الباب الثالث عشر: تشِن شِن «١»

١

قال منشيوس: «من يُنمي فضيلة القلب يفهم الطبيعة الإنسانية، ومن يفهم الطبيعة الإنسانية يفهم طريق السماء.١ على المرء أن يحافظ على طيبة القلب ويُنمي طبيعته لكي يتوافق مع طريق السماء. عليه ألَّا يُقلِّب في ذهنه ما إذا كان سيموت شابًّا أم سيطول به العمر، بل أن يستمرَّ في تحسين نفسه في انتظار ما سيأتي به القدر، وبهذه الطريقة يكون صانعًا لقَدره.»٢

٢

قال منشيوس: «كل شيء رهنٌ بالقدر، والمرء لا يختار في سلوكه إلا ما هو مقدَّرٌ له؛ ولهذا فإن من يفهم حقيقة القدر لا يقف تحت جدارٍ آيلٍ للسقوط. ومن يأتِه الموت بعد بذله كل الجهد في اتباع الطريق، فهو من تعامل مع القدر بطريقةٍ إيجابية، أمَّا من يموت في الأغلال، فهو من تعامل مع القدر بطريقةٍ سلبية.»٣

٣

قال منشيوس: «هنالك شيءٌ إذا بحثت عنه وجدته، وإذا غَفَلت عنه أضعته؛ أي إن البحث هنا ضروريٌّ لتحقق النتيجة؛ لأن ما نبحث عنه موجودٌ في داخلنا.٤ وهنالك شيءٌ يمكن البحث عنه بوسائلَ معيَّنة، ولكن تحقيق النتيجة متوقِّفٌ على القدر؛٥ أي إن البحث هنا قد لا يؤدِّي إلى نتيجة؛ لأن ما نبحث عنه موجودٌ خارجنا.»

٤

قال منشيوس: «كل ما في العالم موجودٌ في داخلي، وإنها لغبطةٌ كبرى أن أتأمَّل في داخلي وأجد أنني صادقٌ مع نفسي.٦ افعل ما بوسعك لكي تعامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك.٧ هذا هو الطريق الأقصر لتحقيق الإحسان.»

٥

قال منشيوس: «هنالك أناسٌ يعملون دون أن يعرفوا لماذا، ولا يعون ما تعوَّدوا القيام به، أو الطريق الذي يسيرون عليه طيلة حياتهم. وهذا ديدن العامة.»٨

٦

قال منشيوس: «لا ينبغي على المرء أن يكون مجرَّدًا من الإحساس بالخجل. إذا خجلت من عدم الخجل تكتسب الخجل.»

٧

قال منشيوس: «الإحساس بالخجل ضرورة للإنسان، ولكن أهل المكر والخداع لا يشعرون بالخجل. كيف يمكن للمرء أن يرتقي إلى مستوى الآخرين إذا لم يخجل من كونه أدنى منهم؟»

٨

قال منشيوس: «الملوك الحكماء في الماضي كرَّسوا أنفسهم للفضيلة وتناسَوا مركزهم السامي وسلطانهم، فكيف يمكن ألَّا يجاريهم في ذلك المثقَّفون القدماء؟ لقد الْتزم هؤلاء المثقَّفون بالطريق غير آبهين لسلطة الآخرين؛ ولهذا لم يكن الملوك والأمراء يرَونهم متى شاءوا إلا إذا أظهروا لهم الاحترام والأدب، فإذا كانت رؤية الملوك والأمراء لهم صعبةً هكذا، فما بالك بإقناعهم بالوظيفة أو بقائهم فيها؟»

٩

قال منشيوس لسونغ كو-تشين Song Kou-chien: «أنت تحب الذهاب من بلاطٍ إلى بلاط من أجل تقديم المشورة؛ لذلك دعني أشرح لك كيفية القيام بذلك. عليك أن تكون راضيًا سواء قَدَّر الأمير ما تقدِّمه أم لم يُقدِّر.» فسأله سونغ-كو تشين: «وكيف يحصل المرء على الرضا؟»

أجابه منشيوس: «إذا الْتزم بالفضيلة وحافظ على الاستقامة. المثقَّف لا يتخلَّى عن الاستقامة في أوقات الشدة ولا يحيد عن الطريق في أوقات الرخاء، وهو عندما لا يتخلَّى عن الاستقامة في أوقات الشدة يحصل على الرضا، وعندما لا يحيد عن الطريق في أوقات الرخاء يغدو مثالًا يحتذي الناس به. رجال الزمن القديم كانوا إذا حقَّقوا طموحاتهم جعلوا الناس يشعرون بفوائد ذلك عليهم، وإذا ما أحبط مسعاهم كرَّسوا أنفسهم لتهذيب الذات لكي يُظهروا للجميع ذواتهم الحقيقية. في أوقات الشدة كانوا يحسِّنون أنفسهم، وفي أوقات الرخاء كانوا يعملون على تحسين أهل البلاد.»

١٠

قال منشيوس: «الذين ينتظرون ظهور ملكٍ مثل وِن لكي ينهضوا هم عامة الناس، أمَّا الخاصة فينهضون من دون وِن.»

١١

قال منشيوس: «إذا أُعطي امرؤٌ ثروات أسرتَي هان ووي ولم تكُ في عينَيه شيئًا، فإنه يمتلك شيئًا بعيدًا عن متناول الآخرين.»

١٢

قال منشيوس: «إذا كان العمل المفروض على الرعية هو من أجل رخائهم، عملوا دونما تذمُّر. وإذا جرى تعريض الرعية للقتل لخدمة سياسةٍ تحفظ حياتهم، فسوف يقبلون دون أن يحملوا في أنفسهم ضغينةً تجاه من تسبَّب في موتهم.»

١٣

قال منشيوس: «الناس الخاضعون لسلطة حاكم عدة مقاطعات يكونون سعداء، أمَّا الناس الخاضعون لسلطة موحِّد البلاد وفق مبادئ الإحسان فيكونون راضين، وقد يُرسَلوا للموت دون ضغينة، وإذا نعموا لا يشعرون بالامتنان إلى أحد، يميلون إلى الفضيلة دون معرفة من دفعهم إليها. عندما يمر الحكيم من مكانٍ يترك أثرًا وراءه، وعندما يُقيم في مكانٍ يُحدث فيه تغييرات عميقة. عمله يأتي في انسجامٍ مع طريق السماء والأرض.٩ فهل هذا كله بقليل؟»

١٤

قال منشيوس: «الكلام الطيب لن يكون له أثرٌ عميق على الآخرين إذا لم يُقَل بنغمةٍ طيبة، والحكومة الجيدة لن تستميل الناس مثل ما يستميلهم التعليم الأخلاقي الجيد. أمام الحكومة الجيدة يقف الناس في رهبة، ولكنهم يُكِنون المحبة لمن يقدِّم لهم التعليم الأخلاقي. الحكومة الجيدة تكسب نقود الرعية، أمَّا التعليم الأخلاقي فيكسب قلوبهم.»

١٥

قال منشيوس: «القدرات التي يمتلكها الإنسان دون تعلُّم هي قدراتٌ فطرية، والمعرفة التي يمتلكها الإنسان دون تعلُّم هي معرفةٌ فطرية. ما من طفلٍ محمول على اليدَين لا يحب أبوَيه، وعندما يكبر يتعلَّم كيف يحترم أخاه الأكبر. محبة الأبوَين تعبيرٌ عن الإحسان، واحترام الإخوة الكبار تعبيرٌ عن الاستقامة، وما يبقى بعد ذلك هو توسيع هاتَين الفضيلتَين لتشملان العالم.»

١٦

قال منشيوس: «عندما كان شون يعيش في حضن الجبال، كانت الأشجار والصخور جيرانه، والغزلان والخنازير البرية أصدقاءه. لم يكن بينه وبين سُكَّان الجبال البرابرة فرقٌ يُذكر، ولكنه كان ما إن يسمع كلمةً طيبةً أو يرى عملًا حسنًا، حتى يميل إليه دون أن يصدَّه عنه شيء، وذلك مثل تيارٍ دافق يخرج من سدٍّ متصدعٍ على نهر اليانغتزي أو النهر الأصفر.»

١٧

قال منشيوس: «لا تفعل ما لا تريد أن تفعله، ولا تسعَ في سبيل ما لا ترغب فيه. هذا كل شيء.»

١٨

قال منشيوس: «أولئك الذين حازوا على الفضيلة والحكمة والكفاءة والبصيرة، أناسٌ عاشوا في الضراء. الموظَّفون المبعدون عن البلاط وأبناء العشيقات، يبقَون دائمًا متنبِّهين للمخاطر ومحتاطين للمصائب؛ ولذلك يُفلحون حين يفشل الآخرون.»

١٩

قال منشيوس: «هنالك موظَّفون لدى الحاكم يجدون سعادتهم في إرضائه، وهنالك موظَّفون يجدون سعادتهم في تحقيق الطمأنينة والاستقرار في الدولة. هنالك عاقلون يطبِّقون من المبادئ ما يمكن نشره في البلاد، وهنالك رجالٌ عظماء يعملون من خلال إصلاح أنفسهم على إصلاح كل شيء.»

٢٠

قال منشيوس: «هنالك ثلاثة أمورٍ تجعل الرجل النبيل سعيدًا، وحكم المملكة ليس واحدًا منها؛ الأول: أن يكون والداه على قيد الحياة، وإخوته في صحةٍ وأمان. والثاني: ألَّا يكون لديه ما يخجل منه إذا واجه السماء أو واجه الناس. والثالث: أن يكون لديه تلاميذ نجباء تقاطروا من كل مكان للاستماع إليه. هنالك ثلاثة أمور تجعل الرجل النبيل سعيدًا، وحكم المملكة ليس واحدًا منها.»

٢١

قال منشيوس: «ما يتمنَّاه الرجل النبيل هو مساحةٌ واسعة من الأرض مكتظة بالسكان. ولكن سعادته لا تتوقَّف فقط على ذلك؛ لأن ما يصبو إليه ويسعده هو أن يقف في مركز المناطق الوسطى (المتحضِّرة)، ويُحلَّ السلام والاستقرار للجميع. غير أن ذلك لا يعكس طبيعته؛ ذلك أن المنجزات العظيمة لا تُضيف شيئًا إلى طبيعته، والمحن لا تُنقص منها شيئًا؛ لأن هذه الأمور متوقِّفة على القدر. إن الإحسان والاستقامة وآداب السلوك متجذِّرة في قلبه، وهي التي تتجلَّى في مُحيَّاه وتشع، وفي ظهره إذا استدار وبقية أعضائه، وتُعلن عن نفسها دون كلمات.»

٢٢

قال منشيوس: «بو يي فرَّ من وجه الملك جو وأقام عند ساحل البحر الشمالي، وعندما سمع أن الملك وِن حلَّ محلَّه قال في نفسه: لماذا لا أذهب إليه وأغدو من أتباعه؛ فقد سمعت أنه يعرف كيف يرعى المسنين؟ وتاي قونغ هرب من وجه الملك جو وأقام عند ساحل البحر الشرقي، وعندما سمع أن الملك وِن حلَّ محلَّه قال في نفسه: لماذا لا أذهب إليه وأغدو من أتباعه؛ فقد سمعت أنه يعرف كيف يرعى المسنين؟

إذا كان المرء يعرف كيف يرعى المسنين، فإن كل رجال الفضيلة سوف يتقاطرون إليه من كل مكانٍ ويحيطون به.

دع أشجار التوت تُزرع في أرضٍ مساحتها واحد مو ضمن سياج العائلة، ودع ربات البيوت يربين دودة القز، وسوف يكون لدى المسنين ملابس حريرية يرتدونها. دع خمس دجاجاتٍ وخنزيرَين تُربَّى بعنايةٍ في موسم تكاثرها، وسيكون لدى المسنِّين لحم يأكلونه. دع كل رب أسرةٍ يزرع مائة مو من الأرض، وسيكون لدى كل أسرةٍ مؤلفةٍ من ثمانية أشخاصٍ ما يكفي لمعيشتهم.

عندما نقول إن الملك وِن يعرف كيف يرعى المسنين؛ فهذا يعني أنه خصَّص أرضًا لكل رب أسرة، وعلَّمهم زراعة شجر التوت وتربية دودة القز، وبيَّن لهم كيفية رعاية المسنين. إن المرء في سن الخمسين لا يدفأ بدون ملابس حريرية، والمرء في سن السبعين لا يشبع بدون لحم. إذا لم يجد المرء ملابس لدفئه، ولم يجد ما يأكله؛ يعني أنه سيعاني من البرد والجوع؛ ولهذا نقول إنه في زمن الملك وِن لم يكن ثمة مسنون يعانون من البرد والجوع.»

٢٣

قال منشيوس: «إذا نظَّمتَ شئون الزراعة وخفَّفتَ من الضرائب؛ فإن الرعية تعيش في بحبوحة. إذا تمَّ تخزين المؤن في وقتها وجرى استهلاكها وفق الأصول؛ فسيكون لدى الرعية أكثر من حاجتها. الناس لا يمكنهم العيش بدون ماءٍ أو بدون نار، فإذا طرق أحدهم باب جاره ليلًا ليطلب منه بعض الماء أو شعلة نار فسوف يُعطى؛ وذلك لوفرة الماء والنار.

إذا ارتقى الحكيم سُدَّة السلطان، فإنه يسعى لجعل محاصيل الحبوب وافرةً مثل الماء والنار؛ وعندها ألن تعم الفضيلة بين الناس دون استثناء؟»

٢٤

قال منشيوس: «عندما ارتقى كونفوشيوس قمة التل الشرقي رأى أن أراضي مملكة لو ضئيلة. وعندما ارتقى قمة جبل تاي رأى كل ما تحت السماء من الأراضي ضئيلًا. ومن رأى البحر لن تُبهره بعد ذلك رؤية أي ماءٍ آخر، ومن تلقَّى العلم على يد حكيمٍ لن يرضيه الاستماع إلى معلمٍ آخر. هنالك طريقة في الحكم على المياه هي أن تراقب أمواجها. الشمس والقمر يُشِعان نورَهما فيصل إلى أصغر شقٍّ في الأرض، والماء الجاري لا يتابع جريانه قبل أن يملأ كل الحُفر في الأرض، والرجل النبيل الساعي في طريق الفضيلة لا يُفلح إلا بارتقائه القمة.»

٢٥

قال منشيوس: «أولئك الذين يصحون من نومهم مع صياح الديك ولا يتعبون من أداء الأعمال المفيدة، هم أناسٌ من طينة شون الحكيم. أمَّا أولئك الذين يصحون مع صياح الديك ولا يتعبون من تحصيل المكاسب لأنفسهم، هم أناسٌ من طينة اللص جيه Zhi. إذا أردت أن تعرف الفرق بين شون وجيه، ما عليك سوى النظر إلى الفجوة الواسعة التي تفصل بين المربح والمفيد.»

٢٦

قال منشيوس: «لقد اختار يانغ تسو عقيدة الأنانية،١٠ بحيث لم يكن مستعدًّا لبذل شعرةٍ من رأسه لإنقاذ البلاد. أمَّا مو تزو١١ فاختار عقيدة الحب الشمولي الذي لا تمييز فيه، بحيث كان مستعدًّا لأن يُبلي جسده من إصبعه إلى كاحله لأجل مصلحة البلاد. أمَّا تزو-مو Tzu-mo١٢ فقد اختار الطريق الوسط واختيار الوسط يجعلك أقرب إلى الصواب، ولكن الوسطية التي تفتقر إلى المرونة هو وقوفٌ إلى جانب أحد النقيضَين. أمَّا لماذا لا نحب الذين يقفون إلى جانب أحد النقيضَين؛ فلأنهم يعطِّلون طريق الحق. إنهم يركِّزون على أمرٍ ويتجاهلون مائة أمرٍ آخر.»

٢٧

قال منشيوس: «الجائع يجد أي طعامٍ لذيذًا، والعطشان يجد أي شرابٍ سائغًا، وكلاهما يفتقر إلى الذائقة السليمة؛ لأن الجوع والعطش يُعطِّلان الحكم على الأمور. ولكن كما أن الجوع والعطش يُعطِّلان حكم الفم والمعدة على الطعام، فإن العقل قد يتشوَّش أحيانًا بنفس الطريقة؛ لذلك إذا استطاع المرء أن يحول دون تشويش حكم عقله،١٣ مثلما يستطيع أن يحول دون تعطيل حكم الفم والمعدة؛ فلن ينتابه القلق من أن يكون أقل شأنًا من الآخرين.»

٢٨

قال منشيوس: «لم يكن ليو شيا خوي Liu Xia Hui١٤ يساوم على تكامله الخلقي، حتى وإن أُغري بأن يكون واحدًا من الوزراء الثلاثة الكبار في الدولة.»

٢٩

قال منشيوس: «إن سعي المرء في سبيل إنجاز أمرٍ ما يشبه حفر بئر. إذا حفرت بعمق تسع قامات ولم تصل إلى الماء، فإن ما أنجزته هو بئرٌ جافة.»

٣٠

قال منشيوس: «كانت فضيلة الإحسان وفضيلة الاستقامة فطريتَين لدى كلٍّ من شون وياو، أمَّا شانغ تانغ ووو فقد تعلَّماهما وطبَّقاهما، والأمراء الخمسة بعد ذلك استعاروهما وعملوا بذريعتهما دون تراجعٍ مدةً طويلة. فهل كانت هاتان الفضيلتان لديهم أصلًا؟»١٥

٣١

قال قونغ-صُن تشو Gung-sun Ch’ou: «قام الوزير ين ين Yin Yin بنفي الملك الجديد تاي تشيا Tai Chia إلى تونغ Tung لافتقاده إلى الإحسان والاستقامة، فسُرَّت الرعية بذلك. وعندما استردَّ الملك طيبته أعاده إلى العرش، فسُرَّت الرعية أيضًا. فهل يحق لوزيرٍ مهما كان فاضلًا أن ينفي سيده بحجة افتقاده للفضيلة؟» أجابه منشيوس: «نعم، إذا كان دافعه إلى ذلك مثل دافع ين ين، وإلا عُدَّ مغتصبًا.»١٦

عندما خلف تاي تشيا أباه شانغ تانغ على العرش، لم يسِر على طريق أبيه حتى بدا أن كل ما فعله شانغ تانغ مهدَّدٌ بالزوال؛ ولذلك فقد أبعده ين ين إلى مدينة تونغ مدة ثلاث سنوات لكي يُصلح نفسه. وعندما ندم وأصلح نفسه أعاده إلى عرشه. ولم يكن في نية ين ين أبدًا أن يكون مغتصبًا للعرش.

٣٢

قال قونغ-صُن تشو: «ورد في كتاب القصائد: لا قوت بلا عمل. فكيف إذن يحصل الرجل النبيل على قُوته دون المشاركة في أعمال الحقل؟»

أجابه منشيوس: «إذا أقام الرجل النبيل في دولةٍ ما واستخدمه حاكمها، فإنه سيجلب الطمأنينة والثروة للحاكم، وإذا قصده الصغار فإنه سيعلِّمهم بر الوالدَين وطاعة الكبار والإخلاص في العمل والوفاء بالوعد والعهد. أليس هذا مثالًا عن: لا قوت بلا عمل؟»

٣٣

سأل ديان Dian ابنُ ملك تشي منشيوس: «ما هو عمل الرجل المثقَّف؟» أجابه منشيوس: «أن يركِّز قلبه على المبادئ السامية.» فسأله ثانية: «وما معنى ذلك؟»

أجابه منشيوس: «أن يكون أخلاقيًّا. هذا كل شيء. إن قَتْل إنسانٍ بريء فيه مخالفة لمبدأ الإحسان، وأخذُ المرء لِمَا ليس له فيه مخالفة لمبدأ الاستقامة. المثقَّف يجعل قدمه راسخةً في الإحسان ويسير في طريق الاستقامة؛ وبذلك يغدو قادرًا على تحقيق أعظم الإنجازات.»

٣٤

قال منشيوس: «يقول البعض: لو أن مملكة تشي عُرضت على تشِن تشونغ Ch’en Chung لرفضها، إذا كان العرض يخالف مبدأ الشرعية، والكل يصدِّق ذلك. ولكن ما يدعوه تشِن تشونغ بمبدأ الشرعية هو شرعية رفض قصعةٍ من الأرُز وزبديةٍ من الحساء. إذا أهمل الفرد في علاقته مع الأهل، وفي علاقة الرئيس بالمرءوس، والأدنى بالأعلى، فكيف نثق أن سلوكه في المسائل الكبرى سيأتي متطابقًا مع سلوكه في المسائل الصغرى؟»

٣٥

سأل التلميذ ياو ينغ Yao Ying منشيوس: «في زمن الملك شون كان قاو ياو Gao Yao قاضيًا. لو أن أبا شون الأعمى ارتكب جريمة قتل، كيف كان قاو ياو يتعامل مع المسألة؟» أجابه منشيوس: «كان سيُلقي القبض عليه.» فسأله ثانية: «في هذه الحالة، ألم يكن شون يتدخَّل لمنع ذلك؟» أجابه منشيوس: «كيف يتدخَّل شون وقاو ياو يعمل ضمن صلاحياته؟» فسأله: «وماذا كان سيفعل إذن؟» أجابه منشيوس: «كان التخلي عن المُلك بالنسبة لشون مثل رمي حذاءٍ عتيق. كان سيحمل أباه على كتفه ويختفي عند ساحل البحر فيعيش معه هناك بقية حياته في سعادةٍ وهناء، وينسى كل ما له علاقة بالمملكة.»١٧

٣٦

في أحد الأيام جاء منشيوس من بلدة فان إلى مملكة تشي، فرأى ابن الملك عن بُعد فتنهَّد وقال: «إن محيط المرء يغيِّر من هيئته مثلما يغيِّر الطعام من جسمه. كم للمحيط من أثرٍ علينا على الرغم من أننا جميعًا أبناء البشر! إن بيت ابن الملك وعربته وجياده وملابسه لا تختلف كثيرًا عن بقية الناس، ومع ذلك يبدو مختلفًا، وما ذلك إلا لأن المحيط الذي تربَّى فيه مختلف، فما بالك إذن بالتغيير الذي تُحدثه فيك الإقامة بأسمى مكانٍ في البلاد وهو الإحسان؟

عندما جاء أمير لو إلى دولة سونغ ووقف عند البوابة الجنوبية للمدينة الشرقية، نادى حارس البوابة لكي يفتح له، فقال حارس البوابة: هذا ليس صوت أميرنا، ومع ذلك فإن صوته يشبه صوت أميرنا.

والسبب في ذلك أن الاثنَين عاشا في محيطٍ واحد.»

٣٧

قال منشيوس: «إطعام المثقَّف دون إظهار المحبة له مثل إطعام خنزير، وإظهار المحبة له دون احترام، مثل العناية بحيوانٍ منزلي أليف. إن الاحترام والتقدير ينبغي أن يسبقا تقديم الهدية، والاحترام والتقدير إذا لم يُقدَّما بإحساسٍ صادق، عبارة عن سلوكٍ زائف؛ ولذلك فإن المثقَّف لن ينخدع، ويرى فيهما تظاهرًا فارغًا.»

٣٨

قال منشيوس: «أجسامنا وملامحنا من عند السماء (= وهبتنا إياها الطبيعة). الحكيم هو الذي يرتقي بجسده نحو كمال غاياته.»

٣٩

أراد شوان Xuan ملك تشي أن يُقصِّر مدة الحِداد، فسأل التلميذ قونغ-صُن تشو منشيوس: «هل يعني ذلك أن الحِداد لمدة سنة أفضل من عدم الحِداد؟» فأجابه منشيوس: «هذا يشبه قولك لمن يلوي ذراع أخيه أن يفعل ذلك برقة، في الوقت الذي يتوجَّب عليك فيه تعليمه احترام الوالدَين ومحبة الإخوة.» فسأله قونغ-صُن تشو: «كان هنالك ابن ملكٍ تُوفيت أمه، فالتمس له مربيه من الملك أن يسمح له بالحِداد عدة أشهر،١٨ فماذا تقول في ذلك؟»

فأجابه منشيوس: «هذا لأنه لم يُسمح له بالْتزام مدة الحِداد كاملة (= ثلاث سنوات)، وفي هذه الحالة فإن إطالة مدة الحِداد ليومٍ واحد أفضل من ألَّا تُطيلها أبدًا، وهذا ينطبق أيضًا على من لا يُحال بينهم وبين إقامة الحِداد، ومع ذلك لا يقيمونه.»

٤٠

قال منشيوس: «الرجل النبيل يُعلِّم تلاميذه بخمس طرق: في الأول تأتي إرشاداته مثل المطر يهطل في أوانه، في الثانية يساعد التلميذ على تحقيق فضيلته، في الثالثة يساعده على تنمية مواهبه وقدراته، في الرابعة يجيب عن أسئلته ويبدِّد شكوكه، في الخامسة يجعل من نفسه نموذجًا يحتذيه التلميذ؛ بهذه الطرق الخمسة يعلِّم الرجل النبيل تلاميذه.»

٤١

قال قونغ-صُن تشو: «الطريق سامٍ ورائع، ولكن الوصول إليه صعبٌ مثل الارتقاء إلى السماء الذي يبدو مستحيلًا. لماذا لا تجعلونه سهلًا بحيث يأمل الناس في الوصول إليه، ويبذلون الجهد في سبيل ذلك؟»

أجابه منشيوس: «معلِّم النجارة لا يضع جانبًا قواعد حرفته لكي تتلاءم مع متدرِّبٍ غبي، والنَّبَّال لي Li (المشهور في الرماية) لا يُغيِّر قواعد الرماية لكي تتلاءم مع متدرِّبٍ أخرق. الرجل النبيل مثل معلِّم الرماية الذي يوتِّر قوسه، ولكنه لا يطلق سهمه لكي يجعل المتدرِّب يتلهَّف لفعل ذلك. إنه يستخدم القواعد المتَّبعة لكي يتعلَّمها المتدرِّب الكفء.»

٤٢

قال منشيوس: «عندما يسود الحكم الصالح، طبِّق بنفسك المبادئ الصحيحة. وعندما يسود الحكم الطالح ضحِّ بحياتك من أجل المبادئ الصحيحة. أنا لم أسمع بأن على المرء التضحية بمبادئه من أجل إرضاء رؤسائه.»

٤٣

سأل قونغ-تو تسو Gong-tu Tsu: «عندما كان تينغ قينغ Teng Geng يتعلَّم منك، كان يستحق منك الكياسة والمجاملة، ولكنك لم تكن تجيبه على أسئلته. لماذا؟»

أجابه منشيوس: «أنا لا أجيب سائلًا يستغل في سؤاله ما يتمتَّع به من:

(١) منصب ومكانة. (٢) مواهب ومهارات. (٣) السن. (٤) الصداقة القديمة معي، وقد كان تينغ قينغ ملومًا على اثنتَين ممَّا ذكرت.»

٤٤

قال منشيوس: «إذا تخلَّى المرء عمَّا لا يجب التخلي عنه، فلن يكون لديه شيءٌ لا يمكن التخلي عنه.»

إذا عامل المرء بخفةٍ شخصًا يستحق المعاملة بكياسة، فسوف يعامل الآخرين بخفةٍ أيضًا كائنًا من كانوا.

التحرُّك بعجلةٍ يؤدِّي إلى الوقوف بسرعة.

من يتحرَّك بسرعةٍ سوف يتقهقر بسرعة.»

٤٥

قال منشيوس: «الرجل النبيل يعامل الكائنات الحية بعطفٍ لا بحب، ويعامل الناس بحبٍّ ولكن دون تعلُّق. يعامل والدَيه بتعلُّق ثم يحوِّل هذه العاطفة إلى حبٍّ للناس، وحب الناس يحوِّله إلى عطفٍ على الكائنات الحية.»

٤٦

قال منشيوس: «الرجل النبيل يعرف الكثير، ولكنه يركِّز على المسائل المُلِحة التي تستدعي الاهتمام. الرجل المحسِن يحب الجميع، ولكنه يركِّز على الأقارب وعلى الأفاضل.

ياو وشون كانا حكيمَين، ولكنهما لم يستخدما حكمتهما في التعامل مع كل الأمور؛ لأنهما ركَّزا على الأهم فالأهم. ياو وشون كانا محسنَين، ولكنهما لم يشملا بإحسانهما الكل؛ لأنهما ركَّزا أولًا على الأقارب والأفاضل.

إذا لم يُقِم المرء الحِداد (على والدَيه) مدة ثلاث سنوات، ولكنه بالمقابل أظهر اهتمامًا بالتفاصيل الثانوية لإقامة الحِداد ثلاثة أشهر أو خمسةً١٩ على الأقارب، أو إذا تساءل إن كان المسموح به أن يقضم بأسنانه اللحم المقدَّد، بينما هو يلتهم طعامه ويزدرد شرابه، فإنه امرؤ جاهلٌ بمبدأ الأولويات.»
١  يعتقد منشيوس أن الإنسان طيبٌ بطبيعته، وعليه أن يعمل على تنمية هذه الطيبة الأصلية. وهو يعزو هذه الطيبة الأصلية في الإنسان إلى قوة السماء.
٢  لا ينظر منشيوس إلى القدر نظرةً سلبية؛ أي إنه لا يرى أن على الإنسان ألَّا يقوم بشيءٍ في انتظار تحقُّقه؛ لأن القدر هو انعكاسٌ لمجهود الإنسان في الحياة، وهو بعمله إنما يقوم بشكلٍ ما برسم هذا القدر.
٣  على عكس الرأي الشائع بأن القدر أمرٌ مقرَّرٌ سلفًا من قِبَل السماء، فإن منشيوس (مُتَّبعًا في ذلك رأي كونفوشيوس) يرى أن القدر يُرسَم بعد أن يبذل المرء كل جهدٍ في سبيل تحقيق غاياته، سواء نجح في ذلك أم فشل.
٤  الشيء المقصود هنا هو الطيبة الإنسانية التي يراها منشيوس أصليةً في الإنسان، وبالتالي يمكن البحث عنها وتحقيقها لأنها في داخلنا ومتناول يدنا.
٥  والشيء المقصود هنا هو المكاسب المادية مثل الثروة والجاه والمنصب العالي، وهذه الأمور لا يمكن البحث عنها في داخلنا لأنها خارجية، وتحقيقها يتوقَّف على عوامل خارجية أيضًا.
٦  أي إن المرء يشعر بأنه يمتلك العالم عندما يكون صادقًا مع نفسه.
٧  وهذا هو مبدأ «التبادلية» الذي قال به كونفوشيوس.
٨  أي إن عامة الناس يقومون بما يقومون به بحكم العادة، دون تقييمه وفهم أصوله ودوافعه، وما إذا كان عليهم تغييره، ولماذا.
٩  حاكم المقاطعات يحكم وفق مبادئ السياسة، أمَّا موحِّد البلاد فيحكم وفق مبادئ الإحسان. في ظل سلطة موحِّد البلاد يقبل المحكوم عليه بالإعدام مصيره لأنه يعرف أن ذلك حقٌّ ولا ظلم فيه، وعندما يأتي الخير إلى الناس لا يعرفون مصدره.
١٠  يانغ تسو كان مفكِّرًا فرديًّا لا يفيد أحدًا ولا يضر أحدًا.
١١  مو تزو كان مفكِّرًا متطرِّفًا في الغيرية (أو الإيثار).
١٢  تزو-مو رجلٌ فاضل في زمن منشيوس.
١٣  يستطيع المرء أن يحول دون تشويش حكم عقله بأن لا يخضع لإغراءات المرابح والمكاسب المادية.
١٤  ليو شيا خوي كان موظَّفًا رفيعًا في دولة لو، وكانت أعلى وظيفةٍ استلمها هي منصب القاضي الجنائي الأول، وقد عُزل من منصبه ثلاث مرات لحفاظه الشديد على مبادئه.
١٥  ينتقد منشيوس هنا الأمراء الخمسة الذين سيطر كلٌّ منهم على عددٍ من أمراء المقاطعات الأخرى بالقوة العسكرية تحت ذريعة الإحسان والاستقامة.
١٦  كان ين ين (١٦٣٠–١٥٥٠ق.م.) أقوى وأفضل وزراء أسرة شانغ، وهو الذي ساعد أول ملوكها شانغ تانغ على الإطاحة بآخر ملوك أسرة شيا والتأسيس لحكم أسرة شانغ. وبعد وفاة شانغ تانغ قام ين ين بخدمة بقية ملوك الأسرة حتى وفاته.
١٧  يُعبِّر منشيوس هنا عن آرائه المتطرِّفة في بر الوالدَين، فيُعليه على مصلحة الدولة والانصياع للقانون.
١٨  خلال حياة الملك لم يكن مسموحًا لابنه إقامة الحداد على أمه ثلاث سنوات وفق التقاليد الصينية، وكان عليه خلع ثياب الحداد بعد الجنازة.
١٩  كانت مدة الحداد على الأبوَين ثلاث سنوات في التقاليد الصينية، وعلى الجدَّين خمسة أشهر، وعلى الأعمام والأخوال أو العمات والخالات ثلاثة أشهر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤