اكتشاف ابن خلدون في البلاد الأوروبية

لقد نَشَرَ البروفسور «ناتانيل شميث» — أستاذ اللغات السامية والتاريخ الشرقي في جامعة كورنيل بالولايات المتحدة الأمريكية — كتابًا عنوانه «ابن خلدون، مؤرخ واجتماعي وفيلسوف.»

يفتتح المؤلف أبحاث هذا الكتاب — المطبوع سنة ١٩٣٠ — بفصل عنوانه «اكتشاف ابن خلدون»، ويستهل الكلام في هذا الفصل بالعبارات التالية:

«أربعمائة سنة كانت قد انقضت على موت ابن خلدون عندما ظهرت إلى النور ونُشِرت — ١٨٠٦ — بعضُ القِطع من كتاباته، مترجمة إلى اللغة الفرنسية من قِبَل «سيلفستر دي ساسي» De Sacy. خلال هذه القرون العديدة، كان أعظم مؤرخي العرب يكاد يكون مجهولًا في أوروبا.»

إن هذا العنوان وهذه العبارات تدل على أن المؤلف كان ينظر إلى مقدمة ابن خلدون كقارة معنوية بقيت مجهولةً مدةً طويلة، أو ككنز ثمين ظل مختفيًا عن الأنظار مدة قرون عديدة؛ ولذلك رأى أن يتتبَّع تاريخ اكتشاف تلك القارة أو ذلك الكنز بكل تفصيل.

وممَّا يجدر ذكره في هذا الصدد أن المؤلف لا يُخْفِي أسفه الشديد على تأخُّر هذا الاكتشاف؛ لأنه يقول في كتابه — كما ذكرنا ذلك سابقًا:

«إن المفكرين الذين وضعوا أُسس علم الاجتماع من جديد، لو كانوا قد اطَّلعوا على مقدمة ابن خلدون في حينها، فاستعانوا بالحقائق التي كان قد اكتشفها، والطرائق التي كان أوجدها ذلك العبقري العربي قبلهم بمدة طويلة؛ لاستطاعوا أن يتقدَّموا بهذا العلم الجديد بسرعة أعظم مما تقدَّموا به فعلًا.»

ولا حاجة إلى البيان أن الرأي الصريح الذي يُبْدِيه المؤلف بهذه الصورة يضاعف أهمية البحث الذي قام به حول «اكتشاف ابن خلدون».

ولذلك رأيت من المفيد أن أنقل فيما يلي بعض المعلومات المسرودة في الفصل المذكور، إتمامًا وتفصيلًا لما كنت ذكرته في دراسة سابقة عن مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب.

[القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع – مقدمة ابن خلدون في نظر علماء الغرب.]

•••

  • (١)

    يعتقد «ناتانيل شميث» بأن آثار ابن خلدون كانت معلومةً في إسبانيا خلال القرن الخامس عشر، ولا شك في أنه مصيب في هذا الاعتقاد؛ لأن ابن خلدون سافر إلى الأندلس مرتين، مكث فيها خلال سفرته الأولى عدة سنوات، اتصل بعدد غير قليل من أدبائها ومفكريها اتصالًا مباشرًا، ثم ظل يخابرهم بعد كتابة المقدمة أيضًا مدةً لا تقل عن عشرين عامًا؛ فليس من المعقول أن تبقى أروع مؤلفاته مجهولةً في الأندلس.

    ولكن من المؤكَّد أنه لم ينتقل شيء من ابن خلدون إلى أوروبا عن طريق إسبانيا.

    ويغلب على ظن البروفسور شميث أن السبب في ذلك يعود إلى إحراق الكتب العربية عند إجلاء العرب عن الأندلس.

    إذ من المعلوم أن الكردينال كسيمنس كان أمر بإحراق الكتب العربية سنة ١٤٩٩، وعملية الإحراق كانت تمت — تنفيذًا لهذا الأمر — في ميدان باب الرملة بغرناطة.

    ليس لدينا معلومات موثوقة عن عدد المجلدات التي تمَّ إحراقها وإتلافها بهذه الصورة؛ لأن روايات المؤرخين الأوروبيين وتقديراتهم في هذه القضية يختلف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا؛ فإن أحدهم يقول إن مجموع المجلدات التي أُحْرِقت كان يزيد على المليون، وآخر يحصر هذا العدد في ثمانين ألفًا، وآخر يزعم بأنه كان عبارةً عن خمسة آلاف.

    ولكن من المؤكَّد أن عدد المخطوطات العربية الباقية في دير إسكوريال — سنة ١٥٨٣ — كان ٢٦١ فقط. ولمَّا كان من المعلوم أن دور الكتب في الأندلس خلال العهد العربي كانت كثيرةً وغنيةً جدًّا، فلا مجال للشك في أن المخطوطات العربية التي تلفت — خلال «الجلوة الكبرى» وفي أعقابها — كانت هائلة.

    وهذا هو السبب في عدم انتقال أخبار ابن خلدون وآثاره إلى أوروبا عن طريق الأندلس.

  • (٢)
    إن أول ذِكر لاسم ابن خلدون في البلاد الأوروبية قد جرى بواسطة كتاب أحمد بن عربشاه، المشهور باسم «عجائب المقدور في أخبار تيمور»؛ فقد طُبِع نصه العربي سنة ١٦٣٦ على يد غوليوس Jacob Golius، ونُشِرت ترجمته للفرنسية سنة ١٦٥٨ على يد «بيار فاتيه» Pierre Vattier، وترجمته إلى اللاتينية سنة ١٧٦٧ على يد مانجر Samuel Manger.

    ومن المعلوم أن أحمد بن عربشاه وصف في كتابه هذا بين ما وصفه من أخبار تيمورلنك، ملاقاته مع ابن خلدون في دمشق. فكان هذا الوصف أول ذكر لاسم ابن خلدون في كتاب طُبِع ونُشِر في البلاد الأوروبية.

    وأمَّا الكتاب الثاني الذي نَقَلَ اسم ابن خلدون إلى الغرب فهو «كشف الظنون»؛ لأن الكتاب المذكور أثار اهتمام المستشرقين، فحملهم على ترجمته إلى اللاتينية من جهة، وإلى الفرنسية من جهة أخرى، ومن المعلوم أنه يذكر ابن خلدون مرات عديدة.

    ولا حاجة إلى البيان أن ذكر اسم ابن خلدون بهذه الصورة العَرَضِية في كتابين مترجمين من اللغة العربية، ما كان يكفي للفت أنظار الأوروبيين؛ ولذلك ظل ابن خلدون مغمورًا ومجهولًا في أوروبا حتى القرن التاسع عشر.

  • (٣)
    لقد كتب بارتلمي دربلو D’Herbelot مقالةً عن ابن خلدون في مكتبته الشرقية التي نُشِرت سنة ١٦٩٧، ولكن المقالة المذكورة كانت مليئةً بالأغلاط، وفضلًا عن ذلك كانت بعيدةً عن إظهار أهمية مؤلفات ابن خلدون.

    وممَّا يبرهن على بُعْدِ المستشرقين عن تقدير أهمية ابن خلدون، أن المخطوطة رقم ٧٦٩ المحفوظة في دار الكتب الملكية بباريس، كانت موصوفةً في فهارس الدار كما يلي:

    «كتاب أخبار لابن خلدون الإفريقي المولود في حضرموت، والذي كان قاضيًا في حلب عندما استولى تيمورلنك على المدينة المذكورة، مات سنة ٨٠٨ في سمرقند.»

    يلاحظ أن كل ما جاء في هذا الوصف مغلوط تمامًا؛ أولًا: إن المخطوطة المذكورة لم تكن من مؤلفات ابن خلدون، بل هي من مؤلفات شهاب الدين الفاسي المقري. ثانيًا: إن ابن خلدون لم يولد في حضرموت، ولم يكن قاضيًا في حلب، ولم يَمُتْ في سمرقند.

    وأمَّا مقدمة ابن خلدون الحقيقية — والتي كانت محفوظةً في الدار المذكورة تحت رقم ١٠١٥ — فلم تستلفت أنظار أحد من الباحثين.

    ولذلك كله نستطيع أن نؤكِّد أن ابن خلدون لم يكن معلومًا في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. وأمَّا الإشارات المسرودة آنفًا فكانت بعيدةً عن تفهيم الباحثين بأنها تعود «إلى مؤرخ عظيم من أعمق باحثي الظواهر الاجتماعية».

  • (٤)

    أمَّا أولى الترجمات عن مقدمة ابن خلدون فتعود إلى سنة ١٨٠٦، حيث نشر «سيلفستر دي ساسي» ترجمةً فرنسيةً لأبحاث البيعة وشارات الملك مع الفقرة الأخيرة من الديباجة، وقد نشر المشار إليه بعد ذلك سنة ١٨١٠ أيضًا ترجمة بعض الأبحاث الأخرى، ولكن جميع تلك الأبحاث لم تكن مما يُظْهِر أهمية المقدمة إظهارًا كافيًا.

    وأمَّا أول من قدر أهمية المقدمة حق التقدير، وَلَفَتَ أنظار الباحثين إليها فكان المؤرخ المستشرق النمساوي المشهور «هاممر بورشتغال». قد نشر سنة ١٨١٢ رسالةً باللغة الألمانية عن «اضمحلال الإسلام بعد القرون الثلاثة الأولى للهجرة»، أشار فيها إلى نظريات ابن خلدون، وخلع عليه لقب «مونتسكيو العرب» ein arabische Montesquieu.

    إن ما قاله «هاممر» عن ابن خلدون في رسالته هذه أثار استغراب المستشرقين، ومع هذا حملهم على زيادة الاهتمام بالمقدمة، وصارت تتوالى ترجمة المقتطفات منها، ونَشْر الأبحاث عنها.

    وقد نشر «هاممر» نفسه سنة ١٨٢٢ عناوين فصول الأبواب الخمسة الأولى من المقدمة، استنادًا إلى ما اطَّلع عليه في إسطنبول، وبعد ذلك بسنتين نشر «غارسن دي تاسي» عناوين فصول الباب السادس أيضًا، استنادًا إلى المخطوطة التي عثر عليها في دار الكتب الملكية بباريس.

    وفي سنة ١٨٢٥ قام «شولتز» بدعاية قوية لمقدمة ابن خلدون، وتمنَّى أن يراها «مترجمةً ترجمةً كاملة».

    بعد ذلك كثرت الأبحاث والترجمات عن ابن خلدون في مختلِف البلاد الغربية بمختلِف اللغات الأوروبية.

    ولكن قلة «مخطوطات المقدمة» المحفوظة والمعلومة حينئذ في دور الكتب الأوروبية، كانت تحول دون توسُّع تلك الأبحاث التوسُّع اللازم.

    ولذلك نستطيع أن نقول إن قيمة ابن خلدون ومقدمته لم تظهر للأوروبيين الظهور الكافي، إلا بعد أن طبع «كاترمير» نصها العربي، وجعلها بذلك تحت متناوَل أيدي المستشرقين، ولا سيما بعد أن نشر «دو سلان» ترجمتها الفرنسية، وجعلها بذلك تحت متناول جميع العلماء والباحثين، ولو كانوا من غير المستشرقين.

    ومن المعلوم أن طَبْع النص العربي ونَشْر الترجمة الفرنسية كان تمَّ خلال الربع الثالث من القرن التاسع عشر، بين سنة ١٨٥٧ وسنة ١٨٦٨.

•••

يعطينا البروفسور شميث في فصله عن اكتشاف «ابن خلدون» تفاصيل كثيرةً عمَّا تم ترجمته من تاريخ ابن خلدون ومن مقدمته، وعمَّا نُشِرَ من الأبحاث حول التاريخ والمقدمة بمختلِف اللغات الغربية.

إني لا أرى لزومًا إلى نقل تلك التفاصيل، إلا أني أرى من الضروري أن أقول:

إن اكتشاف ابن خلدون قد تمَّ بالصورة التي لخَّصتها آنفًا، إلا أن فَرْز وجَرْد وإظهار كل ما يضمُّه هذا الكنز القديم من الآراء والملاحظات الثمينة لمَّا يتم بعدُ، وإنه لا يزال في حاجة إلى المزيد من البحوث والجهود.

ولا أراني في حاجة إلى القول بأن المساهمة في هذا الفرز والجرد والبحث كانت من أهم أغراض هذه الدراسات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤