حول نسب ابن خلدون

لقد قلنا — في المقالة التي كتبناها عن حياة مؤلف المقدمة — إن ابن خلدون ينتسب إلى أسرة عربية من حضرموت، نزحت من اليمن إلى الأندلس عند الفتح، ومن الأندلس إلى تونس عند الجلاء. واستندنا في قولنا هذا إلى ما كتبه هو بنفسه في ترجمة حياته الملحقة بتاريخه، وإلى ما دوَّنته جميع كتب التراجم القديمة، منذ عهد النسَّابة ابن حزم الأندلسي.

ومن الغريب أن بعض الكُتَّاب المعاصرين في مصر أثاروا بعض الشكوك في هذا النسب، من غير أن يستندوا إلى أي دليل علمي كان.

إن أول من أثار هذه الشكوك كان الدكتور طه حسين؛ لأنه ادعى بأن ابن خلدون نفسه كان يشك في صحة نسبه المتواتر.

ثم قام الأستاذ عبد الله عنان، وادَّعى بأن ابن خلدون ينحدر من أصل بربري.

وأخذ بعد ذلك بعض الكُتَّاب يقتدون بهذين الأستاذين، ويكرِّرون أقوالهما، ويعملون لإدامة الشكوك في نسب ابن خلدون.

ولذلك رأينا من الضروري أن نستعرض الأدلة التي أوردها المشكِّكون في هذا الصدد؛ لنتبيَّن مبلغ حظها من الصحة والإصابة.

١

لقد ادعى الدكتور طه حسين في كتابه «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، أن مؤلف المقدمة نفسه كان يشك في صحة نسبه، واستند في ذلك إلى عبارة وردت في التعريف الذي كتبه عن نفسه.

غير أن كل من يقرأ العبارة المذكورة بإنعام؛ يُضطر إلى التسليم بأنها لا تؤيد أبدًا ما ذهب إليه الدكتور في هذا الصدد.

إن الأستاذ فؤاد أفرام البستاني كان قد فنَّد زعم الدكتور — في الجزء الثالث عشر من الروائع، المنشور سنة ١٩٢٧ — قائلًا:

«وهنا يجدر بي أن أزيل شبهةً علقت بذهن الناقد العصري الشهير الدكتور طه حسين، فذهب إلى أن ابن خلدون يشك في صحة أصله العربي هذا؛ بدليل جملة أوردها في أول ترجمته. والواقع أن ابن خلدون يلاحظ نقصًا في سرد أسماء جدوده بينه وبين خلدون فقط، ولكنه لا يتكلَّم عمَّا وراء ذلك، ولا يشك قطعًا في صحة نسبته إلى القبيلة الحضرمية. وحسمًا لكل خلاف نورد كلام ابن خلدون بحرفه:

قال — بعد ذكر جدوده العشرة: «لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هذه العشرة. ويغلب على الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عددًا؛ لأن خلدون هذا هو الداخل الأندلس. فإن كان أول الفتح؛ فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة، فيكونون زهاء العشرين، ثلاثة لكل مائة، كما تقدَّم في أول الكتاب الأول. ونسبنا في حضرموت من عرب اليمن إلى وائل بن حجر من أقيال العرب معروف، وله صحبة» (الروائع ١٣ ابن خلدون، ب).

إننا نعتقد أن هذا النقد وجيه ومصيب تمامًا، فإن ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد صريح كل الصراحة، إنه لا يشك في انتسابه إلى وائل بن حجر من عرب اليمن في حضرموت، إنما يصرِّح بأنه يغلب على ظنه أن سلسلة الأجداد التي تربطه برأس الأسرة يجب أن تكون أطول من العشرة المذكورين في رواية النسابة. ومن البديهي أن ذلك لا يعني الشك في النسب بحد ذاته ومن أصله وأساسه. وبعكس ذلك فإن العبارة الأخيرة من الفقرة المذكورة تدل دلالةً قطعيةً على أن ابن خلدون ما كان يشك أبدًا في صحة انتسابه إلى عرب اليمن في حضرموت.

٢

وأمَّا الأستاذ عبد الله عنان فقد أثار مسألة النسب مباشرة، وتعدَّى حدود الشك أيضًا؛ فإنه ادعى — في كتابه «ابن خلدون، حياته وتراثه الفكري» — أن المؤرخ ينتمي إلى أصل بربري.

نشر الأستاذ عنان الكتاب المذكور سنة ١٩٣٣؛ «لمناسبة انقضاء ستمائة عام على مولد» هذا المفكر العظيم، شرح فيه حياة ابن خلدون وتراثه الفكري والاجتماعي، وعُنِي بتفصيل الحوادث السياسية التي اشترك فيها واتصل بها، كما أنه عُنِي «عنايةً خاصةً بحياته في مصر، وفصَّلها تفصيلًا وافيًا، وشرح علائق المؤرخ بالمجتمع المصري، وما وقع بينه وبين الكُتَّاب المصريين من صنوف الخصومة والجدل شرحًا ضافيًا». وفي الأخير لخَّص وعرض ما كتبه الغربيون عن ابن خلدون.

إن الكتاب المذكور هو أوسع الدراسات العامة التي ظهرت عن ابن خلدون في اللغة العربية، فمؤلفه يستحق التقدير والثناء على هذه الخدمة العظيمة.

غير أن تقديرنا لخدمة الأستاذ عنان في هذا المضمار لا يمنعنا من انتقاده بشدة على الرأي الخاص الذي سرده في الكتاب المذكور عن نسب ابن خلدون.

فلنتتبَّع رأي الأستاذ عنان في هذه القضية بتفصيل.

يقول الأستاذ أولًا في فصل «نشأة ابن خلدون» ما يلي:

«يُرجع ابن خلدون أصله إلى عرب اليمانية في حضرموت، ونسبه إلى وائل بن حجر، ويعتمد في ذلك على رواية النسَّابة الأندلسي ابن حزم.»

«فابن خلدون طبقًا لهذه النسبة سليل أصل من أعرق الأصول العربية اليمانية.»

«ولكن هناك ما يحمل على الشك في صحة هذا النسب البعيد الذي يدوِّنه ابن حزم لأول مرة في القرن الخامس الهجري، ويقوِّي هذا الشك لدينا ما نعرفه من ظروف الخصومة والتنافس بين العرب والبربر في الأندلس» (ص١٣).

«وهناك أيضًا ما يبعث على التأمُّل في تعلُّق ابن خلدون بهذه النسبة العربية؛ وهو أنه في مقدمته يضطرم نحو العرب بنزعة قوية من الخصومة والتحامل، بينا نراه في مكان آخر من تاريخه يمتدح البربر ويشيد بخلالهم وصفاتهم» (ص١٤).

يعود الأستاذ عنان إلى هذه القضية في الفصل الذي يتكلَّم فيه عن «علم العمران كما يعرضه ابن خلدون»، عندما يشرح رأي ابن خلدون في العرب، قائلًا:

«ثم يحدِّثنا ابن خلدون عن العرب، وحديث ابن خلدون عن العرب طريف شائق، رغم ما يطبعه من شدة وتحامل؛ فالعرب في نظره أمة وحشية، تقوم فتوحهم على النهب والعيث، ولا يتغلَّبون إلا على البسائط السهلة، ولا يقومون على اقتحام الجبال أو الهضبات لصعوبتها، وإذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الخراب» (ص١١٢).

وبعد إتمام هذا التلخيص على هذا المنوال يقول:

«إذا كان ابن خلدون يعتمد في هذه الحملة على كثير من الأدلة والملاحظات الصادقة، فإنه مع ذلك يبالغ في حكمه على العرب، وتُعْوِزُه الحجة في كثير من آرائه، لا يتسع هنا المقام لمناقشته وتفنيد آرائه بإفاضة» (ص١١٣).

ثم يذكر بعض الوقائع التاريخية التي تفنِّد الآراء المذكورة، وبعد ذلك يسعى إلى «تعليل حملة ابن خلدون» هذه قائلًا:

«قد نفهم سر هذا التحامل الذي يطلق رأي ابن خلدون في العرب بمثل هذه الشدة، إذ ذكرنا أنه — رغم انتسابه إلى أصل عربي — ينتمي في الواقع إلى ذلك الشعب البربري الذي افتتح العرب بلاده بعد مقاومة عنيفة، وفرضوا عليه دينهم ولغتهم، واضطروه بعد طول النضال والمقاومة والانتقاض أن يندمج أخيرًا في الكتلة الإسلامية، وأن يخضع راغمًا لرياسة العرب في إفريقية وإسبانيا، حتى تحين الفرصة لتحرُّره ونهوضه. والخصومة بين العرب والبربر في أفريقيا وإسبانيا شهيرة في التاريخ الإسلامي، وقد ورث البربر بغض العرب من بعيد. ونشأ ابن خلدون وترعرع في هذا المجتمع البربري، يضطرم بمشاعره وتقاليده وذكرياته، ونشأت فيه أسرته قبل ذلك بمائة عام، ونعمت برعاية الموحدين البرابرة، وتقلَّبت في نعمهم. فليس غريبًا بعد ذلك أن نسمع منه أشد الأحكام وأقساها على العرب» (ص١١٣-١١٤).

ولهذا السبب يزعم الأستاذ عنان أن ابن خلدون «ينطق هنا بلسان الوطن البربري الذي غزاه العرب، وأثخنوا فيه مدى أحقاب، وبسطوا عليه سلطانهم الديني والسياسي، ولبث عصورًا يقاتل في سبيل حرياته واستقلاله» (ص١١٤).

وفي الأخير يعود الأستاذ عنان إلى هذه القضية مرةً أخرى في فصل «كتاب العبر» أيضًا. إنه يلاحظ أن ابن خلدون يفرد في تاريخ البربر فصلًا خاصًّا للتكلُّم على خلال البربر، فيقول:

«لم يعقد ابن خلدون مثل هذا الفصل للتحدُّث عن خلال أية أمة من الأمم الأخرى، فهو هنا ينمُّ عن هوًى خاص، ونعرة بربرية واضحة، وفي ذلك أيضًا ما يفسِّر لنا صرامته في الحملة على العرب، غزاة إفريقية المتغلبين عليها» (ص١٣٤).

هذه هي الآراء التي يسطِّرها الأستاذ عنان حول نسب ابن خلدون.

٣

يلاحظ من جميع ما تقدَّم أن الشك الذي يثيره الأستاذ عبد الله عنان حول نسب ابن خلدون يستند إلى دليل واحد، لا يمت — في حد ذاته — إلى قضية النسب نفسها بأية صلة مباشرة، هذا الدليل هو تحامل ابن خلدون على العرب ومدحه للبربر. كما أن النظرية التي يُبْدِيها الأستاذ في هذا الصدد لا تستند إلى دليل غير هذا الدليل.

فنستطيع أن نلخِّص رأي الأستاذ عبد الله عنان في هذه القضية بالعبارات التالية:

إن ابن خلدون يتحامل على العرب ويتشيَّع للبربر؛ وذلك يدل على أنه ينتمي إلى الشعب البربري، وأنه لم يكن من أصل عربي.

غير أنني أعتقد بأن الأستاذ عنان يتباعد عن الحقيقة حينما يزعم أن ابن خلدون يتحامل على العرب، كما أنه يتباعد أكثر من ذلك حينما يحاول تعليل هذا التحامل بالتشيُّع إلى البربر، ويتباعد عن ساحة الحق تباعدًا كليًّا حينما يستنتج من هاتين المقدمتين أن ابن خلدون ينتمي إلى الشعب البربري.

وأمَّا مصدر هذه الأخطاء كلها، فيرجع — في نظري — إلى عدم انتباه الأستاذ إلى المعنى الخاص الذي يستعمل به ابن خلدون كلمة العرب في فصول مقدمته المختلفة. وبما أني شرحت المعنى المقصود من كلمة العرب في المقدمة في دراسة خاصة مسطورة في هذا الكتاب، وبرهنت فيها على أن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى الأعراب؛ فلا أرى لزومًا للعودة إلى هذا الموضوع في هذا المقام.

ومع ذلك أرى من المفيد أن أترك قضية هذه الكلمة جانبًا، وأن أردَّ على نظرية الأستاذ عنان بالدليل التالي:

إن معظم العبارات التي تتضمَّن التحامل على العرب في مقدمة ابن خلدون — مهما كان المعنى المقصود من كلمة العرب — تشمل البربر أيضًا، تارةً صراحة، وطورًا ضمنًا؛ وذلك لأن ابن خلدون يشبِّه العرب بالبربر في عدة مواضع، ويُشمل ما قاله عن العرب إلى البربر أيضًا بأصرح العبارات.

إنني أُدْرِج فيما يلي طائفةً من الفقرات التي تشهد على ذلك شهادةً قطعية:
  • (أ)

    حينما يتكلَّم ابن خلدون عن الأمم البدوية التي تعيش على رعي الإبل، يقول: إنهم يكونون «أشد الناس توحُّشًا، وينزلون من أهل الحواضر منزلة الوحش غير المقدور عليه والمفترس من الحيوان العجم. وهؤلاء هم العرب، وفي معناهم ظعون البربر وزناتة بالمغرب، والأكراد والتركمان والترك بالمشرق» (ص١٢١).

    يظهر من هذه العبارات بصراحة أن ابن خلدون يعزو إلى ظعون البربر وإلى زناتة «التوحُّش والنزول منزلة المفترس من الحيوان العجم» — مثل العرب — فكيف يجوز لنا مع ذلك أن نتهمه بالتشيُّع للبربر؟

  • (ب)

    وحينما يقرِّر ابن خلدون «أنه إذا كانت الأمة وحشية؛ كان مُلكها أوسع»، يعلِّل ذلك بقوله: «لأنهم ينزلون من الأهلين منزلة المفترس من الحيوانات العجم». ثم يوضِّح شمول كلامه هذا قائلًا: «وهؤلاء مثل العرب وزناتة، ومن في معناهم من الأكراد والتركمان وأهل اللثام من صنهاجة». ويختتم البحث بهذا القول الصريح: «وهذا شأن هذه الأمم الوحشية» (ص١٤٥).

    من المعلوم أن زناتة وصنهاجة هم من أقوى وأشهر قبائل البربر، فكيف يجوز أن يقال مع ذلك، إن ابن خلدون يتحامل على العرب تشيُّعًا للبربر؟!

  • (جـ)

    حينما يقول ابن خلدون «إن العرب أبعد الناس عن الصنائع»، يُشمل قوله هذا إلى البربر أيضًا بصراحة تامة، قائلًا: «وعجم المغرب من البربر مثل العرب في ذلك؛ لرسوخهم في البداوة منذ أحقاب من السنين» (ص٤٠٤).

  • (د)

    وفي الفصل القائل «إن المدن والأمصار بإفريقية والمغرب قليلة»، يكتب ابن خلدون عدة فقرات تؤيد ما ذهبنا إليه آنفًا بأصرح العبارات:

    «والسبب في ذلك أن هذه الأقطار كانت للبربر منذ آلاف السنين قبل الإسلام، وكان عمرانها كله بدويًّا، ولم تستمر فيهم الحضارة …»

    «وأيضًا فالصنائع بعيدة عن البربر؛ لأنهم أعرق في البدو، والصنائع من توابع الحضارة …»

    «فلمَّا لم يكن للبربر انتحال لها، لم يكن لهم تشوُّق للمباني فضلًا عن المدن … وأيضًا فهم أهل عصبيات وأنساب، لا يخلو جمع منهم، والأنساب والعصبية أجنح إلى البدو» (ص٣٥٧).

  • (هـ)

    وزيادة على كل ذلك، فإن ابن خلدون يقرن اسم العرب باسم البربر خلال بحثه عن اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع (آخر الصفحة ٨٧)، وفي أبحاثه عن حروب الكر والفر أيضًا (ص٢٧١).

    والحقيقة الناصعة التي لا مجال للشك فيها في هذا الصدد، أن ابن خلدون يقصد من كلمة العرب التي كتبها في هذه المواضع «البدو والأعراب»؛ ولهذا السبب لا يجد فرقًا بينهم وبين البربر من وجهة القضايا التي يشرحها، ويتحامل على البربر أيضًا بأقسى العبارات.

٤

وأمَّا وقائع عصيان البربر على العرب وانتقاضهم عليهم — تلك الوقائع التي أشار إليها الأستاذ عبد الله عنان — فابن خلدون يلاحظها بنزعة علمية خالصة، ويعلِّلها بنظرة اجتماعية دقيقة. إنه يذكرها في الفصل الذي يقرِّر «أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب، قلَّ أن تستحكم فيها دولة.»

يعلِّل ابن خلدون هذه «القاعدة العامة» بقوله:

«والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها وهوًى، عصبية تدافع دونها. فيكثر الانتقاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن في نفسها منعةً وقوة» (ص١٦٤).

ثم يستشهد على ذلك أولًا بما حدث في إفريقية والمغرب قائلًا:

«انظر ما وقع من ذلك في إفريقية والمغرب منذ أوائل الإسلام ولهذا العهد؛ فإن ساكني هذه الأوطان من البربر أهل قبائل وعصبيات، فلم يغنِ فيهم الغلب الأول شيئًا، وعاودوا بعد ذلك إلى الثورة والردة مرةً بعد أخرى، وعظم إثخان المسلمين فيهم، ولمَّا استقر فيهم الدين؛ عادوا إلى الثورة والخروج والأخذ بدين الخوارج مرات عديدة.»

«وهذا معنى ما يُنْقَل عن عمر أن إفريقية مفرِّقة لقلوب أهلها، إشارةً إلى ما فيها من كثرة العصائب والقبائل، الحاملة لهم على عدم الإذعان والانقياد.»

«ولم يكن العراق لذلك العهد بتلك الصفة ولا الشام، إنما كانت حاميتها من فارس والروم، والكافة دهماء، أهل مدن وأمصار. فلمَّا غلبهم المسلمون على الأمر وانتزعوه من أيديهم، لم يبقَ فيها ممانع ولا مشاق.»

«والبربر قبائلهم بالمغرب أكثر من أن تُحْصَى، وكلهم بادية أهل عصائب وعشائر، وكلمَّا هلكت قبيلة عادت أخرى مكانها، وإلى دينها من الخلاف والردة. فطال أمر العرب في تمهيد الدولة بوطن إفريقية والمغرب» (ص١٦٤-١٦٥).

إنني أعتقد بأن هذا التحليل والتعليل مما يجوز اعتباره نموذجًا راقيًا للتفسير الاجتماعي البحت، ذلك التفسير والتعليل الذي يَرُدُّ أهم العوامل الاجتماعية إلى بنية المجتمع، وفقًا لما ذهب إليه جماعة من علماء الاجتماع، مثل إميل دوركهايم وأتباعه في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر.

يتبيَّن من هذه العبارات ومن مجموع الفصل أن ابن خلدون يعلِّل أمر «مقاومة البربر» بكونهم «باديةً وأهل عصائب وعشائر»، ويقول بصراحة تامة إن «كثرة العصائب والقبائل» هي التي حملتهم على عدم الإذعان والانقياد»، ويرى فيهم مثالًا من أمثلة «قانون اجتماعي وتاريخي عام»، يقرره بنظرة شيئية Objectif بحتة.

•••

والقول مع ذلك أن ابن خلدون يتشيَّع للبربر، ويهاجم العرب تشيُّعًا للبربر، مما لا يتفق مع صراحة النصوص التي نقلناها آنفًا. وأمَّا الانتقال من ذلك كله إلى الشك في نسب ابن خلدون، والقول ببربريته — تعليلًا لتشيُّعه المزعوم — فممَّا يخالف مقتضيات الأبحاث العلمية مخالفةً كلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤