فاتحة

قصتي مع فكر الصين ترجع في بداياتها إلى عام ١٩٦١م عندما قرأتُ كتابًا مُترجمًا عن الإنكليزية بعنوان «حكمة الصين»، من منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب. وقد قدَّمني ذلك الكتاب إلى فكرٍ فلسفيٍّ جديدٍ لم نألفه في قراءتنا للفلسفة اليونانية وربيبتها الفلسفة العربية، فكرٌ مستقلٌّ في أسلوبه ومنطلقاته وغاياته. وأكثر ما ميَّزه عندي خلوُّه من البحث في الميتافيزيك والغيبيات وتركيزه على المجتمع والأخلاق والعلاقات الإنسانية والسياسة؛ فهو فكرٌ وجوديٌّ بالمعنى العام للمصطلح، يبدأ عند الإنسان وينتهي عنده.

بعد ذلك اجتذبتني حكمة الزن اليابانية مع قراءتي لكتاب ألان واطس الشهير The Way of Zen، وقادني هذا الكتاب إلى مؤلَّفات ت. د. سوزوكي الحكيم الياباني ومعلم الزن الأشهر في العالم الغربي. ولرغبتي الدائمة في التعرُّف إلى أصول الظاهرة الثقافية التي أنكَبُّ على دراستها، فقد انقلبتُ إلى أصول حكمة الزن في الصين، وهي بوذية الشان (أو Chi’an كما يكتبها الباحثون الغربيون)، والتي تكوَّنت من الجمع بين البوذية الوافدة إلى الصين وتاوية «لاو تسو» أول فلاسفة الصين ومؤسِّس التاوية الفلسفية. ولكن بوذية الشان لم تحتفظ من التراث البوذي إلا بشخصية البوذا كرمزٍ للاستنارة الروحية، ومن الشان حطَّت رحالي عند كتاب التاو تي تشينغ، وهو الأثر الوحيد الذي تركه لاو تسو وراءه، والذي عمل مع كتاب الحوار لكونفوشيوس على صياغة فكرٍ تخلَّل الثقافة الصينية عبر تاريخها الطويل.

في عام ١٩٩٨م أنجزتُ ترجمتي لكتاب التاو تي تشينغ اعتمادًا على أربعة مراجع موثوقة عالميًّا، وزوَّدتها بمقدمةٍ طويلة عن تاريخ حكمة الصين، وبشروحاتٍ وتعليقات استغرقت نصف الكتاب تقريبًا. وقد لفت الكتابُ نظرَ المستعرب الصيني الدكتور «شوي تشينغ قوه» عميد كلية الدراسات العربية في جامعة بكين للدراسات الأجنبية (واسمه العربي بسام، على عادة أساتذة وطلاب اللغة العربية في الصين)، وكان في إحدى زياراته لدمشق، فاشتراه وقرأه في طريق عودته إلى بكين، ثم اتصل بي وعبَّر عن إعجابه بالكتاب ورغبته في نشره عن طريق «دار النشر باللغات الأجنبية» ببكين، بعد أن يراجع ترجمتي على النص الصيني الأصلي، فوافقتُ على ذلك. ثم شرعنا في المراجعة عن طريق الإنترنت، والْتقينا مرةً أولى في دمشق، ومرةً ثانية في بكين عندما شاركتُ في ندوة الحوار الثقافي العربي الصيني، التي دعت إليها جامعة الدراسات الدولية ببكين، وأثمرت جهودنا في إدخال تعديلاتٍ غير جوهرية على النص العربي. وصدر الكتاب عام ٢٠٠٩م تحت عنوان «لاو تسي»، ضمن سلسلة التراث الصيني باللغات الأجنبية عن دار النشر المذكورة.

في ربيع عام ٢٠١٢م اتصل بي الدكتور شوي تشينغ قوه هاتفيًّا، وقال لي إن لديهم شاغرًا في الهيئة التدريسية بالكلية، وتمنَّى عليَّ أن أملأه فأجبته بالقَبول، وأقمتُ في بكين ست سنوات قمت خلالها بتدريس مادة تاريخ العرب لطلاب اللغة العربية في مرحلة الليسانس، ومادة تاريخ أديان الشرق الأوسط، ومادة الإسلام والقرآن لطلاب الدراسات العليا.

كان نجاح كتاب التاو تي تشينغ في طبعته الصينية ونفاد نسخها، واتفاقنا مع دار نشر أخرى على إصدار طبعةٍ جديدة، حافزًا للدكتور بسام على التفكير في عملٍ مشتركٍ آخر يتناول كتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب تلميذه منشيوس، وهما الكتابان الرئيسيان اللذان قامت عليهما الفلسفة الكونفوشية، فقامت الهيئة العليا لمعاهد كونفوشيوس التي تعمل على نشر اللغة الصينية في العالم بدعم المشروع، وبدأتُ العمل في الترجمة اعتمادًا على المراجع الغزيرة المتوفِّرة في مكتبة الجامعة. وبعد ذلك بدأت المهمَّة الشاقة وهي مراجعة الترجمة على الأصل الصيني، والتي استغرقت مِنَّا نحو ستة أشهر كُنَّا نجتمع خلالها في مسكني ثلاث مرات في الأسبوع حافلة بالجدال والنقاش المثمر، وكان جُل خلافنا نابعًا من ميله إلى نقل المعاني المباشرة للنص الصيني، ومن ميلي إلى التعبير عن مقاصده. وعلى الرغم من أن الاتفاق لم يكن سهلًا في كثيرٍ من الأحيان، إلا أننا كنا نتوصَّل إليه في نهاية الأمر.

لقد كان هدف الهيئة العليا لمعاهد كونفوشيوس من دعم المشروع هو وضع كتاب الحوار لكونفوشيوس وكتاب منشيوس بيد أيدي طلاب اللغة الصينية في العالم العربي خاصةً وقُرائه عامة، أمَّا هدفي من هذه الطبعة التي تُصدرها دار التكوين بدمشق فهو تزويد القارئ بمدخلٍ يقدِّمه إلى الفلسفة الصينية؛ لذلك فقد جمعت النصَّين في كتابٍ واحدٍ زوَّدته بخمسة فصول:
  • (١)

    الأول: إطلالةٌ عامة على الفلسفة الصينية، تحدَّثتُ فيها عن تاريخها وطبيعتها وأساليبها في التعبير ومدارسها.

  • (٢)

    الثاني: «كونفوشيوس»، حياته وفكره. تحدَّثت فيها عن حياة هذا الفيلسوف وأفكاره الرئيسية التي بسطها في كتاب الحوار ومكانته في الثقافة الصينية.

  • (٣)

    الثالث: «مو تزو» ونقد الكونفوشية. تحدَّثت فيها عن فلسفة مو تزو التي قامت على أساسٍ من نقده لكونفوشيوس وفلسفته.

  • (٤)

    الرابع: «منشيوس»، حياته وفكره. تحدَّثت فيها عن المعلِّم الثاني للكونفوشية الذي عاش بعد قرنٍ من وفاة المعلِّم الأول، وعمل على شرح وتطوير أفكاره والوصول بها إلى غاياتها الأخيرة.

  • (٥)

    في الخامس عدتُ إلى «لاو تسو» بعد عشرين سنةً من صدور كتابي عنه، وقدَّمته في رؤيةٍ جديدة تُغني القارئ عن الغوص في ألغاز كتابه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤