الفصل الرابع

منشيوس

الاسم منشيوس هو الصيغة اللاتينية لاسم المعلِّم الثاني للفلسفة الكونفوشية مينغ كيه Ming K’e. كان من رعايا دولة تسونغ في المناطق الشرقية من الصين (مقاطعة شاندونغ الحالية)، وعاش بين عامَي ٣٧١ و٢٨٩ق.م.؛ أي خلال أواسط فترة الممالك المتحاربة التي سادتها الحروب بين أمراء المقاطعات الصينية، وبلغ النظام الإقطاعي مراحله الأخيرة التي أدَّت إلى تفكُّكه وانهياره على يد أسرة تشين عام ٢٢١ق.م.؛ أي بعد حوالي نصف قرن من وفاة منشيوس.

على أن فترة الاضطرابات هذه ترافقت مع نهضةٍ فكريةٍ نشطت خلالها المدارس الفلسفية، التي راح أمراء الدويلات الصينية المتنافسة يجتذبون معلِّميها للاستفادة من آرائهم في الحكم والسياسة، سعيًا وراء التفوُّق على منافسيهم. وكان شوان حاكم دولة تشي أكثر هؤلاء الأمراء اهتمامًا بجذب المثقَّفين إلى عاصمته ليباهي بهم بقية الدول. وتذكر السجلات التاريخية أنه قد استضاف عددًا كبيرًا منهم، وبنى لهم البيوت وخصَّهم بالرعاية والعناية، وبرواتب كبار الموظَّفين دون أن يعهد إليهم بوظائف إدارية، وإنما اقتصرت مهامهم على تقديم المشورة للحكومة؛ وبذلك فقد تأسَّست في تشي أكاديمية علمية لعبت دورًا مهمًّا في الحياة الثقافية والسياسية لتلك الفترة.

تتلمذ منشيوس على يد بعض تلاميذ حفيد كونفوشيوس المدعو تزو تسو، وبعد أن نبَه ذكره رحل إلى دولة تشي وأقام في أكاديميتها، وكان له مع شوان الملك حواراتٍ مطولةً أوردها في كتابه، ثم غادرها وتجوَّل بين دويلاتٍ عديدة باحثًا عن حاكمٍ يتبنَّى أفكاره في الحكم الخيري (أو المحسِن) الذي كان يدعو إليه، فكان يلقى الحفاوة والترحيب أينما حلَّ، ولكنه لم يجد ضالَّته المنشودة؛ فقد تميَّز منشيوس عن العديد من المثقَّفين الذين أحاطوا بأمراء ذلك العصر، بأنه لم يكن يقدِّم المشورة التي تُرضي الأمير وتزيِّن له أعماله، وإنما المشورة الحَقَّة التي تصب في مصلحة الدولة والرعية وتصحِّح سلوك الحاكم. وهكذا آلَ به الأمر إلى ما آلَ إليه كونفوشيوس، وعاد إلى مسقط رأسه، حيث عكف مع تلاميذه على تأليف الكتاب المعروف باسمه، والذي يحتوي على محاوراتٍ جرت بينه وبين تلاميذه، أو بينه وبين الأمراء الذين أقام عندهم خلال تجواله. وقد عُد هذا الكتاب المرجع الثاني للكونفوشية بعد كتاب كونفوشيوس.

تتميَّز محاورات منشيوس عن محاورات كونفوشيوس بأنها أكثر طولًا وتفصيلًا، كما أن تعليقاته وآراءه تَرِد ضمن سياقاتٍ تفتقد إليها تعليقات وآراء كونفوشيوس التي يكتنفها الغموض في أحيان كثيرة؛ بسبب افتقادنا إلى المناسبات التي قيلت فيها؛ ولذلك فإن قراءة منشيوس جنبًا إلى جنب مع كتاب كونفوشيوس من شأنها أن تلقي ضوءًا على المواضع الغامضة لدى كونفوشيوس؛ فلقد طوَّر منشيوس العديد من أفكار كونفوشيوس ووصل بها إلى غاياتها الأخيرة، كما عالج مسائل جديدةً لم يتطرَّق إليها كونفوشيوس، نشأت بسبب اختلاف العصر واختلاف مشكلاته الفلسفية، وقدَّم ذلك كله بأسلوبٍ أدبيٍّ راقٍ قلَّ نظيره عند بقية فلاسفة الصين، فما الذي قاله منشيوس؟

الطبيعة الأصلية للإنسان

لم يتحدَّث كونفوشيوس عن الطبيعة الأصلية للإنسان إلا مرةً واحدة، عندما قال: «الناس متشابهون في طبيعتهم الأصلية، ولكن تُفرِّقهم عاداتهم وتقاليدهم»، دون أن نعرف المناسبة وراء هذا القول، وهذا يعني أن مسألة الطبيعة الأصلية للإنسان لم تكن مطروحةً أيام كونفوشيوس، ولكنها صارت موضوعًا خلافيًّا في أيام منشيوس، وتعاملت معه ثلاث نظريات؛ تقول النظرية الأولى إن الطبيعة الأصلية للإنسان ليست خيرةً ولا شريرة. وتقول النظرية الثانية إن الطبيعة الأصلية تحتوي على مَيلَين؛ مَيل إلى الخير ومَيل إلى الشر. وتقول النظرية الثالثة إن طبيعة بعض الناس خَيِّرة وطبيعة بعضهم شريرة.

وقد بنى منشيوس نظريته في الطبيعة الإنسانية انطلاقًا من نقده للنظرية الأولى التي قال بها الفيلسوف كاو تزو Kao Tzu الذي عاصر منشيوس، وكان لفلسفته رواج في ذلك الوقت. ومفاد نظرية كاو تزو هو أن الطبيعة الأصلية للإنسان تحتوي على مَيلَين فقط: وهما الشهية إلى الطعام والشهية إلى الجنس. وبما أن هذَين المَيلَين فطريان عنده لا مكتسبان، فمعنى ذلك أنه لا شر فيهما ولا خير، وإنما انصياغ لِمَا تفرضه الفطرة.

لم يُنكر منشيوس وجود هذَين المَيلَين، وإنما أنكر أن يكون هذان المَيلان هما كل الطبيعة الإنسانية؛ لأن هذه الطبيعة تتكوَّن من طبيعتَين؛ واحدة حيوانية يتشارك بها مع بقية أحياء الأرض، وتتألَّف من الميل إلى الطعام والمَيل إلى الجنس. وطبيعة إنسانية ينفرد بها ولا يمتلكها الحيوان، وهي التي يعنيها عندما يتحدَّث عن الطبيعة الأصلية للإنسان، وهي مصدر الخير عنده. أمَّا الطبيعة الحيوانية فعلى الرغم من أنها ليست طيبةً ولا خبيثة، إلا أنها يمكن أن تكون مصدرًا للشرور إذا لم يراقبها المرء ويتحكَّم بها. وقد قدَّم منشيوس في دفاعه عن هذه النظرية عددًا من الحجج، لعل أهمَّها ما أورده في الباب الثالث من كتابه، الفصل ٦، حيث يقول:

«كل البشر يتمتَّعون بقلبٍ رحيمٍ ومتعاطفٍ يأسى لعذابات الآخرين … وما أعنيه بقولي هذا يشرحه المثال التالي: لو أن أي إنسان رأى فجأةً طفلًا رضيعًا على وشك السقوط في بئر (وهو يزحف نحوها)، سيتحرَّك في داخله شعورٌ بالجزع والتعاطف، لا طلبًا للشكر والعرفان من أبوَي الطفل، ولا طمعًا في مديح جيرانه وأقربائه، ولا لنفوره من سماع صراخ الطفل.

ومن هنا يمكن القول بأن الذي لا يمتلك قلبًا رحيمًا متعاطفًا ليس بإنسان، وكذلك من لا يمتلك الشعور بالخجل، ومن لا يمتلك التواضع والكياسة، ومن لا يميِّز بين الصح والخطأ.

إن التعاطف هو (بذرة أو) بداية المرءوة١ والخجل هو بداية الصلاح (الاستقامة)،٢ والتواضع هو بداية قواعد الأدب والمعاملات،٣ والتمييز بين الصح والخطأ هو بداية الحكمة … فإذا استطاع المرء رعاية وتنمية هذه البدايات، فإنها تغدو مثل بداية اشتعال النار أو انبثاق ينبوع، وإذا أكمل رعايتها فسيغدو قادرًا على النهوض بأعباء حكم كل البلاد، وإذا فشل في ذلك فلن يكون قادرًا حتى على القيام بأعباء والدَيه» (منشيوس ٣: ٦).

إن مفتاح فهمنا لهذا الفصل من كتاب منشيوس هو استعماله لكلمة «فجأة» في وصفه لِما يشعر به المرء، عندما يرى طفلًا يزحف نحو بئرٍ ويوشك أن يقع فيه؛ فالشعور بالجزع والتعاطف قد حصل بشكلٍ تلقائيٍّ ودونما تفكير؛ ولذلك لا يمكن إلا أن يكون تعبيرًا عن الطبيعة الأصلية الخَيِّرة عند الإنسان. ولكن هذا الإحساس الطيب الذي تولَّد فجأةً ليس إلا بذرةً أو بداية المروءة، وهو لن يتحوَّل مع بقية البدايات التي ذكرها منشيوس إلى فضائلَ ثابتةٍ إلا بالتطوير والتنمية، فتتفتَّح حسب قوله مثلما تتفتَّح الزهرة من البرعم، أو مثلما تنمو الشجرة من البذرة. ولكن لماذا يتوجَّب على الإنسان أن يسمح لهذه البدايات الأربع بالتفتُّح بدلًا من الغرائز الحيوانية التي تشكِّل الطبيعة الأخرى؟ وجواب منشيوس على ذلك هو أن هذه البدايات هي التي تميِّز المرء وتجعل منه إنسانًا حقًّا. وعلى الرغم من أن الفارق بين الإنسان والحيوان ضئيل، إلا أن الرجل النبيل يحافظ على هذا الفارق، بينما يهمله معظم عامة الناس.

على أن من يُهمل هذا الفارق بين الإنسان والحيوان ليس فاقدًا للطيبة الأصلية، ولكنه ضلَّ عنها بتأثير عوامل خارجية. وهنا يسوق منشيوس المثال التالي لتوضيح فكرته: «كانت الأشجار على جبل نيوشان تنمو بوفرة، وتزداد نماءً في الليل والنهار بماء المطر ورطوبة الندى فتُبَرعم وتُورق، ولكن لقرب الجبل من العاصمة فقد وقعت أشجاره تحت ضربات الفئوس، وراحت الماشية ترعى هناك حتى جعلته أجردَ، وظنَّ الناس أنه لم تكن فيه أشجارٌ قط، ولكن هل كانت هذه هي الطبيعة الأصلية للجبل؟»

«وكذلك الأمر فيما يتعلَّق بالإنسان الذي لا تخلو طبيعته الأصلية من الإحسان والصلاح، وإذا حدث ذلك فلأنه ضلَّ عن طبيعته الأصلية وصار مثل تلك الأشجار التي وقعت تحت ضربات الفئوس وفقدت رونقها الأصلي … وعندما يرى الآخرون ذلك سيعتقدون أنه لم تكن له طبيعة طيبة فقط. ولكن هل هذه هي طبيعته الفطرية؟ إنك عندما تُنمِّي شيئًا فإنه يكبر ويزداد، وبدون ذلك فإنه يذوي ويفسد.»

بين الواجب والمنفعة

من المهام التي أخذها منشيوس على عاتقه معارضة أفكار مو تزو، وهو في الفصل الأول من كتابه ينتقد بشكلٍ غير مباشر مبدأ مو تزو في المنفعة، القائم على أن كل ما هو نافعٌ صالح، وكل ما هو صالح نافع، وذلك من خلال حوارٍ جرى بينه وبين هوي ملك ليانغ الذي قصده منشيوس علَّه يجد عنده أذنًا صاغيةً لأفكاره في الحكم والسياسة؛ فقد بدأ الملك حديثه بقوله: «لقد قطعتَ إلينا مسافةً طويلةً جدًّا، ولا بُدَّ أنك جئت لتعرض علينا ما ينفع هذه الدولة.» فقال له منشيوس: «لماذا اختار جلالتكم الحديث عن المنفعة؟ لقد جئت لأعرض عليكم مسائل تتعلَّق بالحكم القائم على الصلاح والإحسان. عندما يسأل جلالتك: كيف أنفع مملكتي؟ ويسأل موظَّفوك: كيف ننفع أسرنا؟ ويسأل العامة والمثقَّفون: كيف ننفع أنفسنا؟ فإن كل من في الأعلى ومن في الأسفل سوف يتنافسون لتحقيق المنفعة، وتواجه المملكة الأخطار» (منشيوس ١: ١).

ومنشيوس هنا يتابع ما بدأه كونفوشيوس في نقد مبدأ المنفعة عندما قال: «الرجل النبيل يعمل بدافع الواجب الخلقي، والرجل الوضيع يعمل بدافع المصلحة.» على أن توكيد منشيوس على التمييز بين الدوافع الأخلاقية ودوافع المنفعة وحسابات الربح والخسارة، لا يعني وجود تناقضٍ تامٍ بين الدافعَين؛ فالإنسان الأخلاقي يعمل بدافع المنفعة وحسابات الربح والخسارة، ولكن عندما تتعارض المنفعة مع الفضيلة فإنه يضحِّي بالمنفعة لحساب الفضيلة. وبهذا الخصوص يقول: «السمك هو طبقي المفضل، وكذلك كف الدب، فإذا لم أستطع الحصول عليهما معًا فإنني أفضِّل كف الدب. الحياة هي ما أرغب به، وكذلك الصلاح، فإن لم أستطِع الحفاظ عليهما معًا اخترت الصلاح» (منشيوس ١١: ١٠).

يضاف إلى ذلك أننا عندما نطلب الفضيلة نجدها لأننا نبحث عن شيءٍ موجود في داخلنا وهو من طبيعتنا الأصلية، وتحقيقه لا يتطلَّب سوى بذل الجهد، أمَّا عندما نطلب المنافع مثل الثروة والجاه، فإن جهدنا وحده لا يكفي؛ لأن ما نبحث عنه موجود خارجنا، وتحقيقه يتوقَّف على عواملَ خارجية مثل الحظ والقدر (منشيوس ١٣: ٣). وبهذا المعنى قال كونفوشيوس من قبل: «هل المروءة بعيدة المنال؟ كلا، بل هي حاضرةٌ هنا والآن، متى طلبتها وجدتها» (كتاب الحوار ٧: ٢٩).

بُطلان مبدأ الحب الشمولي

لعل أكثر ما ناله مو تزو من نقد منشيوس هو مبدؤه في الحب الشمولي الذي لا تدرُّج فيه ولا تمييز، بل يُبذَل بالتساوي على الجميع، فيحبُّ المرء ابن جاره مثلما يحب ابنه، ويحب ابن البلدة الأخرى مثلما يحب ابن بلدته، ومواطن الدولة الأخرى مثل مواطن دولته؛ فمنشيوس يرى، كما يرى بقية الكونفوشيين، أنه من الطبيعي أن يحب المرء مواطني دولته أكثر ممَّا يحب مواطني الدولة المجاورة، ويحب مواطني بلدته أكثر ممَّا يحب مواطني البلدة المجاورة، ويحب أهل بيته أكثر ممَّا يحب مواطني بلدته، ولكنه يرى بالمقابل أن من لا يقدر على حب القريب لن يقدر على حب البعيد، والحب المتدرِّج يتوسَّع حلقةً فحلقةً حتى يشتمل على الجميع في النهاية، وذلك فيما يدعوه منشيوس بتوسيع دائرة الذات، أو توسيع دائرة الحب لتغدو دوائر متتابعةً يحتوي بعضها بعضًا. وعلى ما يقول في الباب الأول من كتابه: «دلِّل صغارك، ثم وسِّع هذا الدلال ليشتمل على كل الصغار. وقِّر المسنين في أسرتك، ثم وسِّع هذا التوقير ليشتمل على كل المسنِّين … لقد أفلح القدماء لخصوصة واحدة فيهم، وهي أنهم برعوا في توسيع دائرة عطفهم ورعايتهم» (منشيوس ١: ٧).

ولكن يبقى من الطبيعي بعد ذلك أن يحب المرء أبوَيه وأهل بيته أكثر من الجميع، وهذه عاطفةٌ فطريةٌ تتولَّد تلقائيًّا في النفس الإنسانية وهي جزءٌ من طبيعتها، أمَّا الحب الشمولي فأمرٌ يضاف إلى هذه الطبيعة من خارجها؛ ولذلك فقد دعمها مو تزو بمؤيداتٍ خارجيةٍ تتمثَّل في الثواب والعقاب الذي تفرضه السلطة السياسية والسلطة الإلهية، بينما يُفترض في الفضيلة أن تُبذل لذاتها ودون مؤيداتٍ خارجية، وإلا كفَّت عن أن تكون فضيلةً حقَّة.

فلسفة الحكم (الشعب يأتي أولًا)

في الباب الرابع عشر من كتابه يتقدَّم منشيوس بثلاثة أفكارٍ راديكالية تلخِّص فلسفته في الحكم والسياسة؛ فهو يرى أن الدولة تتألَّف من ثلاثة عناصر هي: (١) الأرض ومذابح آلهتها. (٢) الشعب. (٣) الحاكم. بين هذه العناصر يأتي الشعب في المقام الأول، وفي المقام الثاني الأرض ومذابح آلهتها، وفي المقام الأخير الحاكم؛ لذلك فإن من يكسب قلوب الشعب يغدو ملكًا، ومن يكسب قلب الملك يغدو أمير مقاطعة، ومن يكسب قلب أمير مقاطعة يغدو وزيرًا. فإذا فشل الحاكم في مهامه وجب استبداله، وإذا جرى تقديم القرابين لآلهة الأرض وفق الأصول وفشلت في منع الجفاف أو الفيضانات المدمِّرة، فإنها تُستبدل أيضًا (منشيوس ١٤: ١٤). وهذه أول مرة في تاريخ الفلسفة الصينية تطرح مسألة تنحية الحاكم بمثل هذه الجرأة والوضوح؛ فسلطة الحاكم لا تُستمد ممَّا يتمتَّع به من قوة، بل من حب الرعية.

وقد قال في موضعٍ آخر: «الملك تشيه Chieh والملك جو Zhou خسرا ملكهما لأنهما خسرا الرعية؛ وسبب خسارتهما للرعية هو أنهما خسرا محبتها. إذا أردت أن تظفر بالمملكة عليك أن تكسب قلوب الناس» (منشيوس ٧: ٩). وقد جاهر منشيوس بآرائه هذه أمام الحكَّام دون مواربة، على ما نرى في هذه المحاورة: «سأل شوان ملك تشي منشيوس عن الوزراء وكيف يكونون، فقال له منشيوس: عن أي نوعٍ من الوزراء تتحدَّث؟ قال الملك: هل هنالك أنواعٌ من الوزراء؟ أجابه منشيوس: نعم. هنالك وزراء ينتمون إلى السلالة الملكية وآخرون لا ينتمون إليها. قال الملك: إذن حدِّثني عن الوزراء الذين ينتمون إلى السلالة الملكية. قال منشيوس: إذا ارتكب الحاكم أخطاءً فادحةً على هؤلاء أن يعترضوا عليه، فإذا لم يُصغِ إليهم عليهم أن يخلعوه. وهنا اكفهرَّ وجه الملك وبدا عليه الاستياء، فقال له منشيوس: أرجو ألَّا تستاء مني يا مولاي؛ فقد سألتني وكان عليَّ قول الحق» (منشيوس ١٠: ٩).

ولم يجد منشيوس حتى في قتل الملك الفاسد جريمة؛ لأنه لم يسلك كملك، وبالتالي فقد تحوَّل إلى شخصٍ عادي، وقتله لا يُعد جريمة قتل ملك (وهو أمرٌ محرَّم في الثقافات الراقية)، وإنما إصدار حكم قضائي بالإعدام، على ما نقرأ في الحوار التالي:

«سأل شوان ملك تشي منشيوس: هل صحيح أن شانغ تانغ (أول ملوك أسرة شانغ) نفى وقتل شيا تشي (آخر ملوك أسرة شيا؟) وأن الملك وو حمل بجيشه على الملك جو (وتسبَّب في موته؟) أجابه منشيوس: هكذا تقول الأخبار. فسأله الملك شوان: وهل يحِل قتل الملوك؟ أجابه منشيوس: إن من يُفسد في الأرض خائنٌ لشعبه، والذي يعيق الفضيلة مخرِّب، وكلاهما منبوذ. لقد سمعتُ أن الملك وو نفَّذ حكم الإعدام بحق الملك جو لأنه ارتكب جريمة قتل الملوك» (منشيوس ٢: ٨).

وبين خلع الحاكم وقتله هنالك خيارٌ ثالث، وهو النفي الذي يترك فرصةً لمراجعة النفس والتوبة، على ما نقرأ في الحوار التالي:

«قال صن تشو لمنشيوس: لقد قام الوزير ين ين بنفي مَلِكه الجديد تاي تشيا إلى تونغ لافتقاده إلى الإحسان والصلاح؛ فسُرَّت الرعية بذلك، وعندما استعاد الملك طيبته أعاده الوزير إلى العرش فسُرَّت الرعية بذلك أيضًا. فهل يحق لوزيرٍ مهما كان فاضلًا أن ينفي سيده بحجة افتقاده للفضيلة؟ أجابه منشيوس: نعم؛ إذا كانت دوافعه إلى ذلك مثل دوافع ين ين وإلا عُدَّ مغتصبًا» (منشيوس ١١: ٣١).

أمَّا كيف يكسب الحاكم قلوب الرعية فمن خلال قيامه بأعباء واجبَين؛ الأول تجاه نفسه، والثاني تجاه الرعية. فواجبه تجاه نفسه يتلخَّص في إصلاح نفسه قبل أن يفكِّر بإصلاح الآخرين؛ لأن في صلاح الحاكم صلاحًا للرعية، وفضيلته تغدو نموذجًا يحتذيه الجميع (منشيوس ٨: ٥).

أمَّا واجبه تجاه الرعية فيتلخَّص في عنايته برخاء الناس، والرخاء هنا لا يعني بناء دولة رفاهية عند منشيوس، بل أن يكون كل رب أسرة قادرًا على تأمين الحاجات الأساسية لأسرته. وقد قدَّم منشيوس عبر كتابه وصفات عديدةً للحاكم من أجل إحلال الرخاء، ومنها قوله: «دع أشجار التوت تُزرع في أرضٍ مساحتها واحد مو ضمن سياج العائلة، ودع ربات البيوت يربين دودة القَز، وسوف يكون لدى المسنين أثواب حريرية يرتدونها. دع خمس دجاجات وخنزيرَين تُربَّى بعنايةٍ في مواسم تكاثرها، وسيكون لدى المسنين لحم يأكلونه. دع رب كل أسرة يزرع مائة مو من الأرض، وسيكون لدى كل أسرةٍ مؤلَّفة من ثمانية أفراد ما يكفي لمعيشتهم» (منشيوس ٨: ٢٢).

ولتحقيق هذه الغاية أشار منشيوس على الحاكم في أكثر من حوارٍ بألَّا يتدخَّل في مواسم العمل الزراعي؛ أي ألَّا يأخذ الرجال من حقولهم من أجل السخرة في المشاريع العامة أو المشاركة في الحروب، في الوقت الذي يتوجَّب عليهم فيه القيام بالعمل المنتج إبان موسمه. ومن ذلك قوله لهوي ملك ليانغ عندما شكا إليه تناقص عدد السكان في دولته: «إذا لم تتدخَّلوا في مواسم العمل الزراعي، صار لديكم من الحبوب أكثر من حاجتكم، وإذا احتطبتم في التلال والأحراش في الأوقات المناسبة، صار لديكم من الحطب أكثر ممَّا تحرقه مواقدكم؛ عند ذلك سيغدو كل فرد قادرًا على إعالة والدَيه في حياتهما، وتأمين جنازاتٍ لائقة لهما بعد مماتهما» (منشيوس ١: ٣).

ولكي يكسب الحاكم قلوب الرعية عليه أن يكون بمثابة الأب والأم لها؛ أي إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تقوم على أساسٍ شخصيٍّ وعلى أساسٍ أخلاقيٍّ أيضًا؛ فالإحسان الذي هو أول تجلٍّ للمروءة في السلوك يتجلَّى أولًا في علاقة المرء بأبويه: «محبة الوالدَين هي الإحسان» (منشيوس ٣: ١٥). وما على الحاكم أن يقوم به هو توسيع دائرة المحبة التي جمعته بأبوَيه لتشتمل على الرعية، وبذلك يتم التأسيس لِمَا يدعوه منشيوس بالحكم الخيري (المحسِن، الرحيم). والحاكم المحسِن لا غالب له في جميع البلاد، ويغدو ملكًا على الكل بمشيئة السماء (منشيوس ٣: ٥). ومن هنا جاء لقب ابن السماء الذي يُطلقه الكونفوشيون على الملك الفاضل المؤهَّل لتوحيد البلاد.

مثل هذا الحاكم ليس بحاجةٍ إلى شنِّ الحروب من أجل بسط سلطته على رعايا الدول الأخرى؛ لأن الناس سوف تتقاطر إليه من كل حدبٍ وصوب مثلما يتدفَّق الماء نحو المناطق المنخفضة، وتعطيه ولاءها عن طِيب خاطر؛ فحروب الحاكم المحسِن هي دومًا حروبٌ دفاعية، أمَّا الحروب الهجومية فينبغي ألَّا تُشَن إلا تحت شرطَين؛ الأول: أن تكون حملةً تأديبيةً تهدف إلى إسقاط طاغية فاسد استجابةً لرغبة رعاياه. والثاني: أن يتمتَّع من يشُن هذه الحملة بالسلطة الأخلاقية التي تخوِّله ذلك. وحول هذا الموضوع نقرأ في كتاب منشيوس أن أحدهم سأله عمَّا إذا كان قد شجَّع دولة تشي على شَن حربٍ ضد دولة يان، فأجابه منشيوس: كلا. كل ما في الأمر أن شن تونغ الوزير في دولة تشي سألني عمَّا إذا كان يصح شَن حملة عسكرية على دولة يان، فقلت له نعم يصح، ولكنه لو تابع سؤاله لي وقال: ومن يحق له القيام بمثل هذه الحملة؟ لأجبته: إنه الرئيس المفوَّض من قِبَل السماء. ولكن ما حدث فعلًا هو أن دولةً مثل يان في السوء قد شنَّت الحرب على يان، فلماذا أشجِّع هذه الحرب؟ (منشيوس ٤: ٨).

أفكار منشيوس السياسية هذه تأتي في انسجامٍ مع نظريته في أصل الدولة؛ فالدولة والمجتمع المنظَّم يقومان على العلاقات الإنسانية؛ المحبة بين الآباء والأبناء، العواطف المتبادلة بين الزوج والزوجة، احترام الصغير للكبير، الواجبات المتبادلة بين الحاكم والمحكوم … هذه العلاقات الإنسانية هي ما يميِّز البشر عن البهائم، والدولة مؤسَّسةٌ أخلاقية، وقد قامت لأنها كانت واجبة القيام، لا لأنها نافعة كما يقول مو تزو. ومثل هذه الدولة قامت في ماضٍ بعيدٍ على يد الملكَين ياو وشون.

مشيئة السماء والإنسان المتسامي

كان مفهوم مشيئة السماء خلال مطلع عصر أسرة تشو التي أسَّست للنظام الإقطاعي، نحو ١٠٢٧ق.م.، يعبِّر عن التفويض الذي منحته السماء للأسرة الملكية بحكم الشعب؛ أي إنها كانت مشيئةً أخلاقيةً ذات صلة بأقدار ومصائر الإمبراطورية. بعد ذلك تطوَّر هذا المفهوم في اتجاهَين؛ فقد تمَّ توسيع هذه المشيئة الأخلاقية لتشتمل على الأفراد أيضًا، وصار كل فرد مطالبًا بأن يكون أخلاقيًّا. كما أخذت مشيئة السماء تتطابق تدريجيًّا مع مفهوم القدر الذي يتحكَّم بمصائر الأفراد. ثم جاء كونفوشيوس فقصر مجال فعل القدر ومشيئة السماء على مسألتَين هما الحياة والموت، والثروة والجاه، فقال باختصار ودون مناسبةٍ معيَّنة: «الموت والحياة بيد القدر، والثروة والجاه بيد السماء.» ثم جاء منشيوس فألقى ضوءًا على مقولة كونفوشيوس المقتضبة هذه، وطوَّرها عندما قال: «هنالك شيء إذا بحثت عنه وجدته، وإذا غفلت عنه أضعته، وبحثك هنا ذو جدوًى لتحقيق النتيجة؛ لأن ما تبحث عنه موجودٌ في داخلك. وهنالك شيءٌ تستطيع البحث عنه بوسائلَ متعدِّدة، ولكن النتيجة متوقِّفة على القدر؛ لأن ما تبحث عنه موجودٌ خارجك» (منشيوس ١٣: ٣). أي إن مجال فعل القدر في حياة الإنسان يقتصر (كما يقول كونفوشيوس) على الحياة والموت والثروة وبقية الأمور المادية التي يتطلَّع إليها المرء. وهذه الأشياء موجودةٌ في خارجنا؛ ولذلك فإن تحقيقها لا يتوقَّف على مدى الرغبة فيها وسعينا في سبيلها، أمَّا تحقيق الكمال الداخلي فمؤكَّدٌ إذا بذل الإنسان غاية جهده لبلوغه؛ لأن بذور الفضائل مزروعةٌ في داخلنا إذا بحثنا عنها وجدناها. وقد توجَّه تلميذٌ بالسؤال إلى منشيوس قائلًا: يُقال إن كلَّ الناس يمكن أن يصبحوا مثل الملكَين الحكيمَين ياو وشون، هل هذا صحيح؟ فأجابه: نعم، لا يوجد صعوبة في ذلك، كل ما عليك فعله هو بذل الجهد (منشيوس ١٢: ٢).

وعلى الرغم من أن بعض تلاميذ كونفوشيوس قد بالغوا من بعده في التوكيد على سلطة القدر، إلا أن مساهمة منشيوس في مسألة القدر تتمثَّل في إيمانه بأن الإنسان يساهم في صناعة قدره بنفسه. فنحن لا نعرف ما سيأتي به القدر قبل وقوعه؛ ولذلك فلا يمكننا الوقوف مكتوفي الأيدي في انتظار النتيجة، بل نستمر في بذل الجهد حتى النهاية، فإذا أفلحنا، ألَا يكون موقفنا الإيجابي من القدر هو الذي دفع القدر في أحد الاتجاهَين؟ إن القدر هو انعكاسٌ لمقدار ما يبذله المرء في الحياة، وفي هذا يقول منشيوس: «من ينمِّي فضيلة القلب يعرف الطبيعة الإنسانية، ومن يعرف الطبيعة الإنسانية يعرف طريق السماء. على المرء أن يحافظ على طيبة القلب وينمِّي طبيعته لكي يتوافق مع طريق السماء. عليه ألَّا يقلِّب في ذهنه ما إذا سيموت شابًّا أم سيطول به العمر، بل أن يستمر في تحسين نفسه في انتظار ما سيأتي به القدر، وبذلك يكون صانعًا لقدره» (منشيوس ١٣: ١).

وفي قوله أعلاه: «من يعرف الطبيعة الإنسانية يعرف طبيعة السماء»، يصل بنا منشيوس إلى المرحلة الأخيرة من مراحل تطوُّر الشخصية الإنسانية، وهي مرحلة الإنسان الذي عرف طريق السماء وتوافق أو تطابق معها. وهذه المراحل كما يمكن أن نستنتج ممَّا سبق شرحه حتى الآن:

  • (١)

    مرحلة الإنسان الغرائزي المحكوم بمَيلَين فطريَّين هما الشهوة إلى الطعام والشهوة إلى الجنس. وفي هذه المرحلة يسلك المرء مدفوعًا بغرائزه دون تفكُّرٍ في عمله أو تقييم خلقي لِمَا يقوم به، وتكون المنفعة الشخصية دومًا نصب عينَيه.

  • (٢)

    مرحلة الإنسان الاجتماعي. في هذه المرحلة يكتشف المرء أن طبيعته تتكوَّن من طبيعتَين لا واحدة؛ الأولى: يشترك فيها مع الحيوان، وبالتالي هي طبيعة حيوانية لا إنسانية. والثانية: هي طبيعته الإنسانية التي إذا تعهَّدها بالرعاية تحوَّل إلى إنسانٍ طيب يعي مصالح الآخرين مثلما يعي مصالحه الخاصة، ولا يسعى لمصلحةٍ تضر بالآخرين.

  • (٣)

    مرحلة الإنسان المتسامي الذي يعي أن فوق المجتمع هنالك مستوًى آخر للوجود يحتوي على المجتمع ويتجاوزه وهو الكون، أو السماء التي هي القوة الأخلاقية العظمى. وهذا الوعي هو ما يدعوه منشيوس بمعرفة السماء. ومن يعرف السماء ويتطابق معها يغدو مواطنًا كونيًّا أو سماويًّا. وبذلك يكون منشيوس قد رفع الحاجز بين الأرض والسماء وبين القدر والطبيعة الإنسانية، وفتح قناة اتصال بين الجوهر الإنساني والسماء.

١  المروءة Ren، مصطلحٌ استخدمه كونفوشيوس، ويعني به الفضيلة العليا، أو أم الفضائل، التي تجعل بقية الفضائل ممكنة. وقد اخترنا كلمة المروءة كمعادلٍ لكلمة Ren؛ لأن هذه الكلمة مشتقة من «المرء» و«المرأة»؛ أي الإنسان. وقد ورد في القاموس المحيط أنها مِن مَرُو مروءةً فهو مريء؛ أي ذو مروءة وإنسانية. وورد في قاموس المنجد أن المروءة هي كمال أخلاق الرجولة.
٢  الصلاح أو الاستقامة (Righteousness Yi)، وتعني عند كونفوشيوس الأعمال التي تحمل موجباتها بذاتها دون إلزامٍ خارجي؛ أي أن تفعل الصواب لأنه صواب فقط.
٣  قواعد الأدب والمعاملات Li، وتعني في الأصل الطقوس التي عرفتها شعوب شرق آسيا؛ مثل طقوس القرابين للأسلاف، وطقوس الزواج والجنازات، ولكن المعنى اتسع ليشتمل على شكليات السلوك الاجتماعي وحسن التصرُّف في كل موقف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤