الباب الأول

١: ١ قال المعلم: أليس ممَّا يسرُّ أن تتعلَّم وتمارس ما تعلَّمته دائمًا؟ وأليس ممَّا يفرِّحك أن يقصدك الأصدقاء من أماكن نائية؟ إذ لم تكترث حين لا يقدِّرك الناس، أليست هذه سمة الرجل النبيل؟
التعليق: الرجل النبيل (أو الكامل الفضيلة) هي ترجمة للتعبير الصيني junzi الذي يعني في الأصل ابن أمير أو واحدًا من طبقة النبلاء. وقد استخدم كونفوشيوس هذا التعبير في كتاب الحوار بمعناه الأصلي أحيانًا، إلا أنه في معظم الحالات حمَّله معنًى خاصًّا؛ فهو الشخص الذي حقَّق تقدُّمًا على طريق تهذيب النفس، وتنمية الإحساس بالعدالة، وبر الوالدين، واحترام كبار السن، وصدق المعاملة مع الأصدقاء … إلخ. وعلى الرغم من أن متطلَّبات مرتبة الإنسان النبيل الكامل الفضيلة كما يصفها كونفوشيوس تبدو صعبة التحقيق من قِبَلنا، إلا أننا نجده يُطلق هذه الصفة أحيانًا على أحد معاصريه أو على أحد مُريديه على سبيل الإطراء، وهذا ما يجعل معنى التعبير غير محدَّدٍ بالطريقة التي نرجوها.
١: ٢ قال التلميذ يو تسي: من النادر أن تجد من هذَّبوا أنفسهم في العلاقات الأبوية والأخوية يعمدون إلى تحَدِّي رؤسائهم. والذين لا يعمدون إلى تحَدِّي رؤسائهم لا يثيرون الشغب. إن الإنسان النبيل هو من يضع الأساسيات في بؤرة اهتمامه، وعندما تترسَّخ هذه الأساسيات يتوضَّح طريق الفضيلة. لعل بر الوالدين واحترام الإخوة الكبار من الأساسيات اللازمة لتحقيق المروءة ren.
التعليق: ربما كانت كلمة ren معبِّرةً عن أكثر المفاهيم أهميةً في فكر كونفوشيوس. وقد جرت ترجمتها إلى اللغة الإنكليزية بعِدة صيغ؛ مثل الإنسانية، الطيبة، النزوع إلى عمل الخير، الإيثار … إلخ. ولكنها في الواقع مفهومٌ عصيٌّ على الترجمة؛ لأنها لا تدل على نوعٍ معيَّن من الفضائل أو الخصائص الإيجابية، بقدر ما تُشير إلى قدرةٍ داخليةٍ لدى كل البشر على فعل الخير. إنها الخصيصة التي تجعل من الإنسان إنسانًا وتميِّزه عن غيره من الأحياء، وهي المنبع الداخلي غير المنظور لكل مظاهر وتبديات الفضيلة؛ الحكمة، الإخلاص للأخوة، التبجيل، الكياسة، المحبة، الإخلاص … إلخ. وكل هذه عبارة عن وجوهٍ أو وظائف ﻟﻠ ren. ومن خلال بذل الجهد على التمرُّس في وظائف اﻟ ren يمكن للفرد تنميتها وتوسيعها حتى يبلغ مرتبة الرجل النبيل، أو حتى مرتبةً أعلى هي مرتبة الرجل الحكيم، وهو لقبٌ قلما أسبغه كونفوشيوس على أحدٍ نظرًا للقيمة العالية التي يعزوها إليه.
وقد اخترنا في ترجمتنا هذه لكتاب الحوار استخدام كلمة «المروءة» كمقابلٍ للكلمة الصينية ren؛ فالمروءة كما ورد في القاموس المحيط هي من: مَروَ مروءةً فهو مريء؛ أي ذو مروءة وإنسانية. وورد في قاموس المنجد أنها كمال أخلاق الرجولة.
١: ٣ قال المعلم: من يبذل معسول الكلام وعلى وجهه دومًا ابتسامة، يندر أن يكون صاحب مروءة.
١: ٤ قال التلميذ تسنغ تسي: في كل يوم أحاسب نفسي ثلاث مرات فأسأل: هل قصَّرت في عون الآخرين؟ وهل كنت موضع ثقةٍ في علاقتي بالأصدقاء؟ وهل غفلت عن تطبيق ما تعلَّمته؟
التعليق: كان هذا التلميذ وزميله الآخر يو من أبرز تلاميذ كونفوشيوس، وكان لهما تأثير على بقية التلاميذ.
١: ٥ قال المعلم: على من يحكم مملكةً ذات ألف مركبة حربية (= متوسطة الحجم) أن يهتم جِديًّا بأشغال أهلها، وأن يفعل ما يقول، ويقتصد في النفقات، ويبذل محبته لمواطنيه، ويستخدمهم تبعًا للفصول.
التعليق: استخدام المواطنين تبعًا للفصول أمرٌ مهمٌّ في مجتمعٍ يقوم اقتصاده على الزراعة، وتكتسب فيه نشاطاتها أهميةً بالغة؛ مثل الزرع، والعناية بالأرض، وحصاد المحاصيل في أيامٍ مُعيَّنة؛ فخلال الفترة المعروفة بفترة الربيع والخريف في التاريخ الصيني، فترة الدويلات المتحاربة، كان أمراء الحرب الذين لا يُهمهم إلا مصالحهم الخاصة، غالبًا ما ينتزعون المزارعين من أراضيهم في مواسم عملهم الزراعي من أجل تجنيدهم في حروبهم، أو استخدامهم في المشاريع العامة.
١: ٦ قال المعلم: على اليافع عندما يكون في البيت احترام والديه، واحترام الكبار في السن عندما يكون خارجه، وعليه أن يكون جادًّا وموضع ثقة، ومحبًّا للجميع، ومقتربًا من أصحاب المروءة، وإذا كان لديه فضلة من طاقةٍ بعد ذلك فليوظِّفها في دراسة الآداب والفنون.
١: ٧ قال التلميذ تسي هسيا: إذا كان بمقدورك تقدير الفضيلة في الآخرين بدلًا من المظهر الحسن، وبذل قصارى جهدك في خدمة والدَيك، والتفاني في خدمة أميرك، والصدق في تعاملك مع أصدقائك، إذا فعلت ذلك كله؛ فإني أقول إنك بالتأكيد شخصٌ متعلِّم وإن قال بعضهم غير ذلك.
التعليق: إن التعلُّم في التقاليد الكونفوشية أمرٌ لا يقتصر على الدراسة الأكاديمية وحفظ المعلومات، على الرغم من أهميتها. إنه التعبير عن المروءة من خلال السلوك اليومي.
١: ٨ قال المعلم: إذا لم يتحلَّ الإنسان النبيل بالرزانة فإنه يفقد هيبته أمام الآخرين. وإذا تعمَّق في الدراسة فلن يبقى منغلقًا جاهلًا. إنه يضع الولاء والإخلاص في المقام الأول، ولا يتخذ من الأصدقاء من هو دونه في الخلق الكريم، وعندما يخطئ لا يتردَّد في تصحيح خطئه.
التعليق: إن الرجل النبيل يرتكب الأخطاء مثل غيره أحيانًا، ولكن ما يميِّزه عن الآخرين هو أنه يسارع إلى تصحيح خطئه حالما ينتبه إليه.
١: ٩ قال التلميذ تسنغ تسي: إذا جرت العناية بالوالدَين حتى النهاية، وخدمة أرواح الأسلاف على الدوام؛ عادت الفضيلة عند الناس إلى سُموها الأصلي.
١: ١٠ قصد التلميذ تسي جين زميله تسي كونغ وسأله: «كلما وصل معلِّمنا إلى بلدٍ عرف أموره وأساليب إدارته، فهل طلب المعلم معرفة هذه المعلومات أم إنها أُعطيت له عن طيب خاطر؟» فقال تسي كونغ: «إنه يحصل عليها من خلال ما يتمتَّع به من دماثةٍ وطيبة ورزانة وبساطة وتواضع. أليست طريقته في الحصول على المعلومات تختلف عن طرائق الآخرين؟»
التعليق: لا يحتاج الكونفوشي لأن ينقِّب ويبحث ويضغط على الآخرين من أجل الحصول على معلومات؛ لأن الآخرين ينفتحون أمامه بشكلٍ طبيعي بسبب دفئه وصدقه.
١: ١١ قال المعلم: احكم على الإنسان بهمته إذا كان والده حيًّا، واحكم عليه بأعماله إذا كان والده ميتًا، وإذا لم يحِد عن سبيل والده القويم لمدة ثلاث سنوات كان جديرًا بلقب الابن البار.
التعليق: يلعب برُّ الوالدَين الدور الأهم في تنمية الفرد للخصائص الإنسانية في شخصيته. ويرى كونفوشيوس أن البشر إذا رعَوا هذا المَيل الفطري جيدًا، فإنه سيؤثِّر إيجابيًّا على كل أشكال الفضيلة الإنسانية.
١: ١٢ قال التلميذ يو تسي: في تطبيق قواعد الأدب والمعاملات Li، المهم هو التناغم. وهذا ما قام به الملوك القدماء على أفضل وجه، فحرصوا على التناغم في الصغيرة والكبيرة. ولكن الحال ليست كذلك دائمًا، كأن يراعى التناغم لذاته من دون أن يقترن بقواعد الأدب والمعاملات.
التعليق: قواعد الأدب والمعاملات Li، وتترجم إلى الإنكليزية Propriety، تتعدَّد معانيها في الصينية القديمة؛ ولذا لا يمكن ترجمتها بكلمةٍ واحدة؛ ذلك أن معناها الأساسي يعني الطقوس والمراسم التي عرفتها مجتمعات شرق آسيا، ومنها طقوس الزواج وطقوس الجنازة، والطقوس الزراعية المتنوِّعة، وطقوس البلوغ والمراهقة، وطقوس تتويج الملوك، وغيرها. وقد كان كونفوشيوس خبيرًا في الأداء الصحيح لجميع أنواع الطقوس.
ولكن تعبير Li في الحوار يكتسب معنًى أوسع من معنى الطقوس؛ لأنه يتضمَّن أنماطًا أبسط من السلوك اليومي المتلوِّن بالطقوسية والمتعلِّق بالعلاقات الإنسانية المتبادلة؛ مثل الطريقة التي نخاطب بها الآخرين وفقًا لسنهم ومركزهم وجنسهم؛ أي حسن السلوك وما يتضمَّنه من التصرُّف المناسب في كل موقف. ومثالٌ على ذلك أنني قد أضرب بكفي على ظهر زميلي ممازحًا، ولكني لا أستطيع فعل ذلك مع أستاذي أو طالب في صفي لا أعرفه جيدًا.
وفي المحاورات يؤخذ تعبير Li في علاقته مع اﻟ ren، حيث اﻟ ren هي الفضيلة الإنسانية الأساس، أمَّا اﻟ Li فهي تبدي اﻟ ren في العالم الواقعي.
١: ١٣ قال الأستاذ يو تسي: عندما يقترن وعدك بالإنصاف يمكن الوفاء به. وعندما تُظهِر رزانَتك وفقًا لقواعد الأدب والمعاملات تتفادى الخزي والعار، وإذا كانت عواطفك صادقةً تجاه عائلتك فسوف تغدو سلفًا صالحًا.
التعليق: إن كلمة الإنصاف هي المعادل للكلمة الصينية yi، والتي تترجم إلى الإنكليزية بصيغة fairness أو righteousness، ويمكن ترجمتها إلى العربية أيضًا بصيغة إنصاف أو عدل أو استقامة أو صلاح، وذلك تبعًا للسياق. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم لا يرقى من حيث الأساس إلى مستوى مفهوم ren، إلا أنه أيضًا عبارة عن وظيفةٍ داخليةٍ عند الإنسان تتيح له فعل الشيء المناسب في الموقف المناسب، وإعطاء كل شخص ومكانٍ وشيء حقَّه. وفي كتاب الحوار تُستخدم في الحديث عن شخصٍ في موقع القوة أو السلطة؛ مثل الأستاذ أو المشرف أو القاضي أو رب العمل أو أي رئيس حلقة اجتماعية، فهؤلاء وأمثالهم عليهم أن يتصفوا بالإنصاف.
١: ١٤ قال المعلم: عندما يأكل الإنسان النبيل فإنه لا يُتخم معدته، وعندما يسكن فإنه لا يتوخَّى الراحة التامة. إنه مجدٌّ في عمله، وحَذِرٌ في كلامه، يطلب صحبة الأخيار لكي يقوِّم نفسه على الدوام، ومثل هذا الشخص ندعوه محبًّا للتعلُّم.
١: ١٥ قال تسي قونغ للمعلم: «ما رأيك في فقيرٍ لا يتذلَّل وغنيٍّ لا يتكبَّر؟» فأجابه: «نِعم الشخصان هما، ولكن الفقير القانع بفقره والغني الذي يسلك وفق قواعد الأدب والمعاملات أفضل.» فقال تسي كونغ: «هل تشير هنا إلى ما ورد في سِفر الأغاني: مَثل من يصقل أخلاقه كمَثل صانع العاج يقطعه ويبرِّده، أو كصانع الزبرجد ينحته ويصقله؟» فقال المعلم: «الآن أصبح بإمكاني مناقشة سِفر الأغاني معك؛ لأنني عندما أتحدَّث أمامك عن أمرٍ واحدٍ فإنك تستنتج البقية.»
١: ١٦ قال المعلم: لا يهمني جهل الآخرين بي، وإنما يهمني ألَّا أجهل الآخرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤