شو في حياته الشخصية

نستطيع أن نستخلص حياة الكاتب من مؤلفاته، ونعني هنا أخلاقه وأهواءه وفلسفته، وذلك لأن اهتمامات الكاتب في مؤلفاته هي أيضًا اهتماماته في حياته الشخصية، وهو لا يستطيع أن يفصل بينها إلا عندما يكون مأجورًا يؤدي خدمة لغيره، وحتى هنا لا يخلو الكاتب من الزج بشخصيته — بل بنفسه التي وراء الشخصية — فيما يؤدي من عمل يؤجر عليه وينافق فيه؛ لأنه لا يتمالك التعبير بكلمات وسطور تتسلَّل إليه من حيث لا يريد.

ولسنا في حاجة إلى أن نستخلص حياة شو من مؤلفاته؛ فإن سيرته منذ ميلاده تقريبًا معروفة مكشوفة، وكثيرًا ما عُنِي هو بالكشف عنها في مؤلفاته في عبارات صريحة لا تحتاج إلى تأويل وتخريج.

مقدماته المسهبة لمؤلفاته، وكذلك بحوثه الاجتماعية، تحتوي الكثير من ترجمته الشخصية أيام طفولته وشبابه؛ ولذلك نحن لا نتعب في التعرف إلى العوامل التي تكوَّنَت بها شخصيته.

فقد وُلِدَ ونشأ في صباه في «دبلين» عاصمة أرلندا، وكانت عائلته من الأرلنديين البروتستانت الذين يعدون أنفسهم — بحق — أرقى من الأرلنديين الكاثوليك الذين تعزلهم تقاليد الكنيسة ويفسد نفوسهم التعصب الديني ويؤخرهم استمساكهم بالتقاليد، وكان أبوه سِكِّيرًا فاشلًا في جميع ما تناول من أعمال، ولكن برنارد شو كان يحبه، وهو يذكره بالحنان والتقدير، أما أمه فكانت فنانه تحسن العزف على البيان كما تحسن الغناء، وكانت تحتقر زوجها لإدمانه على الشراب، وكان برنارد شو يكرهها؛ ولذلك لا يكاد يذكرها بكلمة طيبة في جميع ما كتب، بل إنه عندما ماتت كان يضحك في جنازتها حتى لامه بعض أصدقائه.

وظني أن أعظم ما جعله يكره أمه أنها كانت تحتقر والده وتعامله كما لو كانت تشمئز منه، وكان ذلك أيام طفولته حين لم يكن هو يُقدِّر مسئولية هذا الأب أمام الزوجة والأطفال، بل لم يكن يدرك معاني الانهيار في شخص أبيه الذي يعود مساء كل يوم إلى البيت مخمورًا، بل لعل الطفل برنارد شو كان يستظرف من أبيه هذا الموقف ويحبه من أجله.

ومما زاد برنارد شو كراهة لأمه أنها هجرت بيت الزوجية في دبلين وسافرت إلى لندن مع ابنتها بعد أن تركت الصبي شو مع أبيه، وهذا عمل قاسٍ لا يستطيع الابن أن ينساه من أمه.

وهذا التفكك في العائلة ينطوي على احتمالين: أحدهما: أن يستهتر الصبي ويأخذ بالقيم الأخلاقية لأبيه وأمه وهما في هذا الانحلال، ثم ينشأ بلا أخلاق تتماسك بها شخصيته، وكثيرًا ما يحدث هذا.

والاحتمال الثاني: أن يستيقظ وعيه، ويرى خطورة مركزه بين هذين الأبوين الناقصين، فيعتمد على نفسه، ويحس المسئولية، ويتبصر ويهدف؛ وعندئذ يشرع في تربية نفسه، وهذا هو ما حدث لبرنارد شو كما حدث من قبل لمكسيم جوركي الذي عانى مثل هذه الظروف، بل أسوأ، في عائلته.

وقد وُلِدَ برنارد شو في ١٨٥٦، ونشأ في وسط أرلندي جامد تستولي الكنيسة الكاثوليكية على حياته الاجتماعية وتوجهها وجهة دينية أخَّرت أرلندا وجعلت الإنجليز يستغلونها ويستعمرونها، وبقي شو فيها إلى حوالي سن العشرين، أمضى منها بعض السنوات في مدرسة ابتدائية كانت كل ما كسب من التعليم المدرسي، ثم حين هجرت أمه البيت إلى لندن بقي هو مع أبيه وعمل «محصلًا» يجمع إيجارات المباني التي تملكها إحدى المؤسسات، وكان يحصل على أجر متواضع، ولكنه كسب ما هو أكبر من الأجر، إذ درس أحوال السكان الفقراء في المساكن التي كان يجمع منها مبالغ الإيجارات، وعرف كيف يستغل المالكون العُمال الأُجَرَاء.

وكان أول ما كُتب في الصحف كلمة في جريدة يومية في دبلين قال فيها إنه لا يؤمن بالله، كتبها حين كان عمره لا يزيد على ثماني عشرة سنة، ودلالة هذه الكلمة ليست في انحرافه الديني وإنما في إيضاحها لنا كراهته لوسطه الاجتماعي، وما كان يحس من تعصب الكاثوليك نحوه وهو بروتستانتي.

وكان في ذلك الوقت يعيش مع أبيه، ويبدو أن التلاؤم كان تامًّا بينهما على الرغم من إدمان الأب للخمر، وكما يحدث كثيرًا في مثل هذه الحالات، كره برنارد شو الخمور بل قاطعها طيلة عمره؛ لأن أعظم ما يكف الإنسان عن رذيلةٍ ما أن يعاشر أبًا يمارسها ويراه وهو يتمرغ فيها.

ولا نعرف أنه ذاق الخمور إلا في السنوات الأخيرة من عمره حين تجاوز التسعين أو قاربها؛ فإنه وجد في هذه السن أن زوجته وأصدقاءه، بل إن أبناء جيله الذين كان يعرفهم، قد ماتوا جميعهم، فكان إذا انفرد في الليل، وأحس الوحدة والوحشة، تناول شيئًا من الويسكي للتخفيف من توترات الشيخوخة.

ولما وصل إلى لندن قصد إلى أمه حيث كانت تسكن مع ابنتها في مسكن متواضع وتكسب عيشها بتعليم الغناء، ولم يسعد برنارد شو بعِشرة أمه وأخته؛ وذلك لأنه كان يجد توبيخًا دائمًا لأن لا يعمل ويكسب، بل يعتمد على أمه كي تكسب وتعوله، وبقي على هذه الحال نحو سبع أو ثماني سنوات، كان يحاول في أثنائها أن يؤلِّف القصص وأن يجد في الأدب حرفة يعيش منها ولكنه لم يفلح، وكان إصراره على احتراف الأدب يحنق والدته وأخته، حتى إن هذه حرضت والدتها على جهاده، ولعل هذه السنوات قد تركت في نفسه مرارة نحو أمه.

ولكن الواقع أن الأم والبنت كانتا معذورتين في إحساسهما نحوه بأنه عاطل فاشل، ولم تكن واحدة منهما تتوقع القدرة الكاملة في هذا الإنتاج الضخم الذي ملأ به أوربا وجعل المسارح تتبارى في تمثيل دراماته.

وكانت هذه السنين العجاف، سني التضرع للأم بأن تعطيه «مصروف جيبه» هي أيضًا سني التكمل لشخصيته وبنائها على أساس آخر يحتاج إلى عزيمة وإصرار؛ فإنه قاطع القهوة والشاي والتدخين (لم يدخن قط في حياته) والشراب، بل قاطع اللحوم في الطعام.

وكانت هذه السنين أيضًا سني الامتصاص الثقافي، فقد كان يقصد كل صباح إلى «المتحف البريطاني» الذي يضم أكثر من أربعة ملايين كتاب، فكان يختار ويقرأ ويربي شخصيته الفنية الأدبية.

وظني أن الأديب الحق هو الذي «يصنع نفسه» بهذا الأسلوب؛ أي هو الذي يختار ويدرس وفق حاجاته النفسية، فيختار بذلك أصح الغذاء؛ أي يقرأ ويدرس كلما أحس الحاجة النفسية، ثم له حرية الرفض عندما لا يحب، فتنشأ نفسه وتنمو شخصيته وهي على استيفاء للغذاء دون إكراه.

ولذلك ليس من اليسير أن تُعَلِّم أحدًا الأدب في جامعة؛ لأنك تفرض غذاءً قد لا يسيغه، وتحرق غذاءً يسيغه، وكان في مقدوره أن يختاره لو كان حرًّا، ولكنه حين تضع أمامه امتحانًا، تقهره على سلوك معين لا يرضاه.

والمتتبع لبرنارد شو في سني الامتصاص الثقافي هذه — فيما بين سن العشرين والثلاثين — يجد أنه قرأ ألوانًا من العلوم والآداب والتاريخ والأديان لا يكاد يتصورها العقل، ودراماته التي ألَّفها ونجحت بعد ذلك تعود إلى هذه الدراسات التطوعية التي قام بها فيما بين ١٨٧٥ و١٨٨٥، وحوالي هذه السنة الأخيرة نجد له اهتمامات بالسياسة والاجتماع يبتكر فيها الرأي الجديد ويدعو فيها بحماسة لا ينال عليها أجرًا، فهو يخطب ويكتب ويؤلف دون أن يطلب مليمًا عن مجهوداته.

لقد صار، وهو في سن الثلاثين (١٨٨٦) إنسانًا مسئولًا من البشر، يتحدث ويكتب «كما لو كان له سلطان»، وكأنه يحس أنه يحمل رسالة، ولهذا الإحساس وحده نجد أنه كان يتحمل توبيخ أمه وأخته وتعبيرهما له بأنه فاشل، يتحمله بنفس راضية صابرة واثقة بأنها على موعد من النجاح.

وفي هذه السنوات، فيما بين ١٨٨٥ و١٩٠٠، نجد له نشاطًا مسرفًا في منظمة كانت ولا تزال تُسَمَّى «الجمعية الفابية»، وكان هو روحها وخطيبها وكاتبها، وكانت غايتها متواضعة في ظاهرها مع اطمئنان إلى قوتها، فقد اتخذت خطة التسلل إلى الأحزاب بدلًا من أن تنشئ حزبًا، وكانت الاشتراكية مذهبها، ولكنها كانت اشتراكية التدرج وليست اشتراكية الثورة.

وقد عرفت أنا هذه الجمعية حوالي ١٩٠٨ ولم أكن أسمع فيها اسم «كارل ماركس»، وإنما كنت أسمع عبارة مكررة هي «التدرج المحترم» بمعنى تجنب الثورة بشأن الارتقاء نحو النظام الاشتراكي، وبقيت الحال على ذلك إلى الأزمة العالمية في ١٩٣٠ حين شرع اسم كارل ماركس يعلو ويسود، ولم يكن يمثل الشيوعية في لندن غير زعيم يُدْعَى هيندمان، يُخرج مجلة أسبوعية تسمى «جستس» ولا أظن أن الذين كانوا يقرأونها كانوا يتجاوزون ألفين.

وعرفت برنارد شو، وهو بين الخامسة والخمسين والستين، وأنا في لندن بين ١٩٠٨ و١٩١٤ رجلًا طوالًا تجلل وجهه لحية صهباء كأنها لهب من نار، ولم يكن يطلقها عن مذهب، وإنما كان يهدف منها إلى ستر آثار الجدري الذي أصيب به وهو صغير وترك نقورًا على وجهه، وكان حبيبًا إلى قلوب الأعضاء، يُلِحُّونَ عليه في كل اجتماع حتى يقول «كلمة» تعليقًا أو نقدًا على المتكلمين، وكانت في صوته صحلة موسيقية تجعل الاستماع إليه متعة.

وتزوَّج برنارد شو بعد أن نجح في التأليف المسرحي، وعرف زوجته عن طريق الأعضاء في هذه الجمعية؛ فإنها كانت فتاة أرلندية ثرية، وكانت صديقة لأكبر عضوين بارزين في الجمعية هما المستر ويب وزوجته، وتوسط الزوجان في إيجاد التعارف، فالصداقة، فالزواج، بينها وبين برنارد شو، وعاشت معه نحو خمس وثلاثين سنة دون أن يتم بينهما أي اتصال جنسي، وكان لكل منهما غرفة خاصة، وكانا على حب عظيم أحدهما للآخر، فقد اعتادت ألَّا تأوى إلى فراشها إلا بعد أن يغني لها، وكانت تشير إليه بكلمة «العبقري».

ولما ماتت أحرق جثمانها في إحدى المرامد في لندن، وأوصى هو بأن يُحرق جثمانه أيضًا ويُخلط الرمادان، ثم يذر المخلوط في حديقة مسكنهما الذي عاشا فيه طوال زواجهما، وتم ذلك.

وكان برنارد شو كبير العناية بصحته، وكان يقول إن الصحة من الحكمة؛ لأن الرجل الحكيم يتعود العادات التي تخدم صحته ويتجنب تلك التي تؤذيها، ولكن التزامه للطعام النباتي مدة ٦٤ سنة لم يكن لبواعث الصحة وإنما كان للبواعث الإنسانية؛ إذ كان يعتقد أن الناس يستطيعون الاستغناء عن هذه الشدة التي يمارسونها في قتل الحيوانات كل يوم كي يأكلوها، وأن في الطعام النباتي غناء عن ذلك، وكراهته التدخين كان مرجعه الإحساس الفني في تجنب عادة قذرة بعيدة عن الجمال في ممارستها ومضايقتها لمن لا يدخنون، ولكن كيف نفسر امتناعه عن القهوة والشاي؟

لا أستطيع هنا أن أسلم بأن الهدف الذي قصد إليه شو، وهو شاب، حين التزم هذا النسك بالامتناع عن اللحم والخمر والتبغ والقهوة والشاي، لا أسلم بأن هذا الهدف كان للصحة فقط.

واعتقادي أنه نُسك قصد منه إلى اعتصام نفسي بغية التوفر على مجهودات سامية، وكثيرًا ما نجد أن اليقظة الذهنية، وإحساس الرسالة والقصد في الحياة يرافقها نوع من الاعتصام، يتخذ أسلوبًا معينًا من النسك الذي ينعكس أثره على النفس، في تَحَرِّي الجد ورصد العمر لواجب مقدس، برفض الكثير مما نسميه ملذَّات أو مَسَرَّات.

نفعل ذلك وكأننا نعلو على أنفسنا ونخدم رؤوسنا، وهي أسمى ما في أجسامنا، بدلًا من أبداننا، وعندئذٍ تستهلك شهوات الذهن كل طاقتنا وتقمع شهوات الجسم.

إن المسيحي حين يغلو في دينه يذهب ويدخل الدير، وقد أمضى الغزالي سنوات وهو ناسك، وكذلك فعل المعري الذي لم يتزوج ولم يأكل في حياته غير العدس، وشهور الصوم في جميع الأديان هي شهور الغلو في الدين، وقد رفض غاندي الشهوة الجنسية، والطعام والشراب واللباس، إلا القليل من اللبن وشملة من الخيش.

وهؤلاء جميعًا: برنارد شو، والغزالي، والمعري، وغاندي، لم ينسكوا حبًّا للنسك، وإنما حملتهم نزعة الجد في الحياة وإحساس القصد والرسالة على أن يعلوا على أنفسهم للتوفر على ما رسموه من واجبات.

ولست تجد رجلًا عظيمًا إلا وله نوع من النسك يمارسه كما لو كان رياضة نفسية يستعين بها على التوفُّر لعمله أو قصده العظيم.

وليس في التزام الطعام النباتي صحة كما يتصور البعض؛ فإن برنارد شو قبل وفاته بأكثر من عشر سنوات أصيب بمرض «الأنيميا الخبيثة» وأوشك على الموت منه، فشحب لونه، وكان يتعب لأقل مجهود وينام وهو قاعد، فاضطر هذا النباتي الإنساني إلى أن يتداوى من مرضه بتناول خلاصة كبد الخنزير حتى شفى ولكنه لم يعد إلى طعام اللحم.

ومع أن ثروته تجاوزت ثلاثمائة ألف جنيه عند وفاته؛ فإنه لم يهدف قط إلى جمع المال، وكثيرًا ما عمل وجهد بلا أجر، لا يهدف إلا إلى الخدمة الإنسانية، ولما نال جائزة نوبيل وقدرها الآن نحو ١٤ ألف جنيه رفض تسلمها، وأنشأ بها جمعية لزيادة الاتصال بين أدباء الأقطار الإسكندناوية وبريطانيا.

وكان يسعف جميع الأدباء المحتاجين بمبالغ كبيرة كان بعضها يبلغ خمسمائة جنيه كل عام، وبقي على هذا في بعض الحالات أكثر من عشرين أو ثلاثين سنة، وفي وصيته ترك مبالغ كبيرة لمن خدموه الخدمة المنزلية، بل إنه أقام نصبًا تذكاريًّا لخادمته التي ماتت قبيل وفاته في الحديقة، وحين دعا النحات كي يقوم بصنع النصب خشي أن يموت هو قبل أن يتم النصب فعرض عليه دفع الثمن قبل إتمامه.

وكان يعمل في غرفة نائية من مسكنه في الحديقة؛ وذلك كي يتوفر على عمله دون أن يزعجه صوت أو ضوضاء، حتى إن الخادم عندما كان يأتي إليه كي يطلب شيئًا ما أو ينبهه إلى ضيف، لم يكن يشافهه بكلمة، وإنما كان يكتب ما يريد على ورقة يرد عليها برنارد شو كتابة دون أن ينطق بكلمة.

وكانت طريقته في التأليف أن يترك الموضوع يختمر في ذهنه مدة سنة أو سنتين، يقرأ فيها عشرات الكتب التي تتصل بهذا الموضوع، فإذا شرع في التأليف كتب العناصر ووضع التخطيط. وقد يؤلِّف الدرامة في شهر أو أسبوع وقد يؤلفها في سنتين أو ثلاث سنوات.

وكان يتعب كثيرًا في التأليف حتى لقد ذكر عنه أنه كان يترك مقعده أمام مكتبه وينبطح على أرض الغرفة إعياءً وتعبًا، ويبقى على ذلك حتى يستريح وينهض لاستئناف الكتابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤