الباب الحادي عشر: كاو تسو

١

قال كاو تسو Kao Tzu:١ «الطبيعة الإنسانية مثل عيدان شجر الصفصاف، والفضيلة مثل الصحون والأقداح. وكما نصنع من عيدان شجر الصفصاف صحونًا وأقداحًا، كذلك فإننا نعمل على تشكيل الطبيعة الإنسانية وفق الفضيلة.»
فقال منشيوس: «عندما نصنع من عيدان الصفصاف صحونًا وأقداحًا، هل نترك طبيعتها على حالها أم نغيِّر فيها؟ فإذا كان عليك أن تغيِّر من طبيعة العيدان لتصنع منها صحونًا وأقداحًا، هل ستغيِّر أيضًا من الطبيعة الإنسانية لكي تعمل على تشكيلها وفق الفضيلة؟ هذا المبدأ الذي تقول به هنا هو الذي ضلَّل عقول الناس عن الفضيلة.»٢

٢

قال كاو تسو: «الطبيعة الإنسانية مثل ماءٍ دافق، إذا فتحتَ له مخرجًا نحو الشرق يتجه نحو الشرق، وإذا فتحتَ له مخرجًا نحو الغرب يتجه نحو الغرب. الطبيعة الإنسانية ليس فيها ميلٌ نحو الخير أو نحو الشر، مثلما أن الماء ليس لديه ميلٌ للاتجاه نحو الشرق أو نحو الغرب دون تفضيل.»

أجابه منشيوس: «هذا صحيح؛ فالماء ليس لديه مَيلٌ للاتجاه نحو الشرق أو نحو الغرب دون تفضيل. ولكن هل ليس لديه تفضيلٌ للاتجاه نحو الأعلى أو نحو الأسفل؟ إن الطبيعة الإنسانية لديها ميلٌ نحو الخير مثلما أن الماء لديه ميلٌ للاتجاه نحو الأسفل، وبالتالي فإنك لن تجد إنسانًا غير مبالٍ للخير بطبيعته، ولن تجد ماءً ينثال نحو الأعلى بدلًا من الأسفل.

ولكن إذا قمت برش الماء جعلتَه يرتفع إلى ما فوق رأسك، وإذا صددته بحاجزٍ أبقيتَه فوق تلٍّ مرتفع، ولكن هذا ليس من طبيعة الماء، وهو يفعل ذلك بالقسر. كذلك الإنسان، إنه لا يميل إلى الشر إلا إذا غيَّر من طبيعته الأصلية.»

٣

قال كاو تسو: «عندما نتحدَّث عن الطبيعة الأصلية فإننا نعني بها كل ما هو فطريٌّ وموروث.» فسأله منشيوس: «هل في قولك هذا ما يشبه القول بأن البياض في كل الأشياء هو بياضها؟» أجابه كاو تسو: «نعم.» فسأله منشيوس: «هل بياض الريشة هو نفسه بياض الثلج، وبياض الثلج هو نفسه بياض حجر الجاد؟» أجابه كاو تسو: «نعم.» فسأله منشيوس: «في هذه الحالة، هل الطبيعة الأصلية للكلب مثل الطبيعة الأصلية للثور، والطبيعة الأصلية للثور مثل الطبيعة الأصلية للإنسان؟»٣

٤

قال كاو تسو: «الطعام والجنس هو ما تطلبه الطبيعة. الإحسان هو شيءٌ داخلي، أمَّا الاستقامة فشيءٌ خارجي.»٤ فسأله منشيوس: «على أي أساسٍ تبني مقولتك هذه؟»
قال كاو تسو: «إذا كان أمامي رجلٌ مسن فإني أعامله بالاحترام الواجب لرجلٍ مسن، وليس لأن في داخلي ميلٌ فطريٌّ لاحترام المسنين،٥ وذلك كما لو أن رجلًا أبيض وقف أمامي فبدا لي أبيض، ورأيت بياضه من الخارج؛ ولهذا أقول إن البياض هنا شيءٌ خارجي.»

قال منشيوس: «ربما لا يكون هنالك فرقٌ بين بياض الرجل وبياض الحصان، ولكن هل ليس من فرقٍ بين عنايتنا بالحصان واحترامنا لرجلٍ مُسِن؟ وفي هذه الحالة هل الاستقامة في الرجل المسن أم إنها في من يعامله كرجلٍ مُسِن؟»

قال كاو تسو: «أنا أحب أخي ولكنني لا أحب أخا رجلٍ آخر من دولة تشي؛ أي إن الحب وعدمه متوقِّفٌ عليَّ؛ ولهذا أقول إن الإحسان شيءٌ داخلي. ومن ناحيةٍ أخرى فأنا أحترم رجلًا مسنًّا من دولة تشي مثلما أحترم رجلًا مسنًّا من مواطني دولتي؛ ولهذا أقول إن الاستقامة شيءٌ خارجي.»

قال منشيوس: «إنني أستمتع بلحمٍ مشويٍّ حضَّره رجل من دولة تشِن، مثلما أستمتع بلحمٍ مشوي حضَّره مواطنٌ من دولتي. فهل تقول إن هذا الاستمتاع شيءٌ خارجي؟»٦

٥

مينغ تشي-تسو Ming Chi-tzu٧ سأل قونغ-تو تسو Gung-tu Tzu تلميذ منشيوس: «على ماذا تستندون عندما تقولون إن الاستقامة شيءٌ داخلي؟» فأجابه قونغ- تو تسو: «لأن الاحترام الذي في داخلي هو الذي يُعبِّر عن نفسه في سلوك.»

فسأله مينغ تشي-تسو: «إذا كان هنالك رجلٌ من قريتك يكبر أكبر إخوتك بسنةٍ واحدة، أيهما تحترم أكثر؟» أجابه قونغ-تو تسو: «أحترم أخي أكثر.»

فسأله مينغ تشي-تسو: «إذا كنتم في وليمةٍ وأردت أن تقدِّم الخمر لهما، فلمن تسكب الخمر أولًا؟» أجابه قونغ-تو تسو: «للرجل الذي من قريتي.»

فقال مينغ تشي-تسو: «إذن فالرجل الذي تحترمه هو أخوك، والذي تعامله وفقًا لسِنه هو رجل قريتك. ألَا يدل هذا على أن الاستقامة شيءٌ خارجي لا داخلي؟»

فلمَّا عجز قونغ-تو تسو عن الإجابة، مضى إلى منشيوس وعرض له القضية، فقال منشيوس: «كان عليك أن تسأله: من تحترم أكثر، أخاك الأصغر أم عمك؟ عندها سيقول: عمي. ثم تسأله بعد ذلك: إذا كان أخوك الأصغر يُمثِّل دور السلف الميت في طقس تقديم القرابين للأسلاف،٨ فأيهما تحترم أكثر؟ عندها سيجيبك: أخي الأصغر. فتسأله: ولكن أين ذهب احترامك لعمك؟ فيجيبك: أحترم أخي الأصغر هنا بسبب موقعه الحالي. عندها تقول له: لذلك، وبخصوص سؤالك عن الرجل الذي من قريتي، أقول لك لقد احترمته أكثر من أخي عندما سكبت له الخمر بسبب موقعه الحالي؛ أي إنه في الأحوال العامة أنا أحترم أخي الأكبر، وفي بعض الأحوال الخاصة أحترم الرجل الذي من قريتي.»

عندما سمع مينغ تشي-تسو ما قاله منشيوس قال لقونغ-تو تسو: «تبعًا للأحوال أنا أحترم إمَّا أخي أو عمي، وفي الحالتَين الاحترام واحد؛ ولذلك قلت إن الاحترام خارجي ولا ينبع من الداخل.»

فقال قونغ-تو تسو: «نحن في الشتاء نشرب الماء الدافئ، وفي الصيف نشرب الماء البارد، هل هذا يعني أن الطعام والشراب مسألة خارجية؟»

٦

قال قونغ-تو تسو: «قال قاو تسو Gao Tzu:٩ إن الطبيعة الإنسانية ليست في أصلها خيِّرةً أو شريرة. ويقول آخرون إن الطبيعة الإنسانية يمكن أن تميل إمَّا إلى الخير أو إلى الشر؛ لهذا فخلال عهد الملك الحكيم وِن وعهد الملك الحكيم وو،١٠ كان لدى الناس ميلٌ إلى الخير. أمَّا خلال عهد الملك يو Yu والملك لي Li١١ فكان لدى الناس مَيلٌ إلى الوحشية. وقال فريقٌ ثالث إن البشر نوعان؛ نوعٌ طيب بطبيعته، وآخر سيئ بطبيعته؛ لهذا فخلال عهد الملك الصالح ياو كان هنالك شخصٌ سيئ مثل شيانغ،١٢ وخلال عهد الملك شون كان هنالك شخصٌ سيئ هو أبوه الأعمى، وخلال عهد الملك الطاغية جو١٣ كان هنالك الوزيران الصالحان تشي Ch’i وبي قان Bi Gan.١٤ والآن أنت تقول إن الطبيعة الإنسانية خيِّرة، فهل كانت كل تلك الأقوال خاطئة؟»

أجابه منشيوس: «لدى الإنسان استعدادٌ فطريٌّ لأن يكون خيِّرًا. وهذا ما أعنيه بقولي إن الطبيعة الإنسانية خيِّرة، أمَّا إذا مال الإنسان لفعل الشرور، فإنه لا يصدر في ذلك عن خصائص فطرية. إن الإحساس بالشفقة أمرٌ مشترك بين جميع البشر، وكذلك الإحساس بالخجل، والإحساس بالاحترام، والإحساس بالصح والخطأ. الإحساس بالشفقة يصدر عن الإحسان، والإحساس بالخجل يصدر عن الاستقامة، والإحساس بالاحترام يصدر عن مراعاة قواعد الأدب والمعاملات، والتمييز بين الصح والخطأ يصدر عن الحكمة.

الإحسان، والاستقامة، ومراعاة قواعد الأدب والمعاملات، والحكمة لا تأتي إلينا من الخارج ولكنها من طبيعتنا، إلا أننا لم نبحث عنها. من هنا جاء القول المأثور: ابحث وسوف تجد. ربما كان هنالك أناسٌ متخلِّفون عن الآخرين بما لا يُقاس، وما ذلك إلا لأنهم لم يتحسَّسوا على الوجه الأكمل طبائعهم الأصلية. وقد ورد في كتاب القصائد: عندما جعلَت السماء على الأرض بشرًا، وضعت قواعد لكل شيء. وهم إذا تمسَّكوا بطبيعتهم الثابتة توصَّلوا إلى الفضائل العليا. وقد قال كونفوشيوس تعليقًا على ما ورد في القصائد: لقد عرف مؤلِّفو هذه الأبيات طريق الحق. فلكل شيءٍ قاعدة، وإذا تمسَّك الناس بالقواعد توصَّلوا إلى الفضائل العليا.»

٧

قال منشيوس: «في زمن الوفرة يكون الشباب ميالين إلى الكسل، وفي زمن المجاعة تجدهم ميالين إلى العنف. هذا ليس من طبيعتهم الفطرية، بل إن الشروط الخارجية هي التي تُضعف فيهم النوازع الأخلاقية.

لنأخذ نبات الشعر مثالًا؛ إذا بذرنا حبوبه في التربة وجعلنا التراب يعلوها، وتركناها تنمو في المكان نفسه وفي التوقيت نفسه؛ فإنها ستغدو سويقات ترتفع تدريجيًّا حتى تنضج عند الانقلاب الصيفي. فإذا تفاوت المردود، يكون ذلك إمَّا بسبب اختلاف خصوبة التربة، أو الاختلاف في قلة المطر وغزارته، أو في كم العمل المبذول. هذا المثال يدلنا على أن الأشياء التي تنتمي إلى صنفٍ واحد تكون متشابهة، ولا نستثني من ذلك الإنسان حيث الحكيم وغير الحكيم سواء. وفي هذا قال لونغ تسو Lung Tzu:١٥ إذا صنع أحدنا صندلًا من قِنَّب لقدمٍ لا يعرف مقاسها، من المؤكَّد أنه لن يصنعها بحجم سلة؛ أي إن كل الصنادل متشابهة لأن أقدام البشر متشابهة.
وفيما يتعلَّق بحاسة الذوق كل الأفواه متشابهة أيضًا. وقد كان الطباخ يي يا Yi Ya١٦ أول من اكتشف ما الذي يروق لحاسة ذوقنا. فإذا كانت الطعوم تختلف من شخصٍ لآخر قدر اختلاف الإنسان عن الحيوان، فكيف صار للأطعمة مذاقٌ متشابه لدى الجميع؟
كذلك هو الحال فيما يتعلَّق بحاسة السمع وحاسة البصر؛ فكل آذان الناس في هذه البلاد تطرب لألحان شيه قوان؛١٧ لأن كل الآذان متشابهة. وكل الأنظار ترى في تزو-تو Tzu-tu١٨ مثالًا للوسامة الذكورية. ومن لا يرى ذلك أعمى.

فإذا كانت كل الأفواه تتشابه في تذوُّقها للطعوم، وكل الآذان تتشابه في طربها للموسيقى، وكل الأنظار تتشابه في تقديرها للجمال؛ ففي أي شيءٍ تتشابه القلوب (= العقول)؟ إنها تتشابه في العقلانية والاستقامة.

لقد كان الحكماء أول من اكتشف هذا التشابه في العقول، وكيف تلذُّ العقلانية والاستقامة للعقول مثلما يلذُّ اللحم للأفواه.»

٨

قال منشيوس: «كانت الأشجار على جبل نيوشان تنمو بوفرة، ولكن لقربها من العاصمة وقعت تحت ضربات الفئوس، فلا عجب إذا لم تبقَ على حالها. كانت تزداد نماءً في الليل وفي النهار بماء المطر ورطوبة الندى فتبرعم وتورق، ولكن الماشية التي ترعى في الجبل جعلته أجرد، حتى إن الناس ظنوا أن لم يكن فيه أشجارٌ قط. ولكن هل كانت هذه هي الطبيعة الحقيقية للجبل؟

وفيما يتعلَّق بالإنسان؛ هل تخلو طبيعته من الإحسان والاستقامة؟ إذا حدث ذلك فلأنه تخلَّى عن طبيعته الأصلية وصار مثل تلك الأشجار التي وقعت تحت ضربات الفئوس، وإذا ما أُعملت الفئوس فيها تقطيعًا في الليل والنهار ألن تفقد رَونقها؟

إن الفضيلة التي ينمِّيها المرء في الليل والهواء العليل عند الفجر، من شأنها تقليل الفوارق بينه وبين الآخرين بخصوص ما يحبُّه وما لا يحبُّه. إلا أن ما يفعله في النهار يجعله يخسر ما كسبه، وإذا ما تكرَّرت خسارته مرةً بعد مرة، فإن الفضيلة التي نمَّاها في الليل سوف تتلاشى وينحدر إلى مرتبة الحيوان. وعندما يرى الآخرون شبهه بالحيوان سيعتقدون أنه لم يكن لديه طبيعة فاضلة فقط. ولكن هل هذه هي طبيعته الفطرية؟

لهذا أقول إنك عندما تُنمِّي شيئًا فإنه سيكبر ويزداد، وبدون ذلك سوف يذوي ويفسد. وقد قال كونفوشيوس: إذا تمسَّكت بالشيء ملكته، وإذا أرخيت له فقدته. لا أحد يعرف متى يأتي ولا متى يمضي، ولا أين يتجه.

ولا بد أنه كان يعني بذلك الفضيلة في العقل.»

٩

قال منشيوس: «لا تعجبوا من قلة حكمة الملك،١٩ فإن النبتة الأسرع في النماء سوف تَذوي إذا عرَّضتها للشمس يومًا ثم للبرد عشرة أيام. لقد اجتمعتُ بالملك مرات قليلة، وبعد انصرافي كان رجال بطانته يلتفُّون حوله ويُعرِّضونه للبرد، فكيف لي أن أعين براعم الفضيلة الصغيرة فيه على النمو؟
إن لعبة الشطرنج (الصيني) ليست من الفنون المهمَّة، ولكن المرء لا يُتقنها إذا لم يعطِها كل تفكيره. إن يي تشيو Yi Qiu هو أستاذٌ بارعٌ في الشطرنج، ولا يباريه أحدٌ في المملكة. فإذا جاء لتعليم رجلَين هذه اللعبة، فوضع أحدهما فيها كل تفكيره وأصغى بانتباهٍ إلى كل ما يقوله له، أمَّا الآخر فيبدو أنه في حالة استماعٍ إلى المعلم، ولكن خياله يسرح وراء بجعةٍ مفترضة تقترب، ويتمنَّى لو أنه أوتر قوسه وأطلق عليها سهمًا. إن الثاني على الرغم من أنه يتلقَّى الدرس نفسه مع الأول، إلا أنه لن يكون ندًّا له في التعلم. هل لأنه أقل ذكاء؟ بالطبع لا.»

١٠

قال منشيوس: «السمك هو طبقي المفضَّل وكذلك كف الدب.٢٠ فإذا لم يكن بمقدوري الحصول عليهما معًا، فإني أختار كف الدب. أنا أرغب في الحياة، وكذلك أرغب في الاستقامة. فإذا لم يكن بمقدوري الاحتفاظ بهما معًا، فإني أفضِّل الاستقامة على الحياة.

أنا أرغب في الحياة، ولكن هنالك شيءٌ أرغب فيه أكثر من الحياة؛ لهذا فإنني لن أعمل على إطالة أمد وجودٍ وضيع. وأنا أكره الموت، ولكن هنالك شيءٌ أكرهه أكثر من الموت؛ لهذا هنالك مخاطر لا أتجنَّبها.

إذا كان الناس لا يرغبون في شيءٍ قدر رغبتهم في الحياة، فلماذا لا يبذلون كل ما في وسعهم للحفاظ على حياتهم؟ وإذا كانوا لا يكرهون شيئًا قدر كراهيتهم للموت، فلماذا لا يبذلون كل ما في وسعهم لتفادي المخاطر؟

ومع ذلك فهنالك وسائل للبقاء على قيد الحياة، ولكن الناس لا يلجئون إليها، ووسائل لتفادي المخاطر، ولكنهم لا يلجئون إليها؛ وهذا يعني أن هنالك شيئًا يرغبون به أكثر من الحياة، وشيئًا يكرهونه أكثر من الموت. وهذا الموقف لا يقتصر على أهل الفضيلة، بل هو عامٌّ عند الجميع، غير أن أهل الفضيلة هم الذين يحافظون عليه.

لنفترض أن ها هنا سلةً من الأرُز وزبديةً من الحساء. إذا تناولهما المرء يحيا، وإذا لم يفعل سيجوع حتى الموت. إذا قُدِّمت هذه بكلماتٍ مهينة فإنه حتى المتشرِّد لن يقبل بها، وإذا ديست بالأقدام قَبل تقديمها، فإنه حتى المتسوِّل يرى من العار عليه قَبولها. ومع ذلك إذا تعلَّق الأمر بعشرة آلاف مكيالٍ من الحبوب،٢١ هل أقبلها من أجل الحصول على بيتٍ رائع، والتمتُّع بزوجاتٍ ومحظيات وخدم متملِّقين، أو من أجل تقبُّل الامتنان من أقراني المحتاجين؟

إن ما لم أكن لأقبله في الحالة الأولى، عندما كان الأمر يتعلَّق بالحياة أو الموت، أقبله في هذه الحالة من أجل بيتٍ رائع. وما لم أكن لأقبله عندما كان الأمر يتعلَّق بالحياة والموت، أقبله من أجل التمتُّع بزوجاتٍ ومحظيات وخِدمة متملِّقة، وتقبُّل الامتنان من أقراني المحتاجين؟ أمَا من طريقةٍ لوضع حدٍّ لذلك؟ مثل هذه الطريقة في التفكير أدعوها خسارة الطيبة الداخلية في القلب.»

١١

قال منشيوس: «الرحمة مسكنها قلب الإنسان، والاستقامة هي الطريق الذي يتوجَّب على المرء سلوكه. الويل لمن لا يسير على الطريق فيضل قلبه ثم لا يبحث عنه.

إذا أضاع المرء دجاجةً أو كلبًا فإنه يخرج للبحث عنهما، ولكنه لا يفعل ذلك إذا أضاع قلبه. إن غايةَ التعلُّم هي استعادةُ القلب المفقود. وهذا كل شيء.»

١٢

قال منشيوس: «لنفترض أن رجلًا لم يعد بإمكانه مد إصبعه الوسطى التي انحنت. إنها لا تؤلمه ولا تُعيق عمل يده، ولكنه لو عرف بوجود من يُقوِّم له إصبعه لقصده ولو كانت مسافة الرحلة إليه أطول من المسافة بين دولة تشِن ودولة تشو؛ وما ذلك إلا لأن إصبعه أدنى من أصابع الآخرين. إنه يكره أن تكون إصبعه أدنى من أصابع الآخرين، ولكنه لا يكره أن يكون قلبه أدنى من قلوب الآخرين، وهذا ما أدعوه جهلًا بالأولويات.»

١٣

قال منشيوس: «أشجار التانغ والكاتالبا صغيرة، ولا يزيد سُمْك جذعها عن شبرٍ أو شبرَين، وكل من يود رعايتها يعرف كيف يفعل ذلك. ولكن هنالك أُناسٌ لا يعرفون كيف يرعَون أنفسهم. ألَا يعني هذا أنهم يحبُّون هذه الأشجار أكثر من حبهم لأنفسهم؟ وهم في ذلك ألَا يرفضون استخدام عقولهم؟»

١٤

قال منشيوس: «إذا أحبَّ المرء جسده أحبَّ كل أعضائه دون تمييز، وإذا أحبَّ أعضاءه دون تمييز رعاها جميعًا، وإذا أحبَّ كل إنشٍ في بشرته فإنه لا يترك إنشًا دون رعاية.

إذا أردت أن تعرف ما إذا كان أحدهم مخلصًا في رعاية جسده، فأفضل طريقة لذلك هي معرفة العضو الذي يخصه بالرعاية أكثر من غيره؛ ذلك أن أعضاء الجسد تختلف في الأهمية؛ فهنالك أعضاءٌ عالية الشأن وأخرى قليلة الشأن، وأعضاءٌ رئيسية وأخرى ثانوية،٢٢ وعلينا ألَّا نركِّز عنايتنا على الأعضاء الثانوية ونُهمل الأعضاء الرئيسية. الذين يولون عنايتهم للأعضاء الثانوية تافهون، والذين يولون عنايتهم للأعضاء الرئيسية عظماء.
إن البستاني الذي يُهمل شجر الكاتالبا والشجر العملاق، ويربِّي الشجيرات الشوكية وشجيرات العُنَّاب الحامض، هو بلا شك بستانيٌّ فاشل. والشخص الذي يهتم بإصبعه ويهمل الأذى الذي لحق بكتفه أو ظهره ولا يعرف أنه مخطئٌ في ذلك، هو رجلٌ مخبول. أولئك الذين لا يهتمُّون إلا بالطعام والشراب هم موضع ازدراء؛ لأنهم يُعنَون بالأعضاء القليلة الأهمية على حساب الأعضاء الكثيرة الأهمية. أمَّا الذين يأكلون ويشربون وفي الوقت ذاته يُنمُّون الفضيلة في نفوسهم، فإنهم لا يفعلون ذلك لمجرَّد العناية بقدمٍ أو إنشٍ من البشرة.»٢٣

١٥

قونغ-تو تسو Gung-tu Tzu سأل منشيوس: «إذا كُنَّا متشابهين جميعًا كبشر، فلماذا نجد هنالك رجالًا صغارًا ورجالًا كبارًا؟» أجابه منشيوس: «الرجل الكبير هو الذي يسلك وفق متطلَّبات العضو الأنبل في الجسم (= القلب مقر التفكير)، والرجل الصغير هو الذي سلك وفقًا لمتطلَّبات الأعضاء الأدنى في الجسم (مثل البطن والفم).»
فسأله ثانية: «إذا كُنَّا متشابهين جميعًا كبشر، فلماذا يسلك البعض وفقًا لمتطلَّبات العضو الأنبل، والبعض الآخر وفقًا لمتطلَّبات الأعضاء الأدنى؟» أجابه منشيوس: «إن التفكير ليس من وظيفة العين أو الأذن؛ ولذلك فإنها عُرضة للتضليل من قِبَل المؤثِّرات الخارجية.٢٤ أمَّا القلب فوظيفته التفكير، والتفكير يقوده لفعل ما هو صواب، ولكن القلب لن يجد الأجوبة إذا لم يفكِّر. القلب هو ما وهبته لنا السماء، فإذا سلكنا وفقًا لمتطلَّباته لن نكون عرضةً للتضليل من قِبَل الأعضاء الأدنى. هذا ما يجعل منك رجلًا كبيرًا.»

١٦

قال منشيوس: «هنالك مراتب نبالةٍ مصدرها السماء، ومراتب نبالةٍ مصدرها البشر؛ فالإحسان، والاستقامة، والإخلاص، والتَّوق الدائم لفعل الخير؛ مراتب صدرت عن السماء، أمَّا مراتب الإمارة والإدارة بأنواعها فصدرت عن البشر.

كان القدماء يرعَون مراتب السماء أولًا ثم مراتب البشر، أمَّا المُحدَثون فلا يُراعون مراتب السماء إلا من أجل تحصيل مراتب البشر، فإذا حصلوا على الثانية تخلَّوا عن الأولى، وهؤلاء ليسوا سوى أغبياء إلى الدرجة القصوى؛ لأنهم في النهاية سوف يخسرون مراتب البشر.»

١٧

قال منشيوس: «التَّوق إلى تحقيق النبالة أمرٌ مشترك بين الجميع، مع أن النبالة موجودة فيهم دون أن يدرون. إن النبالة الصادرة عن البشر ليست النبالة الحَقَّة؛ فقد كان جاو مينغ Zhao Ming،٢٥ على سبيل المثال، يرفع أحدهم إلى أعلى مقام، ثم يُنزله إلى أدنى مقام. وقد ورد في كتاب القصائد: أنا مشبعٌ بالخمر وقانعٌ بفضيلتي. والمعنى هنا أن المشبع بالفضيلة لا يحسد الآخرين على استمتاعهم بالطعام اللذيذ، وإذا حاز على السمعة والمكانة لا يحسدهم على الملابس الفاخرة.»

١٨

قال منشيوس: «الفضيلة عند الإنسان تقوى على السوء في داخله مثلما يقوى الماء على النار، ولكن أهل الإحسان اليوم يُشبهون في ممارساتهم من يحاول إطفاء حمولة عربةٍ من الخشب المحترق بكأس ماء، فإذا فشل في ذلك قال إن الماء لا يمكنه إطفاء النار. إن من يفعل ذلك يضع نفسه في زمرة القُساة إلى أبعد الحدود، وفي النهاية سوف يفقد ما عنده من فضيلة.»

١٩

قال منشيوس: «الحبوب الخمسة٢٦ هي أفضل المزروعات، ولكنها قبل نضجها لا تكون أفضل من الأعشاب البرية. وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بالخيرية الإنسانية التي يتوجَّب علينا أن نتركها تنضج.»

٢٠

عندما كان (النبَّال الشهير) يي يُعلِّم الرماية، كان يشدُّ الوتر إلى أقصى مدى، ويطلب من المتدرِّبين أن يفعلوا الشيء ذاته. وكان معلِّم النجَّارة عندما يُعلم حرفته يستخدم الفرجار والمربَّع ذو الزوايا، ويطلب من المتدرِّبين أن يستخدموا الأدوات نفسها.»

١  هناك اختلافٌ في تحديد هُوية هذه الشخصية.
٢  يعتقد كاو تسو أن الطبيعة الأصلية للإنسان حيادية، وأنها لا تميل نحو الفضيلة إلا بجهدٍ يُبذل، وذلك مثلما نصنع من العيدان آنيةً ذات فائدة. أمَّا منشيوس فيرى أن الطبيعة الأصلية للإنسان خيِّرة.
٣  مفسِّرو منشيوس مختلفون بخصوص ما إذا كان في جداله قد ردَّ على ما طرحه كاو تسو في البداية.
٤  كان كونفوشيوس يرى أن الخيرية (أو الإحسان) هي الطيبة الداخلية، وأن الاستقامة هي تحقيق هذه الطيبة في السلوك. وكاو تسو هنا يقول إن الإحسان شيءٌ داخلي، أمَّا الاستقامة فشيءٌ خارجي. وهذا ما يعترض عليه منشيوس فيما يلي من هذا الحوار.
٥  يرى كاو تسو هنا أن احترام المسنين هو من أعمال الاستقامة. وبما أن التقدُّم في السن هو الدافع على الاحترام، فإن السلوك المستقيم تدفعه عوامل خارجية؛ وبناءً عليه فإن الاستقامة هي شيءٌ خارجي.
٦  يقدِّم لنا منشيوس هنا قناعته بوجود رابطة منطقية بين الإحسان والاستقامة، وأن من الخطأ وصف أحدهما بالداخلي والآخر بالخارجي.
٧  هذه الشخصية لا يعرف عنها المؤرِّخون الكثير.
٨  في طقس القربان للأسلاف يتخذ أحد المشاركين دور السلف ويقبل عنه القربان؛ لأن السلف لا يمكن أن يتجلَّى خلال الطقس ويقوم بذلك بنفسه.
٩  مفسِّرو منشيوس مختلفون في هُوية هذه الشخصية.
١٠  الملك وِن والملك وو هما الأول والثاني في سلالة جو الملكية.
١١  الملك يو والملك لي هما الملكان الأخيران في سلالة جو الملكية واللذان تسبَّبا في سقوطها.
١٢  شيانغ هو أخو الملك شون غير الشقيق. وقد تحدَّثنا سابقًا عن سوء العلاقة بينهما قبل صعود شون إلى العرش.
١٣  جو هو آخر ملوك سلالة شانغ، وقد خلعه الملك وِن والملك وو.
١٤  هما وزيران فاضلان حاولا إصلاح الطاغية جو دون جدوى.
١٥  رجلٌ فاضل قديم لا يعرف عنه المؤرِّخون الكثير.
١٦  رجلٌ من حاشية خوان أمير تشي (٦٨٥–٦٤٣ق.م.). اشتُهر بمهارته في الطبخ.
١٧  موسيقار أعمى كان في خدمة مينغ أمير دولة تشِن (٥٥٧–٥٣٢ق.م.).
١٨  جنرال عسكري في دولة جينغ Zheng، اعتُبر أوسم الرجال خلال فترة الربيع والخريف.
١٩  يرى المفسِّرون أن الملك المقصود هنا هو وي ملك دولة تشي التي كانت في القرن الرابع دولةً عظيمة الأهمية. وقد عمد الملك إلى توظيف عددٍ من المستشارين لديه الذين كانوا ينصحونه باستخدام القوة في السيطرة على الدول الصينية الأخرى، أمَّا منشيوس فكان ينصحه باللجوء إلى الحكم الرشيد من أجل اجتذاب قلوب أهل البلاد كلها إليه. وعلى الرغم من أن الملك كان يُصغي إلى نصائح منشيوس إلا أنه كان ميَّالًا إلى نصائح الآخرين.
٢٠  كان كف الدب الطبق الأطيب في الحضارة الصينية والأغلى ثمنًا.
٢١  وهو الدخل الذي يكسبه بعض كِبار مُوظَّفي البلاط.
٢٢  كان عضو القلب لدى الصينيين القدماء بمثابة العضو الأنبل في الجسد؛ لأنهم اعقتدوا أنه عضو التفكير، أمَّا بقية الأعضاء فأقل نبالة، لا سيما البطن.
٢٣  يشبه قول منشيوس هنا قولنا اليوم إن الإنسان يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل.
٢٤  أي إن الأعضاء الأدنى تُضلِّل الإنسان لأنها تُثير فيه الرغبات ولا تسلِّحه بالتفكير السليم الذي يعمل على تنظيمها.
٢٥  كان جاو مينغ قاضيًا وقائدًا عسكريًّا في دولة جِن Jen خلال فترة الربيع والخريف (٧٧٠–٤٧٦ق.م.)، وكان له من المكانة والسُّلطة بحيث إنه كان يرفع من يشاء ويُذل من يشاء.
٢٦  الحبوب الخمسة هي أنواع الحبوب التي كان يعتمد عليها الصينيون القدماء في غذائهم، وهي: الأرُز، والذرة، والقمح، والدخن، والفاصولياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤