الزمخشري
وقد اشتهر الزمخشري في عصره، ومدحه الشعراء والأدباء، وطلب العلماء أن يعطيهم الإجازة في رواية كتبه. ومن لطيف ذلك أن الحافظ أبا الطاهر السّلَفي كتب إليه من الإسكندرية يستجيزه، وكان الزمخشري مجاورًا بمكة، قضى فيها زمنًا طويلًا، وسكن في دار قريبة من الكعبة، واستفاد في أثناء ذلك فوائد كثيرة، فكتب إليه الزمخشري جوابًا طويلًا يشبه خطاب أبي العلاء لابن القارح، يقول فيه: «ما مثلي مع أعلام العلماء إلا كمثل السُّها مع مصابيح السماء … والجهام الصُّفْر والرِّهام مع الغوادي الغامرة للقيعان والآكام، والسُّكيت المخلَّف مع خيل السِّباق، والبُغاث مع الطير العَنَاق … وما التلقيب بالعلاّمة، إلا شبه الرقم بالعلامة، والعلم مدينة أحد بابيها الدراية، والثاني الرواية، وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلّي فيها أقلص من ظل حصاة، أمَّا الرواية فحديثة الميلاد، قريبة الإسناد، لم تستند إلى علماء نحارير، ولا إلى أعلام مشاهير، وأما الدراية فثمد لا يبلغ أفواها، وبَرْض ما يبل شفاها … ولا يغرنكم قول فلان وفلان فيَّ … (وعدَّد قومًا من الشعراء والأدباء)، فإنّ ذلك اغترار منهم بالظاهر المموَّه، وجهل بالباطن المشوّه، ولعل الذي غرهم مني ما رأوا من حسن النصح للمسلمين، وإيصال الشفقة إلى المستفيدين، وقطع المطامع عنهم، وإضافة المبارّ والصنائع عليهم، وعزة النفس، والذَّب بها عن السفاسف الدنيَّات، والإقبال على خويصتي، والإعراض عما لا يعنيني، فجللت في عيونهم، وغلطوا فيّ، ونسبوني إلى ما لست منه في قبيل ولا دبير».
وإنما سقنا هذه الفقرة أولًا: للدلالة على أسلوبه؛ وثانيًا: لأنه شهر بين الخاصة من قومه بالعلم، حتى استجازوه. وثالثًا: لدلالتها على أنه كان عزيز النفس، محبًّا للخير، كافًّا على ما لا يعنيه، مقبلًا على شأنه، وهو مع ذلك يتستر وراء هذه القطعة بالاعتداد بنفسه، إذ يقول في بعض شعره:
على كل حال تعب الزمخشري كثيرًا في التوفيق، وتفسير الآيات على هذه الأصول، والتعاليم المعتزلية الأخرى، كنَفْي السحر، وأنه ليس قلبًا لطبائع الأشياء، وإنما هو لعب بأعين الناظرين وعقولهم، وعدم رؤية الجن، وغير ذلك، ونسوق الآن أمثلة تدل على مقدار ما فعل، فأول ذلك مثلًا: أنه بدأ كتابه «الكشاف» بقوله: الحمد لله الذي خلق القرآن على مذهبي في الاعتزال، ثم غيرت فيما بعد بالحمد لله الذي أنزل القرآن، ومثلًا: قال تعالى: خَتَمَ الله عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ (البقرة: ٧)، وظاهرها أنه تعالى حجر على قلوبهم، فلا يستطيعون بعد الإيمان، هذا الظاهر ضد ما يقوله المعتزلة في اختيار العبد في خلق أفعال نفسه فقال: إنه لا ختم على القلوب، ولا على الأسماع، ولا تغشية على الأبصار على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه، وهما الاستعارة والتمثيل: أما الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأن الحق لا ينفذ فيها، ولا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه.. واستكبارهم عن قبوله واعتقاده كأنها مستوثق منها بالختم، وأبصارهم لأنها لا تجتلي آيات الله المعروضة، كأنما غطي عليها، إلخ …
وثانيًا: لما جاء إلى آية: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ (الأنفال: ١٧)، كان ظاهرها أن أفعال العباد كلها منسوبة إلى الله في الواقع، وليست نسبتها إلى الله إلا نسبة إلى الظاهر، فجاء الزمخشري، فأوَّل الآية أيضًا إذ قال: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم، ولكن الله قتلهم؛ لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وشاء النصر والظفر، وقوّى قلوبكم، وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ الله رَمَىٰ (الأنفال: ١٧)، يعنى أنَّ الرمية التي رميتها لم ترمها أنت على الحقيقة؛ لأنك لو رميتها لم يبلغ أثرها إلا ما يبلغ أثر رمية البشر، ولكنها كانت رمية الله حيث أثرت ذلك الأثر العظيم، فأثبت الرمية لرسول الله؛ لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه؛ لأن أثرها الذي لا يطيقه البشر فعل الله، وهكذا … أول الآيات كلها من هذا القبيل على مذهب الاعتزال.
ولما وصل الزمخشري إلى قوله تعالى: إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ (النساء: ٤٨)، فسرها على مذهب المعتزلة؛ فوقف عند الجملة الأولى: إِنَّ لله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ، وجعل لمن يشاء متعلقًا فقط به يغفر ما دون ذلك؛ فهو لا يغفر الشرك مطلقًا، ويغفر ما دون ذلك لمن تاب: بخلاف السُّنيّة فقد قالوا: إن الله يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، ولو من غير توبة. وتقييد المعتزلة، مغفرة ما دون ذلك بالتوبة مما لا دليل عليه، وقد قال الزمخشري: إنها لو لم تقيد بالتوبة لزم إغراء الله تعالى العبد بالمعصية، والإغراء بذلك قبيح يستحيل على الله.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ (الأعراف: ١٦٩) إن المراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على إثباتهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم فيه. وعن ابن عباس رضي الله عنه أنهم وبّخوا على إيجابهم على الله غفران الذنوب التي لا يزالون يعودون إليها، ولا يتوبون منها. وعرّض الزمخشري في تفسيره بأهل السنة، وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه، حيث جوزوا غفران الذنوب من غير توبة.
وكذلك أول آيات الحسد في مثل قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (الفلق: ١–٥) لا بالتعاويذ ونحوها، ولكن من طريق إيقاع الشقاق، وبث الأخبار لإفساد النفوس، إلى غير ذلك.
وفي نظري أن هذا كله وضع مقلوب، فبدل أن يطبق المبادئ، ويخضع القرآن لها، كان يجب أن يطبق القرآن، ويخضع المبادئ له، ولكن هذا كانت طريقته.
وإذ كان إيمان الزمخشري إيمانًا جدليًّا، وأعني بالإيمان الجدلي الإيمان عن طريق المنطق، والمقدمات، والنتائج، والقياس، فقد أنكر ما يقوله الصوفية في شأن الحب، فالصوفية يقولون في حب الله كما يقول المحبون من البشر بعضهم في بعض، وحتى إنهم استعاروا في حبهم ألفاظ الغزل، وشعر الغزليين من الشعراء، كأبي نواس، ومسلم بن وليد، وذكروا الوصال والهجران، والغناء في المحبوب، ونحو ذلك، وقالوا في ذلك الشيء الكثير، ننقل لك بعضًا منه؛ من ذلك: قول أبي عبد الرحمن السلمي: «المحبة أن تغار على محبوبك أن يحبه غيرك»، وقالوا: «المحبة سكر لا يصحوا صاحبه إلا بمشاهدة محبوبه»، ثم السكر الذي يحصل عند المشاهدة لا يوصف، وأنشدوا:
وقالوا: «الشوق احتياج القلب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق.» وقيل لبعض الصوفية: هل تشتاق إليه؟ فقال: إنما الشوق إلى غائب، وهو حاضر لا يغيب … إلخ إلخ.
وقالوا: إن الحب ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: محبة العوام، وهي الحب للإحسان، وقد جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها، وهو حب يتغير، وهو حب الذين يطلبون أجرًا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب:
القسم الثاني: محبة الخواص، الذين يحبون الله إجلالًا وإعظامًا، ولأنه أهلٌ لذلك، وإلى هذا أشار النبي بقوله: نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه.
وقالت رابعة العدوية:
وهذا الحب لا يتغير لبقاء الجمال والجلال.
والقسم الثالث: محبة خواص الخواص، وهو الحب الناشئ من الجذبة الإلهية، وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها: أن يفنى المحب في المحبوب، وربما بقي صاحبها حيران سكران، لا هو حيّ فيرجى، ولا ميت فيبكى. وفي مثل ذلك يقول الشاعر:
ومحبة الرب لهذه الأقسام هي فيما يتعلق بالعوام الرحمة، وكأنه قال لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة أرحمكم، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل، وكأن الله قال لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق أخصكم بتجلي الجمال عليكم. وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة، فكأن الله قال لهم: اتبعوني ببذل الجود، أخصكم بجذبي لكم.
وقالوا: والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير.
إلى كثير من مثل هذه الأقوال …
والزمخشري وأمثاله من المعتزلة لا يؤمنون بشيء من ذلك، ويرون أن الحب بهذا المعنى لا يكون إلا بين الأشخاص الماديين، ولا يمكن أن يكون بين العبد والله، إنما المحبة من العبد الطاعة، ومن الله الثواب. وعلى هذا درج الزمخشري في تفسيره، واستنكر ما ذهب إليه الصوفية في كثير في تفسيره لآيات الحب. وطبيعي أن يكون هناك خلاف بين المؤمن بعقله، والمؤمن بقلبه.
على كل حال، كان الزمخشري قويًّا كل القوة في تفسيره لبلاغته، وبيان بلاغة القرآن وإعجازه، وتمكنه من اللغة والأساليب، حتى إنَّ أهل السنة لم يستطيعوا أن يتخلوا عنه، بل انتفعوا به، واستخدمه كل المفسرين الذين أتوا بعده تقريبًا في علمنا. وقد ألف ابن المنير الإسكندري المالكي قاضي الإسكندرية، المتوفى سنة ٦٨٧ﻫ، كتابًا ضمنه التنبيه على ما في الكشاف من الاعتزال، وناقشه، وردّ عليه، أو فسّر الآيات الدالة على الاعتزال في نظر الزمخشري بتفسير آخر كما يفهمه أهل السنة.
وعلى الجملة، فقد كاد يكون الزمخشري آخر فحل من الفحول الذين دافعوا عن الاعتزال، فلم يأت بعده من يسابقه، أو يجاريه.