تأثير ابن خلدون في مؤرخي الأتراك ومفكريهم

لقد قلت في بحث سابق «إن مقدمة ابن خلدون وجدت أكبر الصدى، وأثَّرت أشد التأثير في مؤلَّفات المؤرخين العثمانيين» [القسم الأول: نظرات وملاحظات عامة – طرافة المقدمة وتأثيرها].

وقد قدَّم أحد أساتذة جامعة إسطنبول — وهو البروفسور فندق أوغلو ضياء الدين فخري — إلى مؤتمر المستشرقين الثاني والعشرين المنعقد سنة ١٩٥١ تقريرًا حول هذا الموضوع، عنونه باللغة الفرنسية: L’Ecole Ibn-Haldounienne en Turquie أي «المدرسة الابن خلدونية في تركيا»، ثم نشر ترجمة التقرير إلى التركية تحت عنوان «ابن خلدون في تاريخ التفكير التركي».

استهلَّ الأستاذ ضياء الدين فخري تقريره هذا ببعض الملاحظات حول مساهمة الأتراك في تكوين الثقافة الإسلامية — ردًّا على بعض العبارات الواردة في كتاب عربي معاصر — ثم ذكر أسماء المؤلفين والمؤرخين العثمانيين الذين تأثَّروا بابن خلدون، وقال عنهم إنهم «ابن خلدونيين»، ونعت مذهبهم ﺑ «ابن خلدونية» (ابن خلدونيزم).

•••

ورأيت من المفيد أن أنقل فيما يلي بعض المعلومات عن هؤلاء، حسب ما جاء في التقرير المذكور:

  • (أ)

    إن أول من اهتم بابن خلدون وبمقدمته بين العلماء الأتراك كان «مصطفى بن عبد الله» المعروف في الغرب بلقب «حاجي خليفة»، وفي الشرق باسم «كاتب جلبي»، وهو من رجال النصف الأول من القرن السابع عشر (١٦٠٩–١٦٧٥).

    اشتهر المشار إليه — أكثر ما اشتهر — بموسوعته الضخمة «كشف الظنون في أسماء العلوم والفنون»، ومما لا شك فيه أن المصدر الأساسي للموسوعة المذكورة هو الباب السادس من مقدمة ابن خلدون.

    وعندما يستعرض المؤلف كتب التواريخ يذكر تاريخ ابن خلدون، ويقول: «وهو كبير عظيم النفع.» وعندما يعرِّف التاريخ يقتفي أثر ابن خلدون، ولكنه يُضيف إلى ذلك ما يعتقده في فائدة التاريخ العملية، كما يتضح من النص الوارد في كشف الظنون:

    «وعلم التاريخ هو معرفة أحوال الطوائف وبلدانهم ورسومهم وعاداتهم وصنائع أشخاصهم وأنسابهم ووفياتهم، إلى غير ذلك، وموضوعه أحوال الأشخاص الماضية، وفائدته العبرة بتلك الأحوال، والنصح بها، وحصول مَلَكة التجارِب بالوقوف عن تقلُّبات الزمن؛ ليحترز عن أمثال ما نُقِل من المضار.»

    هذا ولمؤلف كشف الظنون ثلاثة كتب خاصة بالتاريخ؛ أسمى اثنين منها «فذلكة التاريخ»، والثالث «تقويم التواريخ».

    يبدأ كتاب الفذلكة ببحثٍ عن ماهيَّة التاريخ، يقتفي في ذلك أثر ابن خلدون تمام الاقتفاء.

    وأمَّا كتاب «تقويم التواريخ» فينتهي ببعض الملاحظات السياسية، يقول المؤلف — في آخرها: «إن تفاصيل هذه المعلومات موجودة في مقدمة ابن خلدون.»

    (إن كشف الظنون مكتوب باللغة العربية، وكذلك الكتاب الأول من فذلكة التاريخ.)

  • (ب)

    مصطفى نعيما من أشهر مؤرخي الدولة العثمانية، عاش في النصف الأخير من القرن السابع عشر، ومات سنة ١٧١٦.

    وتاريخه المعروف باسم «تاريخ نعيما» مُصدَّر بمقدمة مستلهَمة من ابن خلدون.

    يشير نعيما إلى «التاريخ الكبير الذي ألَّفه ابن خلدون المغربي» باسم «عنوان العبر»، ويقول: «إن مقدمة هذا الكتاب وحدها» بمثابة «كنز لا قعر له، ومليء بجواهر العلوم ولآلئ الحكم.»

    يذكر نعيما في مقدمة تاريخه هذا نظرية ابن خلدون في الأطوار الخمسة، ولكنه يقول، بعد شرح الطور الخامس: «إن الرجال العظام يستطيعون أن يؤثِّروا في هذا الطور الخامس، وأن يخلِّصوا الهيئة الاجتماعية من الاضمحلال.»

  • (جـ)

    المؤرخ «أحمد بن لطف الله» الذي عُرِف بلقب «منجم باشي (رئيس المنجمين)» كان معاصرًا لنعيما السالف الذكر، عاش في النصف الأخير من القرن السابع عشر، ومات سنة ١٧٠٢.

    كتب تاريخه المشهور «جامع الدول» باللغة العربية، صدَّره بمقدمة مستلهَمة من ابن خلدون، ونقل فيها بعض عباراته بنصوصها الأصلية. مثلًا عندما تكلَّم عن أهم أسباب الخطأ عند المؤرخين، قال: «هو الذهول عن طبيعة العمران وأصول الاجتماع الإنساني على ما فصَّله ابن خلدون.»

  • (د)

    محمد صاحب، المعروف بلقب «بيري زاده»، عاش في الربع الأخير من القرن السابع عشر، والنصف الأول من القرن الثامن عشر (١٦٧٤–١٧٤٩).

    إنه تبوَّأ مقام «المشيخة الإسلامية» في عهد السلطانين أحمد الثالث ومحمود الأول.

    كان من أشد المعجبين بمقدمة ابن خلدون، وإعجابه هذا حمله على ترجمتها إلى اللغة التركية؛ «لتعمَّ الاستفادة منها».

    وعندما تكلَّم عن مؤلف المقدمة — في هذه الترجمة — قال عنه: «المؤرخ ذو الفنون، العلامة ابن خلدون، من فحول المغاربة … ولي الدين عبد الرحمن الحضرمي، أحيا فن التاريخ ورفع شأنه.»

    ولا حاجة إلى البيان أن هذه الترجمة ساعدت على انتشار آراء ابن خلدون بين الأتراك مساعدةً كبيرة.

    ظلت ترجمة بيري زاده مخطوطةً حتى سنة ١٨٥٧، حيث طُبِعت بمطبعة بولاق.١

    (ويقول البارون دو سلان، مترجم المقدمة إلى الفرنسية: إنه عندما علم بوجود نسخة مخطوطة من الترجمة التركية في دار الكتب الملكية ببرلين، كلَّف أحد أصدقائه باستنساخها. وإنه استفاد منها استفادةً كبيرة، على الرغم من وصولها إليه بعد إنجاز ترجمة قسم كبير من المقدمة.)

  • (هـ)

    أحمد جودت باشا، من أرقى وأشهر علماء الأتراك ومؤرخيهم الذين نبغوا خلال القرن التاسع عشر (١٨٢٢–١٨٩٥).

    كان المؤرخَ الرسمي للدولة العثمانية، وكان يقول إن أشدَّ من أثَّروا في «تكوينه الفكري» هم: ميشله وتين من الغربيين، وابن تيمية وابن خلدون من الشرقيين.

    ولفرط إعجابه بابن خلدون أتم الترجمة التي كان بدأها بيري زاده قبل مائة وثلاثين عامًا. ترجم جميع فصول الباب السادس، وفضلًا عن ذلك أضاف إليها كثيرًا من الشروح والمعلومات، يبدؤها بقوله «للمترجم»، ويختمها بقوله «انتهى كلام المترجم.»

    ويُفْهَم ممَّا ورد في آخر الكتاب أن جودت باشا أتم الترجمة سنة ١٨٥٨، إلا أن طبعها لم يتيسَّر إلا سنة ١٨٦٠.

  • (و)

    ويجب أن نضيف إلى ما سبق ذكره مؤرِّخَيْن آخرَين كانا من رجال القرن التاسع عشر، وهما: «خير الله أفندي» (١٨١٧–١٨٦٦)، وعبد الله صبحي باشا (١٨١٨–١٨٨٦).

    كان خير الله أفندي أول المؤرخين العثمانيين الذين اتصلوا بالتواريخ والمصادر الغربية، سمَّى تاريخه الضخم «مفتاح العبر»، وصدَّره بمقدمة تكلَّم فيها عن آراء ابن خلدون في العصبية وفي أطوار الدول، وقال إنها لا تنطبق على أحوال الدول الأوروبية، وصرَّح بأن الدول المذكورة لم تكن سريعة الزوال مثل الدول الآسيوية.

    وأمَّا صبحي باشا فقال عن تاريخ ابن خلدون إنه: «كنز دقائق على كل شيء فائق»، ومع هذا رأى أنه «لا يغني من يود الاطلاع على التفاصيل»؛ ولذلك إنه يحتاج إلى «تكميل». وكتب تاريخه لتطمين هذا الاحتياج، وسماه «تكملة العبر»، وقصد بذلك أنه كتبه «تكملةً» لكتاب العبر الذي كان ألَّفه ابن خلدون.

•••

وبعد هذه المعلومات التي اقتبستها عن التقرير الآنف الذكر، أرى أن أضيف إلى ذلك بعض المعلومات عن تأثير مقدمة ابن خلدون في كُتَّاب الأتراك المعاصرين:
  • (١)

    إن الأستاذ «عبد الرحمن شرف» — الذي صار آخر المؤرخين الرسميين للدولة العثمانية — كان نشر كتابًا مدرسيًّا عنوانه «تاريخ الدولة العلية العثمانية».

    وفي هذا الكتاب ذكر نظرية ابن خلدون في أعمار الدول — بمناسبة سرد حوادث «فاصلة السلطنة» التي أعقبت عهد بايزيد الأول رابع سلاطين آل عثمان — وقال: إن اضمحلال الدولة بعد السلطان الرابع، وانقسامها بين أولاده، كان آخر شاهد على صحة نظرية ابن خلدون. ولكن إعادة تأسيس السلطنة من جديد، واستمرارها بعد ذلك — منذ عهد مؤسسها الثاني محمد جلبي — صارت أول واقعة خالفت النظرية المذكورة.

    (ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن نظرية ابن خلدون في أعمار الدول وأطوارها، هي التي كانت استلفتت أنظار مؤرخي الأتراك أكثر من كل شيء آخر، كما أن هؤلاء المؤرخين — مثل غيرهم الكثيرين — لم ينتبهوا إلى ما ورد في المقدمة نفسها عن قيود وتحديدات على هذه النظرية.)

  • (٢)

    إن جامعة إسطنبول تهتم بابن خلدون ونظرياته اهتمامًا بالغًا؛ كليات الآداب والاقتصاد والحقوق، تخصِّص في دروسها ومحاضراتها حصةً لا بأس بها لمقدمة ابن خلدون.

    وقد نشر الأستاذ ضياء الدين فخري — كاتب التقرير الذي أشرنا إليه آنفًا — عدة كتب ورسائل ومقالات عن ابن خلدون، وآراء ابن خلدون، نذكر أهمها فيما يلي:

    كتاب عن «ابن خلدون، حياته وآثاره»، بالاشتراك مع أستاذ جامعي آخر هو البروفسور حلمي ضيائو لكن (وكان الغرض من تأليف ونَشْر هذا الكتاب تعريف ابن خلدون إلى طبقة المثقفين في البلاد).

    رسالة في آراء ابن خلدون الحقوقية.

    كتاب عنوانه: مفهوم التاريخ ومنهاجه عند ابن خلدون.

    ورسالة في نظريات المعرفة والتاريخ عند ابن خلدون.

    وأخرى في فلسفة ابن خلدون.

  • (٣)

    إن مقدمة ابن خلدون أثارت اهتمام بعض الطلاب أيضًا، وحملتهم على اتخاذ أبحاثها موضوعًا لرسالاتهم الجامعية.

    وقد ناقشت كلية الآداب وقَبِلَتْ سنة ١٩٤٥-١٩٤٦ الرسالة التي قدَّمها «يوسف دميرقول» عن «فلسفة التاريخ، عند ابن خلدون».

    كما أنها ناقشت وقَبِلَت سنة ١٩٤٧-١٩٤٨ الرسالة التي قدَّمها «فخري باشر» عن «العامل الجغرافي عند أرسطو وابن خلدون وراتزل».

١  ومما يجدر ذكره أن طبعة بولاق هذه ضمَّت في آخرها الفصول التي لم تتم ترجمتها إلى التركية بنصوصها العربية؛ «لتتم فائدتها». يقع الكتاب في ٦٢٦ صفحةً من القَطع الكبير؛ اﻟ ٥٢٨ الأولى منها بالتركية، واﻟ ٩٨ الباقية باللغة العربية. الفصول التركية تتألَّف من جميع فصول الأبواب الخمسة الأولى، مع عشرة فصول من الباب السادس. ولكن المؤرخ جودت باشا تأكَّد من أن هذه الفصول الأخيرة لم تكن من ترجمة بيري زاده نفسه، كما أنه وجد فيها أغلاطًا كثيرة؛ ولذلك أعاد ترجمتها وأصبحت بذلك ترجمة جودت باشا شاملةً لجميع فصول الباب السادس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤