أُسرة ابن خلدون

١

تولَّى ابن خلدون بنفسه كتابة ترجمة حياته، بدأها بتفصيل نسبه، وذكر أسماء أجداده المعلومين، وذلك استنادًا إلى ما سمعه من الأخبار من ناحية، وإلى ما قرأه في كتب التاريخ والأنساب من ناحية أخرى.

ويتبيَّن من الترجمة المذكورة أن أسرة ابن خلدون كانت حضرمية الأصل، يصعد نسبها إلى وائل بن حجر الذي كان من كبار الصحابة، والذي تولَّى مهمة تعليم القرآن ونشر الإسلام في اليمن.

وكان أحد أحفاد وائل المشار إليه آنفًا، رحل إلى الأندلس مع جند اليمن، كان يسمى في بلده وبين أسرته خالد بن عثمان، ولكن اسمه هذا تحوَّل في الأندلس من خالد إلى خلدون، وفقًا لعادات المغاربة وتقاليدهم؛ ولذلك عُرِف بنوه وأحفاده من بعده بهذا الاسم الجديد «بنو خلدون».

لا يعيِّن ابن خلدون تاريخ دخول هذا «الجد الأعلى» إلى الأندلس، ولكنه عندما يفصِّل نسبه يذكر بينه وبين وائل الآنف الذكر ستة آباء، وذلك يدل على أن وصوله إلى الأندلس، كان بعد الفتح بمدة غير يسيرة، ويحمل على الظن بأن ذلك كان في أوائل القرن الثالث للهجرة.

من المؤكد أن بني خلدون نشئوا أولًا في قرمونة، حيث كان نزل جدهم الأكبر خلدون بن عثمان، ثم انتقلوا إلى إشبيلية وترعرعوا فيها.

وقد بدءوا يظهرون على مسرح السياسة ويلعبون دورًا هامًّا فيها منذ الربيع الأخير للقرن الثالث للهجرة، إنهم كانوا من جملة الثوار الذين خلعوا طاعة الخلفاء الأمويين في الأندلس في أواخر القرن المذكور.

وبعد ذلك التاريخ ظل بنو خلدون يتمتَّعون بمكانة مرموقة في ميدانَي العلم والسياسة.

والمؤرخ الأندلسي المشهور «ابن حيان»، الذي كان من رجال القرن الحادي عشر للميلاد والخامس للهجرة، قال عنهم ما يلي:

«بنو خلدون إلى الآن في إشبيلية نهاية النباهة، ولم تزل أعلامهم بين رياسة سلطانية ورياسة علمية.»

وأمَّا أقدم من اشتُهر منهم بالسياسية — أو بالرياسة السلطانية حسب تعبير «أبو حيان» — فكان كريب بن خلدون؛ كان من رؤساء الثورة التي قامت على الخلفاء الأمويين، وقد اشترك مع سائر زعماء الثورة في حكم إشبيلية في بادئ الأمر، ولكنه انفرد بذلك الحكم بعد مدة، وظل يحكم إشبيلية حكمًا مطلقًا، إلى أن لقي حتفه في ثورة قامت عليه.

وأمَّا أعظم من كان اشتُهر من بني خلدون في ميدان العلم — أو في الرياسة العلمية حسب تعبير «أبو حيان» — فكان عمر بن خلدون، قال عنه ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء ما يلي:

«أبو مسلم عمر بن خلدون الحضرمي، من أشراف أهل إشبيلية، كان متصرِّفًا في علوم الفلسفة، مشهورًا بعلم الهندسة والنجوم والطب، تُوفي في بلده سنة تسع وأربعين وأربعمائة.»

كما صرَّح ابن أبي أصيبعة بأن عمر بن خلدون كان من تلامذة أبي القاسم مسلمة المجريطي المشهور بالعلوم الرياضية.

٢

ظل بنو خلدون في إشبيلية إلى حين «غلب ملك الجلالقة ابن أدفونش عليها»، وعندئذٍ جلوا عنها مع من جلى، وانتقلوا إلى سبتة، ومنها إلى تونس وتوطَّنوا فيها.

وقد تمتع بنو خلدون في موطنهم الجديد أيضًا بمكانة سامية، والسبب في ذلك يعود إلى قِدَم علاقاتهم مع ملوك إفريقية.

من المعلوم أن زكريا الحفصي الذي أسس الدولة الحفصية في تونس سنة ١٢٢٧ / ٦٢٥، كان واليًا على إشبيلية قبل أن يتولَّى ولاية إفريقية ويستقل فيها، كما أن كلًّا من والده وجده أيضًا كان قد تولَّى إدارة إشبيلية مرات عديدة، وخلال هذه الولايات كانت توطَّدت بينهم وبين بني خلدون علاقات حسنة، وهذه العلاقات القديمة التي كانت توطدت بين الأسرتين منذ أجيال عديدة هي التي حملت بني خلدون على اختيار تونس مهجرًا لهم — ترجيحًا على سائر الأقطار المغربية — وهي التي ساعدتهم مساعدةً كبيرةً على أن يحصلوا على مكانة ممتازة هناك أيضًا، تحت رعاية الأسرة المالكة الحفصية.

ظل بنو خلدون يتقلَّبون في تونس أيضًا بين «رياسة علمية ورياسة سلطانية»، تولوا عدة مرات أعلى مراتب الدولة، واشتركوا في الكثير من حروبها دون أن يقطعوا صلاتهم بالعلم والأدب.

كان الجد الثاني لمؤلف المقدمة تولى الوزارة والقيادة، ومات مقتولًا خلال إحدى الثورات، وكان جده الأقرب أيضًا تولَّى الوزارة عدة مرات، وكثيرًا ما ناب عن السلطان خلال غيابه عن عاصمة الملك، إلا أن والد ابن خلدون «آثر العلم والرباط على السيف والخدمة»، وانصرف بكليته إلى العلم والأدب، ويقول عنه ابن خلدون: «إنه قرأ وتفقَّه، وكان مقدَّمًا في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه، وعهدي بأهل الأدب يتحاكمون إليه فيه، ويعرضون حوكهم عليه.»

٣

لقد نشأ ابن خلدون وترعرع في كنف هذه الأسرة، يسمع منذ صغره مناقب أجداده، ويحضر مجالس والده، ويعي أحاديث ضيوفه وزُوَّاره.

وكان من شأن هذه البيئة العائلية أن تولِّد في نفسه نزعتين قويتين؛ حب المنصب والجاه من ناحية، وحب الدرس والعلم من ناحية أخرى.

إن كل واحدة من هاتين النزعتين كانت عميقة الجذور وشديدة التأثير في نفسية ابن خلدون، إنهما تنازعتا السيطرة على تلك النفسية مدةً طويلة، وتغلَّبت — إلى حد ما — تارةً الأولى على الثانية، وطورًا الثانية على الأولى، إلا أن هذه الغلبة لم تصبح حاسمةً في وقت من الأوقات، وظلت النزعتان تؤثِّران في ابن خلدون طول حياته، دون أن تستطيع الواحدة منهما القضاء على الأخرى قضاءً مبرمًا.

ولذلك نجد ابن خلدون ينكبُّ في بادئ الأمر على الدرس والتحصيل بكل نَهَم، ولكنه بعد ذلك حالما يدخل الحياة العامة ينجرف بتيار حب المنصب والجاه، ويخوض غمار الحياة السياسية بكل اندفاع، ويعيش قرابة ربع قرن عيشةً حافلةً بشتى حوادث الطموح والمغامرة، ولكنه خلال هذه الحياة السياسية المغامرة أيضًا لا يتخلَّى عن حب الدرس والعلم، بل ينتهز كل الفرص للاستزادة من العلم بكل الوسائل الممكنة.

وفضلًا عن ذلك يشعر من وقت إلى آخر برغبة شديدة تحدوه إلى التخلُّص من الشواغل العامة، ليستطيع التفرُّغ إلى العلم والدرس.

وقد حاول ابن خلدون مرارًا الاستسلام إلى هذه الرغبة لتحقيق تلك الأمنية، ولكن الحوادث السياسية كانت لا تلبث تجرفه في تيارها من جديد، وتُبْعِده عن حياة العلم والدرس مرةً أخرى.

واستمر الحال على هذا المنوال مدةً طويلةً بين جَزْرٍ ومد، إلى أن استطاع ابن خلدون — في آخر الأمر — أن يعتزل الحياة العامة، ويتباعد عن مسارح السياسة منزويًا في قلعة ابن سلامة.

من المعلوم أن ابن خلدون كتب المقدمة خلال هذا الاعتزال عندما انصرف إلى التفكير والتأليف، ولكن يجب علينا ألا ننسى أن التجارب التي اكتسبها، والملاحظات التي ادخرها، والمعلومات التي جمعها خلال حياته السياسية المعقدة لعبت دورًا هامًّا في هذا المضمار؛ لأنها زوَّدته بعناصر النظريات التي دوَّنها في المقدمة بعد انزوائه في تلك القلعة النائية.

ونستطيع أن نقول لذلك: إن النزعتين المذكورتين تضافرتا على تمكين ابن خلدون من تأليف المقدمة، إن حب المنصب والجاه دفعه إلى خوض غمار الحياة السياسية، ولكن حب الدرس والعلم جعله يتأمل في صفحات هذه الحياة تأمُّلًا نظريًّا، ليس ليستخرج منها قواعد عمليةً للحكم والسياسة، بل ليستقرئ منها مبادئ عامةً تساعد على إبداع علم جديد هو علم الاجتماع.

٤

بعد أن علمنا تأثير «مناقب الأسرة وتقاليدها الأساسية» في نفسية ابن خلدون، يجدر بنا أن نُلْقِيَ نظرةً عابرةً إلى حياته العائلية أيضًا:

كان جد مؤلف المقدمة لا يزال حيًّا عند ولادته هو، إلا أنه مات عندما كان ابن خلدون لا يزال طفلًا في الخامسة من عمره.

وأمَّا والده ووالدته فقد عاشا حتى بلوغه السابعة عشر من العمر، وماتا معًا خلال الطاعون الجارف الذي عمَّ البلاد.

وهكذا حُرِم ابن خلدون من الأب والأم في وقت واحد عندما كان في عتبة الشباب، ولم يبقَ حوله من أسرته إلا أخ أكبر منه، وآخر أصغر.

ونحن نعتقد أن حرمان ابن خلدون من والدَيه في سن مبكرة كان من العوامل التي قلَّلت ارتباطه بأسرته وبمسقط رأسه، وفتحت أمامه أبواب الرحلة والتنقُّل على مصراعيها، وساعدته بذلك على خوض غمار الحياة السياسية في تلك الأزمنة المضطربة في مختلِف الأقطار المغربية.

في الواقع أن ابن خلدون تزوَّج عندما كان في المغرب الأوسط، وأنجب عدة أولاد، فأصبح بذلك رئيس عائلة.

ولكن يظهر أنه كان قد تعوَّد التنقُّل والمغامرة قبل ذلك، ولهذا السبب نجد أن أعباء هذه العائلة لم تؤثر في سير حياته أبدًا، ويتبيَّن من ترجمة حياته أنه عندما كان ينتقل من مدينة إلى أخرى، ومن قُطر إلى آخر كان يفارق عائلته إلى أن يستقر — إلى حد ما — في محل جديد، فيستدعيها بعد ذلك إلى هناك، ونحن نعلم أن هذه الحالة تكررت مرات عديدةً في تواريخ مختلفة.

مثلًا عندما رحل إلى الأندلس صرف زوجته مع أولاده إلى أخوالها في قسنطينة، ولم يستدعِها إلى غرناطة إلا بعد أن تهيأت له أسباب الاستقرار هناك، ولكن من المعلوم أنه لم يمكث في الأندلس — بعد وصول عائلته — أكثر من سنة، وسافر بعدها إلى بجاية، وعاد مرةً أخرى إلى معامع السياسة.

وكذلك عندما رحل من تونس إلى مصر، ترك عائلته في مسقط رأسه، ولم يستدعها إلى القاهرة إلا بعد أن استقر فيها وصار مدرسًا، ولكن هذه المرة لم يتيسر له الالتقاء بها؛ لأن السفينة التي كانت تُقِلُّ العائلة مع أمتعتها غرقت قبل الوصول إلى الإسكندرية، وأصبح ابن خلدون محرومًا من الأهل والعيال بكل معنى الكلمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤