الفصل التاسع عشر

فتح الحساء

إن خلاصة ما تقدَّم فيما يختص بالترك هي أنهم كانوا في عهد الدستور يناوئون العرب، وبالأخص مَن حاول أن يجمع كلمتهم ويوحِّد سياستهم؛ أي ابن سعود. فقد حرَّضوا عليه الشريف حسين، وابن الرشيد، وابن السعدون، واستغوَوا كذلك عشيرة من عشائره الكبرى هي مطير، ناهيك بالعجمان في الحساء وبحرب في أطراف الحجاز.

١٣٣١ﻫ / ١٩١٣م: أجل قد بلغت العداوات في بداية هذا العام أشدَّها، فسارع عبد العزيز إلى تحقيق ما كان يبغيه. خرج في شهر ربيع الأول من الرياض ورحلته الحساء، فنزل على ماء الخَفس حتى آخر الشهر، وأغار أثناء ذلك على عربان من بني مرة مذنبين فأخذ مواشيهم. على أن الغرض من هذه الإغارة لم يكن محصورًا بظاهره.

تقدَّم بعد ذلك إلى الحساء، فأرسل الأتراك يستطلعون خبره وقصده، فقال: «إنما قصدي الامتيار.» (شراء الأمتعة والزاد)، والحقيقة هي أنه ابتاع ما كان في حاجة إليه للجنود، وعاد إلى الرياض تاركًا عسكره في الخَفس.

وفي ذاك الحين وصل إلى عاصمة نجد قادمًا من الشام بطريق الجوف، رجلٌ إنكليزي اسمه لِيتشمن١ فسأله ابن سعود: «وما القصد من سياحتك؟» فأجاب قائلًا: «إني جغرافي وأريد أن تساعدني لأجتاز الربع الخالي من واحة جبرين إلى عمان.»
figure
الشقاديف لنقل الحجاج إلى مكة والمدينة، وقد أخذت تحلُّ محلَّها السيارات.

عبد العزيز: «إن قدومك إلينا على هذا الوجه خطأ، فلا علم لنا به ولا معك توصية من الحكومة البريطانية.»

ليتشمن: «إني رجل إنكليزي طالب علم، وأنتم مشهورون بإكرامكم الإنكليز خصوصًا العلماء منهم.»

لم يتأكد عبد العزيز حقيقة ما ادعاه الرجل، بل ظنَّ أنه يتجسَّس للترك، وبما إنه كان قد اعتزم الهجوم على الحساء، وكان قد خامر الترك بعض الرَّيب في أمره، رأى أن يستخدم هذا الجغرافي لإزالة ذلك الرَّيب، فيطمئن من الخصم البال، ويسير هو مطمئنًّا إلى غرضه.

لذلك قال: «لا يستطيع أن يُجيبَ طلبك غير الترك في الحساء، فأرى أن تذهب إلى المتصرِّف هناك. وأنا أكتب إليه بخصوصك.»

وممَّا قاله في كتابه: «إن هذا الرجل مجهول لدينا، وهو واصل إليكم فلكم فيما يبغي الرأي الموفق إن شاء الله.»

رحل ليتشمن، وبعد قليل شدَّ ابن سعود راجعًا إلى معسكره في الخفس، فكان أول ما باشره أن سعى في إبعاد العجمان؛ لأنهم ذوو مطامع سياسية في الحساء وقد لا يوافقون على احتلالها. وبما أنهم وعرب مطير «قوم» أعداء سيَّرهم إلى الشمال لمحاربتهم؛ لأنهم انضموا إلى عجيمي السعدون.

ثم زحف إلى الحساء فالتقى في الطريق بنجاب من حكومتها يحمل كتابًا إليه من المتصرف، وفيه الرجاء أن يُعلمه من أيَّة الجهات جاء الإنكليزي إلى الرياض، فقال ابن سعود للنجاب: «غدًا إن شاء الله أنا بنفسي أُعلِم المتصرف.»

ذكرت أهم الأسباب التي حملت ابن سعود على فتح الحساء، وهناك سبب آخر لا يقلُّ أهمية عما تقدَّم منها، فقد عجَّل في الأقل بنتيجتها. كان جمال باشا — جمال المشانق السورية بعينه — يومئذٍ واليًا في بغداد، وكان يجامل ابن سعود ويتظاهر بصداقته، فوعده بالسعي في حسْمِ الخلاف بينه وبين الشريف حسين، وسأله أن يُرسل مندوبًا إلى بغداد للمذاكرة في هذا الأمر.

أرسل ابن سعود رجلًا من رجاله العصريين هو أحمد بن ثنيان،٢ ولكن جوَّ السياسة العربية تغيَّر أثناء ذلك، فسطع فيه نورُ ابن الرشيد، وكان النور شبيهًا بوهج الأصفر الرنَّان. جُذِب الجمال إلى ابن الرشيد، وعندما وصل ابن ثنيان إلى بغداد وجده غير جميل، وسمع كلامًا لا جمال فيه ولا حكمة: «ابن سعود لا يعرف مقامه، وقد غرَّه أن صفح عنه المشير فيضي باشا، فإذا كان لا يقبل بما تطلبه الحكومة، فإن في إمكاني أن أخترق بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب بطابورَين — بطابورين لا غير.»
عاد أحمد يحمل هذا الكلام إلى عبد العزيز، فكتب عندما استمعه كتابًا إلى جمال أرسله بواسطة وكيله في البصرة عبد اللطيف باشا المنديل، وفيه هذه الكلمة:

قلتم إنكم تستطيعون بطابورين أن تخترقوا بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب. ونحن نقول أن سنقصر لكم الطريق، وذلك قريب إن شاء الله.

ثم كتب إلى عبد اللطيف المنديل: «إذا سألك الترك هل أنت مندوب ابن سعود فقل لهم إني عثماني.» وقد أشار بذلك خشية أن يلحق به ضررٌ بعد الهجوم على الحساء.

ولكن عبد اللطيف باشا لم يعمل بإشارة موكِّله، فلم يُنكر أنه نجدي أو وكيل ابن سعود، وقد قال للأتراك: «قد جهلتم قدْرَ هذا الرجل، وها هو الآن يعرِّفكم بنفسه.»

وصل ابن سعود إلى أطراف الحساء، ولم يكن له فيها معاونون غير وكلائه أبناء القصيبي ويوسف بن سويلم. فسألهم أن يُعلِموه بالمكان المناسب للهجوم على الكوت٣ ففعلوا، وأعلموه بما هناك من الصعوبات، لعلوِّ السور ووجود الحرس فأرسل إليهم يقول: «إننا هاجمون في هذه الليلة، وكل صعب مسهَّل بحول الله.»
كان عبد العزيز قد نزل على عين من عيون الأحساء تبعد ميلًا واحدًا من الهفوف، وفي الساعة الثالثة ليلًا (١٠ إفرنجية) في ٥ جمادى الأولى من هذا العام (١٣ نيسان ١٩١٣) خرج من المعسكر بستمائة من رجاله وخطب فيهم قائلًا:

إننا هاجمون على الترك في الكوت، وإننا منتصرون بإذن الله، امشوا كأنكم بُكمٌ إلى غرضكم، ولا تضجوا. إذا كلَّمكم أحد فلا تجيبوه، حتى وإن ضُرِبْتم بالبنادق ونحن في الطريق فلا تضربوا. أما وقد صرتم في الكوت فحاربوا مَنْ حاربكم ووالوا مَن والاكم، ولكن البيوت لا تدخلوها والنساء لا تدنوا منهنَّ.

قال ذلك ومشى أمامهم، ساروا على الأقدام، وهم يحملون جزوع النخل والحبال، فلما وصلوا إلى السور قسَّمهم ثلاث فرق، فقال للفرقة الأولى: «أنتم تسيرون إلى الباب الجنوبي فتقبضون على الحرس وتستولون على الباب وما يليه.» وللفرقة الثانية: «وأنتم تسيرون إلى السرايا علَّ المتصرف فيها فتأسرونه.» وللفرقة الثالثة: «وأنتم تتفرقون في أبراج السور، هذي هي أوامري فاعملوا بها، ولا تتعدوها.»

باشر أناس حزم الجزوع بالحبال، فصنعوا منها سُلَّمًا تسلَّقه عشرة من ذوي الشجاعة والإقدام، ثم رموا بالحبال إلى العساكر فصعدوا ساكنين ونزلوا إلى الكوت متسلِّلين، والحرس يسألون: مَن أنتم؟ فلا يجيبهم أحد.

وكانت كلُّ فرقة عند اكتمالها داخل السور تسير إلى الجهة المعينة لها، ولكن هذا العمل لم يتمَّ دون أن يحدث ضجة في الحصون وفي المدينة. أفاقت العساكر والأهالي من النوم، فاستولى عليهم الخوف والذعر، وهم لا يدرون مَن الهاجمون، علَت الأصوات، وأُطلِقت البنادق، فأمر إذ ذاك عبد العزيز أحد رجاله أن يصعد إلى السور ويعدو عليه مناديًا: «الملك لله ثم لابن سعود، مَن أراد العافية يلزم مكانه.»

نادى المنادي بذلك فاستبشر الناس، وكانوا يهتفون كبارهم وصغارهم: أهلًا وسهلًا! سمعًا وطاعة! بل جاءوا بالمياه إلى العساكر كأنهم إخوانهم وقد عادوا من سفر.

أما عبد العزيز فكان لا يزال خارج السور، فأراد أن يتسلَّقه، فأبى عليه ذلك مَن تبقَّى معه من الجنود، فهدموا جانبًا منه، فدخل ودخلوا معه. وكان الحرس قد لجئوا إلى القلعة، وأهل الكوت، بعد أن سمعوا صوت المنادي، قد خرجوا من بيوتهم، فجاءوا يرحِّبون بابن سعود ويعاهدونه على الطاعة والولاء.

ثم جاء عندما أصبح الصباح مَن تبقَّى من الأهالي — جاءوا يبايعون مثل مَن تقدَّمهم — فأكرمَ محسنَهم وعفا عن مسيئهم.

كل ذلك والأتراك تلك الليلة في حصونهم قابعون، وقد كان لهم أربعة في الهفوف وخارجها؛ اثنان داخل الكوت، وحصن إلى الجنوب، وآخر إلى الشمال في المبرز. فعندما أبلج الفجر شرعوا يُطلقون البنادق والمدافع من تلك الحصون طلقات أفصحت عن الذعر الذي كان مستوليًا عليهم، فلا أضروا بأحد ولا روَّعوا أحدًا.

وعند الظهر جاء جندي من جنود ابن سعود بأسير من الترك وهو ضابط طاعن في السن، فأرسله عبد العزيز رسولًا إلى المتصرف وإلى قائد الحامية.

– «قل لهم يسلموا إذا كانوا يبغون العافية، ونحن نؤمنهم ونرحِّلهم إلى بلادهم، أما إذا أبَوا فليستعدوا للقتال سنهاجمهم في مراكزهم ساعة هاجمنا البلد الليلةَ البارحةَ.»

قبِل المتصرِّف والقائد الأمان، ثم سلَّمت الحامية التي كان عددُها ألفًا ومائتي جندي، فأذن عبد العزيز حتى بسلاحهم قائلًا: «لا ننزع من الجندي العثماني سلاحه.» أما المدافع والذخائر فظلَّت مكانها في الحصون.

ثم جهَّزهم بالركائب ورحَّلهم وعائلاتهم. ألفٌ ومائتا جندي بعيالهم وأمتعتهم ساروا من الهفوف إلى العقير وليس معهم مَن يخفرهم ويؤمِّن طريقهم غير رجل واحد من رجال ابن سعود هو أحمد بن ثنيان مندوبه السابق إلى جمال باشا، وعندما وصلوا إلى العقير جهَّزهم أحمد بسفن تقلُّهم إلى البحرين.

بعد احتلال الهفوف أرسل عبد العزيز سرية إلى القطيف بقيادة عبد الرحمن بن سويلم، فلما وصل إلى تلك الناحية بادر أهلها إلى التسليم، ولم يكن للترك في القطيف غير شرذمة من الجنود، ففرُّوا في السفن هاربين.

أما العساكر الذين كانوا في الحساء فعند وصولهم إلى البحرين وجدوا مَن يزيِّن لهم الرجوع إلى العقير، ويشجعهم عليه، علَّهم يسترجعون القصر٤ هناك، وقد ظفر فريق مهم بمركب لآل بسام كان يحمِّل تمرًا فركبوا فيه وعادوا إلى العقير، فهجموا ليلًا على القصر، فردَّتهم الحامية خائبين، ثم هجموا على مركزَين آخرين، كان في الواحد منهما ثلاثون رجلًا فهزمهم الأتراك واحتلُّوا مركزهم.

بلغ الخبر عبد العزيز وهو في الهفوف، فشدَّ الرحال وسارع إلى العقير، فوصلها في الساعة الثانية من الليل، ولكنه كان قد سيَّر كوكبة من الخيل، فوجدت عند وصولها أن السرية التي كانت في القصر قد هجمت على الترك في المركز الذي احتلوه فهزمتهم وأسرت منهم ثلاثين.

أخلى عبد العزيز سبيل هؤلاء في اليوم التالي وأركبهم البحر.

ثم كتب إلى الشيخ عيسى آل خليفة أمير البحرين وإلى الوكيل السياسي لبريطانية العظمى هناك يلومهم على ما بدا منهم، فقال: «أيليق بكم تحريض العدوِّ علينا ونحن أصدقاؤكم، فإذا كنتم لا تتلافَون مثل هذه الأعمال وتمنعونها فالتبعة فيما قد يعقبها هي عليكم.»

جاءه الجواب دون إبطاء، وفيه أن العساكر ركبوا السفن من البحرين قاصدين البصرة، وقد رجعوا إلى العقير دون علمٍ من الحكومة أو الوكالة.

أما الحقيقة فهي أنَّ آل خليفة والوكيل الإنكليزي خشوا أن يتقدَّم ابن سعود إلى داخل الخليج في فتوحاته، فأقدموا على عمل كان التسرُّع فيه أظهرَ من العداء.

١  هو Col. Gerard I.eachman الذي عُيِّن بعدئذٍ مستشارًا في حكومة العراق، وقد قُتِل هناك بين فالوجة وبغداد في ١٢ أغسطس سنة ١٩٢٠، قتله عمدًا وانتقامًا خميس بن ضاري المحمود من قبيلة زويع.
٢  تُوفِّي في الرياض سنة ١٩٢٣.
٣  الكوت جهة من الهفوف فيها القلعة والحامية.
٤  القصر مقرُّ الأمير هو غالبًا الحصن، أو الحصن هو غالبًا في القصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤