الفصل الثامن والعشرون

عندما تم الاستيلاء على البرج الأمامي أرسل الفارس الأسود إشعارًا بالحدث السعيد إلى لوكسلي، طالبًا منه في الوقت نفسه أن يُراقب القلعة مراقَبةً مكثَّفة؛ لمنع جمع المدافعين لقوَّتهم لهجومٍ مُفاجئ، واستعادة التحصينات الخارجية التي فقدوها. استغلَّ الفارس الوقت في إنشاء ما يُشبِه الجسر العائم، أو الطوف الطويل، آملًا أن يتمكَّن بواسطته من عبور الخندق المائي على الرغم من مقاوَمة العدو.

عندما اكتمل بناء الجسر، خاطَب الفارس الأسود المُحاصِرين قائلًا: «لا فائدة من الانتظار هنا أكثر من ذلك يا أصدقائي؛ فالشمس تهبط نحو الغرب، ولديَّ من المهامِّ ما لا يسمح لي بالتلكُّؤ معكم يومًا آخر. من أجل ذلك، فليذهب أحدكم إلى لوكسلي، ويأمره بالبدء في إطلاق السهام على الجانب المقابل للقلعة، والمضي قُدمًا كما لو كانوا على وشك الهجوم عليها؛ وأنتم، يا أصحاب القلوب الإنجليزية المُخلِصة، قِفوا معي، وكُونوا مستعِدِّين لدفع الطوف بالطول فوق الخندق عندما تُفتَح البوَّابة الخلفية من ناحيتنا. اتبعوني عبره ببسالة، وساعِدوني على تحطيم البوابة التي هنالك في الجدار الرئيس للقلعة. باسم الرب، افتحوا الباب وأنزِلوا الجسر العائم.»

فُتِحت فجأةً البوابة التي كانت تقود من الجدار الداخلي للبرج الأمامي إلى الخندق المائي، ودُفِع الجسر المؤقت إلى الأمام، وسرعان ما انزلق في الماء، مشكِّلًا ممرًّا زلقًا غير مستقر يسع رجلَين لعبور الخندق المائي جنبًا إلى جنب. واندفع الفارس الأسود بنفسه، يتبعه عن قربٍ سيدريك، فوق الجسر، ووصل إلى الجانب الآخر. حينئذٍ بدأ يضرب بوابة القلعة ببلطته، مُحتميًا بعض الشيء من سهام المدافعين وحجارتهم بأنقاض الجسر المتحرك السابق، الذي كان فارس الهيكل هدمه عند تراجعه عن البرج الأمامي، تاركًا ثقله لا يزال متصلًا بالجزء العُلوي من البوابة.

صاح لوكسلي: «باسم القديس جورج! اهجموا أيها اليوامنة الشجعان!»

عندئذٍ شدَّ قوسه الجيد، وأطلق سهمًا مباشَرةً اخترق صدر جندي، كان، وفقًا لتعليمات دي براسي، يأخذ قطعة حجر من أحد الأسوار ليُلقيَها على رأس سيدريك والفارس الأسود.

قال دي براسي: «أتتراجعون أيها الأوغاد الأنذال؟! بحق تل ماونت جوي حيث استشهدت القديس دينيس! أعطوني الرافعة!»

اختطفها وعاد لينقضَّ على القمة الحجرية المُخلخَلة التي كانت شديدةَ الثقل، لدرجة أنها كانت إذا أُسقطَت لا تُدمر فقط بقية الجسر المتحرك التي كانت تحمي المهاجِمَين اللذين كانا في المقدمة، بل أيضًا تُغرق الجسر العائم البسيط، المكوَّن من عارضاتٍ خشبية، الذي كانوا قد مرُّوا عليه. كانت القمة الحجرية الضخمة تتداعى بالفعل، وكاد دي براسي الذي كان لا يزال يبذل قصارى جهده أن يُنجز مهمته، لولا أنه سمع صوت فارس الهيكل بالقرب من أذنه قائلًا:

«كل شيء ضاع، يا دي براسي، القلعة تحترق.»

رد الفارس: «أجُنِنتَ لتقول هذا؟!»

«إن النيران تلتهم الجانب الغربي كله، ولقد كافحتُ بلا جدوى لإخماده. قُدْ رجالك للأسفل كما لو كنت تقودهم لهجوم، وافتح البوابة الخلفية. لا يوجد هناك سوى رجلَين على الجسر العائم، اقذفوا بهما في الخندق، وشُقوا طريقكم إلى البرج الأمامي. سأنطلق أنا من البوابة الرئيسة، وأُهاجم البرج الأمامي من الخارج. وإذا تمكَّنَّا من استعادة ذلك الموقع فتأكَّدْ من أننا سنُدافع عن أنفسنا حتى تأتينا النجدة، أو على الأقل حتى يمنحونا شروطًا عادلة.»

أسرع دي براسي إلى جمع رجاله، واندفع للأسفل إلى البوابة الخلفية التي فتحها على الفور، ولكن ما إن حدث هذا حتى تمكَّن الفارس الأسود بقوَّته الرهيبة من أن يشقَّ طريقه للداخل على الرغم من وجود دي براسي وأتباعه. على الفور سقط اثنان ممن كانوا في المقدمة، وتراجَع الباقون على الرغم من كل جهود قائدهم لإيقافهم.

قال دي براسي: «أيها الكلاب! أتتركون رجلَين يستوليان على سبيلنا الوحيد للنجاة؟ إن القلعة تحترق من خلفنا، أيها الأنذال! فليُعطِكم اليأسُ شجاعة، أو دعوني أتقدَّم! وسأُقاتل هذا البطل بنفسي.»

دوَّت في الممر المقبَّب الذي يؤدي إليه الباب الخلفي، والذي كان هذان المُحاربان المُثابران يتقاتلان فيه يدًا بيد، أصواتُ الضربات العنيفة التي يُسددها كلٌّ منهما على الآخر؛ دي براسي بسيفه، والفارس الأسود ببلطته الثقيلة. وفي النهاية، تلقَّى النورماندي ضربةً هوَت بعنفٍ شديد على خوذته، فسقط ممدَّدًا على الأرضية المُعبَّدة.

قال البطل الأسود: «استسلم يا موريس دي براسي، سواءٌ أكانت النجدة آتية أم لا، وإلا فلن تكون إلا قتيلًا.»

أجاب دي براسي بصوتٍ واهن: «لن أستسلم لمُنتصرٍ مجهول. أخبِرني باسمك أو افعل بي ما يحلو لك.»

همس الفارس الأسود بشيء في أذن المهزوم.

فردَّ النورماندي: «أُسلم نفسي أسيرًا حقًّا، سواءٌ أكانت النجدة آتية أم لا.»

قال المُنتصر بنبرةِ مَن له سلطان: «اذهب إلى البرج الأمامي، وانتظِر المزيد من أوامري هناك.»

قال دي براسي: «ولكن أولًا، دعني أخبرك بما يُهمك أن تعرفه. إن ويلفريد أوف إيفانهو جريح وسجين، وسيهلك في القلعة المُشتعلة إن لم يأتِه العون على الفور.»

صاح الفارس الأسود: «ويلفريد أوف إيفانهو! لن يبقى رجل في القلعة على قيد الحياة إن احترقت شعرةٌ واحدة من رأسه. أرِني غرفته!»

قال دي براسي: «اصعد ذلك الدَّرج المُتعرج هناك؛ فهو يؤدي إلى غرفته.»

كان إيفانهو قد استيقظ من نومه القصير بسبب ضوضاء المعركة، وكانت مُرافِقته، بِناءً على رغبته القلِقة، قد عادت إلى الوقوف عند النافذة لتُشاهد ما يحدث وتُخبره بمصير الهجوم. وفي النهاية، أدركا تفاقُم هذا الخطر الجديد من كثافة الدخان الذي تصاعَد في الغرفة، والصيحات المطالبة بالماء التي سمعاها تعلو حتى على صوت ضجيج المعركة.

قالت ريبيكا: «إن القلعة تحترق، إنها تحترق. ما الذي يُمكننا فعله لإنقاذ أنفسنا؟»

قال إيفانهو: «اهربي يا ريبيكا وانجِي بحياتكِ؛ فلن يقدر أي عون بشري أن ينفعني.»

ردَّت ريبيكا: «لن أهرب؛ إما أن ننجو معًا أو نهلك معًا، ولكن يا إلهي العظيم! أبي، أبي، ماذا سيكون مصيره؟»

في تلك اللحظة فُتِح باب الغرفة بعنفٍ، ودخل فارس الهيكل في هيئةٍ شنيعة؛ إذ كان درعه المَطلي بالذهب مكسورًا ومخضَّبًا بالدماء، وانتُزع جزءٌ من ريشته واحترقت جزئيًّا من عند خوذته. قال لريبيكا: «لقد وجدتكِ، وسأُثبِت لكِ أنني سأفي بوعدي بأن أشرككِ في السرَّاء والضرَّاء. انهضي واتبعيني على الفور!»

ردَّت ريبيكا: «لن أتبعك وحدي. إن لم يكن قلبك قاسيًا كدرع صدرك، فأنقِذْ أبي المُسِن، وأنقِذْ هذا الفارس الجريح!»

رد فارس الهيكل بهدوئه المُميز: «إن الفارس يا ريبيكا يجب أن يُواجه مصيره، سواءٌ جاءه على هيئة سيف أو نار؛ ومن يهتمُّ كيف وأين يُلاقي يهوديٌّ مصيره؟»

قالت ريبيكا: «أيها المُحارب الهمجي، إني أُفضِّل أن أموت في الحريق عن أن أقبل النجاة على يدَيك!»

«لن تختاري يا ريبيكا؛ فلقد خدعتِني مرة، ولكن لم يخدعني أحدٌ قط مرتَين.»

قال ذلك، وأمسك بالفتاة المُرتعبة التي ملأت الغرفة بصرخاتها، وحملها إلى خارج الغرفة على ذراعَيه دون أن يعبأ بصراخها، أو بتهديد إيفانهو له؛ إذ قال له بصوت كالرَّعد: «يا كلب الهيكل، يا وصمة عار في جبين طائفتك، أَطلِق سراح الفتاة! أيها الخائن بوا جيلبرت، إنه أنا إيفانهو من يأمرك! أيها النذل، سأشرب من دم قلبك!»

قال الفارس الأسود الذي دخل الغرفة في تلك اللحظة: «ما كنتُ لأعثر عليك، يا ويلفريد، لولا صرخاتُك.»

قال ويلفريد: «إن كنت فارسًا حقًّا فلا تُفكر فيَّ. لاحِقْ ذلك الخاطف. أنقِذِ الليدي روينا، وابحث عن سيدريك النبيل!»

رد الفارس ذو القُفل: «في دورهما، ولكن دورك يأتي أولًا.»

أمسك بإيفانهو وحمله بالسهولة نفسها التي حمل بها فارس الهيكل ريبيكا، وأسرع به إلى البوابة الخلفية، حيث سلَّم عبء رعايته لاثنين من الجنود، ثم عاد ودخل القلعة للمساعدة في إنقاذ السجينَين الآخرين.

في تلك الأثناء، كان أثيلستان قد تمكَّن من الهرب إلى فِناء القلعة، حيث كان فارس الهيكل الشرسُ جالسًا على صهوة جواده ومُحاطًا بالعديد من رجال الحامية. وكانت ريبيكا وسط تلك المجموعة الصغيرة، وأظهر بوا جيلبرت، على الرغم من الفوضى الناتجة عن القتال الدامي، اهتمامًا بسلامتها. لم يشكَّ أثيلستان في أن من يحملها الفارس ليهرب بها، على الرغم من كل المقاومة البادية، هي روينا.

قال: «أُقسِم بروح القديس إدوارد على أنني سأُنقذها من ذلك الفارس المُتكبر، وسيلقى حتفه على يدَي!»

لم يستغرق الأمر من قوة أثيلستان العظيمة سوى لحظة واحدة لكي يلتقط هَراوةً من فوق الأرض، وينقضَّ على عصابة فارس الهيكل، ويُطلق ضرباتٍ متتابعةً يَمنةً ويَسرة مُسقطًا مُحاربًا مع كل ضربة، وسرعان ما أصبح على مسافة ياردتين من بوا جيلبرت، فتحدَّاه بأعلى صوته قائلًا:

«استدِرْ يا فارس الهيكل الخائن! اترك من لست أهلًا لأن تلمسَها. استدِرْ يا عضوًا في عصابةٍ من القتَلة واللصوص المنافقين!»

قال فارس الهيكل وهو يعض على نواجذه: «أيها الكلب! سأُعلمك كيف تسبُّ طائفة هيكل صِهيَون المقدَّسة.» وبهذه الكلمات استدار بجواده نصف استدارة، وسدَّد ضربةً مروِّعة إلى رأس أثيلستان. كان سلاحه حادًّا للغاية، لدرجة أنه قصم الهراوة التي رفعها الساكسوني لتفادي الضربة، وهوى على رأسه فأسقطه على الأرض.

صاح بوا جيلبرت: «ها! حيَّ على الجهاد! إذن فليكُن هذا مصيرَ مَن يُهينون فُرسان الهيكل!» ثم صاح عاليًا: «فليتبعني كل من يرغب في النجاة لأنفسهم!» واندفع عبر الجسر المُتحرك، مُفرقًا الرُّماة الذين كانوا يهمُّون باعتراض طريقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤