العبقري في زواجه

الزواج، باعتباره عيشًا مشتركًا بين اثنين، يعد مشقة منذ بدايته إلى نهايته عند كافة الناس، وخاصة إذا كانت الزوجة على شيء من التربية التي علَّمتها الاستقلال والإباء فلا تطيع الطاعة العمياء، ولكنه عند العبقريين من رجال الفن أو الفكر أو القصد الإنساني النبيل، يُعَدُّ أكثر من مشقة، يعد مشكلة.

ذلك أن كلًّا من الزوجين يحصل، إلى قُبيل سن العشرين أو بعدها، على تربية معينة في بيئة مختلفة، ترسم له قيمًا محدودة تخالف ما يحصل عليه الآخر، فإذا كان الزواج بعد ذلك في عيش مشترك تصادمت القيم وانعكس في مستقبلهما اختلاف بيئتيهما في الماضي.

يحدث هذا عند كافة المتزوجين الذين يعالجونه بالتسامح والمحاولة والملاءمة.

ولكن العبقريين يجدون في الزواج مشكلة تحملهم على التفات خاص يُنقص من التفاتهم إلى عملهم العبقري؛ ولذلك كثيرًا ما يعزفون عن المعيشة الزوجية أو يُؤْثِرون حياة العزوبة فلا يتزوَّجون.

واعتقادي أن بؤرة المشكلة في الزواج — إذا كان الزواج عبقريًّا — أنه — أي هذا الزوج — يؤثِر الأهداف الإنسانية على الأهداف الاجتماعية، وهو ينشد الثقافة أو الفن أو الحرية أو الاشتراكية، ويرضى بأن يضحي بماله وأحيانًا بحياته في سبيل ذلك، بينما هي — أي الزوجة — تؤثِر الأهداف الاجتماعية، كالثراء والترف ومصلحة الأبناء والمسكن الممتاز والضيافة الكريمة ونحو ذلك.

هو يطلب الوحدة التي تتيح له الإنتاج في حين هي تطلب الاجتماع، هو إنساني وهي اجتماعية؛ ولذلك تصطدم أهدافها بأهدافه.

وإلى هنا نفهم معنى الشقاق، أو على الأقل الخلاف، بين الزوج الممتاز والزوجة العادية، وكثيرًا ما نعتقد أن هذه الزوجة تُعَطِّلُ زوجها الممتاز وتحول دونه والإنتاج المثمر، وهنا نذكر كلمة نيتشه: «أفٍّ للزوج العبقري من الزوجة البطة.»

بل نذكر «البطة» التي تزوَّجها سقراط والتي أتعست حياته، والرجل حين يستغرق في فنه العالي أو قصده العالمي، يجب ألا يستأثر بوقته سوى هذا الفن أو القصد، بل هو يضن بالأوقات القصيرة التي تتطلبها المعاشرة الزوجية، وهو إلى هذا فوضوي في سلوكه في البيت، ينام في غير ميعاد ويتناول وجباته على غير قياس.

وقد يسهر الليل كله في غير عمل واضح، أو ينام النهار كله بلا مرض عاذر، وهو ينكر نفسه عن ضيوفه الذين قد تحب زوجته الترحيب بهم، وهذا السلوك لا يبعث في نفس الزوجة سوى القلق، بل أحيانًا النفور منه.

وقد عاش أناطول فرانس منفصلًا عن زوجته، كما فعل مثل ذلك هنريك إبسن؛ لأن كلًّا منهما وجد أن حياة العزوبة أكثر إنتاجًا من حياة الزواج، وقد ختم تولستون حياته بمأساة، بعد حياة زوجية كابد فيها العذاب من المحاولات المتكررة التي قامت بها زوجته كي تجعله اجتماعيًّا، بينما هو كان ينشد الأهداف الإنسانية، وترك بيت الزوجية، بل فَرَّ من زوجته في فجر أحد الأيام. وأمضى نحو ١٨ يومًا وهو يحاول الفرار إلى أن مات في إحدى القرى النائية، وكأنه بهذا العمل كان يرمز إلى أن الحياة الزوجية لا تلائم العبقري.

وعندما نتأمل الأسباب التي دعت تولستوي إلى كراهة المعيشة الزوجية لا نتمالك الإحساس بأن هذا الرجل قد ظلم زوجته أكبر الظلم، فقد تزوجته وهو «كونت» أي أحد النبلاء له ضيعة إقطاع، وأنجبت له أبناء كانت تنتظر لهم وراثة هذه الضيعة، ولهذا فنحن نعذرها في موقفها.

كانت هي امرأة اجتماعية، تفكر في تعليم أبنائها وتزويج بناتها وفق القواعد والعادات في طبقة النبلاء، وكانت تحرص لذلك على ريع الضيعة، تفكر في تنشئة هذا الابن الذي يحتاج إلى الرحلة إلى بطرسبورج كي يتعلم في الجامعة، كما تفكر في هذه الآنسة الصغيرة التي ستكون عروسًا تجمل صدرها الجواهر الغالية.

اعتبارات اجتماعية لا نستطيع أن نلوم الزوجة الأم عليها.

ولكن الإنسان في تولستوي كان يوحى إليه: دع الأرض للفلاحين ولا تنتفع بمليم من مكاسبهم وعرق عضلاتهم.

وهنا تصرخ الزوجة الاجتماعية، ويصرخ الزوج الإنساني، خلاف لا ينقطع.

ثم لا يكتفي تولستوي بذلك، بل يعلن أنه كافر لا يؤمن بالكنيسة الأورثوذكسية، ويقرر المجلس الأعلى للكنائس حرمانه، أي إخراجه من حظيرة المسيحية.

وتتأمل الزوجة الاجتماعية هذا القرار فتبكي لمصير أبنائها، وخاصة بناتها؛ إذ مَن يتزوَّج هؤلاء البنات وأبوهن كافر؟ ولكن الاعتبارات الاجتماعية لا قيمة لها عند تولستوي إذ إن جميع اعتباراته إنسانية.

وإلى هنا نفهم ونشفق ونترحم، ونكاد نقول إن نيتشه قصد إلى معنى واضح حين تأفف من العبقري يتزوج البطة، هو معنى واضح، ولكنه مؤسِف، في مجتمعنا العصري الذي كان أيضًا يسود روسيا أيام القياصرة.

ولكن هناك معنى آخر من اضطراب الحياة الزوجية يعلو على الخلاف الذي كان بين تولستوي وزوجته.

فقد كان هذا الخلاف زوجيًّا عائليًّا، يتعلق بميراث الأبناء ومركز العائلة الاجتماعي ومستقبلها في المجتمع، أما الخلاف الذي نقصد فيعلو على المشاجرات الدائمة بين تولستوي وزوجته؛ إذ هو من طراز آخر؛ ذلك أن أوربا، التي كانت تهتز بالحركات والنزعات والاختمارات الاجتماعية والإنسانية حوالي ١٨٨٠، كانت تتحدث كثيرًا عن الزواج، وكانت حركة «الحياة الجديدة» التي ظهرت في لندن في ١٨٨١ إحدى الحركات التي بعثت التفكير والابتكار، وكان مستوى المرأة قد ارتفع وأصبحت تنشد آمال الرجال، وتؤدي أعمالهم، وتحيا في استقلال اقتصادي يبعث، كما هو الشأن على الدوام، على استقلال فكري وفلسفي واجتماعي.

وهنا نجد ابتكارًا جديدًا في الزواج. فإن هافلوك أليس الاختصاصي في درس الشئون الجنسية، وهو عالم وفيلسوف وأديب، يتزوج الآنسة لي، ويتفق كلاهما على أن يعيش كل منهما في مسكن منفصل، حتى إذا كانت أيام الاصطياف في شهري يونيه ويوليه مثلًا قصد الزوجان إلى المصيف يمضيان فيه معًا، في مسكن واحد، هذه الإجازة السنوية، فيكونان بمثابة عِرسَين يمضيان شهر العسل في اشتياق قد زاده الحرمان طوال شهور الانفصال الماضية.

وقد قرأت تاريخ حياتهما وتأملت هذه التجربة، وأستطيع أن أقول إن الزوج قد سعد بهذا الانفصال، وأما الزوجة فلم تسعد.

ويسهل علينا أن نفهم لماذا سعد الزوج؛ فإنه كان مؤلِّفًا ومفكِّرًا عظيمًا مشغول الذهن والقلب بقصد إنساني عظيم هو تعميم الثقافة الجنسية الصحيحة بين الجماهير، وقد نجح في تعميم العلوم الجديدة التي رفعت جمهور القراء من سذاجة العقائد الموروثة إلى حقائق الطبيعة والكون والحياة.

قصد إنساني عظيم استأثر بحياته واحتاج إلى أن يعيش منفردًا بلا زوجة تشغله وتشاركه العيش في مسكن واحد.

ثم هي كانت امرأة عظيمة. فقد أسست ناديًا للنساء العاملات، وألَّفت كتبًا، ودعت إلى أن المرأة يجب ألا تستأثِر واجبات البيت بكل وقتها، وأن عليها أن تربي شخصيتها بالعمل المنتج كالرجل سواء، ولكنها مع الأسف لم تتحمل كل ما اضطلعت به، فانهارت شخصيتها، حتى احتاجت إلى المعالجة في المستشفيات.

لقد ابتدع كلاهما بدعة الزواج الانفصالي الذي نسمع هذه الأيام، بعد سبعين سنة من ابتداعهما له، بأنه ينتشر في أوربا وأمريكا.

وهو ينتشر لسبب أصيل في الحضارة القائمة، التي علَّمت المرأة، وحققت لها الاستقلال الاقتصادي، وكوَّنت شخصيتها، فاحتاجت إلى العيش المستقل في المسكن المستقل.

وهنا ننتقل إلى برنارد شو.

لقد عاش هذا الرجل عن قصد يحاول أن يغير الدنيا والمجتمع، وتزوج الآنسة شارلوت تونسند، وعاش معها في حياة «زوجية» أكثر من ٣٥ سنة، ولكن لم يتم بينهما اتصال جنسي في كل هذه السنين.

لقد كتب برنارد شو في إحدى مقالاته عبارة تستحق أن نقف عندها — ونتأمل معناها في ضوء هذه الحقيقة التي باح بها للمترجم بحياته سانت جون ارفين — قال:

إن أعظم ما أنشده في حياتي أن أجد في لذة الفن تلك الحماسة التي أجدها في اللذة الجنسية.

ويقول لنا المترجم بحياته هذا إن شارلوت كانت تكره الرجال، وإنها شرطت على برنارد شو قبل الزواج أن تبقى عذراء.
figure
برنارد شو.

ولكن من منا يسيغ هذا الكلام ويقبل هذا المنطق؟ فإن المرأة التي تنفر من الرجال تستطيع العيش في عزوبة بعيدًا عن الرجل، وكذلك برنارد شو لم يكن بالعازف عن المسرَّات الجنسية كما نعرف من اقتحاماته الغرامية العديدة قبل الزواج.

figure
صورة عائلية: والدة شو إلى اليسار، ووالده إلى اليمين، وجورج فاندلير في الوسط.
figure
والدة شو في حديقة منزلها في لندن ١٨٩٧.

وإذن كيف نفسر هذه الرهبانية في مسلك برنارد شو أربعين سنة؟

أفسرها بأنه قد تزوَّج بعد الأربعين، أي بعد أن شبع من المغامرات الجنسية، وحين شرع في الفن والثقافة، دعوة الاشتراكية، ونزعة الإنسانية، تستولي جميعها على كيانه النفسي الذهني وتستأثر بكل مجهوده، وصار يجد أن هذا المجهود يجب ألَّا ينتقصه أي مجهود آخر في الحياة الجنسية.

إنها حياة العزوبة قد آثرها الفنان أمام نفسه وضميره، مع النفاق الاجتماعي الذي خدع به الناس وأوهمهم أنه زوج مثل سائر الأزواج، حتى لا يثير موقفه التساؤل والاستطلاع من الفضوليين.

وعلى قدر القصد الإنساني تكون التضحية بالذات.

لقد فعل ذلك أيضًا غاندي، وبقي «أعزب» مع زوجته نحو عشرين أو ثلاثين سنة قبل وفاته.

وربما نحتاج هنا إلى سؤال سيكلوجي: هل سلك برنارد شو هذا السلوك قسرًا أم عفوًا؟ أي هل كان يمنع نفسه أم كان يمتنع بلا منع؟

وجوابي أنه كان يفعل ذلك عفوًا بلا أدنى إحساس بالقهر والقسر؛ ذلك أنه بعد اقتناعه بضرورة قصر مجهوده على الفن والثقافة، وجد عزوفًا طبيعيًّا عن الاشتهاء الجنسي؛ أي إن استنكاره لهذا الاشتهاء، من حيث إنه يؤخِّر مجهوده الفني الثقافي، قد أصبح «طبيعيًّا»، وموقفه هنا يشبه موقف رجل آخر عرفته أنا، فقد مات ابنه وحزن عليه حزنًا محرقًا، وأحس في أعماقه أن حقَّه في ملذات الدنيا قد سقط بعد هذه النكبة، فذهب عنه الاشتهاء الجنسي تمامًا، وذهب عفوًا بلا أدنى قسر.

وهنا سؤال: هل كان برنارد شو وزوجته سعيدين بزواجهما؟ والجواب أن الذي نستطيع أن نقطع به أنهما كانا سعيدين بزواجهما على الرغم من هذا «الشذوذ»؛ وذلك لأن الحب أخذ مكان الاشتهاء عندهما، وبين الاثنين ما يقارب المضادة، إذ عندما يزيد الاشتهاء ينقص الحب، ثم العكس؛ لأن الحب حنان أما الاشتهاء فعدوان.

والحنان — أي حنان الحب — يحتاج إلى شخصية نعرفها ونأتنس إلى لغتها وأخلاقها وتاريخها، أما الاشتهاء فيمكن أن نحسه نحو أي شخص لمفاتنه الجنسية فقط حتى ولو كُنَّا نجهل لغته واسمه.

وقد يصل أحيانًا عدوان الشهوة إلى الاغتصاب، ولكن هذا لا يمكن أن يحدث في الحب.

وقد كانت شارلوت سعيدة بأن تعيش إلى جنب عبقرية فذة وإنسان منذور للإنسانية، كما كان برنارد شو سعيدًا بأن يعيش مع امرأة تتيح له التسامي بالغريزة الجنسية إلى آفاق الثقافة والفن بحيث يستطيع أن يحس أنه جزء من القصد العام في التطور البشري.

ولكن الذي يجب أن نؤكِّده هنا أن مثل هذا الزواج الذي يجحد الحيوان في الإنسان لا يمكن أن يتم، مع سعادة العيش، إلا بين اثنين يرتفعان إلى المستويات العليا من الحياة، وهذا نادر في عصرنا، بل في كل عصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤