الباب الرابع عشر: تشِن شن «٢»

١

قال منشيوس: «كم كان هوي ملك ليانغ عديم الشفقة. إن الرجل المحسِن يوسِّع دائرة محبته لتتجاوز من يحبهم إلى من لا يحبهم. وعديم الشفقة يوسِّع دائرة قسوته لتتجاوز من لا يحبهم إلى من يحبهم.» فسأله قونغ-صُن تشو: «ماذا تعني بذلك؟» أجابه منشيوس: «لكي يكتسب مزيدًا من الأرض شنَّ حربًا قُتِل فيها الكثيرون من شعبه. وعندما لقي هزيمةً شنيعة ورغب فيما بعدُ بالحرب مرةً أخرى خشي من الفشل، فجنَّد لها أبناءه وإخوته وتسبَّب في مقتلهم؛ ولهذا قلت إنه وسَّع دائرة قسوته لتتجاوز من لا يحبُّهم إلى من يحبُّهم.»١

٢

قال منشيوس: «فترة الربيع والخريف لم تشهد حربًا عادلة، ولكن بعضها أحيانًا أفضل من البعض الآخر. الحملة التأديبية هي حملةٌ يقوم بها الملك٢ ضد واحدٍ من أمراء المقاطعات التابعين له، ولكنه لا يحق للأمراء الأنداد أن يشنوا حملاتٍ تأديبيةً على بعضهم.»

٣

قال منشيوس: «إن تصديقنا لكل ما ورد في كتاب التاريخ أمرٌ سيئٌ كسوء عدم وجوده أصلًا؛ فمن فصل وو تشينغ Wu Ch’eng قبلتُ ثلاثة مقاطع فقط.
الحاكم الرشيد لا ندَّ له في طول البلاد وعرضها. وعندما تشُنُّ القوة الأكثر رحمةً الحرب على القوة الأكثر قسوة، فكيف تجري الدماء بغزارة، حتى إنها تجعل الهراوة تطفو؟ (على ما ورد في الكتاب).»٣

٤

قال منشيوس: «يقول البعض (= الحكام) أنا خبيرٌ في الإعدادات العسكرية، وأنا مُجلٍّ في المعارك، وفي هذه الأقوال إثم. إذا تبنَّى العاهل الحكم الرشيد فلن يكون له منازع في طول البلاد وعرضها.

عندما شرع شانغ تانغ بحملاته (التحريرية) في الجنوب، راح أهل القبائل الشمالية يحتجُّون. وعندما شرع بحملاته في الشرق، راح أهل القبائل الغربية يحتجُّون، والكل يقول: لماذا لم يأتِ إلينا أولًا؟

وعندما شرع الملك وو بحملاته ضد حكم سلالة ين، قاد ثلاثة آلاف من محاربيه في ثلاثمئة عربةٍ قتالية، وأرسل إلى رعية ين قائلًا: لا تخافوا، ما جئت لقتالكم وإنما لإحلال السلام عليكم. عند ذلك سجد الجميع أمامه حتى سُمع صوت ارتطام جبهاتهم بالأرض وكأنه زلزال.

إن شنَّ حملةٍ تأديبية يعني تصحيح الأمور،٤ وإذا كان الشعب ينتظر من أحدهم تصحيح الأمور في البلاد، فما الحاجة إلى الحرب وسفك الدماء؟»

٥

قال منشيوس: «يستطيع النجار وصانع العربات ومصلِّح العجلات تعليم الآخرين استخدام الفرجار والإطار المربع، ولكن اكتسابهم للمهارة ليس بيده.»٥

٦

قال منشيوس: «عندما كان شون يقتات الأرُز المجفَّف والنباتات البرية، كان قابلًا بذلك على أنه نمطٌ دائم في الحياة. وفيما بعد عندما صار ملكًا يلبس الحلل الفاخرة ويعزف على قيثارته، وزوجتاه بنتا ياو تخدمانه، كان ذلك أيضًا نمطًا في الحياة طالما عاشه.»٦

٧

قال منشيوس: «الآن صرتُ أعرف النتائج الكارثية لقيام امرئ بقتل أحد أفراد أسرةٍ أخرى؛ لأنه إذا قتل المرء أب رجلٍ آخر فسوف يقتلون أباه، وإذا قتل أخاه الأكبر فإنهم سوف يقتلون أخاه؛ وبالنتيجة فإنه سيغدو مسئولًا عن موت أبيه وأخيه على الرغم من أنه لم يفعل ذلك بنفسه.»

٨

قال منشيوس: «في الماضي كانت الممرات الحدودية تُبنى من أجل الحماية من الاعتداء الخارجي، أمَّا اليوم فإنها تُستخدم من أجل تحصيل المكوس الثقيلة.»

٩

قال منشيوس: «الذي لا يلتزم بالطريق لا يستطيع حتى إدارة شئون زوجته وأولاده، والذي لا يفرض العمل على الآخرين وفق الطريق لا يستطيع فرض العمل على زوجته وأولاده.» ٧

١٠

قال منشيوس: «من يحتفظ بمخزونٍ وافر لا يعاني الشدة في سنوات المجاعة، والذي يتزوَّد بالفضائل لن يضل في أوقات الفوضى والاضطرابات.»

١١

قال منشيوس: «الرجل الحريص على سمعته ربما تخلَّى عن مملكةٍ ذات ألف عربةٍ حربية، ولكنه يعبس إذا طُلب منه تقديم قصعةٍ من الأرُز وزبدية حساءٍ للشخص الخطأ.»٨

١٢

قال منشيوس: «إذا لم نُقدِّر الفاضل والكفء فسوف تغدو الدولة قشرةً فارغة. وبدون قواعد الأدب والمعاملات فإن الهرم المراتبي سوف يضطرب. وإذا لم تُدَر شئون الدولة على الوجه الصحيح فلن يكون لديها من الإيرادات ما يسد النفقات.»

١٣

قال منشيوس: «ربما استطاع رجلٌ عديم الفضيلة حكم مملكة، ولكن مثل هذا الرجل لن يكون موحِّدًا للبلاد.»

١٤

قال منشيوس: «الرعية هي الأولى في الأهمية والتقدير، يليها مذابح آلهة الأرض والحبوب، وأخيرًا الحاكم؛ لهذا فإن من يكسب قلوب الرعية يغدو ملكًا، ومن يكسب قلب الملك يغدو أمير مقاطعة، ومن يكسب قلب أمير المقاطعة يغدو موظَّفًا عالي المرتبة.

إذا قام أمير المقاطعة بتعريض سيادة الدولة للخطر يتم استبداله. إذا كانت حيوانات القربان في صحةٍ جيدة، وحبوب القربان نقية، وجرى تقديم القرابين في وقتها لآلهة الأرض والحبوب، ومع ذلك فشلت في منع الجفاف والفيضانات؛ فإنها تُستبدل أيضًا.»

١٥

قال منشيوس: «الحكيم نموذجٌ يحتذيه ألف جيل. هكذا كان بو يي وليو شيا خوي. بعد سماع ما كان عليه بو يي، فإن الجَشِع يغدو عفيفًا، وواهن العزيمة يغدو طموحًا. وبعد سماع ما كان عليه ليو شيا خوي، فإن ضَيِّق الأفق المتشدِّد يغدو متسامحًا، والدنيء يغدو كريم الخلق.

لقد قدَّما إنجازاتهما قبل مائة جيل، وبعد مائة جيل ما زالت مسيرتهما تُلهم من سمع بها، فما بالك بأولئك المحظوظين الذين رأوهما عن قربٍ واستمعوا إليما. لقد بلغا حقًّا ذروة الحكمة.»

١٦

قال منشيوس: «الإحسان هو العلاقة بين إنسانٍ وآخر. الطريق هو الإحسان والإنسان مجتمعَين.»٩

١٧

قال منشيوس: «عندما كان كونفوشيوس يستعد لمغادرة موطنه في لو قال: سوف أتمهَّل قدر استطاعتي؛ لأنه هكذا يغادر الإنسان موطنه ومسكن أمه وأبيه. وعندما كان يستعد لمغادرة دولة تشي، شرع بالتحرُّك وهو يحمل وجبة الأرُز التي لم تنضج بعد، وقال: هكذا يغادر المرء دولةً غريبة.»

١٨

قال منشيوس: «السبب الذي جعل الرجل النبيل (= كونفوشيوس) يقع في محنةٍ كبيرة بين دولتَي تشن وتساي Ts’ai، هي أنه لم يكن له علاقات طيبة مع أميرَي الدولتَين أو وزرائهما.»١٠

١٩

قال الموظَّف مو تشي Mo Qi: «أنا عُرضةٌ لكلام السوء.» فقال له منشيوس: «لا عليك. كثيرًا ما يتعرَّض المثقَّفون لملاحظاتٍ مزعجة. وقد ورد في كتاب القصائد: قلبي مثقلٌ بالأسى لأنني مكروهٌ من التافهين. هذه كانت حال كونفوشيوس. وقد ورد أيضًا في الكتاب: لم أستطِع تبديد كراهية الآخرين، ولم أفقد سمعتي الطيبة. هذه كانت حال الملك وِن.»

٢٠

قال منشيوس: «الحكماء القدماء كانوا ينوِّرون أنفسهم قبل أن يعملوا على تنوير الآخرين، أمَّا اليوم فنرى من يحاول تنوير الآخرين وهو في الظلام.»

٢١

قال منشيوس للتلميذ قاو تسو: «الدرب الجبلي الذي يسلكه كثيرون قد يتحوَّل إلى طريق، فإذا لم يطرقه أحد سدَّته الأعشاب. وإني لأرى الآن أن الأعشاب قد سدَّت عقلك.»

٢٢

قال قاو تسو لمنشيوس: «كانت الموسيقى في عصر الملك يو أفضل منها في عصر الملك وِن.» فقال له منشيوس: «ما الذي يجعلك تقول هذا؟» أجابه قاو تسو: «لأن حبال أجراس الأدوات الموسيقية من عصر يو متآكلة (من كثرة الاستعمال).» قال منشيوس: «هذا ليس برهانًا كافيًا. هل الأخاديد تحت بوابة المدينة صنعها زوجٌ من الأحصنة؟»

٢٣

عندما كانت دولة تشي تعاني من المجاعة، قال تشِن جِن Chen Zhen لمنشيوس: «يعتقد الناس يا سيدي أنك ستطلب من الملك أن يفتح مخازن الحبوب في تانغ لتوزيعها على الناس، كما فعلتَ في المرة السابقة، ولكنني لا أظن أنك ستفعل ذلك مرةً أخرى.» أجابه منشيوس: «كلا، لن أفعل ذلك، وإلا كنتُ مثل فينغ فو.»
كان هنالك رجلٌ طالح في دولة تشِن يُدعى فينغ فو، ذاع صيته بعد أن صرع نمرًا بيدَيه العاريتَين. وبعد ذلك انصلح وافتتح صفحةً جديدة في حياته. وفي يومٍ من الأيام رأى جماعةً من الرجال في أطراف المدينة تطارد نمرًا محاصرًا يدافع عن نفسه بضراوة عند منحدر تلٍّ، ولم يكن أحدٌ يجرؤ على التقدُّم منه. وعندما رأى المطاردون فينغ فو هُرعوا إليه مستبشرين، عند ذلك نزل فينغ فو من عربته وشمَّر على ساعدَيه، فسُّر الحشد لذلك، أمَّا المثقَّفون المتواجدون هناك فقد سخروا منه.»١١

٢٤

قال منشيوس: «الفم يُحب المذاق الطيب، والعين تنجذب إلى الألوان البهيجة، والأذن تطرب للموسيقى العذبة، والأنف يتنشَّق الروائح العطرة، والأطراف الأربعة تميل إلى الراحة والاسترخاء؛ وهذه جميعًا جزءٌ من الطبيعة الإنسانية، ولكن القدر يتدخَّل في تحقيقها، والرجل النبيل لا يعزوها إلى الطبيعة.

الإحسان يحكم العلاقة بين الأب والابن، والصلاح يحكم العلاقة بين الرئيس والمرءوس، وقواعد الأدب تحكم العلاقة بين الضيف والمُضيف، والتعقُّل يحكم العلاقة بين الأفاضل، وطريق السماء ينتظر الحكيم؛ هذه أيضًا جزءٌ من الطبيعة الإنسانية، ولكن الرجل النبيل لا يعزوها إلى القدر.»

٢٦

قال منشيوس: «الذين انشقُّوا عن مدرسة مو سوف يتحوَّلون إلى مدرسة يانغ،١٢ والذين انشقُّوا عن مدرسة يانغ سوف يتحوَّلون إلى المدرسة الكونفوشية. في حال عودتهم إلينا يتوجَّب علينا استقبالهم، ولكن البعض منا في هذه الأيام ممن يجادلون أتباع مو تزو ويانغ وكأنهم يطاردون خنازير هاربة، لا يكتفون بأنهم عادوا إلى الحظيرة، بل يريدون تقييد أقدامهم.»

٢٧

قال منشيوس: «هنالك ضريبة على قماش القُنَّب والحرير، وضريبة على محصول الحبوب، وضريبة على العمل. على الأمير أن يفرض واحدةً من هذه الضرائب في كل مرة ويؤجِّل اثنتَين، فإذا فرض اثنتَين معًا سيتسبَّب في إحداث مجاعة، وإذا فرض الثلاث معًا سوف يتسبَّب في تفريق الابن عن أبيه وتفكيك الأسرة.»

٢٨

قال منشيوس: «هنالك ثلاثة أمور على الحاكم أن يُعلي من شأنها هي: الأرض والرعية والحكومة. أمَّا إذا أعلى من شأن اللآلئ والأحجار الكريمة، فإن الكارثة تقبع عند بابه.»

٢٩

عندما استلم بن-تشِنغ كوو Ben-cheng Kuo منصبًا رفيعًا في دولة تشي، قال منشيوس: «سوف يلقى حتفه.» بعد ذلك لقي بن-تشِنغ كوو حتفه، فجاء تلاميذ كونفوشيوس يسألونه عن كيفية معرفته بذلك، فقال لهم: «لقد كان رجلًا على جانبٍ من الكفاءة، ولكنه لم يعرف المبادئ الأساسية التي يتوجَّب على الموظَّف الحكومي معرفتها؛ وهذا سببٌ كافٍ لخسارته حياته.»

٣٠

عندما جاء منشيوس إلى دولة تينغ أُعطي مع تلاميذه سكنًا في بيت ضيافة فخم. جاء العاملون في البيت للبحث عن صندلٍ غير مكتمل كان موضوعًا في النافذة فلم يجدوه، فسأل أحدهم منشيوس: «هل أخذه أحدٌ من رجالك؟» فأجابه: «هل قطعنا إليكم كل هذه المسافة لكي نسرق صندلًا؟» أجابه الرجل: «لا أعتقد ذلك.» فقال منشيوس: «لقد جئتُ إلى هنا من أجل التعليم، والمتعلِّمون أحرارٌ في القدوم وفي المغادرة ما دام أنهم جاءوا بقلبٍ سليم.»

٣١

قال منشيوس: «هنالك أمورٌ لا يحتمل كل الناس القيام بها، فإذا وسَّعوا هذه الحالة الذهنية لتشتمل على كل الأمور التي يحتملون القيام بها حقَّقوا الرحمة.١٣ وهنالك أمورٌ لا يرغب كل الناس في القيام بها، فإذا وسَّعوا هذه الحالة الذهنية لتشتمل على الأمور التي يرغبون في القيام بها حقَّقوا الاستقامة.١٤ إذا طبَّق المرء الحالة الذهنية التي تمنعه من تسبيب الأذى للآخرين في كل موقف، بلغ منتهى الرحمة. وإذا طبَّق الحالة الذهنية التي تمنعه من تسلُّق جدارٍ أو نقبه لغاية السرقة في كل موقف، حقَّق منتهى الاستقامة. وإذا طبَّق الحالة الذهنية التي تمنعه من إذلال نفسه في كل موقف حقَّق الاستقامة أنَّى توَجَّه.

إذا تحدثتَ مع مثقَّفٍ لا يجوز لك التحدُّث معه، كنتَ كمن يحاول استغلاله. وإذا رفضتَ التحدُّث مع مثقَّفٍ يتوجَّب عليك التحدُّث معه، كنتَ كمن يستغل الصمت. كلا الحالتَين أشبه بتسلُّق جدارٍ أو نقبه لغاية السرقة.»

٣٢

قال منشيوس: «الكلمات الطيبة هي الكلمات البسيطة والعميقة الأثر، والمبادئ الجيدة هي المبادئ الواضحة والقابلة للتطبيق في جميع المجالات. الرجل النبيل يتحدَّث في مسائلَ عامة ولكنها تنطوي على مبادئ عظيمة. وهو في حفاظه على تكامله الذاتي وتطوير نفسه إنما يجلب الطمأنينة للبلاد.

إنه لمن الخطأ أن تقوم بتعشيب حقل جارك وتغفل عن تعشيب حقلك، وأن تكون صارمًا مع الآخرين ومتساهلًا مع نفسك.»

٣٣

قال منشيوس: «الملك ياو والملك شون سلكا بما تمليه عليهما طبيعتهما الأصلية، أمَّا الملك شانغ تانغ والملك وِن فقد جاهدا لكي يعودا إلى طبيعتهما الأصلية. إذا سلكت وفق قواعد الأدب والمعاملات في كل مجال، حقَّقت أعلى درجات الفضيلة.

عندما لا يبكي المرء على الأموات لكي يُرضي الأحياء، وعندما لا يلتزم سبيل الفضيلة لكي يحصل على منصبٍ عالٍ، وعندما لا يصدق في كلامه للتباهي بحسن السلوك؛ يكون إنسانًا نبيلًا يقوم بما يتوجَّب عليه ويترك الباقي للقدر.»

٣٤

قال منشيوس: «عندما تقف أمام ذوي الشأن لتقديم المشورة عليك أن تنظر إليهم بترفُّعٍ ودونما تأثُّر بجلال قدرِهم. قاعاتهم فسيحة وعالية، ذات أعمدةٍ بارتفاع عشرات الأقدام، وتيجانٍ بعرض عدة أقدام. ولو أنني حقَّقت طموحي لما فعلت مثل ذلك. مناضد موائدهم عرضها عشرة أقدام، ومئات النساء يقمن على خدمتهم، ولو أنني حقَّقت طموحي لَمَا فعلت مثل ذلك. يقضون وقتهم في خدمتهم، ولو أنني حقَّقت طموحي لَمَا فعلت مثل ذلك. يقضون وقتهم في الشرب والقنص ترافقهم عرباتٌ لا حصر لها، ولو أنني حقَّقت طموحي لَمَا فعلت مثل ذلك.

إذا كنت لا أقوم بكل ما يقومون به، بل أقوم بكل ما يتفق مع السنة القديمة، فلماذا أقف أمامهم بإجلال؟»

٣٥

قال منشيوس: «الطريقة المُثلى لتنمية الطيبة في القلب هي التقليل من الرغبات. الشخص الذي يُبقي على عددٍ قليل من الرغبات، قد يخسر بعض الطيبة لا كلَّها، والشخص الذي تكثر رغباته قد يحتفظ ببعض الطيبة لا كلَّها.»

٣٦

كان تسِغ شي Zeg Xi يحب أكل ثمر العنَّاب كثيرًا، أمَّا ابنه تسِغ تسي١٥ فقد كان يتفادى أكله. عن هذه المسألة سأل قونغ-صُن تسو فقال: «أيهما ألُّذ مذاقًا اللحم المشوي أم العنَّاب؟» فأجابه منشيوس: «اللحم المشوي طبعًا.» فسأله ثانية: «إذن لماذا كان تسِغ تسي يأكل اللحم المشوي ويتفادى أكل العنَّاب؟»

أجابه منشيوس: «اللحم المشوي مذاقٌ مشترك بين الناس، أمَّا العنَّاب فمذاقٌ خاصٌّ للبعض. وهذا يشبه حظرنا لاستخدام اسم العلم لأكثر من شخصٍ في العائلة، بينما يشترك الجميع باسم العائلة.»

٣٧

قال وانغ شانغ: «عندما كان كونفوشيوس في دولة تشِن قال: عليَّ أن أعود إلى وطني. الشباب هناك طموحون ولكنهم غير ناضجين، ومغامرون ولكنهم لا ينسَون أصولهم.

فما الذي جعل كونفوشيوس وهو في تشِن يفكِّر بأولئك المتهوِّرين في موطنه لو؟»

أجابه منشيوس: «عندما لم يجد كونفوشيوس من يخالطهم من أصحاب مبدأ الوسطية وعدم الانحياز، الْتفت إلى المندفعين وإلى المتحفِّظين؛ فالمندفعون يستمرُّون في الانطلاق نحو الأمام، والمتحفِّظون يسلكون في حذر. لقد كان كونفوشيوس راغبًا في رفقة أصحاب مبدأ الوسطية ولكنه لم يجدهم؛ ولذلك فقد فكَّر بمن يليهم في الأهمية.»

فسأله وانغ شانغ ثانية: «مَن مِن الرجال يمكن أن نطلق عيله صفة المندفعين؟» أجابه منشيوس: « تشِن جانغ Qin Zhang وتسِنغ تشي Zeng Xi  ومو بي Mu Bi وأمثالهم، هم الذين وصفهم كونفوشيوس بالمندفعين.» فسأله أيضًا: «ولماذا وُصف هؤلاء بالمندفعين؟»

أجابه منشيوس: «لأن عندهم طموحًا وغلوًّا. كانوا يقولون دومًا: عليكم بالأقدمين، عليكم بالأقدمين. ولكننا إذا قارنَّا كلامهم بأفعالهم لَمَا وجدنا الأفعال متطابقةً مع الأقوال. عندما لم يكن كونفوشيوس يجد من يخالطه من المندفعين، كان يميل إلى المتحفِّظين الذين يكتفون بعدم إتيان الفواحش، وهؤلاء يأتون بالدرجة الثانية عنده. وقد قال مرة: أولئك الذين يمرُّون من أمام باب بيتي ولا أشعر بالأسف لعدم دخولهم، هم الذين يتكلَّفون الفضيلة. هؤلاء أجلافٌ مخرِّبون للفضيلة.»

فسأله أيضًا: «ومَن مِن الرجال يمكن أن نطلق عليهم صفة الأجلاف متكلِّفي الفضيلة؟»

أجابه منشيوس: «هم من يقولون للمندفعين: لماذا أنتم طموحون إلى هذه الدرجة؟ ومع ذلك يُعيدون القول: عليكم بالأقدمين، عليكم بالأقدمين. ثم إنهم يقولون للمتحفِّظين: لماذا أنتم انعزاليون؟ أنتم تحَيون في هذه الدنيا، وتعملون في هذه الدنيا، وما عليكم سوى الانسجام مع كل ما حولكم. ولكنهم يُخفون حقيقتهم ويتملَّقون. هؤلاء هم الأجلاف مخرِّبو الفضيلة.»

فسأله أيضًا: «إذا كان المرء ممدوحًا في قريته على إخلاصه، فمعنى ذلك أنه سيُنظر إليه على أنه مخلص أنَّى ذهب، فلماذا اعتبرهم كونفوشيوس مخرِّبين للفضيلة؟»

أجابه منشيوس: «عندما تحاول انتقادهم يبدون وكأنهم فوق النقد، وعندما تحاول لومهم يبدون فوق اللوم. إنهم يتَّبعون الممارسات السائدة وينسجمون مع السُّوقة الأجلاف. في الحياة اليومية يبدون مخلصين صادقين، وفي سلوكهم يُظهرون الطهارة والعفة. الكل يرضى عنهم، وهم يظنون أنهم يقومون بما هو صائب. أمَّا في الحقيقة، فإن كل ما يقومون به لا يتفق مع طريقة ياو وشون؛ ولهذا نقول إنهم مخرِّبون للفضيلة.

وقد قال كونفوشيوس: أنا لا أحب الأشياء التي تبدو صحيحة، ولكنها في حقيقة الأمر خاطئة. لا أحب الزؤان لأنه يختلط مع القمح. لا أحب المتملِّقين لأنهم يشوِّهون البر. لا أحب ذَلِقي اللسان لأنهم يشوِّهون الصدق. لا أحب موسيقى جِنغ Zheng لأنها تفسد الموسيقى الكلاسيكية. لا أحب اللون الأرجواني لأنه يتماهى باللون القرمزي. لا أحب الأجلاف متكلِّفي الفضيلة لأنهم مخرِّبون للفضيلة.

الرجل النبيل هو الذي يسعى لإعادة الأمور إلى مجراها الطبيعي. وعندما تعود الأمور إلى مجراها الطبيعي فإن عامة الناس سوف يرتقون، وعندما يرتقي عامة الناس يتلاشى الضلال.»

٣٨

قال منشيوس: «كانت المدة الفاصلة بين عصر ياو وشون وعصر شانغ تانغ نحو خمسمائة سنة. وقد تهيَّأ لأشخاصٍ مثل يو Yu وقاو Gao وياو Yao رؤية ياو وشون والتعرُّف على طرقهما. كما عرفهما أشخاصٌ مثل شانغ تانغ بسماع أخبارهما وتعرَّفوا على طرقهما.
وكانت المدة الفاصلة بين عصر شانغ تانغ وعصر الملك وِن نحو خمسمائة سنة. وقد تهيَّأ لأشخاصٍ مثل يي ين Yi Yin ولاي جو Lai Zhu رؤية شانغ تانغ والتعرُّف على طريقه، كما عرفه أشخاصٌ مثل الملك وِن بسماع أخباره وتعرَّفوا على طريقه.
وكانت المدة الفاصلة بين عصر الملك وِن وعصر كونفوشيوس نحو خمسمائة سنة. وقد تهيأ لأشخاصٍ مثل تاي قونغ وانغ Tai Gung Wang و سان-يي شنغ San-yi Sheng رؤية الملك وِن والتعرُّف على طريقه، كما عرفه أشخاصٌ مثل كونفوشيوس بسماع أخباره والتعرُّف على طريقه.

والمدة الفاصلة بين عصر كونفوشيوس ويومنا هذا نحو مائة سنة، وهي مدةٌ ليست بالطويلة. فإذا لم يوجد الآن من يعرف عنه ويتَّبع طريقه، فلن يكون هنالك في المستقبل من يفعل ذلك.»

١  في الحرب المذكورة أعلاه، جنَّد لها الملك أبناءه وإخوته ووزراءه المقرَّبين، وانجلت عن مقتل ابنه الكبير وأسر ابنه الصغير.
٢  الملك المقصود هنا هو ملك مملكة جو التي كانت تسيطر على عددٍ من أمراء المقاطعات خلال فترة الربيع والخريف (٧٧٠–٤٧٦ق.م.)، وعلى الرغم من التبعية الرسمية للملك إلا أن هذه الفترة شهدت ضعف السلطة المركزية، وقيام الأمراء بمحاولاتٍ للتوسُّع بعضهم على حساب بعض.
٣  كتاب التاريخ واحدٌ من الكتب الكلاسيكية في الثقافة الصينية. ومنشيوس هنا يُقر بفائدة الكتاب إذا قُرئ بطريقةٍ نقدية تفرز الواقعي عن المُتَخيل. والفصل الذي يشير إليه منشيوس هنا يصف الحرب التي شنَّها الأمير وو (الملك فيما بعد) على الملك الطاغية جو، والتي قادت إلى عزله. ويعتبر منشيوس أن هذه الحرب كانت عادلةً وتقودها قوةٌ رحيمة؛ لذلك من المستبعد أن تكون قد تسبَّبت بإراقة كثيرٍ من الدماء كما هو مذكورٌ في الكتاب، لا سيما وأن هذا الفصل يذكر في نهايته أن أعدادًا كبيرة من جنود الملك قد استسلمت وألقت سلاحها.
٤  القيام بحملةٍ تأديبية والقيام بالتصحيح هما فعلان مترادفان في اللغة الصينية.
٥  الفرجار والإطار المربع من الأدوات التي يستخدمها النجار لرسم الدوائر والمربعات. والمقصود هنا أن درجة اكتساب التلميذ من علم المُعلم يعتمد على التلميذ بالدرجة الأولى.
٦  أي إن الطبيعة الداخلية للحكيم لا تتوقَّف على الشروط الخارجية، ويكون هو نفسه في السرَّاء والضرَّاء.
٧  المقصود هنا هو الحاكم، فإذا لم يلتزم الحاكم بطريق الفضيلة؛ فإنه لن يقدر على توجيه الرعية نحو الفضيلة، ولا حتى أفراد أسرته.
٨  المعنى هنا أن الشخص مهما كان كريمًا فإنه لا يتخلَّى عن شيءٍ تافه إذا لم يكن مبرَّرًا.
٩  في الكتابة الصينية، الرمز الكتابي الذي يدل على الرجل (أو الشخص) إذا تبعه الرمز الذي يدل على الرقم ٢؛ يعني العلاقة بين شخصٍ وآخر، أو العلاقة بين الناس عمومًا. وقد عزا كونفوشيوس إلى هذَين الرمزَين مجتمعَين معنًى عميقًا، ورأى فيه تعبيرًا عن الطيبة الإنسانية، ومحبة الآخرين، والكمال الأخلاقي.
١٠  في عام ٤٨٩ق.م. كان كونفوشيوس في دولة تشِن حيث أقام ثلاث سنوات، وقد أحسن الأمير وِفادته ولكنه لم يفهم أفكاره أو يستمع لنصائحه، وبالتالي لم يكن له أصدقاء في البلاط. ثم إن دولة وي هاجمت دولة تشِن وجاء جيش تشو لمساعدتها، وساءت أحوال الدولة؛ عند ذلك قرَّر كونفوشيوس الذهاب إلى تشو، وعندما وصل إلى حدود دولة تساي حاصرته مفرزةٌ من الجنود مع تلاميذه الذين يرافقونه، ومنعوه من متابعة سفره إلى تشو لكي لا يقدِّم المساعدة إلى أميرها. وهكذا حوصر كونفوشيوس وتلاميذه مدة سبعة أيام حتى نفد ما لديهم من طعامٍ وبدءوا يجوعون. وعندما تفاقم قلق التلاميذ قال كونفوشيوس قوله المعروف: رجل الفضيلة يحافظ على رباطة جأشه في المحن الكبيرة.
١١  عندما صرع فينغ فو النمر في المرة الأولى، استحقَّ الثناء لأنه فعل ذلك للضرورة. أمَّا في المرة الثانية فقد كان من الخطأ أن يتصدَّى له منفردًا كما فعل في المرة السابقة ويعرِّضَ حياته إلى الخطر، وبدلًا من ذلك كان بمقدوره أن ينسِّق جهود المطاردين ويقوم معهم بهجومٍ جماعي منسَّق؛ ولهذا فقد سخر منه المثقَّفون. وقد كان منشيوس في موقفٍ مشابه؛ فعندما طلب من الملك أن يفتح عنابر الحبوب، كان مُقرَّبًا من الملك وحائزًا على ثقته، أمَّا الآن فالعلاقة بينه وبين الملك تغيَّرت، وطلبه لن يلقى أذنًا صاغية، ولن يجني من طلبه هذا سوى المذلة.
١٢  مو هو مو دي أو مو تزو. وهو الذي بنى أفكاره انطلاقًا من نقده لأفكار كونفوشيوس، وبشَّر بالحب الشمولي الذي لا تمييز فيه. أمَّا يانغ فهو يانغ تشو الذي تبنَّى مبدأ الفردية أو الأنانية الذي يقول بعدم تقديم الفائدة لأحدٍ ولا الإضرار بأحد.
١٣  كمثالٍ على ذلك نقول: إن المرء لا يحتمل أن يرى مواطني دولته يتعرَّضون لِمَا تجلبه الحروب من مآسٍ وكوارث. فإذا قام بتوسيع هذه الحالة الذهنية لتشتمل على مواطني الدول الأخرى، فإنه لا يحتمل أيضًا أن يراهم يتعرَّضون لمآسي الحرب وكوارثها.
١٤  وكمثالٍ على ذلك أيضًا نقول: إن المرء لا يرغب في أن يفتري على أصدقائه، فإذا قام بتوسيع هذه الحالة الذهنية، لَمَا رغب في الافتراء على خصومه.
١٥  تسِغ تسي واحدٌ من أبرز تلاميذ كونفوشيوس. وقد تفادى أكل العناب لأن أباه يحبه. وكانت هذه الثمار غير متوفِّرة دومًا فآثر تركها لأبيه، ولم يأكلها حتى بعد أن تُوفي أبوه حِفاظًا على ذكراه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤