الباب السابع: لي لو

١

قال منشيوس: حتى وإن كان لديك بصرٌ حاد مثل بصر لي لو،١ ومهارةٌ تعادل مهارة قونغ-شو تسو Gong-shu Tzu،٢ فإنك لن تقدر على رسم مربعٍ أو دائرة دون الاستعانة بمربع النجارين وبفرجار. حتى وإن كان لديك أذنٌ مرهفة مثل أذن الموسيقار كوانغ Kuang،٣ فإنك لن تستطيع عزف المقامات الخمسة٤ دون استخدام أداة المزامير الستة. وحتى لو عرفت طريق ياو وشون، فإنك لن تستطيع توحيد وحكم البلاد إذا لم تطبِّق الحكم الرشيد.

بعض الحُكَّام لديهم قلوبٌ رحيمة وسمعة جيدة، ولكنهم لم يُفلحوا في تقديم منافع للناس، وفي ضرب المثل الصالح للاحقين؛ لأنهم لم يتبعوا طريق الملوك الحكماء؛ فالنوايا الطيبة وحدها لا تكفي للحكم الصالح، وسن القوانين وحده لا يكفي لوضعها موضع التطبيق، على ما ورد في قولٍ مأثور. كما ورد في كتاب القصائد: لا تحِدْ، ولا تغفل عن شيء، والْزم القواعد المؤسِّسة في كل ما تقوم به.

إن من يتَّبع طريق الملوك القدامى لن يرتكب الأخطاء.

عندما استخدم الحكماء بصرهم إلى الدرجة القصوى، واستعانوا بالفرجار والزاوية والشاقول والفادن؛ برعوا في عمل المربعات والدوائر والخطوط المستقيمة. وعندما أرهفوا سمعهم إلى الدرجة القصوى، ابتكروا المزامير الستة لعزف المقامات الخمسة. وعندما فتحو قلوبهم إلى الدرجة القصوى توصَّلوا إلى تطبيق الحكم الرشيد وساد الخير في البلاد. ولقد قيل قديمًا إنك لكي تبني مصطبةً عالية عليك الإفادة من تلٍّ قائم، ولكي تحفر برِكةً عميقة عليك الإفادة من نهرٍ أو مستنقع. فكيف لحاكمٍ أن يُعدَّ حكيمًا إذا لم يتَّبع في حكمه طريق الملوك الحكماء القدماء؟

لذلك أقول إن المناصب العليا ينبغي أن تكون وقفًا على الصالحين؛ لأنه إذا وُضع الطالحون في المناصب العليا، فسوف ينشرون الفساد بين الجميع. إذا كان الأعلَون لا يلتزمون بالمبادئ الخلقية، والأدنَون لا يراعون القانون، وإذا كان رجال الحاشية لا يؤمنون بطريق الحق، والحرفيون لا يثقون بالمعايير والمقاييس، وإذا كان الرسميون لا يعدلون، والعامة لا يأبهون بالقانون الجزائي؛ فإن بقاء الدولة مشكوكٌ به ويعتمد على الحظ فقط.

من هنا يمكننا القول بأن ضعف التحصينات وقلة الأسلحة والجنود لا يشكِّل خطرًا داهمًا على الدولة، كما أن تزايد مساحة الأرض اليباب وتناقص الثروة لا يشكِّل خطرًا داهمًا على الدولة أيضًا، ولكن إذا كان المسئولون لا يُراعون الطقوس وقواعد الأدب والمعاملات، والعامة لا ينالون تعليمًا وتهذيبًا، والخارجون على القانون يرتعون دونما رادع؛ فإن أيام الدولة تغدو معدودة. وقد ورد في كتاب القصائد: إن السماء على وشك الارتجاج، فتوقَّف عن اللغو والثرثرة.

اللغو هو الهَذر، والمهذار هو الذي لا يأبه لخدمة الحاكم وفق ما يُمليه الواجب، والذي لا يلتزم بالطقوس وقواعد الأدب والمعاملات في قَبوله للمنصب أو رفضه، ومع ذلك يتهجَّم على طريق الملوك القدماء؛ ولهذا قيل: إن توبيخ الحاكم بلطفٍ يعني احترامًا له، وتقديم الأفكار الحسنة له وإبعاد الأفكار الضارة يعني تبجيلًا له، أمَّا القول بأن أميري عاجزٌ عن الخير فهذا كلام اللصوص.

٢

قال منشيوس: «الفرجار ومربع النجار هما كمال الدائرة والمربع، والحكماء هم كمال الإنسانية؛ لذلك على من يتطلَّع إلى منصب الحاكم أن يؤدِّي واجبات الحاكم، وعلى المرءوسين من جهتهم تأدية واجبات المرءوسين، وعلى الفريقَين اتباع طريق ياو وشون. إذا لم يخدم المرءوسون الحاكم مثلما خدم شون ياو، كانوا مقصِّرين في تقديم فروض الاحترام له، وإذا لم يدرِ الحاكم شئون شعبه مثلما فعل ياو أضرَّ بهم. وقد قال كونفوشيوس: هنالك طريقان، وطريقان فقط؛ أن تكون حاكمًا رشيدًا، أو أن تكون حاكمًا مستبدًّا.

إذا استبدَّ الحاكم إلى الدرجة القصوى سوف يُقتَل وتُلحق دولته بدولةٍ أخرى، وحتى إذا حكم بدرجةٍ أقلَّ من الاستبداد سوف تكون حياته مهدَّدةً وتتقلَّص مساحة دولته، وفي كلا الحالتَين سوف يُطلَق عليه لقب الأحمق أو لقب الطاغية، والذي سيلتصق به عبر مئات الأجيال القادمة. وقد ورد في كتاب القصائد ما يُعبِّر عن ذلك: إن المثال التحذيري لأسرة ين ليس بعيدًا زمنيًّا؛ فلقد كان لهم مثالٌ في أسرة شيا Xia.٥

٣

قال منشيوس: «لقد حازت الأسر الثلاث (= شيا Xia، وشانغ Shang، وجو Zhou) على السلطة بالرحمة، وفقدتها بالقسوة، وهذا ينطبق بشكلٍ عام على صعود وسقوط أية دولة. إن لم يكن الملك محسنًا رحيمًا فلن يحافظ على ملكه، وأمير المقاطعة إن لم يكن محسنًا فلن يحافظ على معبد أسلافه (ويقدِّم لهم فيه القرابين). والمثقَّف، وكذلك العامي، لن يحفظ حياته إن لم يكن محسنًا. إذا كنت تكره الموت ومع ذلك تمارس القسوة؛ فأنت مثل من يكره السُّكر ومع ذلك يشرب فوق ما يطيق.»

٤

قال منشيوس: «إذا بذلت الحب ولم يبادلك الآخرون بمثله، تساءل عمَّا إذا كنت بذلت ما يكفي من الإحسان. وإذا حكمت دون الحصول على نتائج، تساءل عمَّا إذا كان لديك ما يكفي من الحكمة. وإذا أظهرت اللطف والكياسة دون أن تُقابَل بالمثل، تساءل عمَّا إذا أظهرت ما يكفي من الاحترام، وبتعبيرٍ آخر، إذا لم يؤدِّ سلوكك إلى النتائج المرجوة، فتِّش في داخلك عن السبب. إذا أصلحت نفسك تحصل على ولاء أهل المملكة أجمعين. وقد ورد في كتاب القصائد: تلاءم مع مشيئة السماء، وابحث عن حظك بنفسك.»٦

٥

قال منشيوس: «هنالك تعابير شائعة: ما تحت السماء (العالم)، الدولة، العائلة. إن أساس العالم هو الدولة، وأساس الدولة هو العائلة، وأساس العائلة هو أنت.»٧

٦

قال منشيوس: «إن إدارة الدولة ليست بالأمر الصعب، وهي تقوم على إبقاء علاقات حسنة مع الأسر النبيلة. إن ما يُعجب تلك الأسر يُعجب الدولة، وما يُعجب الدولة يُعجب العالم. عندما يحصل ذلك فإن المبادئ الأخلاقية تنتشر في المملكة مثل تيارٍ مائيٍّ عظيم.»٨

٧

قال منشيوس: «عندما يسود صراط الحق في المملكة، فإن ذوي الفضيلة الأقل يخدمون ذوي الفضيلة الأكثر، وذوي القدرة الأقل يخدمون ذوي القدرة الأكثر. أمَّا عندما يغيب صراط الحق، فإن الصغير يخدم الكبير، والضعيف يخدم القوي، وكلا الحالتَين يعكسان مشيئة السماء. من يخضع لمشيئة السماء يحفظ نفسه، والذي يعارض مشيئة السماء يفنى. وقد قال الأمير تشينغ٩ حاكم تشي: لم أكن في وضع يسمح لي بإصدار الأوامر، ولست راغبًا في تلقي الأوامر، وهذا يعني الفناء؛ ولذلك فقد زوَّج ابنته بدموع الحزن إلى ملك دولة وو Wu.١٠
اليوم نجد أن الدولة الصغيرة ترغب في التعلُّم من الدول الكبيرة، ولكنها تخجل من أن تتلقَّى منها الأوامر، وهي في هذا مثل التلميذ يخجل من تلقي توجيهات معلِّمه. إن من يخجل من توجيهات معلِّمه عليه أن يحتذي بالملك وِن.١١ عندما تبدأ دولة كبيرة بالتعلُّم من الملك وِن، فإنها لن تحتاج إلا إلى خمس سنوات لكي تحكم جميع البلاد، أمَّا الدولة الصغيرة فتحتاج إلى سبع سنوات لتفعل الشيء نفسه.
وقد ورد في كتاب القصائد: نسل الملك شانغ كانوا أكثر من مائة ألف، ولكنهم طاعةً لمشيئة السماء خضعوا لأسرة جو Zhou؛ وقد فعلوا ذلك لأن مشيئة السماء لا يمكن تغييرها، ورجال وو الوسيمون والأذكياء مضَوا جميعًا إلى عاصمة جو وسكبوا ماء القربان هناك.١٢

قال كونفوشيوس: القوة الأخلاقية لا تُقاس بعدد السكان؛ ولذلك إذا مال الحاكم إلى الحكم الرشيد فلن يكون له غالبٌ في البلاد.

إذا رغب الحاكم في ألَّا يكون له غالب في البلاد، ومع ذلك يرفض تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، يُشبه من يتألَّم من قسوة حرارة الجو ولكنه يرفض تبريد جسده بالماء. وقد ورد في كتاب القصائد: من يقدر أن يقبض على شيءٍ حار ويرفض تبريد يده بالماء؟»١٣

٨

قال منشيوس: «كيف يمكن التفاهم مع شخصٍ عديم الرحمة؟ إنه يركن إلى طمأنينة حتى عندما تحدق به الأخطار، ويندفع لتحقيق المنافع في أوقات الكوارث، ويجد متعته في ما يسبِّب له الهلاك. لو أنصت عديم الرحمة إلى صوت العقل لَمَا كان هنالك ممالك مدمِّرة وعائلات مشتَّتة. هناك أغنية لهدهدة الأطفال تقول: إذا كان ماء النهر نقيًّا فإني أغسل به أربطة قبعتي، وإذا كان الماء عكرًا فإني أغسل به قدمي. ويقول كونفوشيوس: أنصت يا بني. إن الماء الصافي يصلح لغسل أربطة القبعة، والماء العكر يصلح فقط لغسل الأقدام. الاستخدامات المختلفة للماء تقرِّرها أنت بنفسك.١٤
لذا أقول إن الشخص الذي يُهين نفسه سيُهان من قِبل الآخرين، والأسرة التي تدمِّر نفسها سوف تُدمَّر، والدولة التي يسهل غزوها كانت قد سبَّبت لنفسها أسباب الغزو قبل ذلك. يقول تاي تشيا١٥ في الموضوع نفسه: هنالك أملٌ في تجنُّب البلايا التي تأتي من السماء، أمَّا البلايا التي تأتيك من نفسك فلا رادَّ لها.

وفي هذا توضيحٌ لِمَا قلت.»

٩

قال منشيوس: «الملك تشييه Chieh والملك جو فقدا مُلكهما لأنهما خسرا الرعية، وخسرا الرعية لأنهما خسرا قلوبها. إذا أردت أن تظفر بالمملكة عليك أن تكسب محبة الناس، وإذا أردت أن تكسب محبة الناس، عليك أن تكسب قلوبهم، وإذا أردت أن تكسب قلوبهم عليك أن تؤمِّن لهم ما يحتاجون إليه، ولا تفرض عليهم ما يكرهون. الناس ينقادون إلى الحاكم الرشيد مثلما ينساب الماء نحو المنخفضات، ومثلما تتوجَّه الحيوانات نحو البراري. إن ثعلب الماء يدفع الأسماك نحو الأسفل (هربًا منه)، والصقر يدفع الطيور نحو الدغلة، والملكان تشي وجو لم يفعلا سوى أنهما دفعا الرعية إلى الملك تانغ والمك وو.

في هذه الأيام إذا مال أحد الحُكَّام إلى تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، فإن حُكَّام المقاطعات سوف يدفعون بالناس إليه، ولسوف تكون له السلطة على كل البلاد حتى وإن لم يكن راغبًا في ذلك. ولكن حُكَّام اليوم ممن يتوقون إلى حكم البلاد، يشبهون رجلًا مريضًا منذ سبع سنوات، ولا يشفيه سوى كوب من نقيع عشبةٍ يجب تخميرها ثلاث سنوات؛ أي إنه لن يستطيع الحصول على هذا الدواء أبدًا، إذا لم يتم الانتباه قبلًا إلى تخميره ثلاث سنوات. أمَّا الحاكم الذي لم ينوِ تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، فسوف يقضي أيامه في الحزن والخزي حتى مماته. وقد ورد في كتاب القصائد: كيف لهم أن يحقِّقوا النجاح؟ إنهم سوف يموتون غرقًا واحدًا بعد آخر.

وفي هذا توضيحٌ لِمَا قلت.»

١٠

قال منشيوس: «لا جدوى من التحدُّث مع شخصٍ لا يحترم نفسه، ولا فائدة تُرجى من التعاون مع شخصٍ لا يثق بنفسه؛ الأول يتهجَّم على الاستقامة وقواعد الأدب والمعاملات، والثاني يقول إنني لا أقدر على الرحمة والحق. إن الرحمة هي المَوئل الآمن، الحق هو الطريق المستقيم للإنسان. والويل لمن لا يُقيم في موئله الآمن ولا يسلك طريقه المستقيم.»

١١

قال منشيوس: «الطريق القصير متاحٌ لنا، ولكننا نختار الطريق الطويل. السهولة متاحةٌ لنا، ولكننا ننشد الصعوبة. لو أحب كلٌّ مِنَّا والدَيه واحترم كبار العائلة؛ لعاش العالم في طمأنينة.»١٦

١٢

قال منشيوس: «إذا لم يكسب الموظَّفون الأدنَون ثقة الحاكم، لن يكون بمقدورهم إدارة شئون الناس. ولكي يكسبوا ثقة الحاكم عليهم أن يكسبوا ثقة أصدقائهم، ولكي يكسبوا ثقة أصدقائهم عليهم أن يُسعدوا الوالدَين.

إذا افتقد الإنسان الإخلاص في مشاعره الداخلية (ولم يكن صادقًا مع نفسه)، لن يقدر على إسعاد الوالدَين. ولكي يكون الإنسان مخلصًا في مشاعره الداخلية، عليه أن يعرف ما هو حسن. إن الإخلاص هو طريق السماء، والسعي من أجل الإخلاص هو طريق الإنسان، ومن المستحيل على الإنسان المخلص (والصادق مع نفسه) أن يفشل في التأثير على الآخرين، كما إنه من المستحيل على الإنسان غير المخلص أن يُفلح في التأثير على الآخرين.»

١٣

قال منشيوس: «فرَّ الزاهد بو يي Bo Yi١٧ من الملك جو١٨ وأقام عند ساحل البحر الشمالي. وعندما سمع بتمرُّد الملك وِن على الملك جو شعر بالسعادة وعزم على الانضمام إليه لأنه يعرف كيف يرعى المسنين. تاي كونغ١٩ أيضًا فرَّ من الملك جو وأقام عند ساحل البحر الشرقي (وكان في عمر الثمانين). وعندما سمع بتمرُّد الملك وِن عزم على الانضمام إليه؛ لأنه يعرف كيف يرعى المسنين. هذان العجوزان الأكثر إجلالًا في البلاد قصدا الملك وِن، فكان الأمر كأن كل آباء الشعب قد قصدوه. فإذا كان الآباء قد قصدوه، أفلا يأتي إليه الأبناء أيضًا؟

إذا قام أي حاكم الآن باتباع الحكم الرشيد على طريقة الملك وِن، ففي سبع سنواتٍ سيكون قادرًا على بسط سلطانه على كل البلاد.»

١٤

قال منشيوس: «عندما كان ران تشيو Ran Qiu٢٠ وكيلًا لأسرة تشي،٢١ زاد الضريبة المفروضة إلى الضعف، ولكنه فشل في تحسين سلوك الأمير. وقد ورد في أحد أقوال كونفوشيوس: إن تشيو لم يعد تلميذي، فاقرعوا الطبول أيها التلاميذ وهاجموه.

من هنا يمكن أن نلاحظ كيف أن كونفوشيوس تنكَّر لأولئك الذين ساعدوا على ثراء حاكم لا يطبِّق الحكم الرشيد. والأسوأ من هؤلاء هم الذين يسعَون جهدهم من أجل إذكاء نار الحرب لصالح ذلك الحاكم. إن أولئك الساعين إلى اكتساب مزيدٍ من الأراضي بالحرب سيتركونها ملأى بالأجساد الميتة، والساعين إلى فتح المدن بالحرب سيجدونها محشوةً باللحم البشري، وهذا يُدعى بدفع الأرض لالْتهام اللحم البشري. إن الإعدام عقوبة خفيفة لمثل هؤلاء، والمُجَلون في الحروب يستحقُّون العقوبة القصوى، يليهم من يعقد التحالفات مع أمراء المقاطعات بعضهم ضد بعض، يليهم الذين يستصلحون الأرض اليباب ويفرضون على الرعية زيادة إنتاجها.»

١٥

قال منشيوس: «لا شيء في الإنسان أكثر دلالةً عليه من عينَيه؛ فهما يفشيان ما يكتمه من سوء. عندما يكون القلب طيبًا تبرق العينان، وعندما يكون القلب خبيثًا تكمدان وتبهتان. كيف يمكن للإنسان إخفاء طبيعته الحقَّة وأنت تنظر إليه عندما يتكلَّم؟»

١٦

قال منشيوس: «الإنسان المحترم لا يُهين الآخرين، والمقتصد لا يسرق من الآخرين. الحاكم الذي يُهين ويسرق الآخرين يكون في خشيةٍ دائمةٍ من تمرُّد الرعية، فكيف يكون محترمًا ومقتصدًا؟ كيف يمكن التعبير عن الاحترام والاقتصاد من خلال الصوت الناعم والابتسامة اللطيفة؟»

١٧

سأل تشُن-يو قُن منشيوس: «هل ورد في كتاب الطقوس وقواعد الأدب أن على المرأة والرجل ألَّا يتلامسا عندما يتبادلان الأخذ والعطاء؟» أجابه منشيوس: «هذا صحيح.» فقال تشُن-يو قُن: «إذن إذا كانت زوجة شقيق أحدهم توشك على الغرق، ألن يمد يده لإنقاذها؟» أجابه منشيوس: «إذا لم يمد يده لإنقاذها سيكون وحشًا. لقد ورد في كتاب الطقوس أن على الرجل والمرأة ألَّا يتلامسا في حال الأخذ والعطاء، ولكن مدُّ اليد لإنقاذ زوجة الشقيق من الغرق هو حالةٌ خاصة تستدعي المرونة.» فتابع تشُن-يو قُن: «إن المملكة بكاملها تغرق الآن، فلماذا لا تنقذها؟» أجابه منشيوس: «المملكة الغارقة يمكن إنقاذها بالمبادئ الصحيحة، وزوجة الشقيق الغارقة يمكن إنقاذها بمد اليد إليها. هل تريدني أن أنقذ المملكة بيدي؟»

١٨

قونغ-صَن تشو Gong-sun Chou سأل منشيوس: «لماذا جرت العادة على ألَّا يقوم الرجل النبيل بتعليم ابنه بنفسه؟» أجابه منشيوس: «لأن ذلك لن ينجح؛ فالمعلم يلجأ إلى تصحيح المتعلِّم، وعندما لا يحصل على نتيجةٍ فإنه يغضب، وعندما قد يلجأ الأب إلى إيذاء ابنه، وعندها يقول التلميذ: أنت تعلِّمني من خلال التصحيح، ولكنك لا تفعل ذلك بالطريقة الصحيحة. وبهذا فإن الأب والابن يؤذيان بعضهما البعض، وهذا لن يصبَّ في مصلحة أحد؛ لهذا فقد كان القدماء يتبادلون تعليم أبنائهم، وبهذه الطريقة لا يطلب الأب والابن من بعضهما الكمال؛ لأنه إذا طلبا من بعضهما الكمال فسيبتعدان عن بعضهما البعض، ولا شيء أسوأ من التباعد بين الآباء والأبناء.»

١٩

قال منشيوس: «ما هو الواجب الأول المترتِّب على الإنسان؟ إنه واجبه نحو أبوَيه. ما هو المبدأ الأول الذي يتوجَّب على الإنسان الالتزام به؟ إنه الحفاظ على التكامل الشخصي. لم أسمع أن شخصًا يحافظ على تكامله الشخصي لا يقدر على تأدية واجبه تجاه والدَيه، ولم أسمع عن شخصٍ لم يحافظ على تكامله الشخصي ويقدر على تأدية واجبه تجاه والدَيه. هنالك واجباتٌ عديدة مترتِّبة على الإنسان، ولكن الواجب تجاه الوالدَين هو أساس كل الواجبات. وهنالك مبادئ عديدة يتوجَّب على الإنسان الالتزام بها، ولكن أهمها هو الحفاظ على التكامل الشخصي.

عندما كان تسينغ تسو Tseng Tzu يخدم والده تسينغ شي Tseng Xi، حرص دومًا على تقديم اللحم والنبيذ له في كل وجبة، فإذا انتهى من الأكل وجاء تسينغ تسو لرفع المائدة سأل والده عمن يود أن يعطي المتبقي، وعندما كان الأب يسأل عمَّا إذا كان قد بقي هنالك شيء من الطعام، كان جواب الابن: نعم.
تُوفي الأب تسينغ شي وشاخ ابنه تسنغ تسو، فراح ابنه تسينغ يوان Tseng Yuan يعتني به، وكان يقدِّم له اللحم والنبيذ في كل وجبة، فإذا انتهى من الأكل وجاء ابنه تسينغ يوان لرفع المائدة لم يسأله عمَّن يود أن يعطي المتبقي، وعندما كان الأب يسأل عمَّا إذا كان قد بقي هنالك شيء من الطعام، كان جواب الابن: لا؛ لأنه يودُّ أن يقدِّم له ما تبقَّى من الوجبة الثانية؛ أي إنه كان يُعنى بحاجات والدَيه الجسدية، أمَّا تسينغ تسو فكان يُعنى بحاجات والدَيه العاطفية والنفسية؛ ولهذا فإن سلوكه نموذجٌ يُحتذى.»٢٢

٢٠

قال منشيوس: «لا فائدة من توجيه اللوم إلى الموظَّفين في البلاط، أو من انتقاد طريقتهم في الإدارة. الرجل الكبير وحده القادر على إصلاح قلب الحاكم. عندما يغدو الحاكم فاضلًا يغدو الآخرون فضلاء، وعندما يغدو واعيًا بواجباته، يعي الآخرون بها، وعندما يكون مستقيمًا، يستقيم الآخرون. إذا أصلحتَ الحاكم وضعتَ الدولة على أساسٍ سليم.»

٢١

قال منشيوس: «قد يكون هنالك مديحٌ غير متوقَّع (أي مديحٌ في غير محله)، وبالمقابل قد يكون هنالك توبيخٌ غير منصف.»٢٣

٢٢

قال منشيوس: «لا فائدة من توجيه اللوم لمن يُلقون الكلام على عواهنه.»٢٤

٢٣

قال منشيوس: «هنالك عيبٌ في الرجال، وهو أنهم توَّاقون للعب دور المعلِّم.»٢٥

٢٤

قَدِم يو-تشينغ تسو Yue-zheng Tzu٢٦ إلى دولة تشي بين حاشية الوزير تسو أو Tzu-ao،٢٧ وبعد أيامٍ جاء لزيارة معلِّمه منشيوس، فقال له منشيوس: «إذن فقد فكَّرت أخيرًا بزيارتي!» أجابه يو-تشينغ تسو باستغراب: «لماذا تقول ذلك يا معلم؟» فسأله منشيوس: «كم يومًا مضى على وجودك هنا؟» أجابه يو-تشينغ تسو: «وصلت أول أمس.» قال منشيوس: «إذن ألم أكن محقًّا في ما قلت؟» أجابه يو-تشينغ تسو: «كنتُ مشغولًا بأمور السكن.» قال منشيوس: «وهل تعتقد أن تجهيز أمور السكن أكثر أهميةً من زيارة معلمك؟» قال: «لقد أخطأت.»

٢٥

قال منشيوس ليو-تشينغ تسو: «هل جئت في ركاب تسو أو من أجل الطعام والشراب؟ لم أكن أتوقَّع أنك تعلَّمت المبادئ القديمة من أجل هذه الأشياء.»

٢٦

قال منشيوس: «هنالك ثلاثة أفعالٍ تجعل منك ولدًا عاقًّا، وأهمُّها عدم إنجابك لوريث. الملك شون Shun تزوَّج دون أن يخبر أباه لخوفه من ألَّا يكون له وريث، ولكن بالنسبة إلى الرجل النبيل فإنه تصرَّف كمن أخبر أباه.»٢٨

٢٧

قال منشيوس: «جوهر الإحسان هو بر الوالدَين، وجوهر الاستقامة هو طاعة الإخوة الكبار. جوهر الحكمة أن تعرف هذَين الأمرَين ولا تنحرف عنهما، وجوهر قواعد الأدب هو خلق التناغم والانسجام بينهما، وجوهر الموسيقى هو جعلها تجرِبةً ممتعة تُبهج الإنسان، وعندما تحصل البهجة لا يمكن إيقافها، وعندها فإن الإنسان يحرِّك قدمَيه ويلوِّح بيدَيه في رقصٍ لا شعوري.»

٢٨

قال منشيوس: «الملك شون وحده كان قادرًا على النظر إلى المملكة، بعد أن آلت إليه ومالت جماهيرها إليه بفرح، على أنها لا تساوي أكثر من قشة (فقد كان في حوزته ما هو أكثر أهمية، ألَا وهو بر الوالدَين). إن من لا يُسعد والدَيه لا يستحق أن يكون إنسانًا، ومن لا يطيع والدَيه ليس أهلًا لأن يكون ابنًا. شون بذل كل ما في وسعه لكي يُسعد أباه الذي فقد بصره (على الرغم من كل العذاب الذي ناله منه في صغره)، وحقَّق غايته. سعادة الأب مسَّت شغاف قلوب الناس في كل مكان، وضربت مثالًا يُحتذى لعلاقة الأبناء بالآباء، وهذا ما يُدعى بالإنجاز الأسمى للابن البار.»

١  شخصيةٌ قديمة اشتُهر بنفاذ البصيرة.
٢  نجارٌ قديم حاذق يُقال إنه ابتكر العديد من أدوات النجارة وصناعة العربات.
٣  موسيقارٌ شهير خلال فترة الربيع والخريف. كان رئيس الفرقة الموسيقية لدى الأمير بينغ حاكم جن Jin.
٤  هذه المقامات الخمسة في الموسيقى الصينية تعادل المقامات الخمسة المعروفة في الموسيقى الأوروبية.
٥  المثال التحذيري المقصود هنا هو سقوط أسرة شيا، نحو عام ١٦٠٠ق.م.، ومقتل آخِر ملوكها الذي كان طاغيةً مستبدًّا، وتلتها في الحكم أسرة شانغ (أو ين).
٦  أي إن على الإنسان أن يبذل ما يكفي قبل أن يتوقَّع نتائج مرضية.
٧  أي إن طبيعة الإمبراطورية تتوقَّف على طبيعة الدولة، وطبيعة الدولة تتوقَّف على طبيعة العائلة، وطبيعة العائلة تتوقَّف على طبيعة الأفراد. وبتعبيرٍ آخر: إذا كنت شخصًا طيبًا فإنك تُسهم في خلق عالم خيِّر.»
٨  إن فعالية الملك في الحكم تتوقَّف على نوعية الرجال الذين يساعدونه ويقدِّمون له المشورة، فإذا كان هؤلاء فاضلين شاعت الفضيلة في الدولة وتحسَّنت أحوالها.
٩  حاكم دولة تشي. دام حكمه من عام ٥٤٧ إلى عام ٤٩٠ق.م.
١٠  كان هذا الزواج إهانةً للأمير تشينغ، ولكنه كان مجبرًا عليه نظرًا لأن دولة وو في ذلك الوقت كانت أقوى من دولة تشي.
١١  كان الملك وِن حاكمًا لدولةٍ صغيرة تابعة لشانغ، وكان يعاني من قمع واضطهاد ملكها المستبد. وبعد ذلك ثار، وكان سلاحه في ذلك الحكم الخيري، فنال بذلك تأييد الجميع وأسَّس لسلالةٍ مالكة جديدة.
١٢  كانت أسرة شانغ في النصف الثاني من حياتها تُدعى أسرة ين. وقد تمَّ قهرها من قِبل الملك وِن ابن الملك وو، وصار أهلها خاضعين للملك الجديد.
١٣  أي إذا كان حاكم إحدى الدول لا يحتمل السلطة المفروضة عليه من الدولة الحامية، فعليه أن يجد الحل في تبني سياسة الحكم الخيري؛ لكي يتقوَّى ويغدو في وضعٍ يسمح له بالتمرُّد.
١٤  أي إن على المرء نفسه أن يختار بين أن يكون فاضلًا ويُكرَّم، وبين أن يكون عديم الفضيلة ويُهان.
١٥  الحفيد الأكبر لشانغ تانغ.
١٦  لا يقصد منشيوس هنا إلى القول بأن كل ما على المرء أن يفعله لحل مشاكل العالم هو حب الوالدَين واحترام الكبار، بل يقصد إلى القول بأن الإنسان يتعلَّم الحب والاحترام في بيته أولًا، ثم يعكس هذه العلاقات الأسرية على الخارج ليغدو الحب والاحترام مبدأه في الحياة.
١٧  كان بو يي وأخوه شو جي Shu Gi زاهدَين معروفَين بسلوكهما النُّسكي العفيف. وقد عاشا في أواخر عهد أسرة شانغ (١٦٠٠–١٠٤٦ق.م.)، ورفضا خدمة آخر ملوكها لطغيانه واستبداده.
١٨  كان الملك جو آخر ملوك أسرة شانغ (Yin =)، وكان طغيانه السببَ في سقوط الأسرة.
١٩  تاي كونغ رجلٌ عريقٌ في السياسة والحرب، ولكنه كان في سن الثمانين عندما الْتحق بالملك وِن، فجعله مستشارًا له وقائدًا على جيشه.
٢٠  ران تشيو كان تلميذًا متميِّزًا بين تلاميذ كونفوشيوس وعمل لدى أسرة تشي كوكيلٍ لأعمالها، ولكنه بدلًا من بذل النصح والإرشاد للحكام، راح يسعى من أجل زيادة ثرواتهم. وعندما نبَّهه كونفوشيوس إلى سوء ما يفعله لم يلقَ منه أذنًا صاغية، فغضب وأعلن تبرُّؤه منه وقال لتلاميذه أن يُدينوا أعماله بكل الوسائل.
٢١  إحدى الأسر الثلاث التي حكمت دولة لو فيما بين عام ٦٩٠ وعام ٤٦٠ق.م.
٢٢  كان تسينغ تسو من تلاميذ كونفوشيوس الذي كان يؤكِّد دومًا لتلاميذه على أن العناية بالوالدَين ليست فقط بتقديم الطعام والشراب لهما؛ لأن الإنسان يقدِّم لكلابه وخيله أيضًا الطعام والشراب، بل عليه أن يُرفق خدمته لهما بالاحترام ويراعي حاجاتهما النفسية والعاطفية.
٢٣  المقصود هنا أننا نتلقَّى أحيانًا مديحًا غير متوقَّع لا نستحقه، وفي أحيان أخرى نتلقَّى توبيخًا نراه غير عادل. ومنشيوس يرى هنا أننا ينبغي ألَّا نسعد في الحالة الأولى، ونغضب في الحالة الثانية، بل أن نحلِّل كل حالةٍ عقليًّا.
٢٤  لأنهم لا يأخذون كلامهم على محمل الجد، وبالتالي فأنت تُهدر وقتك في تنبيههم.
٢٥  المقصود هنا أن معظم الرجال جاهزون لإعطاء الإرشادات للآخرين، ولكنهم غير جاهزين لتلقي الإرشادات.
٢٦  من تلاميذ منشيوس.
٢٧  وزيرٌ في دولة تشي. كان رجلًا خبيثًا ومتزلِّفًا، وقد كرهه منشيوس لذلك.
٢٨  شون هو الرجل الفاضل الذي تنازل له الملك ياو Yao عن العرش ثم زوَّجه ابنته. وكان من الواجب عليه وفق التقاليد الصينية أن يخبر أباه بأنه مُقبلٌ على الزواج، ولكنه لم يفعل لأن أباه اضطهده في صغره وفضَّل عليه أخاه غير الشقيق، وفرض عليه العمل الشاق في الحقل بدلًا عن أخيه؛ ولأنه يعرف أن أباه لن يوافق على زواجه كي لا يكون له نسل، فتزوَّج ثم أخبر أباه بعد ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤