالي والمصطنعين» (ص١٨٣)؛ كلها تمُتُّ بصلة قوية لهذا الموضوع، وتتمِّم نظرية ابن خلدون في أطوار الدولة.

ثم إن مباحث الفصل الذي يقرِّر «أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع» (ص٢٩٣)، والذي يشرح «كيفية طروق الخلل للدولة» (ص٢٩٤)، توضِّح آراء ابن خلدون في هذا الصدد تمام الإيضاح. كما أن مباحث الفصل الذي يقرِّر «أن الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة» (ص٢٩٧)، أيضًا تمتُّ إلى موضوع أطوار الدولة بصلات قوية.

•••

يقرِّر ابن خلدون في فصل «أطوار الدولة واختلاف أحوالها وخلق أهلها باختلاف الأطوار» (ص١٧٥–١٧٧):

«إن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجددة، ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقًا من أحوال ذلك الطور، لا يكون مثله في الطور الآخر.»

ويقول: «إن حالات الدولة وأطوارها لا تعدو في الغالب خمسة أطوار.»

ثم يشرح الأحوال التي يمتاز بها كل طور من هذه الأطوار، والأخلاق التي تنشأ عن طور منها.

  • (١)

    الطور الأول: هو طور الظفر بالبغية؛ في هذا الطور يتم تأسيس الدولة بانتزاع المُلْك من أيدي الدولة السابقة، وبالتغلُّب على المدافعين عنها (ص١٧٥)، ومن المعلوم أن ذلك لا يتيسَّر إلا بقوة العصبية، وصاحب الدولة الجديدة «إنما ينال الملك بمعاضدة قومه وعصابته وظهرائه على شأنه»؛ ولذلك يُضطر إلى محاسنتهم، ويعتد عليهم، «وبهم يقارع الخوارج على دولته، ومنهم يقلِّد عمال مملكته ووزراء دولته وجباة أمواله؛ لأنهم أعوانه على الغلب، وشركاؤه في الأمر، ومساهموه في سائر مهماته» (ص١٨٣). فيكون الملك في هذا الطور «أسوة قومه في اكتساب المجد وجباية المال والمدافعة عن الحوزة والحماية، لا ينفرد دونهم بشيء؛ لأن ذلك هو مقتضى العصبية التي وقع بها الغلب، وهي لم تَزَلْ بعدُ على حالتها الأصلية» (ص١٧٥).

    وخلاصة القول: يكون الحكم — في هذا الطور — مشتركًا نوعًا ما بين الملك وبين قومه وعشيرته.

  • (٢)

    غير أن هذا الطور لا بد أن يتبعه — بعد مدة — طور ثانٍ، هو طور «الانفراد بالمجد».

    فإن صاحب الدولة بعد أن ينال الملك بمعاضدة قومه، ينزع إلى الاستبداد عليهم، ويسعى إلى الانفراد بالمجد دونهم:

    «يأنف صاحب الدولة من المساهمة والمشاركة في استتباع أهل العصبية، وينفرد بالحكم ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، حتى لا يترك لأحد منهم من الأمر لا ناقة ولا جملًا، فينفرد بذلك المجد بكليته، ويدفعهم من مساهمته» (ص١٦٧). ويوصل الأمر إلى درجة قتل «وإهلاك من استراب به من قرابته المرشحين لمنصبه» (ص٢٩٢).

    من الطبيعي أن ذلك لا يتم بسهولة، ولا من غير منازعة؛ لأن ظهراء صاحب الدولة الذين ساهموا في تأسيس الملك هم أيضًا ينزعون إلى الاحتفاظ بمكانتهم، إنهم يسعون إلى الاستمرار في مشاركته في المجد، ومساهمته في ثمرات الملك، فيحدث بينهم وبينه ما يشبه العداء. إنهم كانوا ظهراءه وكانوا «يستطيبون الموت في بناء مجدهم، ويؤْثرون الهلكة على فساده» (ص١٦٨)، ولكن «إذا انفرد الواحد منهم بالمجد وقرع عصبتهم وكبح من أعنَّتهم، واستأثر بالأموال دونهم؛ انقطعوا عن مساعدته»، هذا إذا لم يخرجوا عليه.

    وصاحب الدولة لا يستطيع أن يتغلَّب على هذه المشاكل، ويستظهر على هؤلاء الممانعين إلا بالموالي والمصطنعين، فيحتاج إلى أولياء آخرين «من غير جلدتهم» (ص١٨٣). «فيعنى بوجه خاص باصطناع الرجال، واتخاذ الموالي، والاستكثار من ذلك لجدع أنوف أهل عصبيته وعشيرته، وصدهم عن موارده، وردهم على أعقابهم، وكبحهم عن التطاول للمساهمة والمشاركة» (ص١٧٥)، ويعاني من مدافعتهم ومغالبتهم «ما عاناه الأولون في طلب الأمر» وتأسيس الملك، بل أشد من ذلك؛ «وذلك لأن الأولين دافعوا الأجانب فكان ظهراؤهم على مدافعتهم أهل العصبية بأجمعهم»، في حين أن هذا «يدافع الأقارب، ولا يظاهره على مدافعتهم إلا الأقل من الأباعد، فيركب صعبًا من الأمور» (ص١٧٦).

    كان في الطور الأول أهل العصبية بأجمعهم ظهراء لصاحب الدولة، وأمَّا في الطور الجديد فتنقلب الأمور رأسًا على عقب؛ فإن أقارب صاحب الدولة ينقبلون عليه، ويعارضون أعماله، ولا يظاهره إلا الأقل من الأباعد.

    «صار أعوانه السابقون في حقيقة الأمر من بعض أعدائه، واحتاج في مدافعتهم عن الأمر وصدهم عن المشاركة إلى أولياء آخرين من غير جلدتهم، يستظهر بهم عليهم، ويتولَّاهم دونهم؛ فيكونون أقرب إليه من سائرهم، وأخص به قربًا واصطناعًا، وأَوْلَى إيثارًا وجاهًا؛ لما أنهم يستميتون دونه في مدافعة قومه عن الأمر الذي كان لهم، والرتبة التي أَلِفُوها في مشاركتهم، فيستخلصهم صاحب الدولة، ويخصهم بمزيد التكرمة والإيثار، ويقسم لهم مثل ما للكثير من قومه، ويقلِّدهم جليل الأعمال والولايات من الوزارة والقيادة والجباية» (ص١٨٣).

    إن أهل الدولة يحقدون عليه من جراء كل ذلك؛ «فيضطغنون عليه، ويتربَّصون به الدوائر» (ص١٨٣).

    إن هذا التنازع الذي يحدث بين صاحب الدولة وبين ظهرائه الأولين يستمر مدةً من الزمن، إلى أن ينتصر صاحب الدولة عليهم، وينفرد بالمجد دونهم.

    إن ذلك «قد يتم للأول من ملوك الدولة، وقد لا يتم إلا للثاني والثالث»، وذلك «على قدر ممانعة العصبيات وقوتها، إلا أنه أمر لا بد منه في الدول» (ص١٦٧).

  • (٣)

    وإذا تمَّ تغلُّب صاحب الدولة على ظهرائه الأولين، وانفرد بالمجد بلا مانع؛ دخلت الدولة في الطور الثالث، وهو «طور الفراغ والدعة»:

    «طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك مما تنزع طباع البشر إليه من تحصيل المال وتخليد الآثار وبُعْد الصيت، فيستفرغ» صاحب الدولة «وُسْعه في الجباية وضبط الدخل والخرج، وإحصاء النفقات والقصد فيها، وتشييد المباني الحافلة والمصانع العظيمة والأمصار المتسعة والهياكل المرتفعة، وإجازة الوفود من أشراف الأمم ووجوه القبائل، وبث المعروف في أهله، هذا مع التوسعة على صنائعه وحاشيته في أحوالهم بالمال والجاه، واغتراض جنوده وإدرار أرزاقهم وإنصافهم في أعطياتهم لكل هلال، حتى يظهر أثر ذلك عليهم في ملابسهم وشكبهم وشاراتهم يوم الزينة، فيباهي بهم الدول المسالمة، ويُرْهِب الدول المحارِبة» (ص١٧٦).

    يكون أهل الدولة — في هذا الطور — قد تخلَّصوا من «المتاعب التي كانوا يتكلَّفونها في طلب الملك، وآثروا الراحة والسكون والدعة، ورجعوا إلى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس، فيبنون القصور، ويُجْرُون المياه، ويغرسون الرياض، ويستمتعون بأحوال الدنيا، ويؤْثرون الراحة على المتاعب، ويتأنَّقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا، ويألفون ذلك ويورثونه «من يأتي» من بعدهم من أجيالهم» (ص١٦٧).

    إن هذا الطور هو آخر أطوار الاستبداد من أصحاب الدولة؛ لأنهم في هذه الأطوار كلها مستقلون بآرائهم، بانون لعزهم، موضحون الطرق لمن «يأتي» بعدهم» (ص١٧٦).

  • (٤)

    عندئذٍ يبدأ الطور الرابع، وهو طور «القنوع والمسالمة»:

    «يكون صاحب الدولة في هذا الطور قانعًا بما بنى أولوه، سلما لأنظاره من الملوك وأقتاله، مقلِّدًا للماضين من سلفه، فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أن في الخروج عن تقليدهم فساد أمره»، ويعتقد «أنهم أبصر بما بنوا من مجده» (ص١٧٦).

    فيترك التعب والكد في توسيع الصيت والمجد، وينصرف إلى التنعُّم من نعم الحالة التي ورثها من أجداده.

  • (٥)

    ولكن هذا الطور إذا بدأ لا بد أن يؤدي بعد مدة إلى طور آخر، هو طور التبذير والإسراف:

    «يكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفًا لما جمع أوَّلوه في سبيل الشهوات والملاذ والكرم على بطانته وفي مجالسه»، إنه يقرِّب من يخدم شهواته، ويغدق عليه العطاء، ويقلِّده عظائم الأمور، ويبعد صنائع سلفه «حتى يضطغنوا عليه، ويتخاذلوا عن نصرته». إن ما ينفقه على شهواته وملاذه يضطره إلى تقليل أعطيات جنده، وكل ذلك يؤدي إلى قلة عدد الجنود من جهة، وفساد حالتهم من جهة أخرى.

    وخلاصة القول: إن صاحب الدولة في هذا الطور يكون «مخرِّبًا لما كان سلفه يؤسِّسون، وهادمًا لما كانوا يبنون.»

    ولهذا السبب تحصل في الدولة في هذا الطور «طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد تخلص منه، ولا يكون لها معه برء إلى أن تنقرض» (ص١٧٦).

  • (٦)

    من المعلوم أن ابن خلدون شبَّه عمر الدول بعمر الأشخاص، فقال: إن الدول — كالأشخاص — تنتقل في حياتها من سن التزيُّد إلى سن الوقوف، ثم إلى سن الرجوع.

    وإذا نظرنا إلى الأطوار الخمسة الآنفة الذكر من هذه الوجهة؛ وجدنا أن دور التزيُّد في الدولة ينحصر في الطورين الأوليين، وأمَّا الطور الثالث فيوافق سن الوقوف، والطوران الأخيران يشبهان سن الرجوع.

    ومع ذلك فإن عوامل الخلل تبدأ في الظهور والتأثير منذ الطور الثاني.

    يدرس ابن خلدون هذه العوامل على حِدَة في فصل من فصول الباب الثالث؛ هو فصل «كيفية طروق الخلل للدولة» (ص٢٩٤–٢٩٧).

    يبدأ الفصل المذكور بتقرير المبدأ التالي:

    «إن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما؛ فالأول: الشوكة والعصبية، وهو المعبَّر عنه بالجند، والثاني: المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال.»

    «والخلل إذا طَرَقَ للدولة طَرَقَهَا من هذين الأساسين.»

    وبعد تقرير هذا المبدأ يأخذ ابن خلدون في شرح كيفية طروق الخلل للدولة، من كل واحد من هذين الأساسين، ويذكرنا أولًا بالدور الهام الذي تلعبه العصبية في تمهيد الدولة وتأسيسها:

    «إن تمهيد الدولة وتأسيسها — كما قلنا — إنما يكون بالعصبية، وإنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها، وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة.»

    إن هذه العصبية الأساسية تتعرَّض للخلل والانتقاص بعد تأسُّس الدولة في الطور الثاني من الأطوار الخمسة التي ذكرناها آنفًا، وذلك لسببين مهمين؛ أولًا: لاستبداد صاحب الدولة عليهم، وثانيًا: لتأثير الترف في نفوسهم.

    لأن صاحب الملك عندما ينزع إلى الانفراد بالمجد، ويعمل في سبيل ذلك الانفراد، يبدأ من «جدع أنوف عشيرته وذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك، فيستبد في جدع أنوفهم أكثر من سواهم،١ «ويأخذهم الترف أيضًا أكثر من سواهم»؛ لمكانهم من الملك والعز والغلب»، وهذا الترف يُفْقِدهم العصبية والمنعة؛ ولذلك «يحيط بهم هادمان، وهما؛ الترف والقهر»، والقهر يؤدي — آخر الأمر — إلى القتل؛ «لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر، فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه؛ فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعوَّدوا الكثير منه؛ فيهلكون لذلك ويقلُّون» (ص٢٩٥).

    وبهذه الصورة «تفسد عصبية صاحب الدولة منهم، وهي العصبية الكبرى التي كانت تُجمع بها العصائب وتستتبعها؛ فتنحل عروتها، وتضعف شكيمتها»؛ فيُضطر صاحب الدولة إلى الاستعاضة عنها «بالبطانة من موالي النعمة وصنائع الإحسان»، ويتخذ منهم عصبية، إلا أن هذه العصبية المستحدثة لا تكون في مثل «تلك الشدة الشكيمية»؛ لفقدان الرحم والقرابة منها» (١٩٥)، فتكون أضعف من العصبية الأولى الأصلية بطبيعة الحال.

    ولذلك «ينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية، ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسرًا طبيعيًّا؛ فيُهلكهم صاحب الدولة، ويتتبعهم بالقتل واحدًا بعد واحد» (ص٢٩٥).

    «ويقلِّد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول، مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدَّمنا، فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل، حتى يخرجوا من صبغة تلك العصبية ويفشوا بعزتها وثورتها، ويصيروا أوجز على الحماية ويقلون لذلك، فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور، فيتجاسر الرعايا على بعض الدعوة في الأطراف، ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف؛ لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم، وأمنهم من وصول الحامية إليهم. ولا يزال ذلك يتدرَّج، ونطاق الدولة يتضايق، حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة، وربما انقسمت الدولة عندئذٍ بدولتين أو ثلاث، على قدر قوتها في الأصل» (ص١٩٥).

    وأمَّا قوة الدولة فتنحصر عندئذٍ في الحاميات المؤلفة من الجنود المرتزقة:

    «وربما طال أمد الدولة بعد ذلك؛ فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل أيالتها من صبغة الانقياد والتسليم، منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها. فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فيستغني بذلك عن قوة العصائب، ويكفي صاحبها — بما حصل لها في تمهيد أمرها — الإجراء على الحامية من جندي ومرتزق، ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامةً من التسليم.»

    «وربما كانت الدولة في هذه الحال أَسْلَم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم.»

    «ثم لا يزال أمر الدولة كذلك، وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء، إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور» (ص٢٩٦).

    إن الخلل الذي يطرق للدولة من وجهة القوة والعصبية على هذا المنوال يترافق مع خلل يطرقها من جهة المال أيضًا.

    لأن «الدولة في أولها تكون بدوية، فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات والتعفُّف عن الأموال، فتتجافى الدولة عن الإمعان في الجباية، والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال» (ص٢٩٦). ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة، فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال» (ص٢٩٧).

    ولكن الأمور لا تستمر كثيرًا على هذا المنوال؛ وذلك لأن «عندما يحصل الاستيلاء ويستفحل الملك» يبدأ الترف «ويكثر الإنفاق بسببه؛ فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم، بل يتعدَّى ذلك إلى أهل المصر، ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند، وأرزاق أهل الدولة، ثم يعظم الترف، فيكثر الإسراف في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية» أيضًا (ص٢٩٧).

    تعظم نفقات الدولة بهذه الصورة يومًا عن يوم؛ فتزداد حاجتها إلى المال شيئًا فشيئًا، فيُضطر صاحب الدولة إلى التفنُّن في جمع المال بوسائل وطرق شتى، حتى إنه يلجأ في آخر الأمر إلى وسائل الظلم والإرهاق، وذلك يزيد الخلل، وزيادة الخلل تزيد الحاجة إلى الجند وإلى المال، وهكذا يشتد الخلل شيئًا فشيئًا إلى أن يصبح كليًّا، ويؤدي إلى الانقراض.

    يتتبع ابن خلدون سلسلة هذه التحوُّلات باهتمام، ويشرحها بتفصيل:

    «يحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق؛ لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة — الشاهد عليه بالرفه — ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده. ثم تزيد عوائد الترف، فلا تفي بها المكوس، وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا، فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد. ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية، فتتوقع ذلك منهم، وتداوي بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم، وتكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور، بكثرة الجباية، وكونها بأيديهم وبما اتسع لذلك من جاههم. فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية، وتفشو السعاية فيهم بعضهم من بعض للمنافسة والحقد، فتعمُّهم النكبات والمصادرات واحدًا واحدًا إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم، ويُفْقَد ما كان للدولة من الأُبَّهة والجمال بهم. وإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم، ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر؛ فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال، ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه، فتعظم حاجته إلى الأموال زيادةً على النفقات وأرزاق الجند، ولا يغني فيما يريد. ويعظم الهرم بالدولة، ويتجاسر عليها أهل النواحي، والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك، فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها، وإلا بقيت وهي تتلاشى إلا أن تضمحل، كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفئ» (ص٢٩٧).

(٤) اتساع نطاق الدولة

إن نظرية ابن خلدون في أمر اتساع نطاق الدولة مشروحة في الفصول التالية:

فصل في أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها (ص١٦١)، فصل في أن عظم الدولة واتساع نطاقها وطول أمدها على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة (ص١٦٣)، فصل في انقسام الدولة الواحدة بدولتين (ص٢٩٢)، فصل في كيفية طروق الخلل للدولة (ص٢٩٤)، فصل في حدوث الدولة وتجدُّدها كيف يقع (ص٢٩٨).

غير أن هذه النظرية مُجْمَلة في فصل واحد، هو من الفصول الناقصة في طبعات البلاد العربية.

فصل في اتساع نطاق الدولة أولًا إلى نهايته، ثم تضايقه طورًا بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها (ص١١٤–١١٧، ج٢، طبعة كاترمير).

  • (١)

    يرى ابن خلدون أن «نطاق الدولة واتساعها» يتحوَّل ويتطوَّر وفق نظام ثابت؛ تتوسَّع الدولة في بادئ الأمر إلى أن تصل إلى أقصى حدودها، وبعد ذلك تأخذ في التقلُّص فتتراجع عن تلك الحدود، ويتضايق نطاقها شيئًا فشيئًا.

    إن تضايق نطاق الدولة على هذا المنوال يبدأ من الأطراف، ويسير نحو المركز تدريجًا، والدولة تحافظ على كِيانها — على الرغم من تقلُّص نطاقها — ما بقي مركزها محفوظًا، وأمَّا إذا غُلِبت الدولة على أمرها في مركزها، فإنها تفقد حينئذ كِيانها وتنقرض.

    وقد تنقسم الدولة — قبل انقراضها، خلال تضايُق نطاقها — إلى دولتين أو ثلاث دول، غير أن كل قسم من هذه الأقسام يتعرَّض إلى تحوُّلات مماثِلَة لما ذكرناه آنفًا، فنطاق كل واحد منها أيضًا يتضايق شيئًا فشيئًا، إلى أن يختلَّ أمر مركزها، وينتهي بها إلى الانقراض.

    إن هذه القوانين التي تعيِّن نطاق الدولة واتساعها، يقرِّرها ابن خلدون ويشرحها ويعلِّلها واحدًا فواحدًا.

  • (٢)

    أولًا: يقرر ابن خلدون في فصل خاص «أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها» (ص١٦١).

    فإن نطاق الدولة يتوسَّع في بادئ الأمر إلى أن يبلغ حدًّا يكون طبيعيًّا بالنسبة إلى قوتها. ونستطيع أن نقول لذلك: إن اتساع نطاق الدولة يكون محدودًا بحد طبيعي، وهذا الحد يتعيَّن بقوة الدولة نفسها.

    ابن خلدون يشرح هذا القانون ويعلِّله كما يلي:

    «لأن عصابة الدولة وقومها القائمين بها، الممهِّدين لها، لا بد من توزيعهم حصصًا على الممالك والثغور؛ لحمايتها من العدو، ولإمضاء أحكام الدولة فيها» (ص١٦١).

    «فإذا توزَّعت العصائب كلها على الثغور والممالك، فلا بد من نفاد عددها»، وتكون الممالك «قد بلغت حينئذ إلى حد يكون ثغرًا للدولة وتخمًا لوطنها، ونطاقًا لمركز ملكها». وإذا «تكفَّلت الدولة بعد ذلك زيادةً على ما بيدها؛ بقي دون حامية، وكان موضعًا لانتهاز الفرصة من العدو والمجاور» (ص١٦١).

    وبعكس ذلك «إذا كانت العصابة موفورة، ولم ينفد عددها في توزيع الحصص على الثغور والنواحي؛ بقي في الدولة قوة على تناول ما وراء الغاية»، فتتوسَّع الدولة إلى أن «ينفسح نطاقها إلى غايته» (ص١٦٢).

    ابن خلدون يعلِّل ذلك بقانون طبيعي عام:

    «والعلة الطبيعية في ذلك هي أن قوة العصبية «مثل» سائر القوى الطبيعية، وكل قوة يصدر عنها فعل من الأفعال، فشأنها ذلك في فعلها». إن قوة الدولة في مركزها تكون أشد مما هي في الطرف والنطاق، «وإذا انتهت إلى النطاق الذي هو الغاية عجزت وأقصرت عما وراءه.»

    ثم يوضِّح ذلك بتشبيه مادي دقيق: «شأن الأشعة والأنوار إذا انبعثت من المراكز، والدوائر المنفسحة على سطح الماء من النقر عليه» (ص١٦٢).

    ولذلك «على نسبة أعداد المتغلِّبين لأول الملك يكون اتساع الدولة ونطاقها» (ص١٦٣).

    «كل دولة على نسبة القائمين بها في القلة والكثرة، وعند نفاد عددهم بالتوزيع ينقطع لهم الفتح والاستيلاء» (ص١٦٢).

    ولهذه الأسباب كلها نجد «أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها.»

  • (٣)

    إن هذه الحصة لا تكون متساويةً في جميع الدول، بل بعكس ذلك «تكون متفاوتةً ومتناسبةً مع قوة القائمين بها.»

    يقرِّر ابن خلدون هذا القانون في فصل خاص (ص١٦٣-١٦٤)، ويعلِّله بالملاحظات التالية:

    «لأن الملك إنما يكون بالعصبية، وأهل العصبية هم الحامية الذين ينزلون بممالك الدولة وأقطارها وينقسمون عليها»، فمن الطبيعي أن يكون اتساع الدولة وقوتها متناسبًا مع عدد القائمين بأمرها، فكلما «كانت عصابة الدولة أكثر، كان ملكها أوسع» (ص١٦٣).

  • (٤)

    إن قوة الدولة لا يمكن أن تستمرَّ على وتيرة واحدة، بل إنها تأخذ في التناقص بعد مدة؛ للأسباب التي شرحناها آنفًا عندما تتبَّعنا أطوار الدولة، ودرسنا كيفية طروق الخلل إليها.

    وإذا ضعفت عصابة الدولة ونقصت قوتها؛ تضايق النطاق الذي تستطيع أن تحتفظ به وتدافع عنه، عندئذٍ «يتجاسر عليها من يجاورها من الدول، أو من هو تحت يديها من العصائب» (ص١٦٩)، ويستولي على قسم من ممالكها.

    ولهذا السبب نجد أن تناقص قوة الدولة — وضعف حاميتها — يؤدي إلى تراجع حدودها وتضايق نطاقها.

    وحينما يأخذ نطاق الدولة في التضايق — من جرَّاء ضعف قوتها — «يبدأ التراجع عادةً من أطرافها» (ص١٦٢).

    وذلك لأن قوة الدولة تضعف وتقل بالأطراف قبل المركز، والخروج عليها بالأطراف يكون أسهل من الخروج عليها في المركز، كما أن الاستيلاء على أقاصي الدولة يكون أقل إشكالًا من الاستيلاء على مركزها؛ ولهذا السبب عندما تضعف حامية الدولة في الأطراف يتجاسر عليها العدو المجاور، ويستولي على قسم من بلادها، وهذا التجاسر قد يقع من رعايا الدولة نفسها؛ يخرج خارج عليها، ويستقل بحكم قاصية من أقاصيها، وهذا الخارج قد يكون من أقارب صاحب الدولة، كما أنه قد يكون من عمال الدولة؛ وذلك يؤدي إلى انقسام الدولة إلى دولتين أو إلى ثلاث دول.

    يوضِّح ابن خلدون كل ذلك بتفصيل وافٍ في فصول عظم الدولة (ص١٦٣)، وانقسام الدولة (ص٣٩٢)، وخلل الدولة (ص٢٩٤)، ونطاق الدولة (راجعوا ذيل هذا البحث).

    ومما كتبه ابن خلدون حول هذه القضايا في الفصول المذكورة:

    «إن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها؛ وذلك أن الملك عندما يستفحل، ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به، ويصير إلى إهلاك من استراب به من ذي قرابته المرشحين لمنصبه؛ فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية، «وانضم» إليهم من يلحق بهم «ممن له» مثل حالهم من الغرور والاسترابة. ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية؛ فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها، ولا يزال أمره يعظم بتراجع نطاق الدولة، حتى يقاسم الدولة أو يكاد» (ص٢٩٢).

    «وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين أو ثلاث، وفي غير أعياص الملك من قومه» (ص٢٩٣).

    «وهكذا شأن كل دولة، لا بد وأن يَعْرِضَ فيها عوارض الهرم بالترف والدَّعَة وتقلُّص ظل الغلب، فيقتسم أعياصها، أو من يغلب من رجال دولتها الأمر، وتتعدَّد فيها الدول» (ص٢٩٣).

    «كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس، وملوك العجم بالمشرق، وفي ملك صنهاجة بإفريقية، فقد كان — لآخر دولتهم — في كل حصن من حصونه ثائر مستقل بأمره» (ص٢٩٣).

  • (٥)

    إن خروج الأقاصي والأطراف عن حكم الدولة وحوزتها لا يخل بكِيانها ما دام مركزها محفوظًا، «ولكن إذا غلب على الدولة في مركزها؛ فلا ينفعها بقاء الأطراف والنطاق، بل تضمحل الدولة لوقتها؛ لأن المركز كالقلب الذي تنبعث منه الروح، فإذا غُلِب القلب ومُلِك؛ انهزم جميع الأطراف» (ص١٦٢).

  • (٦)

    يظهر من هذه التفصيلات أن الدولة المستقرة «إذا أخذت في الهرم والانتقاص»، قامت على أنقاضها دول جديدة.

    إن «نشأة هذه الدول الجديدة وبداءتها» تكون على نوعين:
    • (أ)

      النوع الأول هو أن يستبدَّ ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلَّص ظلها عنهم، فيكون لكل واحد منها دولة يستجدها لقومه، وما يستقر في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه، ويستفحل لهم المُلْكُ بالتدريج.

      «وربما يزدحمون على ذلك المُلْك ويتقارعون عليه، ويتنازعون في الاستئثار به، ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه وينتزع ما في يده» (ص٢٩٨).

      وفي هذا النوع «لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة (الأصلية) حرب؛ لأنهم مستقرون في رياستهم، ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة في حرب. وإنما الدولة أدركها الهرم، وتقلَّص ظلها عن القاصية، وعجزت عن الوصول إليها» (ص٢٩٨).

    • (ب)

      وأمَّا النوع الثاني فهو «بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاورها من الأمم والقبائل، إما بدعوة يحمل الناس عليها — كما أشرنا إليه — أو يكون صاحب شوكة وعصبية، كبيرًا في قومه، استفحل أمره، فيسمو بهم إلى الملك، وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزاز على الدولة المستقرة، وما نزل بها من الهرم؛ فيتعيَّن له ولقومه الاستيلاء عليها، ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها» (ص٢٩٨).

      وخلاصة القول: إن الدولة الحادثة (المستجدة) تكون على نوعين؛ «نوع من ولاية الأطراف، إذا تقلَّص ظل الدولة عنهم وانحسر تيارها، وهؤلاء لا يقع لهم مطالبة للدولة في الأكثر؛ لأن قصاراهم القنوع بما في أيديهم، وهو نهاية قوتهم» (ص٢٩٨).

      «والنوع الثاني نوع الدعاة والخوارج على الدولة، وهؤلاء لا بد لهم من المطالبة؛ لأن قوتهم وافية بها، فإن ذلك إنما يكون في نصاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك ووافٍ به، فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال، وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب» (ص٢٩٩).

  • (٧)

    لا يكتفي ابن خلدون بسرد وتعليل هذه القواعد والقوانين بصورة نظرية مجردة، بل يدعم كل واحد منها بعدة شواهد تاريخية.

    فهو مثلًا حينما يقرِّر أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها، يقول:

    «انظر أيضًا شأن العرب أول الإسلام، لمَّا كانت عصائبهم موفورة، كيف غلبوا على ما جاورهم من الشام والعراق ومصر لأسرع وقت، ثم تجاوزوا ذلك إلى ما وراءه من السند والحبشة وإفريقية والمغرب، ثم إلى الأندلس. فلما تفرَّقوا حصصًا على الممالك والثغور، ونزلوها حامية، ونفد عددهم في تلك التوزيعات؛ أقصروا عن الفتوحات بعدُ، وانتهى أمر الإسلام، ولم يتجاوزوا تلك الحدود، ومنها تراجعت الدولة» (ص١٦٢).

    وكذلك عندما يُبْدِي ابن خلدون رأيه في النتائج التي تترتَّب على مغلوبية الدولة في مركزها يقول:

    «انظر هذا في الدولة الفارسية؛ كان مركزها المدائن، ولما غلبها المسلمون على المدائن؛ انقرض أمر فارس أجمع، ولم ينفع «يزدجرد» ما بقي في يده من أطراف ممالكه. وبالعكس من ذلك الدولة الرومية في الشام، لما كان مركزها القسطنطينية وغلبهم المسلمون بالشام؛ اتجهوا إلى مركزهم بالقسطنطينية، ولم يضرهم انتزاع الشام من أيديهم، فلم يزل ملكهم مستقلًّا بها» (ص١٦٢).

    وهكذا في سائر القضايا والقوانين، فإن ابن خلدون يستشهد على كل واحدة منها بعدة وقائع تاريخية، تارةً يشير إليها إجمالًا، وطورًا يسردها تفصيلًا.

    ومما يجدر بالذكر أن جميع الشواهد التاريخية التي يذكرها ابن خلدون في هذا الصدد مستمدة من تاريخ العرب والإسلام.

  • (٨)

    إن آراء ابن خلدون في اتساع نطاق الدولة مُجْمَلة أحسن إجمال في فصل خاص، غير أن هذا الفصل ناقص في طبعات البلاد العربية؛ ولذلك رأينا من المفيد أن نذيِّل هذه الدراسة بنقل الفصل المذكور بنصه الكامل، مع تحليل أقسامه المختلفة وتوضيحها على ضوء أبحاث الفصول الأخرى.

(٤-١) اتساع نطاق الدولة وتضايقه

يعنون ابن خلدون أحد فصول المقدمة بالعنوان التالي: «فصل في اتساع نطاق الدولة أولًا إلى نهايته، ثم تضايقه طورًا بعد طور، إلى فناء الدولة واضمحلالها.»

هذا الفصل من أهم الفصول الموجودة في طبعة كاترمير وترجمة دو سلان، والمفقودة في طبعة بولاق، وسائر طبعات مصر وبيروت المتداوَلة بين الأيدي.

يأتي الفصل في الباب الثالث بعد فصل «طروق الخلل للدولة»، والآراء الواردة فيه إنما هي بمثابة «توضيح وتوسيع» للآراء المسرودة في الفصل المذكور.

  • (١)

    يبدأ ابن خلدون هذا الفصل بتذكير وتلخيص ما كان كتبه في أحد الفصول من الباب الثالث:

    «قد كان تقدَّم لنا في فصل الخلافة والملك — وهو الثالث من هذه المقدمة — أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها، واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على أقطارها وجهاتها، فحيث نفد عددهم، فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر، ويحيط الدولة من سائر جهاتها كالنطاق.»

    يلاحظ أن الفصل الذي يشير إليه هنا هو الفصل الذي يقرِّر «أن كل دولة لها حصة من الأوطان لا تزيد عليها»، والفرق بين هذا الملخص وبين الفصل المذكور ينحصر فيما يلي: يستعمل ابن خلدون هنا تعبير «الممالك والعمالات»، عوضًا عن تعبير «الممالك والأوطان» الذي كان قد استعمله هناك، كما أنه يعرِّف هنا مفهوم «الثغر» تعريفًا واضحًا، بعد أن كان قد استعمله هناك من غير تعريف.

  • (٢)

    بعد هذه الفقرة التمهيدية تأتي فقرة تشير إلى سعة الدولة الجديدة بالنسبة إلى سابقتها:

    «وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأول، وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة فيها، وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة البأس.»

    هنا نجد تأكيدًا من ابن خلدون على ما يذهب إليه من أن قوة الدولة وسعتها مشروطة باتصافها بشعار البداوة وخشونتها.

  • (٣)

    يعقب ذلك فقرتان طويلتان في كيفية اختلال أحوال الدولة:

    «فإذا استفحل العز والغلب، وتوفَّرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات، وزخر بحر الترف والحضارة، ونشأت الأجيال على اعتياد ذلك؛ لطفت أخلاق الحامية، ورقَّت حواشيهم، وعادت من ذلك إلى نفوسهم هيأة الجبن والكسل، بما يعانونه من حنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعائر البأس والرجولية، بمفارقة البداوة وخشونتها. ويأخذهم العز بالتطاول إلى الرئاسة والتنازع فيها؛ فيُفْضِي إلى قتل بعضهم بعضهم، ويكبحهم السلطان عن ذلك، بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم؛ فتُفْقَد الأمراء والكبراء، ويكثر التابع والمرءوس؛ فيفلُّ ذلك من حدِّ الدولة، ويكسر من شوكتها، ويقع الخلل الأول في الدولة، وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدَّم.

    «ويساوق ذلك السرف في النفقات، بما يعتريهم من أُبَّهة العز وتجاوز الحدود في البذخ بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط الخيول، فيقصر حينئذ دخل الدولة من خرجها، ويطرق الخلل الثاني في الدولة، وهو الذي من جهة المال والجباية.»

    إن ما جاء في هاتين الفقرتين بمثابة تلخيص موجز لما ذُكِر في الفصل السابق عن كيفية طروق الخلل للدولة. كان قال ابن خلدون هناك: إن الخلل يأتي إما من جهة الجند والحامية، وإما من جهة المال والجباية. ونراه يسمي هنا كل جهة من هاتين الجهتين باسم خاص؛ ينعت الخلل المتأتي من أحوال الجند الحامية باسم «الخلل الأول»، كما ينعت الخلل المتأتي من جهة المال والجباية باسم «الثاني».

  • (٤)

    بعد ذلك يشرح ابن خلدون ما يحدث من اجتماع هذين الخللين:

    «ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين، وبما تنافس رؤساؤهم وتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم، وربما اغترَّ أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم، ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة؛ فيضيق نطاق الدولة عمَّا كانت انتهت إليه في أولها، وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه، إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه؛ من العجز والكسل في العصابة، وقلة الأموال والجباية.»

    «فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قِبَل الجند والمال والولايات؛ ليجري حالها على استقامة، بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق، ومقايسة ذلك بأول الدول في سائر الأحوال.»

    «والمفاسد مع ذلك متوقَّعة من كل جهة، فيحدث في هذا الطور من بعد، ما حدث في الأول من قبل، ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول، ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية، يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدَّد في كل طور، ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها إلى نطاق دونه كذلك، ويقع فيه ما وقع في الأول.»

    يلاحَظُ أن ابن خلدون يذكر هنا «القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة»، ويشير إلى تغيير تلك القوانين.

    ومع ذلك فإنه لا يذهب إلى أن هذا التدبير يكون علاجًا شافيًا تمامًا، مع أنه يعتبر تغيير تلك القوانين بمثابة إنشاء دولة وتجديد مُلْك:

    «وكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم مُنْشئون دولةً أخرى، ومجددون ملكًا حتى تنقرض الدولة وتتطاول الأمم حولها إلى التغلُّب عليها، وإنشاء دولة أخرى لهم، فيقع في ذلك ما قدَّر الله وقوعه.»

  • (٥)

    بعد سرد هذا النظرية وشرحها على هذا المنوال يستشهد ابن خلدون على صحتها بتاريخ الإسلام، ويرسم لنا لوحةً ممتعةً للتاريخ المذكور:

    «واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية، كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلُّب على الأمم، تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخوَّلوه من النعم والأرزاق، إلى أن انقرض أمر بني أمية، وغلب بنو العباس. ثم تزايَدَ الترف، ونشأت الحضارة، وطَرَقَ الخلل، وضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية، واقتطعوا ذينك الثغرين من نطاقها. إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد، وظهر دعاة العلوية في كل جانب، وتمهَّد لهم دول. ثم قُتِلَ المتوكل، واستبدَّ الأمراء على الخلفاء وحجروهم، واستقلَّ الولاة بالعمالات والأطراف، وانقطع الخراج منها وتزايد الترف.»

    «وجاء المعتضد فغيَّر قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة؛ أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه مثل بني سامان وراء النهر، وبني طاهر العراق وخراسان، وبني الصفار السند وفارس، وبني طولون مصر، وبني الأغلب إفريقية. إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم، واستبد بنو بُوَيه والديلم بدولة الإسلام، وحجروا الخلافة، وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر، وتطاوَلَ الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه.»

    «ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك، فاستولوا على ممالك الإسلام، وأبقوا الخلفاء في حجرهم إلى أن تلاشت دولتهم.»

    «واستبدَّ الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر، وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين، وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء، إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوش خان ملك التتر والمغول، حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان في أيديهم من ممالك الإسلام.»

    يلاحَظُ أن هذه اللوحة التاريخية أتم من جميع التلخيصات التي نشاهدها في الأقسام المختلفة من المقدمة ومن التاريخ نفسه.

  • (٦)

    بعد الانتهاء من هذا الاستعراض التاريخي، يعمِّم ابن خلدون هذه الأحوال على جميع الدول، وينهي أحكامه في هذا المضمار بهذه الأحكام القطعية:

    «وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول، ولا يزال طورًا بعد طور، إلى أن تنقرض الدولة.»

    «واعتبر ذلك في كل دولة عظُمَت أو صَغُرَت.»

    وفي الأخير يذكر ابن خلدون سنة الله في الدول، ويُنْهِي الفصل بآية قرآنية وفق عادته العامة:

    «فهكذا سنة الله في الدول، إلى أن يأتي ما قدَّر الله من الفناء على خلقه، وكل شيء هالك إلا وجهه.»

    (هذا الفصل منقول من طبعة كاترمير، ج٢، ص١١٤–١١٧.)

(٥) قيام الدول المستجدة

يقرِّر ابن خلدون في فصل خاص «أن الدولة المستجدة» إنما تستولي على الدولة المستقرة — وتظفر بمطلوبها منها — «بالمطاولة لا بالمناجزة»، ويعني بذلك أن هذا الاستيلاء إنما يتم بالتدريج وبمرور الزمان لا فورًا.

من المعلوم أن ابن خلدون يذهب إلى أن الدول المستجدة نوعان؛ النوع الأول من ولاية الأطراف، والنوع الثاني من الدعاة والخوارج على الدولة. ويقول إن ولاة الأطراف حينما يستقلون بالأمر يَقْنَعون عادةً بما في أيديهم، وهو نهاية قوتهم، فلا يقع منهم مطالبة للدولة، ولكن «الدعاة والخوارج على الدولة لا بد لهم من المطالبة؛ لأن قوتهم وافية بها. فإن ذلك إنما يكون في نِصَاب يكون له من العصبية والاعتزاز ما هو كفاء ذلك ووافٍ به؛ فيقع بينهم وبين الدولة المستقرة حروب سجال، تتكرَّر وتتصل إلى أن يقع لهم الاستيلاء والظفر بالمطلوب، ولا يحصل لهم ظفر في الغالب بالمناجزة» (ص٢٩٩).

وأمَّا أسباب ذلك فإن ابن خلدون يشرحها بتفصيل:

إنه يذكِّرنا أولًا بما قاله عن أسباب الغلب في الحروب: «إن الظفر في الحروب إنما يقع — كما قدَّمناه — بأمور نفسانية وهمية، وإن كان العدد والسلاح وصدق القتال كفيلًا به، ولكنه قاصر مع تلك الأمور الوهمية كما مر؛ ولذلك كان الخداع من أرفع ما يُسْتَعْمَل في الحرب، وأكثر ما يقع الظفر به، وفي الحديث: الحرب خدعة» (ص٢٩٩).

إن الخدع التي تضمن الظفر والغلب على الدولة المستقرة لا تعمل عملها دفعة، بل إنها تحتاج إلى زمان، كما يتضح من التفاصيل التالية:
  • أولًا: «إن العوائد المألوفة» تُصيِّر طاعة الدولة المستقرة «ضروريةً واجبة»، كما تقدَّم في غير موضع؛ «فتكثر بذلك العوائق لصاحب الدولة المستجدة». والتغلُّب على تلك العوائد والعوائق إنما يتطلَّب زيادة الهمم من أتباعه وأهل شوكته، ويحتاج إلى زمان. «وإن كان الأقربون من بطانة صاحب الدولة المستجدَّة على بصيرة في طاعته ومؤازرته»، إلا أن الآخرين يكونون تحت تأثير «عقائد التسليم للدولة المستقرة، فيحصل بعض الفتور منهم»، ولا يكاد صاحب الدولة المستجدة «يقاوم صاحب الدولة المستقرة»،٢ ويرجع إلى الصبر والمطاولة، حتى يتضح هرم الدولة المستقرة، وتضمحل عقائد التسليم لها من قومه، وتنبعث منهم الهمم لصدق المطالبة معه؛ فيقع الظفر والاستيلاء» (ص٢٩٩).
  • ثانيًا: إن الدولة المستقرة تكون — عادةً — «كثيرة الرزق بما استَحْكَمَ لهم من الملك وتوسُّع النعيم واللذات، واختصوا به دون غيرهم من أموال الجباية، فيكثر عندهم ارتباط الخيول، واستجادة الأسلحة، ويعظم فيهم الأُبَّهة الملكية، ويفيض العطاء بينهم من ملوكهم اختيارًا واضطرارًا؛ فيُرْهِبون بذلك كله عدوهم»، في حين أن «أهل الدولة المستجدة بمعزل عن ذلك؛ لما هم فيه من البداوة وأحوال الفقر والخصاصة، فتسبق إلى قلوبهم أوهام الرعب بما يبلغهم من أحوال الدولة المستقرة، ويُحْجِمون عن قتالهم من أجل ذلك؛ فيصير أمرهم إلى المطاولة، حتى تأخذ المستقرة مأخذها من الهرم، ويستحكم الخلل فيها من العصبية والجباية، فينتهز حينئذ صاحب الدولة المستجدة فرصته في الاستيلاء عليها»، وذلك بعد مرور مدة على بدء المطالبة (ص٢٩٩).
  • ثالثًا: يصعب على أهل الدولة المستجدة أن يطَّلعوا على أحوال الدولة المستقرة اطلاعًا يضمن لهم إصابة الغرة؛ وذلك لأن «أهل الدولة المستجدة كلهم مباينون للدولة المستقرة بأنسابهم وعوائدهم وسائر مناصبهم، ثم هم مفاخِرون لهم، ومنابذون بما وقع من هذه المطالبة وبطمعهم في الاستيلاء. فتتمكَّن المباعدة بين أهل الدولتين سرًّا وجهرًا، ولا يصل إلى أهل الدولة المستجدة خبر عن أهل الدولة المستقرة يصيبون منه غرةً باطنًا وظاهرًا؛ لانقطاع المداخلة بين الدولتين فيقيمون على المطالبة» وهم في إحجام، و«ينكلون عن المناجزة» (ص٣٠٠).

ويستمر الحال على هذا المنوال من المطالبة إلى أن يزداد الخلل في جميع جهات الدولة المستقرة، ويتضح لأهل الدولة المستجدة مع الأيام ما كان يخفى عنهم من هرمها وتلاشيها.

والدولة المستجدة تقتطع من الدولة المستقرة بعض أعمالها وأطرافها مرةً بعد أخرى، ولكل مرة تعظم قوة الدولة المستجدة وتنقص قوة المستقرة بطبيعة الحال، وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال مدةً من الزمن، «تنبعث همم» أهل الدولة المستجدة «يدًا واحدةً للمناجزة، ويذهب ما كان بُثَّ في عزائمهم من التوهُّمات، وتنتهي المطاولة إلى حدِّها، ويقع الاستيلاء آخرًا بالمعاجلة» (ص٣٠٠).

بعد سرد هذه الدلائل والملاحظات العقلية يستشهد ابن خلدون بسلسلة من الوقائع التاريخية، ويذكر ما حدث من أمثال ذلك في الدول الإسلامية المختلفة، منذ قيام بني العباس على الدولة الأموية، مشيرًا إلى مطالبات وفتوحات العلويين والعُبيديين والسلجوقيين والمرابطين والموحدين. وبعد ذلك يقول:

«فهكذا حال الدولة المستجدة مع المستقرة في المطالبة والمطاولة، سنة الله في عباده، ولن تجد لسنة الله تبديلًا» (ص٣٠١).

ولكنه يلاحظ في الوقت نفسه أن هناك واقعةً تاريخيةً منافِيَةً لما قرَّره في هذا الصدد؛ وهي الفتوحات التي حدثت في صدر الإسلام، ومع هذا إنه يبقى متمسِّكًا بالقانون الذي قرره؛ لأنه يعتقد أن تلك الفتوحات كانت من آثار المعجزات:

«ولا يعارض ذلك بما وقع في الفتوحات الإسلامية، وكيف كان استيلاؤهم على فارس والروم لثلاث أو أربع من وفاة النبي ، واعلم أن ذلك إنما كان معجزةً من معجزات نبينا، سرها استماتة المسلمين في جهاد عدوهم؛ استبعادًا بالإيمان، وما أوقع الله في قلوب عدوُّهم من الرعب والتخاذل، فكان ذلك كله خارقًا للعادة المقررة في مطاولة الدول المستجدة للمستقرة. وإذا كان ذلك خارقًا فهو من معجزات نبينا — صلوات الله عليه — المتعارَف ظهورها في الملة الإسلامية، والمعجزات لا يقاس عليها الأمور العادية ولا يُعْتَرض بها» (ص٣٠١).

١  إن هذه الكلمة مطبوعة على شكل سوادهم في الطبعة البيروتية المصرية، والعبارة التي تليها ساقطة منها.
٢  هذه العبارة ناقصة في الطبعة البيروتية المصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤