الفصل الرابع والثلاثون

الإخوان في العراق

عندما وصل سعود الكبير سنة ١٢٠٥ / ١٧٩٠، إلى الجبل والجوف في فتوحاته، دخلت شمر إلَّا قليلًا منها في المذهب الوهابي لخلوِّه من الزيادات في العبادات، وأملًا بالتخلُّص من الحكم العثماني. على أن أبناء الجبل لا يشبهون في النزعة الدينية أهل العارض، فلم يؤثر المذهب الجديد في عصبيتهم الشمرية، ولا أثَّر فيها النزوح الأول إلى العراق، عندما أجلَى ابن سعود «الجربا» وعشيرته من الجبل، في العقد الأخير من القرن الثامن عشر.

ظلت شمر من أكبر قبائل العرب عدًّا، وأرسخهم في القومية، وأبسلهم في القتال. وقد كانت في الشطر الثاني من القرن التاسع عشر ركنَ ملك ابن الرشيد، ونارَ علمه، وآيةَ عزِّه ونصره.

أما الدعاية المذهبية في الجبل في بداية هذا القرن، فقد اختلفت بأمرين عمَّا سبقها في بداية القرن الماضي، أو أنها تنزهت عن أمر هو ديني وتخلَّصت من آخر هو سياسي. لم يكن في الجبل مَن يكره الناس بالمذهب الوهابي الحنبلي في حملاته الفظيعة على «المشركين»، ولم يكن للدولة العليَّة في الربع الذي ولَّى من هذا القرن، ما كان لها من الشوكة في الممالك العثمانية، ومن الهيبة والنفوذ في العالم الإسلامي، فلم تتمكن السياسة التركية الإسلامية من مقاومة الدعاية الوهابية؛ خصوصًا لأن تلك الدعاية كانت في الإجمال سلميَّة، فقد مشى المطاوعة إلى الجبل قبل أن يزحف إليه الإخوان.

وعندما كثرت الهجرة إلى العراق، خصوصًا من قبيلة عبدة الشهيرة، بسبب ما تكرَّر في بيت الرشيد من الجرائم السياسية الفظيعة، تعدَّدت عوامل التفكك في شمر، فضعفت تلك العصبية التي كانت ركنَ الجبل وسيف ابن الرشيد، ولم يحلَّ محلَّها عصبيةٌ مذهبية؛ لأن أهل الجبل لا يغالون في الدين كما قلت مثل أهل العارض.

ولكن السياسة كانت تستثمر ما تبقَّى من العصبيَّتَين، فالذين فروا من الجبل إلى العراق، قبل حصار حائل، دخلوا هناك في العشائر المعادية لعشائر نجد واشتركوا في الإغارات التي تكرَّرت عليها. والحق يُقال: إن الفوضى أثناء الحصار ضربت على حدود العراق أطنابها، فعجزت عن مكافحتها حكومةُ بغداد الجديدة الضعيفة، وشُغِلت حكومة نجد عنها في الحرب.

أجل، قد تكررت الإغارات من العشائر بعضها على بعض، وكان عربان المنتفق والظفير يسطون خصوصًا على عشائر نجد، فكتب السلطان عبد العزيز إلى حكومة العراق يسترعي نظرها للأمر، ويطلب أن يُردَعَ الأشقياء، وتردَّ المنهوبات التي نُهِبت من عشائره.

أما هذه المنهوبات فكان أكثرها عند الظفير، وشيخها نافر من تلك الحكومة الجديدة بل خارج عليها، فلم تملك قيادة ولا كان لها في عربانه الأمر المطاع، وقد كان ابن صويط على عداءٍ قديم وابن السعدون يوسف بك المنصور، والاثنان عدوان لابن سعود، فقامت حكومة العراق تُنفِّر في سياستها واحدًا منهما إليه.

قال السر برسي كوكس١ في تقريره إلى الحكومة البريطانية: «لم تكن العلاقات حسنة بين حكومة العراق وشيخ الظفير حمود بن صويط، وقد أمسكتْ عنه المشاهرات؛ لأنه لم يردع عشائره عن الغزو والاعتداء … ومن سوء الحظِّ أن الملك فيصلًا عيَّن في هذا الوقت يوسف بك السعدون قائدًا لفرقة الهجَّانة على الحدود، وبينه وبين ابن صويط عداءٌ قديم، فأهاج ذلك خاطر شيخ الظفير الذي رحل إلى الرياض. وقد كتبتُ إلى ابن سعود أسأله ألَّا يستقبلَه؛ لأن حكومة العراق غير راضية عنه».

ولم يكن ابن سعود راضيًا عن حكومة العراق؛ لأن تعيين يوسف بك السعدون قائدًا لفرقة الهجانة لم يكن على ما يظهر للدفاع فقط، بل شملت مهمته النظر في شئون البوادي التي تسرح وتمرح على حدود البلدين نجد والعراق.

ولأسباب أخرى قد رحَّب السلطان عبد العزيز بشيخ الظفير ابن صويط عندما جاءه مستغفرًا، وأعطاه الأمان على شرط أن تردَّ عربانُه كلَّ ما نهبت من أهل نجد، وألَّا يشمل العفو غيرهم من المذنبين، ثم أجزل له العطاء، وأرسل معه أحد رجاله عبد الرحمن بن معمر للتأمين، ولجمع الزكاة من أهل الظفير المستسلمين.

وفي جمادى الثانية من عام ١٣٤٠ / فبراير ١٩٢٢، نقل يوسف بك السعدون بفرقة الهجانة إلى أبي الغار، على مسير يوم من سوق الشيوخ غربي سكة الحديد بين البصرة والناصرية، فزاره المتصرِّف هناك وأمر العربان بألَّا يؤدُّوا الزكاة إلى ابن سعود.

أما ابن سعود فعندما علم بمَمْشى السعدون أمر فيصل الدويش في الأرطاوية بأن يمشي إلى الحفَر، ويعسكر هناك للدفاع عن عشائر نجد.

وكان ابن صويط قد بدأ ينفِّذ في عربانه أوامر ابن سعود، فعصاه واحد من المتقدِّمين فيهم اسمه أبو ذراع، وخرج إلى آل طوالة، من شمر العصاة، وشرع يشنُّ الغارات وإياهم على عشائر نجد. علم الدويش بذلك، وهو على الحفَر، فشدَّ على ابن طوالة وأبي ذراع.

وكان يوسف بك السعدون قد زحف بهجَّانته على ابن صويط ومن معه من رجال ابن سعود، فنزل ليلة ذاك النهار في مكان قريب من مناخ أبي ذراع وابن طوالة.

هجم الدويش على هذين الزعيمَين ورجالهما فغلبهم وغنم أموالهم، فبادرت هجَّانة يوسف بك إلى الدفاع عن المغلوبين، فما عتموا أن صاروا مثلهم. ضربهم الدويش دفاعًا، فانقلب الدفاع هجومًا؛ لأن الإخوان المنتصرين ظلُّوا ماشين إلى أبي الغار، فدخلوها في ١١ مارس ونهبوها، ثم تأثَّروا جيش السعدون فأدركوه في شقرة، التي تبعد عشرين ميلًا من أبي الغار إلى الجنوب، فضربوه ضربةً ذهبت بأكثر أولئك الهجانة وشتَّت الباقين، وقد خيَّم الإخوان في تلك الناحية بضعة أيام، فضجَّت كربلاء والنجف، ضجَّ العراق بأجمعه.

على أن الحكومة الإنكليزية فعلت بالدويش وجنوده ما فعلته سابقًا في الصبيحية بالكويت. أرسلت عليهم الطيارات، ومن الطيارات القذائف المدمِّرة المبدِّدة.

ثم تبادل المندوب السامي السر برسي كوكس والسلطان عبد العزيز رسائل الأسف. قال حضرة المندوب: «لا تؤاخِذوا طياراتنا، ولكن لا مبرِّر لهجوم الإخوان على عشائر العراق.»

وقال عظمة السلطان: «لا تؤاخذوا الإخوان، ولكن التبعة على الحكومة التي لا تستطيع أن تكبح جماح العشائر ضمن حدودها. هذا جزاء الضعف والإهمال.»

وبعد هذا الحادث عُقِد مؤتمر المحمرة لتسوية الخلاف بين البلدين، فحضره أحمد بن ثنيان من قِبَل السلطان عبد العزيز ومندوبان من قِبَل الحكومة والمفوَّضية في بغداد، ولكن السلطان لم يصدِّق على ما قُرِّر هناك، فعُقِد المؤتمر الثاني بعد بضعة أشهر في العقير.

١  Sir Percy Z. Cox عندما أُعلِنت الحرب العظمى انتُدب السر برنسي كوكس رئيسًا للحكام السياسيين لفرقة D من الحملة الهندية لفتح العراق، ثم عُيِّن بعد ثورة ١٩٢٠ مندوبًا ساميًا لحكومة بريطانية العظمى في العراق. راجع «ملوك العرب» الجزء الثاني صفحة ٣٣٥ وما يليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤