تاريخ كتابة المقدمة

١

متى وأين، وكيف كتب ابن خلدون مقدمته المشهورة؟

إن أجوبة ذلك مسطورة في بعض الفقرات التي كتبها المؤلف بنفسه، أولًا في آخر المقدمة، وثانيًا في ترجمة حياته الملحقة بالتاريخ.

قال ابن خلدون في آخر الكتاب الأول ما يلي:

«أتممت هذا الجزء بالوضع والتأليف، قبل التنقيح والتهذيب، في مدة خمسة أشهر، آخرها منتصف عام تسعة وسبعين وسبعمائة، ثم نقَّحته بعد ذلك وهذَّبته، وألحقت به تواريخ الأمم، كما ذكرت في أوله، وشرحته» (ص٥٨٨).

كما كتب في ترجمة حياته عندما شرح إقامته عند أولاد عريف في قلعة ابن سلامة:

«فأقمت بها أربعة أعوام متخليًا عن الشواغل، وشرعت في تأليف هذا الكتاب، وأنا مقيم بها، وأكملت المقدمة على هذا النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة، فسَالَتْ فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها» (التاريخ، ج٧، ص٤٤٥).

يُفْهَم من ذلك بصراحة تامة أن ابن خلدون كتب المقدمة سنة ١٣٧٧ ميلادية (٧٧٩ هجرية)، عندما كان يعيش معتزلًا في قلعة ابن سلامة في مدة خمسة أشهر تقريبًا.

في ذلك التاريخ كان قد بلغ ابن خلدون السنة الخامسة والأربعين من عمره، وكان قد اعتزل الحياة السياسية قبل ثلاث سنوات، بعد أن خاض غمارها أكثر من عشرين عامًا.

ومن المعلوم أن الحياة السياسية التي خاض غمارها ابن خلدون خلال هذه المدة الطويلة، كانت حياةً عنيفةً مليئةً بالمغامرات؛ إنه كان قد تقلَّب في عدة مناصب سياسية — من كتابة العلامة إلى كتابة السر، فالحجابة أو الوزارة — واشترك في معظم وقائع الدول المغربية، ولعب دورًا هامًّا في عدة انقلابات سياسية، كل ذلك متنقلًا بين تونس، وتلمسان، وفاس، وبيسكرة، وغرناطة، في إفريقية والمغرب الأقصى والأندلس. وقد ذاق خلال هذه الحياة السياسية العنيفة الشيء الكثير من لذة الحكم ومرارة التغرُّب، ومن حلاوة الفوز وخيبة الفشل، حتى إنه لم يبقَ غريبًا عن عذاب السجن أيضًا.

ويظهر أن نظره الفاحص الناقد كان يشتغل بشدة خلال هذه الحياة الفعَّالة، وذهنه الباحث الوقَّاد كان لا ينفك عن اختزان الملاحظات تلو الملاحظات ولو بصورة لا شعورية. فعندما تهيَّأ له شيء من هدوء البال واستقرار الحياة في قلعة ابن سلامة بين أحياء بني عريف، وعندما بدأ يكتب «التاريخ»، وتقدَّم إلى درجة ما في طريق هذا التأليف؛ تفاعلت تلك الملاحظات المخزونة تفاعلًا شديدًا، انبثقت منه أبحاث المقدمة انبثاقًا، وتدفَّقت منه الآراء والأفكار تدفُّقًا.

فإنني عندما أتأمل فيما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد أجزم بأن توصُّله إلى مجموعة الآراء المبتكرة الكثيرة المسطورة في المقدمة، إنما كان حدث من جرَّاء «تدفق فجائي»، بعد «حدس باطني» و«اختمار لا شعوري»، كما لاحظ ذلك بعض علماء النفس في حياة عدد غير قليل من المفكرين والفنانين، في تاريخ عدد غير يسير من الابتكارات والاكتشافات، ذلك النوع من «التدفُّق الفجائي» الذي يحمل المفكر على التعجُّب من نتائج تفكيره»، ويوصله أحيانًا إلى النظر إليها على أنها «آراء إلهامية» تصدر عن «قدرة خارجة عن نفسه» كأنها تُلْقَى إليه إلقاءً. فأنا أميل إلى الاعتقاد بأن ابن خلدون عندما قال: «أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان.» وعندما كتب: «ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهامًا.» ولا سيما عندما قال: «سالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر.» عندما قال وكتب ذلك وأمثال ذلك لم يكن مسترسلًا في طريق التشبيه والمجاز، ولا مستسلمًا لتداعي الكلمات والتراكيب، بل كان معبِّرًا تعبيرًا صحيحًا عما كان يشعر به في قرارة نفسه فعلًا من جرَّاء طرافة الآراء التي قد توصَّل إليها بصورة تكاد تكون فجائية.

أقول تكاد تكون فجائية؛ لأنني أعتقد أن تكوُّن وتولُّد تلك المجموعة الكبيرة من الآراء والملاحظات التي تزدحم بها المقدمة في مدة قصيرة لا تتجاوز الخمسة أشهر، مما يجب أن يُعتبر أقرب إلى «الاندفاعات الفجائية» من «التأمُّلات التدريجية».

وقد يتساءل بعضهم: وهل يجوز لنا أن نعتمد على ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد؟ أمَّا أنا فأقول — ردًّا على هذا السؤال: إنني لا أرى في هذه المسألة ما يبرر الشك في صدق ابن خلدون، فيستوجب عدم الاعتماد على تصريحاته؛ فأولًا أنا لا أجد فيما يقصُّه علينا المؤلف في هذا الصدد أمرًا خارقًا للعادة وشاذًّا على وتيرة «اختمار الأفكار بصورة لا شعورية»، كما ألاحظ أن ابن خلدون قد سجَّل على نفسه — في ترجمة حياته — تقلُّباته السياسية العديدة بكل تفاصيلها، فلا يحق لنا — والحالة هذه — أن نزعم بأنه كتب ما كتبه عن كيفية تأليف المقدمة بصورة مخالِفَة لما وقع بقصد التمدُّح والتفاخر.

هذا وأزيد على ذلك فأقول: إنني ألمح في العبارات التي ذكرتها آنفًا آثار التحيُّر والتعجُّب أكثر مما أجد فيها أداء التمدُّح والتفاخر.

٢

ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن ابن خلدون يقيِّد أمر «إتمام المقدمة في خمسة أشهر»، بتعبير «قبل التنقيح والتهذيب»، ويعلمنا بذلك أنه قد اشتغل بتنقيحها وتهذيبها مؤخَّرًا.

وذلك يضع أمامنا مسائل عديدةً تحتاج إلى درس وحل بكل اهتمام؛ ماذا كان مدى التهذيب والتنقيح الذي أشار إليه ابن خلدون في عبارته المذكورة؟ وهل كان حدث ذلك مرةً واحدةً فقط، أم تكرَّر عدة مرات خلال سنين مختلفة؟ وهل انحصر هذا التهذيب والتنقيح في نطاق بعض الفصول، أم تناول جميع أقسام الكتاب؟ وهل اقتصر على تعديل الفصول الموجودة قبلًا، أم تعدَّى ذلك إلى إضافة فصول جديدة تمامًا؟

هذا ونحن نعلم بأن ابن خلدون عاش بعد تاريخ تأليف المقدمة على النحو الذي ذكرناه آنفًا، مدةً تناهز تسعةً وعشرين عامًا، ففي أية سنة من هذه السنوات توقَّفت وانتهت عملية التهذيب؟ وماذا كان اتجاه التطوُّرات التي حدثت في آرائه ومناحي بحثه وتفكيره خلال هذه المدة الطويلة؟

إننا نعلم أن ابن خلدون لم يَعُدْ إلى ممارسة السياسة الفعَّالة بعد كتابة المقدمة، بل انكبَّ على جمع المعلومات التاريخية، كما اشتغل بتدريس الفقه في بعض المدارس، وفي الأخير مارس القضاء عندما تقلَّد منصب قاضي قضاة المالكية في مصر القاهرة، واتصل بالصوفية اتصالًا وثيقًا عندما تعيَّن شيخًا لخانقاه بيبرس في العاصمة المصرية. فما هي الأقسام التي كتبها ابن خلدون بعد انصرافه إلى الاشتغال بالأمور الفقهية والقضائية على هذا المنوال؟ وما هي التطوُّرات التي حدثت في آرائه العلمية ونزعاته الفكرية بعد انضمامه إلى حلقات القضاة والفقهاء، ولا سيما بعد اتصاله بمشائخ الصوفية وعلمائها؟

إن معظم مباحث المقدمة مكتوبة بنزعة علمانية وعقلانية Rationaliste صريحة، في حين أن بعض فصولها تنمُّ عن نزعة صوفية قوية، فهل كان الأمر كذلك منذ بداية التأليف؟ أم أن ذلك كانت نتيجة «تطوُّر حدث في طراز تفكيره»، من جرَّاء اشتغاله بتدريس الفقه وممارسة القضاء، واضطراره إلى مناقشة علماء الدين والفقهاء في حياته الجديدة؟

إن هذه المسائل الخطيرة لا يمكن حلُّها إلا بتعيين الأقسام الأصلية من المقدمة، وتمييزها من الأقسام المضافة إليها مؤخَّرًا.

وأمَّا وسائل البحث ومناحي الاستقصاء التي يمكن أن تؤدي بنا إلى معرفة ذلك، فتنقسم إلى قسمين أساسيين وفقًا للخطط التي يتبعها المؤرخون الباحثون في مثل هذه المسائل:
  • (أ)

    طريقة النقد الداخلي.

  • (ب)

    طريقة النقد الخارجي.

النقد الداخلي؛ هو البحث عن أجوبة هذه الأسئلة عن طريقة درس المقدمة نفسها، ومقارنة أقسامها المختلفة، من حيث الأساليب والمضامين.

وأمَّا النقد الخارجي، فهو البحث عن أجوبة هذه الأسئلة عن طريقة درس نسخ المقدمة المختلفة، وإظهار الفروق الموجودة بينها، مع تحرِّي الأسباب التي يمكن إرجاع هذه الفروق إليها.

فلندرس المقدمة على كل واحدة من هاتين الطريقتين على حدة؛ لنتوصل إلى حل المسائل التي سردناها آنفًا.

٣

  • (١)

    عندما ندرس المقدمة بإمعان نجد فيها بعض الفقرات التي لا مجال للشك في أنها كُتِبت قبل هجرة ابن خلدون إلى مصر، وبعض الفقرات التي — بعكس ذلك — يمكن الجزم بأنها كُتِبت بعد هجرته إلى مصر.

    مثلًا قد جاء في الديباجة بعد ذكر أقسام الكتاب:

    «ثم كانت الرحلة إلى المشرق؛ لاجتناء أنواره وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره، والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره؛ فزدت ما نقص من أخبار ملوك العجم في تلك الديار» (ص٦).

    فلا مجال للشك في أن هذه الفقرة كُتِبت بعد النزوح إلى مصر.

    في حين أنه جاء في أواخر البحث الذي يشرح فضل علم التاريخ:

    «وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القُطر المغربي؛ لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب وأحواله وأجياله وأممه، وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأقطار؛ لعدم اطلاعي على أحوال المشرق وأممه» (ص٣٢).

    ولا مجال للشك في أن هذه الفقرات مكتوبة قبل الهجرة إلى مصر.

    إننا نجد في مختلِف فصول الكتاب بعض الفقرات التي تلائم المثال الأول، وبعض الفقرات التي تنسجم مع المثال الثاني.

    فإننا نقرأ — مثلًا — في فصل العلوم العقلية وأصنافها العبارة التالية:

    «يبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع العلوم لم تزل عندهم موفورة» (ص٣٨١).

    ونقرأ في الفصل القائل بأن الصنائع إنما تكمل بكمال العمران الحضري العبارة التالية:

    «كما بلغنا عن أهل مصر أن فيهم من يُعلِّم الطيور العُجم والحمر الإنسية، وغير ذلك من الصنائع التي لا توجد عندنا بالمغرب» (ص٤٠١).

    ونجد أيضًا في فصل تعليم الولدان العبارات التالية:

    «أمَّا أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بمَ عنايتهم منها، والذي يُنقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن» (ص٥٣٨-٥٣٩).

    فلا مجال للشك في أن هذه العبارات كلها قد كُتِبت قبل السفر إلى مصر؛ لأنها تذكر أحوال مصر والمشرق مقرونةً بتعبيرات «بلغنا، يبلغنا، يُنْقَل إلينا».

    غير أننا نجد في بعض الفصول فقرات معاكِسَةً لذلك تمامًا، ونقرأ — مثلًا — في فصل الملاحم العبارة التالية:

    «وقفت بالمشرق على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي» (ص٣٤٠).

    كما نجد في موضع آخر من الفصل نفسه العبارة التالية:

    «لقد سألت أكمل الدين ابن شيخ الحنفية من العجم بالديار المصرية عن هذه الملحمة وعن هذا الرجل الذي تُنسب إليه من الصوفية» (ص٣٤٢).

    وكذلك نجد في فصل العلوم العقلية العبارة التالية:

    «ولقد وقفت بمصر على تآليف متعددة لرجل من عظماء هراة» (ص٤٨١).

    ونحن نجزم من سياق هذه العبارات أنها كلها كُتِبت بعد السفر إلى مصر، والاطلاع على أحوالها اطلاع الشاهد العيان.

    ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن بعض هذه العبارات المتباينة تقع في فصل واحد، فإننا نستطيع أن نستدلَّ من ذلك كله على الأمرين التاليين:
    • أولًا: يوجد في المقدمة التي بين أيدينا الآن بعض الأقسام التي كُتِبت مؤخرًا، ليس بعد العودة إلى تونس فحسب، بل بعد الهجرة إلى مصر أيضًا.
    • ثانيًا: حينما أضاف المؤلف تلك العبارات لم يصحِّح ويعدِّل العبارات الباقية حسب ما تقتضيه العبارات الجديدة، بل ترك سائر أقسام الفصول على حالها.

    فلا نستبعد أن يكون قد حدث أمثال ذلك في سائر أقسام المقدمة أيضًا، فلا نعدو الحقيقة إذا ما عزونا آثار التناقض التي نلمسها في بعض أقسام المقدمة إلى سبب مماثل للسبب الآنف الذكر؛ وهو إدخال فكرة جديدة في فصل من الفصول، أو إضافة فصل جديد إلى باب من الأبواب، من غير إعادة النظر في الأقسام القديمة، وتصحيحها على ضوء هذه الفكرة الجديدة، وحسب مقتضيات الفصل الجديدة.

  • (٢)

    إذا أنعمنا النظر في بحث «حقيقة النبوة» في المقدمة السادسة من الباب الأول، وجدنا فيه قرائن عديدة، تدل دلالةً قطعيةً على أنه كُتِب بعد إتمام المقدمة بمدة غير يسيرة.

    فإننا نلاحظ أولًا أن البحث يبدأ بعبارة: «اعلم، أرشدنا الله وإياك» (ص٩٥)، وفي هذا ما فيه من الشذوذ عن الأسلوب العام الذي يسير عليه ابن خلدون في بدء الفصول والأبحاث. إذا أنعمنا النظر في مداخل الفصول وجدنا أن ٧٠ منها تبتدئ بعبارة: «اعلم أن»، و٦٧ منها تبدأ بتعبير مثل «والسبب في ذلك»، أو «وسببه»، أو «ذلك أن»، والباقية منها تتناول البحث مباشرة، أو بتذكير بعض المباحث المتقدمة. وأمَّا الدعاء للقارئ بتعبير مثل «أرشدنا الله وإياك»، فمما لا يشاهد إلا في فصلين من مجموع فصول المقدمة التي تزيد على المائتين.

    فيحق لنا أن نظنَّ ظنًّا قويًّا بأن خروج ابن خلدون في بدء هذا الفصل على خطته العامة، إنما نشأ من أنه كتب هذا البحث بعد مرور مدة غير يسيرة على كتابته سائر الفصول.

    ولا يمكن أن يقال «إن ذلك قد يكون ناتجًا عن مقتضى الموضوع نفسه»؛ وذلك لأننا نلاحظ بأن سائر الفصول التي تمتُّ بصلة قوية إلى الأمور الدينية — مثل فصول الخلافة، والإمامة، والفاطمي، والتفسير، والتصوف، وعلوم الأنبياء عليهم السلام — لا تشذ عن الأسلوب العام، ولا تبتدئ بالدعاء للقارئ.

    وزيادة على ذلك فإننا نجد في الذهنية المسيطرة على هذا الفصل أيضًا ما يؤيد الظن الآنف الذكر تأييدًا كبيرًا.

    غير أننا نجد في آخر بحث «حقيقة النبوة» قرينةً قويةً أخرى تحوِّل ظننا هذا إلى يقين؛ لأننا نقرأ في القسم الأخير من البحث العبارات التالية:

    «التناسب بين الأشياء هو سبب الحصول على المجهول من المعلوم الحاصل للنفس، وطريق لحصوله سيما من أهل الرياضة، فإنها تفيد العقل قوةً على القياس، وزيادةً في الفكر، وقد مرَّ تعليل ذلك غير مرة» (ص١١٨).

    إن عبارة «قد مر تعليل ذلك غير مرة» هنا تكتسب أهميةً خاصة؛ لأن هذا البحث يقع في الباب الأول، وأمَّا التعليل الذي يشير إليه المؤلف فلم يسبق هذا البحث وهذا الباب، إنما أتى في الفصل الأخير من الباب الخامس، وفي عدة فصول من الباب السادس.

    فيحق لنا أن نجزم بأن ابن خلدون قد كتب هذا البحث بعد الانتهاء من كتابة فصول المقدمة بأجمعها، كما يحق لنا أن نقول إن ذلك كان بعد مرور مدة غير يسيرة على الكتابة الأولى؛ لأن هذه المدة كانت قد أنسته مواضع التعليل الذي أشار إليه في هذا البحث، كما أنها كانت قد قوَّت في ذهنه بعض الاتجاهات والنزعات الجديدة.

  • (٣)

    وإذا أنعمنا النظر في الفصل الذي يقرِّر «وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته» (ص٥٣٣)، وجدنا فيه قرائن عديدةً تدل دلالةً قاطعةً على أن القسم الثاني من الفصل المذكور قد كُتِب بعد مرور مدة غير يسيرة على كتابة القسم الأول منه.

    فإن من يقرأ الفصل المذكور قراءة متأمِّل يجد أن سلسلة الأبحاث المنسجمة فيه تنتهي في وسطه، حين يقول المؤلف: «ومن المذاهب الجميلة، والطرق الواجبة في التعليم ألا يُخلط على المتعلم علمان معًا»، ويعقِّب على قوله هذا ببعض الشروح والبراهين فينهي كلامه في هذا الصدد بقوله: «والله تعالى الموفِّق للصواب» (ص٥٣٤).

    إن المؤلف يبدأ بعد ذلك بحثًا جديدًا تمامًا، بأسلوب يختلف عن أسلوب الأقسام السابقة اختلافًا كليًّا، يبدأ هذا البحث بقوله:

    «اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلُّمك، فإن تلقَّيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة؛ ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة، وأُقدِّم لك مقدمةً تعينك في فهمها» (ص٥٣٤).

    وبعد إتمام هذه المقدمة يعود إلى مخاطبة المتعلم قائلًا:

    «فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك.»

    ويستمر على هذا المنوال إلى آخر الفصل:

    «فإذا ابتُليت بمثل ذلك، وعرض لك ارتباك في فهمك، وتشغيب بالشبهات في ذهنك؛ فاطرح ذلك، وانتبذ حُجُب الألفاظ، وإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك. فاعتبر ذلك، واستمطر رحمة الله تعالى متى أَعوزك فهم المسائل؛ تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب» (ص٥٣٥-٥٣٦).

    إن الفرق بين هذين القسمين من الفصل الواحد واضح كل الوضوح؛ فإن القسم الأول يستعرض «طرق التعليم» ويوازن بينها، متمشيًا بذلك مع مقتضيات عنوان الفصل، غير أن القسم الثاني يخاطب «المتعلمين»، ويقدِّم لهم نصائح عديدةً تضمن «الفهم والتعلُّم»، مخالفًا بذلك عنوان الفصل مخالفةُ صارخة.

    كما أن القسم الأول يتضمَّن أبحاثًا تعتمد — من أولها إلى آخرها — على التفكير العلمي النظري، والاستدلال العقلي المنطقي، في حين أن القسم الثاني يتألَّف من أبحاث تعتمد — من أولها إلى آخرها — على «إشراق أنوار الفتح من الله»، وعلى «إشراق أنواره بالإلهام إلى الصواب»، فتنمُّ عن تفكير ديني بحت ونزعة صوفية عميقة.

    فيحق لنا أن نستدلَّ من كل ذلك على أن القسم الثاني من الفصل المذكور قد كُتِب بعد مرور مدة على كتابة المقدمة، تحت تأثير النزعة الصوفية التي تقوَّت في نفسية ابن خلدون بمرور الزمان.

  • (٤)

    يكتب ابن خلدون في المقدمة الثانية من الباب الأول بعض المعلومات العامة عن جغرافية الأرض، ينهيها بالعبارات التالية:

    «وقد ذكر ذلك كله بطلميوس في كتابه، والشريف في كتاب روجار، وصوروا في الجغرافيا جميع ما في المعمور من الجبال والبحار والأدوية، واستوفوا من ذلك ما لا حاجة لنا به لطوله، ولأن عنايتنا في الأكثر إنما هي بالمغرب الذي هو وطن البربر، وبالأوطان التي للعرب من المشرق» (ص٤٨).

    ومع هذا فإنه يكتب تكملةً للمقدمة المذكورة، يقول فيها:

    «لنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيا كما رسمها صاحب كتب روجار، ثم نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى آخره» (ص٥٢).

    ويعطينا بعد ذلك أطول فصول الكتاب.

    لا شك في أن كتابة هذا الفصل الطويل عن الجغرافيا مما يناقض ما جاء في الفقرة الآنفة الذكر مناقضةً تامة، ونحن نميل إلى الظن بأن المقدمة الثانية من الباب الأول كانت تنتهي فعلًا بالفقرة المذكورة، وبأن المعلومات الجغرافية الأخرى قد أضيفت إلى الكتاب مؤخَّرًا، ولا يُستبعد بأن تكون هذه الإضافة قد حدثت من جرَّاء ملاحظة حاجة القُرَّاء إليها.

٤

إن النقد الخارجي — للغرض الذي نحن بصدده — يجب أن يجري على طريقة «المقارنة» بين نسخ المقدمة المختلفة.

وبما أنه لم يكن في استطاعتي الحصول على النسخ المخطوطة ودرسها درسًا مباشرًا، أراني مُضطرًّا إلى حصر بحثي في الحقائق التي يمكنني الوصول إليها بمقارنة النسخ المطبوعة وحدها.

  • (١)

    فلنستعرض أولًا الطبعات الموجودة:

    إن أقدم طبعات المقدمة تعود إلى سنة ١٨٥٧-١٨٥٨ ميلادية، حيث طُبِعت المقدمة لأول مرة في باريس على يد المستشرق «كاترمير»، وطُبِعت في مصر القاهرة تحت إشراف «الشيخ نصر الهوريني».

    قد استند «كاترمير» في طبعته على أربع نسخ خطية؛ ثلاث منها محفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، وإحداها في المكتبة العامة في ميونيخ، وقد أشار المستشرق المومأ إليه في طبعته على النسخ الخطية المذكورة بحروف A. B. C. D.، وذكر الفروق الموجودة بينها عملًا بالخطط العلمية القويمة التي لا بد من اتباعها في مثل هذه الطبعات.

    وأمَّا الشيخ نصر الهوريني فقد اعتمد على نسخة مخطوطة — ذكرها عَرَضًا باسم النسخة الفارسية — ومع هذا نقل فصلًا واحدًا من نسخة أخرى سمَّاها باسم النسخة التونسية.

    وأمَّا سائر الطبعات التي صَدَرَتْ عن مطابع القاهرة فلم ترجع إلى المخطوطات، بل اعتمدت على طبعة الهوريني الآنفة الذكر.

    وهناك طبعة بيروتية نُشِرت تحت إشراف «الكاتب رشيد عطية، والمعلم عبد الله البستاني»، وهي أيضًا قد اعتمدت على طبعة الهوريني، ولم تختلف عنها إلا بتشكيل الحروف، وبحذف فصل من الباب السادس يقع في ٢٢ صفحة، وبعض التفاصيل من الفصل الأخير تقع في ٢٠ صفحة.

    وبعد ذلك أصدرت المكتبة التجارية بمصر طبعات مشكولة جديدة، كُتِب على غلافها: «رُوجعت هذه الطبعة وقُوبلت على عدة نسخ بمعرفة لجنة من العلماء». غير أن مقارنة هذه الطبعة بطبعة بيروت الآنفة الذكر لا تترك مجالًا للشك في أنها — في حقيقة الأمر — لم تراجِع شيئًا من النسخ الخطية، بل استنسخت صحائف الطبعة البيروتية استنساخًا زينكوغرافيًّا — مع جميع أغلاطها ونواقصها — ولم تغيِّر فيها شيئًا غير أسماء الفصول الرئيسية الستة، حيث استعاضت عن كلمة الفصل بكلمة الباب.

    يظهر من هذه التفاصيل أن الطبعات التي تستند إلى نسخ خطية، والتي تستحق لذلك النظر والتأمل — لحل المسائل التي نحن بصددها — تنحصر في طبعة كاترمير الباريسية، وطبعة الهوريني المصرية.

  • (٢)

    ومع هذا فنحن نعتقد بأن مراجعة الترجمات أيضًا لا تخلو من الفائدة لهذا الغرض.

    لمقدمة ابن خلدون ترجمتان كاملتان؛ إحداهما في التركية، والثانية في الفرنسية.

    الترجمة التركية أقدم من الطبعات العربية، فلا مجال للشك في أنها اعتمدت على نسخ خطية، إنها تمَّت على أيدي عالمَين من علماء الدولة العثمانية؛ فقد أقْدَمَ شيخ الإسلام: «بيري زاده صاحب أفندي» (المتوفَّى في سنة ١٧٤٩) على ترجمة المقدمة، وأنجز ترجمة الفصول الرئيسية الخمسة منها، ثم أتى المؤرخ جودت باشا وأتم عمل شيخ الإسلام المومأ إليه، بترجمة الفصل الرئيسي السادس أيضًا.

    إن المترجم الأخير أضاف إلى المقدمة شروحًا كثيرة؛ توضيحًا لمقاصد المؤلف تارة، وإتمامًا للفائدة طورًا، غير أنه لم يذكر شيئًا عن النسخة الخطية التي اعتمد عليها، ومع هذا فإن بعض الشروح التي كتبها تدل على أنه اطلع على نسخ عديدة، ولاحظ ما بينها من اختلاف من حيث الزيادة والنقصان، وعلم أن بعض الفقرات التي تكون على شكل حاشية في بعض النسخ تدخل في المتن في غيرها.

    إن مقدمة ابن خلدون تبدو في هذه الترجمة أوسع نطاقًا من الطبعتين الباريسية والمصرية؛ لأنها تحتوي على جميع الفصول التي تنقص في الطبعة المصرية بالنسبة إلى الطبعة الباريسية، كما أنها تحتوي على الفصل الذي ينقص في الطبعة الباريسية بالنسبة إلى الطبعة المصرية، فهي أشبه بالطبعة الباريسية من حيث العموم، ومع هذا تزيد عنها بفصل واحد.

    وأمَّا الترجمة الفرنسية فقد تمَّت على يد البارون دو سلان De Slane، ونُشِرت في باريس في ثلاثة مجلدات؛ الأول في سنة ١٨٦٢، والأخير في سنة ١٨٦٨ ميلادية. إن المومأ إليه اعتمد في الدرجة الأولى على طبعة كاترمير، ومع هذا فقد رجع إلى النسخ الخطية كلما شك في صحة الطبعة، كما أنه لاحظ الطبعة المصرية، واستفاد من الترجمة التركية أيضًا. ولهذا السبب نستطيع أن نقول: إن أتمَّ المعلومات وأكثر التفاصيل عن مقدمة ابن خلدون قد اجتمعت في هذه الترجمة.
  • (٣)
    إذا قارنَّا بعض هذه الطبعات ببعض — مع ملاحظات الترجمات — وجدنا بينها أربعة أنواع من الفروق:
    • (أ)

      الفروق الجزئية التي تنحصر في بعض الكلمات والعبارات.

    • (ب)

      الفروق الكلية التي تلاحَظ في بعض الفصول.

    • (جـ)

      الفروق الناتجة من وجود أو عدم وجود بعض الفقرات والأبحاث في بعض الفصول.

    • (د)

      الفروق الناتجة من وجود أو عدم وجود بعض الفصول برمتها.

    من البديهي أن الفروق التي من النوع الأول تنشأ عن أغلاط الناسخين والطابعين، غير أن التي من النوع الثاني لا يمكن أن تعلَّل بمثل هذه الأغلاط، بل إنها تدل على أن المؤلف نفسه رأى أن يغيِّر الفصل بكامله، وأقدم على كتابته من جديد، وسَبَكَه بهذه الصورة في قالب يختلف عن قالبه الأول اختلافًا كبيرًا. إن فصل «الحديث» في الباب السادس من هذا القبيل؛ لأن هذا الفصل يظهر في الطبعة الباريسية في شكل يختلف اختلافًا كليًّا عن الشكل الذي يظهر فيه في الطبعة المصرية، إن مقارنة الشكلين من حيث الأسلوب والمضمون تُحمل على الظن بأن الشكل الأول أحدث من الشكل الثاني.

    وأمَّا الفروق التي هي من النوع الثالث فتدل على إضافة بعض الفقرات والحواشي، بعد إتمام الفصل في أوقات قد تكون مختلفة. إنَّ أحسن مثال لهذا النوع هو فصل «الخط والكتابة»؛ فإذا قارنَّا الطبعتين من وجهة هذا الفصل وجدنا أن أبحاث الخط في الطبعة الباريسية تزيد على ما في الطبعة المصرية في أربعة مواضع مختلفة، بفقرات كاملة، تقع أقصرها في خمسة أسطر، وأطولها في ثمانية وخمسين سطرًا.

    لقد اتخذنا الفصل المذكور موضوعًا لإحدى دراساتنا في هذا الكتاب؛ فيجد القارئ هناك تفاصيل الفقرات الزائدة المذكورة بنصوصها الكاملة. إن ملاحظة هذه الفقرات لا تترك مجالًا للشك في أن عدم وجودها في النسخة التي صارت أساسًا للطبعة المصرية لا يمكن أن يعلَّل بسقوطها خلال الاستنساخ، كما لا يُعْقَل أن يُعْزَى إلى حذفها من قِبَل المؤلف نفسه، فمن الضروري أن يستدلَّ من ذلك على أن الفقرات المذكورة أضيفت إلى الفصل المذكور إضافة، خلال تهذيبه وتنقيحه، في دفعة واحدة أو في دفعات عديدة على أغلب الاحتمال.

    كل شيء يدل على أن ابن خلدون كان يكتب من وقت إلى آخر بعض الملاحظات والمعلومات الجديدة على حاشية النسخة التي بين يديه، وهذه الحواشي والتعليقات كانت تدخل المتن — بعد مدة — تارةً على يده هو، وطورًا على يد النساخ.

    وعلى كل حال يحق لنا أن نحكم — والحالة هذه — على أن النسخة الباريسية التي تحتوي على مثل هذه الفقرات المضافة، أحدث من النسخة المصرية.

    وأمَّا الفروق التي من النوع الرابع فتشبه فروق النوع الثالث من هذه الوجهة، وتدل على إضافات جرت بعد مرور مدة على كتابة سائر الفصول.

    وبما أن النسخة الباريسية تزيد على النسخة المصرية بفصول عديدة، يحق لنا أن نحكم — من هذه الوجهة أيضًا — على أن أصل النسخة الباريسية أحدث من أصل النسخة المصرية من حيث العموم.

  • (٤)

    هذا ومما تجب ملاحظته في هذا الصدد أن النسخة الباريسية تختلف عن النسخة المصرية من وجهة أخرى أيضًا:

    إن الديباجة المسطورة في الطبعة المصرية تنتهي بكلمة إتحاف طويلة (ص٧–٩)، يجدر بنا أن نجتزئ منها العبارات التالية:

    «أتحفت بهذه النسخة منه (أي من كتاب العِبر) خزانة مولانا السلطان الإمام المجاهد الفاتح الماهد، أمير المؤمنين أبي فارس عبد العزيز، من ملوك بني مرين الذين جدَّدوا الدين، وبعثته إلى خزانتهم الموقوفة لطلبة العلم بجامع القرويين من مدينة فاس، حاضرة ملكهم وكرسي سلطانهم.»

    إن هذا الإتحاف غير مؤرَّخ بتاريخ ما، ولكننا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أولًا مدة سلطنة السلطان عبد العزيز المشار إليه، وثانيًا ما كتبه ابن خلدون بنفسه في ترجمة حياته عن إرسال الهدايا إلى سلطان المغرب؛ نستطيع أن نحكم على أن هذا الإتحاف كُتِب بين سنة ٧٩٧ وسنة ٧٩٩ هجرية/١٣٩٤–١٣٩٦ ميلادية.

    إن الوقفية التي وُجِدت في أول المجلد الخامس من كتاب العِبر المحفوظ في خزانة كتب جامع القرويين تؤيد ذلك بصورة قطعية؛ لأنها مؤرخة بتاريخ صفر ٧٩٩، وهذا التاريخ يقابل شهر تشرين الثاني من سنة ١٣٩٦ ميلادية تمامًا

    (إننا أدرجنا صورة الوقفية في ذيل هذا البحث.)

    فنحن نستطيع أن نقول — بناءً على ذلك — إن المخطوطة التي صارت أساسًا للطبعة المصرية ترينا «مقدمة ابن خلدون» في الحالة التي كانت وصلت إليها في التاريخ المذكور.

    إن الطبعة الباريسية عارية عن هذه الكلمة الإتحافية، وإذا لاحظنا كثرة الفصول والأبحاث الزائدة في الطبعة المذكورة بالنسبة إلى الطبعة المصرية، واستبعدنا في الوقت نفسه احتمال حذف هذه الفصول والأبحاث من المقدمة عند إرسالها إلى فاس؛ اضطُررنا إلى الحكم بأن الفصول والأبحاث المذكورة قد أضيفت إلى المقدمة بعد التاريخ المستفاد من كلمة الإتحاف، أي بعد سنة ١٣٩٦ ميلادية.

  • (٥)

    غير أنني أجد في الطبعة المصرية أمرًا أهم من كل ذلك، من حيث الدلالة على تاريخ كتابة أبحاث المقدمة المختلفة:

    لقد كتب الهوريني في ذيل كلمة الإتحاف تعليقًا يقع في ثمانية عشر سطرًا (ص٧-٨)، قال فيه: «وُجِد في نسخة بخط بعض فضلاء المغاربة زيادة قبل قوله: «أتحفت»، وبعد قوله: «أدرت سياجه»»، ثم نقل نص هذه الزيادة التي تدل على إتحاف النسخة إلى خزانة «الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على رب العالمين، أبو العباس أحمد، من سلالة أبي الحفص والفاروق»، وفي الأخير ختم التعليق المذكور بقوله: «إلا أنه لم يقيد الإمامة بالفارسية»، لكن النسخة المذكورة مختصرة عن هذه النسخة المنقولة من خزانة الكتب الفاسية، ولم يقل فيها: «ثم كانت الرحلة إلى المشرق.»

    إنني أعتقد أن النسخة التونسية التي أشار إليها الهوريني في تعليقه هذا بصورة عرضية، ذات أهمية خاصة بالنسبة إلى تاريخ المقدمة؛ لأن كل شيء يدل على أنها أقدم النسخ المعلومة على الإطلاق.

    إن الشيخ نصر الهوريني لم يقدِّر أهمية هذه النسخة؛ لأنه لم ينتبه إلى اختلاف التواريخ التي تدل عليها كلمات الإتحاف، كما أنه لم يلاحظ المعنى الذي ينطوي عليه وجود أو عدم وجود فقرة «ثم كانت الرحلة إلى المشرق»؛ ولهذا السبب ظن أن النسخة المذكورة مختصرة عن النسخة الفارسية، فأهملها إهمالًا كليًّا.

    غير أن ملاحظة تواريخ سلطنة هذين الملكين تكفي للبرهنة على أن النسخة التونسية أقدم من النسخة الفاسية نحو أربعة عشر عامًا، كما أن عدم وجود فقرة «كانت الرحلة إلى المشرق» في النسخة المذكورة يؤيد دلالة الإتحاف، ويبرهن على أن أصل النسخة المذكورة كان كُتِب قبل هجرة ابن خلدون إلى مصر.

    هذا وإذا راجعنا التعريف الذي كتبه ابن خلدون عن سيرة حياته علمنا منه بأنه كان قدَّم أول نسخة من كتاب العبر إلى السلطان «أبو العباس الحفصي» سنة ٧٨٤ / ١٣٨٢، فاستطعنا أن نجزم — بناءً على ذلك — بأن أصل النسخة التي تحمل كلمة الإتحاف الآنف الذكر كُتِب في التاريخ المذكور.

    فالزعم الذي ذهب إليه الهوريني من أن النسخة التونسية مختصرة عن النسخة الفاسية، يكون بمثابة قلب الأمور رأسًا على عقب؛ لأن الحقائق التي سردناها آنفًا تدل دلالةً قطعيةً على أن الأمر على العكس من ذلك تمامًا، فيجب أن يقال إن النسخة الفاسية موسَّعة عن النسخة التونسية، لا أن يُزعم بأن النسخة التونسية مختصرة عن النسخة الفاسية.

    ولهذه الأسباب إني أعزو إلى النسخة التونسية التي تشير إليها الطبعة المصرية أهميةً كبيرةً جدًّا؛ لأننا نستطيع أن نحصل بواسطة هذه النسخة على فكرة تامة وواضحة عن الطور الذي كانت وصلت إليه المقدمة، قبيل هجرة ابن خلدون إلى مصر، كما أننا نستطيع أن نطَّلع على التعديلات والتوسيعات التي أدخلها المؤلف على المقدمة بعد هجرته إلى مصر خلال أربعة عشر عامًا، عن طريق مقارنة النسخة المذكورة بالنسخة المطبوعة والمتداولة. فلا أرى مجالًا للشك في أن هذه المقارنة إذا ما تمَّت بانتباه واهتمام تساعدنا على حلِّ القسم الأعظم من المسائل التي سردناها آنفًا، وتفتح أمامنا مجالًا واسعًا لتعيين التطوُّرات التي حدثت في أسلوب ابن خلدون وعقليته، ولتبرير التغيرات التي حدثت في معلوماته ونزعاته خلال هذه المدة، تحت تأثير حياته الجديدة وبيئته الجديدة.

    غير أني أتأسف كل الأسف على أنني لم أكن الآن في وضع يمكِّنني من الحصول على النسخة المذكورة، أو الوصول إليها؛ لأتولى درسها ومقارنتها بنفسي.

    ولذلك أراني مضطرًّا للاكتفاء بتسجيل رأيي في أهمية هذه النسخة وخطورة هذه المقارنة، وأدعو الباحثين الذين يهتمون بأمر ابن خلدون ومقدمة ابن خلدون إلى القيام بهذه المهمة على ضوء الملاحظات التي سردتها آنفًا.

ذيل

وقفية كتاب العبر

ندرج فيما يلي صيغة الوقفية كما هي مسطورة في المجلد المحفوظ في مكتبة جامع القرويين بفاس.

إننا وجدناها مفيدةً من وجوه عديدة؛ لأنها أولًا: تقرر تاريخ الإهداء والإتحاف بصورة أكيدة، ثانيًا: تعطينا ألقاب ابن خلدون كما كانت معروفةً عند كتابة الوقفية، ثالثًا: تعلمنا الشروط التي وضعها الواقف لإخراج الكتاب من المكتبة وإعارته إلى طالبيه.

يلاحظ بوجه خاص أن الوقفية تقرر بأن الانتفاع بالكتاب الموقوف يكون «قراءةً ومطالعةً ونسخًا»، كما أنها لا تسوِّغ بقاء الكتاب عند مستعيره أكثر من شهرين؛ لأنها تعتبر هذه المدة كافيةً لنسخ الكتاب المستعار أو مطالعته.

•••

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه.

وقف وحبَّس وسبَّل وأبَّد وحرَّم وتصدَّق سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى، الشيخ الإمام العالم الحافظ المحقق أوحد عصره وفريد دهره قاضي القضاة، ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن ابن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن خلدون، الحضرمي المالكي، أمتع الله المسلمين بحياته، ونفعهم بعلومه وبركاته، وهو مؤلف هذا الكتاب — جميع هذا الكتاب — المسمى بكتاب العِبر في أخبار العرب والعجم والبربر، المشتمل على سبعة أسفار هذا أحدها وقفًا مرعيًّا وحبسًا مرضيًّا على طلبة العلم الشريف بمدينة فاس المحروسة، قاعدة بلاد المغرب الأقصى؛ ينتفعون بذلك قراءةً ومطالعةً ونَسْخًا، وجُعِل مقرُّه بخزانة الكتب التي بجامع القرويين في فاس المحروسة، بحيث لا يخرج من حرمها إلا لثقة أمين، برهن وثيق لحفظ صحته، وألا يمكث عند مستعيره أكثر من شهرين، وهي المدة التي تتسع لنسخ الكتاب المستعار أو مطالعته، ثم يعاد إلى موضعه. وجُعِلَ النظر في ذلك لمن له النظر على خزانة الكتب المذكورة. وقف لله على الوجه المذكور لوجه الله الكريم، وطلب لثوابه الجسيم، يوم يجزي الله المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين. وأشهد عليه بذلك في اليوم المبارك الحادي والعشرين لشهر صفر المبارك، عام تسعة وتسعين وسبعمائة، حسبنا الله ونعم الوكيل.

(يلي هذا النص شهادة شخصين.)

(نص الأولى): أشهدني
(نص الثانية): أشهدني سيدنا
سيدنا ومولانا العبد الفقير إلى الله
ومولانا العبد الفقير إلى الله تعالى
تعالى قاضي القضاة ولي الدين الواقف
العالم العامل العلامة قاضي القضاة
المسمى فيه أمامه لله تعالى على نيته
ولي الدين الواقف المسمى بأعاليه
الكريمة بما نُسِب إليه فيه، ونشهد
بما نُسِب إليه أعلاه، أمتع الله
عليه به في تاريخه، وكتب أحمد
تعالى به وتشهَّدت عليه بذلك،
بن علي بن إسماعيل المالكي.
وكتب محمد بن محمدين أحمد أبي القاسم.

«ويلي هاتين الشهادتين توقيع الواقف»:

الحمد لله، المنسوب لي صحيح.

وكتب عبد الرحمن بن محمد بن خلدون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤