الاشتراكية الإنجليزية وحزب العمال

قبل نحو سبعين سنة كتب الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنج هذه الأبيات ينصح فيها للجندي الإنجليزي، ويرشده عن تصرفه عندما يلتقي بواحد من أبناء المستعمرات، من السود أو السُّمر، حين يحاول ابتزاز ما معه من نقود أو جواهر، فإذا رفض هذا الأسود أو الأسمر تسليمه ما يطلب ابتزازه منه كان على هذا الجندي أن يجلده، فإذا أصر على الرفض فعليه أن يعيد الجلد، ويعذبه حتى يستخرج ما كان قد أخفاه عنه، وإليك النص الإنجليزي باللغة العامية التي كان كثيرًا ما يؤلف بها كبلنج أشعاره:

Now remember when you are acking round a gilded Burma god,
That’s eyes is very often precious stones.
An’ if you treat a nigger to a dose o’cleanin-rod,
ES’ like to show you everything’e owns.
When’e wont produce no more, pour some water on the floor,
Where you ’ear it answer ’ollow to the poot.
(Cornet; toot: toot!)
When the ground begins to sink, shove your baynick down the chink,
An’ you ’re sure to touch the …
(Chorus: loo loo, lulu, loot loot, ow the loot).

ولا أعتقد أني أحسن الترجمة لأني أجهل اللهجات العامية الإنجليزية، ولكني أحاول:

تذكر (أيها الجندي) وأنت تحطم الأشياء حول تمثال الإله المُذَهَّبِ في بورما.
أن عينيه تكونان في الأغلب مصنوعتين من الجواهر الثمينة.
وأنك إذا أنت عالجت الزنجي بجرعة من العصا المطهرة،
فإنه سيعترف لك عن كل شيء يمتلكه، فإذا توقف عن إظهار ما تبقى عنده، فعليك أن تصُب بعض الماء على الأرض،
وعندئذ تسمع جوابه: لم يبقَ شيء.
(البوق: توت: توت)
وعندما تخيس الأرض، اغرز حربتك في الشق وعندئذ ثق بأنك …
(كورس: لو. لو. لولو. لوت. لوت. أو ذي لوت)
وكلمة لوت هنا تعني النهب أو الغنيمة.

ولم يكن كبلنج يعبر بهذه الكلمات عن إحساس الأديب الشاعر وإنما عن إحساس الاستعماري؛ فإنه نشأ في وسط ينتمي إلى أسرة عمل أعضاؤها في الإمبراطورية، وقد ولد هو في الهند حيث كان أبوه موظَّفًا كبيرًا، وكان ابن خالته «بولدوين» رئيس الوزارة البريطانية في العقد الثالث من هذا القرن؛ وإذن يجب أن نعد لغته لغة الساسة من حزب المحافظين الإمبراطوريين قد اتخذت صبغة الفن.

ونحن نفتري افتراء كبيرًا على الشعب الإنجليزي إذا كنا نتهمه كله بهذه الإحساسات الإجرامية؛ فإن هذا الشعب الذي نبغ فيه كبلنج الإمبراطوري، قد نبغ فيه أيضًا شو الاشتراكي وعشرات وعشرات من الأدباء الإنسايين، بل نزيد على هذا ونقول إن الشعب الإنجليزي يحمل جبالًا من هذه الجرائم التي ارتكبها الاستعماريون والإمبراطوريون من الإنجليز الذين أذلُّوا العمال الإنجليز كما أذلوا شعوب المستعمرات.

وواضح من أبيات القصيدة التي نقلناها أنها تنشد جماعة؛ إذ هي تحتوي كلمات خاصة بالكورس أي المرددين، وصبيان المدارس يتعلمونها وينشدونها، ويحسون إحساساتها الوحشية في النهب والقتل، وهم ينشأون على هذه الإحساسات، ويجنون على العالم بعدوانهم واستعمارهم، وهم معذورون لأنهم يتلقون هذه المبادئ وهم صبيان لم يتم نضجهم، ولا بد أن السير إيدن في عدوانه علينا بشأن قناة السويس ودعوته إلى اغتصابها منَّا كان على إحساس بهذه العواطف الملعونة التي غرسها فيه كبلنج أو غيره ممَّن على شاكلته.

ولو كانت هذه العواطف الملعونة عامة في الشعب الإنجليزي لما ظهر حزب العمال، هذا الحزب الذي وُصِفَتْ حكومته فيما بين ١٩٤٥ و١٩٥٠ بأنها «حكومة خيرية»

كيف نشأ حزب العمال؟

لم يكن للعمال «وجود» في السياسة الإنجليزية إلا في السنين الأخيرة من القرن الماضي، وكان الأحرار والمحافظون يتداولون الحكم، ولكن في بداية القرن الماضي ظهر في إنجلترا رجل من أصحاب المصانع يُدعى «روبرت أوين» الذي فكَّر كثيرًا في أحوال العمال وبؤسهم، وانتهى إلى إيجاد فكرة «التعاون» أي الجمعيات التعاونية، وكان يعتقد أنه يمكن تغيير المجتمع من مبدأ المباراة إلى مبدأ التعاون بإيجاد هذه الجمعيات، ونجح في الدعوة إلى هذه المنشآت إلى حد بعيد، وكان يؤمِّل أنه عندما تقوى هذه الجمعيات ويأخذ الناس بنظمها فإنها تنتهي بإلغاء الممتلكات الفردية وجعلها — أي هذه الممتلكات — للمجتمع وحده؛ أي لا يملك المصنع أو المزرعة فرد وإنما تملكها جمعية تعاونية.

وهو واضع كلمة «الاشتراكية» في اللغات الأوربية ولكن اشتراكيته كانت في الأكثر أمنية إنسانية ولم تكن برنامجًا علميًّا؛ لأن هذا التحول من الامتلاك الفردي إلى الامتلاك الاجتماعي عن طريق جمعيات التعاون لم يتحقق، بل لم يقارب التحقيق، وإن كان قد أدَّى خدمة كبرى في الإنتاج وأيضًا في الأخلاق؛ لأن العامل الذي كان ينتسب إلى إحدى هذه الجمعيات كان يفكر ويحس بمعانٍ جديدة بشأن الإنتاج بالمباراة وبالاجتماع وبشأن الكسب والاستغلال.

وإلى جنب حركة التعاون ظهرت حركة أخرى أيقظت وعيًا جديدًا بين العمال، هي حركة النقابات التي كافحتها المحاكم الإنجليزية وحاولت القضاء عليها بنفي الأعضاء إلى أستراليا باعتبارهم مهدِدين لأمن الدولة، كما كان يفعل البوليس السياسي في مصر بإيعاز المستعمرين والمستبدِّين.

وبقيت حركات العمال تسير في بطء يغذوها مفكرون طوبويون خياليون، ولكنها مع ذلك انطوت على ثلاثة أشياء:
  • (١)

    فكرة الجمعيات التعاونية.

  • (٢)

    فكرة النقابات العمالية.

  • (٣)

    فكرة الاشتراكية.

ومع أن هذه الفكرات الثلاث كانت تسير في ضعف؛ فإن أوربا كانت تغلي بالسخط لما كان يعانيه العمال في كل قطر من العسف والضغط والفقر، وما هو أن كانت سنة ١٨٤٨ حتى انفجر السخط إلى ثورات عامة اتخذت أشكالًا واتجاهات مختلفة وفقًا للبيئة التي ظهرت فيها.

وكان هناك رجل قد نصَّبه التاريخ للفهم والإيضاح يدرس عصره، أي القرن التاسع عشر، ويحاول أن يحلل عوامل مجتمعه ويفهمها ثم يشرحها ويوضحها للشعوب المتألمة من نظام المباراة في الإنتاج والعمل.

هذا الرجل هو كارل ماركس أعظم فيلسوف ظهر في العالم إلى الآن.

وقد أمضى سنين قبل ثورات ١٨٤٨ وهو يدرس الأفكار التعاونية والنقابية والاشتراكية، حتى إذا كانت هذه السنة أخرج ما يسمى «البيان الشيوعي» الذي شرح فيه في عبارات مبسطة الأفكارَ الاجتماعية المعقدة، ولا يزال هذا البيان إلى الآن مثالًا للتفكير العميق في العقل الناضج.

ومع أن كارل ماركس كان يعيش في إنجلترا، ومع أنه أخرج هذا البيان وهو في إنجلترا، فإن أثره لم يكن كبيرًا فيها، ولكن حركات العمال في أوربا تأثرت به كثيرًا واتبعت — إلى حد بعيد — مبدأه ومنهجه.

وبقي الأحرار والمحافظون يتناوبون الحكم في إنجلترا دون أي حساب للعمال، وكان اهتمامهم الأكبر بالإمبراطورية التي كانت تغل كل عام ملايين الجنيهات، يسرقونها من الهند وغير الهند من المستعمرات، وهذه الملايين التي كانت تؤخذ من المستعمرات وتُنفق في إنجلترا، كانت تُحدث رخاء عامًّا هو علة الركود في حركات العمال الارتقائية الإنجليزية؛ فإن المصانع كانت تعمل ليل نهار في إنتاج السلع التي تقهر المستعمرات على شرائها، وكان العمال الإنجليز راضين عن أحوالهم كما كانوا أيضًا — بالمقارنة إلى عمال أوربا — غير واعين.

ونشأت في إنجلترا لهذا السبب اشتراكية يؤمن بها مئات العمال، وهي غير اشتراكية ماركس الثورية، هي اشتراكية التدرج وليس الثورة، وظهرت «الجمعية الفابية» حوالي ١٨٨٥.

وكلمة «الفابية» هي وصف مشتق من القائد الروماني «فابيوس» الذي كان يحارب «هني بعل» قائد الجيش القرطجني الذي كان يحتلُّ إيطاليا في القرن الثالث قبل الميلاد، وكانت خطة فابيوس تعتمد على تجنب المواجهة، ومقاتلة هني بعل بتخطف قواته من جوانبها جزءًا بعد جزء حتى تنهار.

وكانت الجمعية الفابية تعتمد أيضًا على تجنُّب المواجهة للأحزاب القوية، وتقنَع بالتسلل إلى العقول في نشر الأفكار الاشتراكية؛ وذلك حتى لا تثير جبهة ضدها من الأحرار والمحافظين، ونجحت في ذلك، بل إن أفكارها قد تسربت إلى هذين الحزبين ورشحت إلى عقول زعمائها، ولم تكن هذه الجمعية حزبًا يتألف من العمال كما كان الشأن في أوربا، وإنما كانت «جمعية» مؤلَّفة من رجال الطبقة المتوسطة، بل أحيانًا من الأثرياء الذين يهدفون إلى الدرس ونشر الآراء للدعاية فقط وليس للتمثيل السياسي، وقد ألَّف برنارد شو الذي كان أبرز أعضائها بعض رسائلها الدعائية، وكان منها كُتَيِّبٌ يُدعى «الاشتراكية للأغنياء»، والاسم يدل على الهدف المقصود، أو بكلمة أخرى لم يكن العمال هم الجمهور الذي ألَّف له برنارد شو هذا الكتيب كي يقنع أفراده بضرورة الاشتراكية، إذ كان يهدف إلى إقناع الأغنياء بأن الاشتراكية تخدمهم أكثر مما تخدمهم الانفرادية التي أَثْرَوْا في نظامها.

وليس من الشاق أن نُقْنِعُ الأثرياء بأفضلية الاشتراكية؛ فإن الثراء الحاضر في نظامنا الانفرادي قد يكسب الثري ميزات لا يستخف بها، ولكنه يحمل من الهموم ما يُنضي على حياته أحيانًا وهو دون الخمسين لأن مسئولياته كثيرة، فهو يعمل أحيانًا أكثر من عماله، كما هو عرضة للإفلاس في أي وقت، ثم هو يأخذ بقيم اجتماعية تبعثر أمواله على الزينات والبهارج، لنفسه ولزوجته وأولاده، بحيث يضطر — لو كان على مقدار متوسط من الذكاء — أن يسأل عن قيمة هذا الثراء الذي يبهظه بهذه التكاليف التي يمكن الاستغناء عنها، ولعلَّنا لا ننسى أيضًا في أيامنا هذه أن الأمراض النفسية تصيب الأثرياء أكثر مما تصيب العمال وذلك لفرط ما يجهدون قواهم ويحملون من هموم.

ونجحت الجمعية الفابية في إيجاد «الاشتراكية التدريجية» في بريطانيا، وهي اشتراكية الإصلاحات الاجتماعية التي سارت فيها الدولة عامًا بعد آخر، والمثل الأعلى لها هو «مشروع بفريدج» الذي يكفل العيش والصحة والتعليم لكل إنجليزي من المهد إلى اللحد. بل قبل المهد وبعد اللحد.

ولكن علينا ألَّا ننسى أن هذه «الاشتراكية التدريجية» قد أخَّرت التفكير الاشتراكي الثوري.

وما زلت أذكر أني طيلة انتمائي إلى الجمعية الفابية، سواء وأنا في لندن أو بعد ذلك في مصر، لم أكن أسمع عن اسم ماركس إلا قليلًا جدًّا، ولم أكن أعرف أن الاشتراكيين في أوربا يهدفون إلى الثورة لا الإصلاح، بل إنهم كانوا وما يزالون يعدون الإصلاح عائقًا للثورة، وهذا بلا شك صحيح إلى حد بعيد.

انضممتُ إلى الجمعية الفابية في ١٩٠٨ وبقيت معتنيًا بمؤلفاتها وتوجيهاتها أكثر من عشرين سنة، ولما ألفنا الحزب الاشتراكي في مصر في ١٩٢١ كانت تعاليم هذه الجمعية في ذهني أكثر من تعاليم ماركس؛ أي أننا كنا نبغي التنوير الاشتراكي عن طريق الإصلاحات المتدرجة.

وليس معنى قولي هذا أننا أهملنا ماركس تمامًا؛ فإن التفسير الاقتصادي للتاريخ — كما رسم منهجه ماركس — كان بارزًا في أذهان الفابيين، ولكن فكرة الطبقات، والضدية الاجتماعية، والثورة، كانت غائبة عن أذهاننا إلى حوالي ١٩٢٥، وبعد ذلك شرع الاشتراكيون بجميع ألوانهم يدرسون ماركس، وزاد هذا الدرس قوة واندفاعًا عقب أزمة ١٩٣٠ التي أوضحها ركاكة النظام الاقتصادي الانفرادي وضرورة استبدال النظام الاشتراكي به.

ومع ذلك وجدت لي مقالًا في التفسير الاقتصادي للتاريخ في مجلة الهلال في ١٩٢٧ أي قبل هذه الأزمة بثلاث سنوات.

وكانت الجمعية الفابية بطبيعة انتمائها إلى الطبقة المتوسطة تمارس ألوانًا من النشاط في العلوم والفنون، فكانت منها لجانٌ تدرس كل ما يتَّصل بالمجتمع من ثقافة جديدة تتفق والاتجاه الاشتراكي، وكان برنارد شو روح هذا النشاط، ولم يكن يضن بوقته الغالي في خدمة الأعضاء، وما زلت أذكر أنه رأس لنا اجتماعًا أمضى فيه نحو ساعتين في المناقشة بشأن التعليم، ولم نكن نحن المستمعين نزيد على ٨ أو ١٠ أعضاء.

وأذكر من المحاضرات التي سمعتها في الجمعية (وأعني لجانًا منها) واحدة أو أكثر عن الأدب الروسي، وأخرى عن تحديد النسل، وثالثة عن الدرامة الواقعية، ورابعة عن الاستعمار … إلخ، وهذا بالطبع غير المحاضرات الاشتراكية التي كانت تهدف إلى الحد من النشاط الانفرادي في التجارة والصناعة، والأخذ بالإصلاحات الاشتراكية والدعوة إلى أن تتولى المجالس البلدية مشروعات تأميمية محلية مثل إيجاد المكتبات العامة والأحواض السباحية وإنشاء المدارس وتغذية التلاميذ وإنشاء المدارس الليلية للعمال، بل إنشاء الأندية الترفيهية كذلك حيث يجد العامل طعامًا رخيصًا ونشاطًا يشغله عن الخمر والقمار.

ونجحت الجمعية في كل ذلك، ووجدت دعوتها القبول بين عدد كبير من الجمهور المتعلم، كما أن دعوتها إلى تأميم الثروات الكبرى التي كانت تحتكرها الشركات، مثل المناجم والسكك الحديدية ونحوها، وقد وجدت — بعد خمسين سنة من الدعاية — الاستجابة من حزب العمال، وكان نقدها لتعطل العمال ماركسيًّا، كما أن عبارة «حق العمل» كانت بلا شك ثورية.

وحزب العمال الإنجليزي هو، بتأليفه ومذهبه الاشتراكي، فابي النزعة من نشأته إلى حاضره، وليس شك أنه من حيث التفكير الاشتراكي الصميم، ونعني هذا التفكير كما تفهمه أوربا في أيامنا، بعيد عن الماركسية وفلسفتها؛ إذ يقول بالتدرج ويعزف عن الثورة، وهو — لهذا السبب — يعد عائقًا للثورة الشيوعية التي تهدف إليها الأحزاب الماركسية في أوربا.

لقد اختلطتُ وأنا بإنجلترا ببعض أعضاء حزب العمال، فوجدت فيهم الإمبراطوريين الذين يتحدثون عن المستعمرات كما لو كانوا محافظين، ووجدت فيهم الأحرار الذين يخشون الاشتراكية الكاملة، ولكني وجدت فيهم أيضًا الاشتراكيين المخلصين مثل كير هاردي، وخلاصة القول أن أعضاء الحزب لم يكونوا قبل الحرب الكبرى الأولى، وبعدها إلى حوالي ١٩٣٠، من الاشتراكيين إلا في الأقل.

ولكن مع ذلك كان هذا الحزب صاحب الفضل في جلاء الإنجليز عن الهند في ١٩٤٩، وكذلك وقف في صفِّنا عندما أغار الوغد إيدن وحزبه على بورسعيد.

وكان برنارد شو أبعد المفكرين عن الدعوة إلى الثورة، وكان عزوفه عنها يحمله أحيانًا على احتقار الحركات الشعبية، حتى إنه أيَّد موسوليني في فاشيته، ولكنه بعد أن زار روسيا عاد وكله إطراء للنظام الجديد ومدح للثورة وإعجاب بمآثرها.

وكذلك فعل سيدني ويب واضع عبارة «التدرج المحتوم»، فإنه أيضًا زار روسيا وأكب على درس منظماتها، ثم أخرج كتابه عنها بعنوان «حضارة جديدة» رفعها فيه إلى السماء إعجابًا وإطراء.

وقد يتساءل القارئ هنا بحق: كيف يكون برنارد شو اشتراكيًّا ويحتقر الشعب؟

والجواب أنه ينتمي أولًا إلى الطبقة المتوسطة ويحس إحساسها من الاستعلاء على العامة؛ ولذلك كان بعقله مع الشعب وبعاطفته مع طبقته السائدة، ثم علينا ألَّا ننسى أن معظم من كانوا اشتراكيين سئموا البطء في حركات الإصلاح الاشتراكية، فعمدوا مخدوعين إلى الفاشية، باعتبار أنها الديكتاتورية التي تستعجل الإصلاح وتختصر الطريق، ثم عرفوا بعد ذلك خطأهم وندموا.

ولما ذهب برنارد شو إلى روسيا انقلب، وآمن بالثورة وبالشعب، ومدح النظام الاشتراكي القائم.

هناك أفكار تُعد خمائر؛ أي لا تتحيز مكانًا وتقف عنده ساكنة في عقولنا، وإنما تسري كالخميرة في سائر الكتلة المحيطة فتغذوها وتنيرها وتطورها.

وقد وجدت هذه الخميرة التي غيَّرتني وطورتني في الجمعية الفابية، وفهمت إنسانية أخرى لم أكن أفهمها قبل التحاقي بها؛ إذ وجدت رجالًا ونساء يبحثون معاني الخير والشرف ويتساءلون: كيف نلغي الفقر؟ كيف نمنع الجريمة؟ كيف نربي الطفل؟ كيف نكافح الاستعمار؟

وقبيل الحرب الكبرى الأولى ألَّفْتُ ثلاثة كتيبات نفدت جميعها، وهي تدل على الاختمارات الذهنية التي كنت أعانيها والتي كانت ثمرة الحركات الذهنية في الجمعية الفابية:
  • (١)

    مقدمة السبرمان، كما يفهمه نيتشه وبرنارد شو، وبهذه المقدمة فصل عن ضرورة الاشتراكية باعتبارها النظام العادل للحكم والإنتاج (طُبع في ١٩١٠).

  • (٢)

    نشوء فكرة الله، وهو تلخيص لكتاب جرانت ألين، يبحث الأصول المادية التاريخية التي أدت إلى الإيمان بالله (طُبع في ١٩١٢).

  • (٣)

    الاشتراكية، وهو دعوة إلى هذا المذهب (طُبع في ١٩١٣).

وفي ١٩٢٠ عندما ألَّفت مع بعض الزملاء الحزب الاشتراكي، كانت هذه الأفكار وغيرها عنصرًا أساسيًّا في تفكيري، أرغب في نشرها وأجعل من الحزب بؤرة لبحثها ومناقشتها هي وغيرها؛ مما يجعل شعبنا عصريًّا يحيى في أفكار القرن العشرين ويسير في مواكبه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

ولكن سعد زغلول في ١٩٢٤ سلط علينا النيابة العامة. التي هجمت علينا، وحققت معنا، وشرعت تعتقل بعضنا، حتى قتلت هذه البذرة التي كان يمكن أن تنبت وتتفرع وتشيع نورًا يضيء ظلام تقاليدنا المصرية والاستعمار الإنجليزي، وأصبح التفكير الاشتراكي من ذلك الوقت خطرًا.

ولو أن هذا التفكير كان مباحًا رائجًا في عقول الناس، لكنا قد فهمنا الاستعمار الفهم الصحيح، ولكُنَّا قد كافحناه الكفاح البصير.

ولكن الجهل الذي يسود العقول ويظلمها منع عنَّا هذا النور، وجعل من التفكير الاشتراكي جريمة يتوقاها الشبان ويخشون عواقبها.

وفي ١٩٥١ كنت عائدًا من فرنسا إلى مصر على إحدى البواخر، وكان معي «البيان الشيوعي» لكارل ماركس، فكنت أقرأه صفحة بعد صفحة وأقطع ما أقرأه وأطرحه في البحر، حتى لا «يُضبط» معي عند نزولي في الإسكندرية.

ثمرة، هي حلال في الأمم المتمدنة، وهي حرام على أبناء مصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤