الفصل الثاني والأربعون

الآباء يأكلون الحِصْرم

في الحديث الذي دار على الهاتف بين مكة وجدة يوم الانقلاب رفض الملك حسين بتاتًا أن يتنازل لابنه علي. ويذكر القارئ قوله: إذا كنت أنا لا أنفع فعليٌّ لا ينفع. وقوله: خير ابني وشرُّه عائدان لي. والأصح أن تُعكَس هذه الكلمة، فإن خير الحسين وشرَّه عائدان لأبنائه، وخصوصًا في هذا الموقف لعلي. الآباء يأكلون الحِصْرم والأبناء يضرسون.

أما إذا كان قد أشفق الوالد على ولده من هذا الإرث المهلِك الذي يدعي الملك الهاشمي، فكلمته ثمرة عرفان يكاد يكون وحيًا، وإشفاقه زهرة إحسان طيبة، إنها في هذه الحال الغريزة الأبويَّة التي قلَّما تخطئ في حسِّها.

أقام الملك عليٌّ أسبوعًا في مكة، فأدرك أن قوات الدفاع لديه لا تكفي لردِّ جيش نجد ناهيك بغلبته، بل رأى جنوده مشتَّتين شاردين، ولم يبقَ منهم غير مائتين كانوا في الدفاع متردِّدين.

١٣٤٣ﻫ / ١٩٢٤-١٩٢٥م: وكان الإخوان قد وصلوا في ١٥ ربيع الأول  (١٤ أكتوبر) إلى قرية الزيمة التي تبعد ست ساعات عن مكة، وهم مصمِّمون على الحصار١ فانسحب الملك علي ليلة ذاك اليوم بنحو مائتين من الجنود ومائتين من الشرطة، ووصلوا في صباح اليوم التالي — الأربعاء — إلى سهل جدة، يوم كان الشريف حسين يتأهَّب للرحيل، ولكن عليًّا ظلَّ خارج المدينة فلم يجتمع بوالده، ولا كان من المودِّعين.

وفي ليلة اليوم الذي دخل فيه إلى جدة؛ أي في ١٧ ربيع الأول، وصلت شراذم من الجيش النجدي إلى مكة، ثم مشى في صباح اليوم التالي الشريف خالد يقود بقية الجنود، فدخلوها مُحرِمين، وطافوا، وسعوا، واستولوا بعد فكِّ الإحرام على البلد المقدس، وهم ينادون فيه: الأمان الأمان!

لو استمرت يومئذٍ القيادة في الزحف غربًا لدخلت جدة بسَرِية واحدة صغيرة دون أن تلقى من الحكومة فيها أو من الأهالي أقلَّ مقاومة، ولكنها وقفت في مكة عملًا بالأوامر العالية التي كانت مجهولة في جدة؛ لذلك استحوذ على الناس وعلى الحكومة الذعرُ والخوف وكان الكثيرون حتى من الجنود ينتظرون الباخرة الأولى للفرار.

ولكن الباخرة الأولى التي وصلت في ١٩ ربيع الأول من العقبة كانت تحمل إلى الملك عليٍّ نجدةً من شرقي الأردن جاءت «رضوى» تقلُّ كتيبة من الجنود عددُهم ثلاثمائة، ومائة من عرب شمر النازحين إلى الشرق العربي، بقيادة أمير اللواء تحسين باشا الفقير، وقد جنَّدهم الأمير عبد الله بمساعدة بعض الأنصار في فلسطين. أنعشت هذه النجدةُ آمالَ الملك علي، وشدَّت أزْرَ جنوده المهزومين، إلَّا أنها لم تغيِّر في نفسية المدينة، ولا أضرمت في الأهالي شيئًا من الحماس.

– الإخوان جايون، والجنود منهزمون، وعليٌّ متأهب للرحيل. فما لنا إذن غير التسليم، وخير البر عاجله. تألَّف لذلك وفدٌ ليذهب إلى مكة فيفاوض القائدَين سلطانًا وخالدًا في شروط الصلح، وكان الملك عليٌّ عالمًا بذلك، فسافر في ٢ ربيع الثاني الوفد المؤلف من عشرة من وجهاء جدة وبعضهم من المناوئين لبيت الحسين. هؤلاء، عند وصولهم إلى مكة، بايعوا ابن سعود «دينوا». وقد عاد الوفد يحمل شروط الصلح وهي: خلع الملك علي وإخراجه من البلاد، أو إجباره على الخروج من المدينة للحرب.

لم يكن شيء من ذلك، ولكن القيادة النجدية انتفعت ولا ريب بمجيء هذا الوفد، فعلمتْ أشياء كانت تجهلها. وممَّا لا ريب فيه أن جلالة الملك كان شديدَ الرغبة في مصالحة ابن سعود وموالاته، فقد أرسل بعد أن بويع بالملك برقية عن طريق البحرين إلى السلطان عبد العزيز جاء فيها: «إن أقصى رغبتي أن يسود السلام في الجزيرة، وأن تعود السكينة ما بين نجد والحجاز، وإني باسط لك رأيي في السَّلْم، ومقترِح عليك عقْدَ مؤتمر للرجوع إلى إتمام المفاوضات التي بدأت في مؤتمر الكويت ولإزالة بواعث الخلاف.»

على أنه اشترط في عقد المؤتمر جلاء الجنود النجدية عن الحجاز، فأجابه السلطان بالإيجاز: «إن شروطي الأخيرة هي أن لا صلحَ بيننا ما دام أبناء أبيكم يتوارثون الملك في الحجاز. وأنتم تعلمون أن الحجاز للعالم الإسلامي، فلا ميزة لطائفة من المسلمين على طائفة أخرى.»

وكان الحزب الوطني الحجازي برئاسة الشيخ محمد الطويل — ناظر الجمارك يومئذٍ — قد أصدر بلاغًا عامًّا يُنبئ بخلع الحسين، وبيعة الملك علي على أن يكون مَلِكَ الحجازِ فقط، وأبرق إلى جمعية الخلافة في الهند يقول: «قد أرسل الحجازيُّون كتابًا رسميًّا إلى الإمام ابن سعود وطلبوا منه أن يُرسِل مندوبًا لعقد الصُّلْح. إن الحجازيين بعد نشرهم هذا الإعلان العام يلقُون تَبَعة ما يحدث على عاتق العالم الإسلامي، إذا كان لا يسعى لتخليص الأرض المقدسة وأهلها، ويمنع جند نجد من التقدُّم.»

أما العالم الإسلامي الذي كانت تمثِّله يومئذٍ لجنة الخلافة — حسب ادعائها — فقد أبرق باسم رئيسها شوكت علي إلى سلطان نجد يُخبره ببرقية أهل الحجاز وبلاغهم، ثم يقول: «إن مسلمي الهند لا يوافقون على بقاء الشريف حسين ولا أبنائه في الحجاز، وإن حكومة الحجاز يجب أن تكون حكومة ديمقراطية حرة، خاضعة لرأي العالم الإسلامي، وإن جمعية الخلافة لا تعترف بإمارة الشريف علي.»

ولكن المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين، الذي كان قد أبرق إلى السلطان عبد العزيز متوسطًا بالسلْم بينه وبين الملك حسين، لم يكن من رأي العالم الإسلامي، وقد أرسل السلطان إلى سماحة المفتي رئيس المجلس الجواب الآتي:

أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

يحزننا أن تكون جاءت وساطتكم في وقت متأخر، فإنَّا منذ سبع سنين نتوسل بجميع الوسائل لإحلال الصلح والوفاق محلَّ الجفاء والشقاق فلم تُثمر مساعينا. وكنا كلما لِنَّا للحسين تجافَى. فتصريحاته المتكرِّرة في شرقي الأردن التي تُبرهِن عن نواياه الأكيدة في بلادنا، ومنعه رعايانا ست سنين من أداء فريضة الحج، وحركاته المستمرة فِتَنُها في بلادنا من عسير وغيرها، ومعاملته كافَّة حجاج بيت الله، وعجزه عن تقرير الأمن في الحجاز، مما أجبرنا أن نتَّخذ التدابير الفعَّالة لتستقر الحالة في بلاد الحرمين، وليأمن مستقبل بلادنا. وإنا نرغب في وجود إدارة في الحجاز تكفل حقوق جميع المسلمين بوجه المساواة، وتضمن راحة الحجاج، وتُزِيل عنهم المظالم كلَّها.

بعد هذه البلاغات والتوسطات والجوابات، رأى الملكُ عليٌّ أن يغيِّر اللهجة فيما أبرقه إلى ابن سعود، خصوصًا أن نجدات أخرى صغيرة تَلَتِ النجدة الأولى من الشرق العربي، فكتب إليه هذه المرة يقول: إنه مستعدٌّ للحرب ويمكنه إخراج جنود نجد من مكة إذا رفضت حكومة نجد الصلح. وكان جواب السلطان واحدًا وما تقدمه: «الحسين مسئول عن الحالة. ويجب إخلاء الحجاز من أولاد الحسين. وانتظار حكم العالم الإسلامي الذي له الحق في الفصل في أمر الأماكن المقدسة وطريقة إدارتها.»

figure
الملك علي في موكبه.
هذه الوثائق تُثبت إذن ما يلي؛ أولًا: أن المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين سعى في سبيل السلْم. ثانيًا: أن الملك عليًّا عرض الصلح على السلطان عبد العزيز. ثالثًا: أن ابن سعود رفض السلْم ما دام أحد أولاد الحسين في الحجاز. رابعًا: أن جمعية الخلافة في الهند كانت تتكلَّم باسم العالم الإسلامي، وأنها كانت معادية للحسين وأولاده. خامسًا: أن ابن سعود، وقد استنصرتْه تلك الجمعية، شرع يتكلم كذلك باسم العالم الإسلامي الذي يطلب إخراج الحسين وأولاده من الحجاز. سادسًا: أن الحزب الوطني الحجازي استصرخ العالم الإسلامي ووضع تَبِعَة الحالة في الحجاز على عاتقه. فالعالم الإسلامي — والحال هذه — كان ضائعًا بين الهند ونجد والحجاز، ومع ذلك فقد وضع السلطان عبد العزيز الثقة التامَّة به، وركن إلى إحكامه بدليل البرقية التالية:

البحرين في ١٦ نوفمبر ١٩٢٤
الشريف علي بن الشريف حسين

إني أحترم شخصكم احترامًا عظيمًا، ولكن معاملة والدكم لأهل نجد وسائر المسلمين هي التي جعلتْنا نقف هذا الموقف، فإذا كنتم تحبون السلام وحقن الدماء، أخْلُوا الحجاز، وانتظروا حكم العالم الإسلامي. فإن اختاركم أو اختار غيركم، فنحن نقبل حكمه بكلِّ ارتياح. أما إذا بقيتم في أرض الحجاز فإن مسئولية ما يقع من الحوادث تقع على عاتق غيرنا.

سلطان نجد

الآباء يأكلون الحِصْرم، والأبناء يضرسون!

١  قد استفتت القيادة علماء الرياض في أن يُحرِم الجنود ويدخلوا مكة منكِّسي البنادق، فإن لاقوا مَن صدَّهم عن البيت قاتلوه، وإن لم يلقَوا أحدًا دخلوا، ولكن العلماء منعوهم عن ذلك قائلين: إن دخول الحرم بقصد القتال فيه لا يجوز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤