الفصل السادس عشر

السيارة المسروقة

– إن من الواضح أن تربيتك ناقصة.. ناقصة جدا.. هذا أنا — بجلال قدرى — أكلمك منذ عشر ساعات وخمس وعشرين دقيقة وثلاث وأربعين ثانية وأنت لا تجيبين.

فقالت زوجتى أخيرا وألقت ما بيدها — وكان شيئا تطرزه أو لا أدرى ماذا تعنى به: «إنى لست اليوم كفؤا لك ولهزلك، فاسكت من فضلك».

قلت: «هذا بديل جميل من الاعتذار. ألا تستحيين يا امرأة؟ ثم ما هذه الذى تتشاغلين به عن التقاط الحكمة من فم سيدك وتاج رأسك وبعلك»؟

قالت: «أرجوك.. أرجوك يا مسلم.. ثم إن الطباخة خرجت».

فانتفضت واقفا وصحت: «نهارها أسود.. لماذا»؟

قالت: «استحسن زوجها أن يكون ذهابها إليه يوم الجمعة بدلا من يوم الأحد».

فانحططت على الكرسى وقلت: «ووافقت أنت بالطبع»؟

قالت: «وماذا أصنع غير ذلك؟ وقد أصرا على يوم الجمعة، فلو رفضت لفارقتنا ولعدنا إلى حيرتنا القديمة».

قلت: «يا امرأة.. هل تعرفين أنى أتضور فى هذا البيت؟ يوم الجمعة الذى أستريح فيه وأظل أحلم طول الليل بما أطمع أن أنعم به من الآكل … أوه إن هذا لا يطاق! هذه.. هذه.. هذه.. نعم بلشفية صريحة، ومع ذلك تزعم الحكومة أنها تكافحها.. ما عيب يوم الأحد بالله.. لماذا يجب — حتما — أن تكون بطالتها يوم الجمعة لا غيره»؟

فضجرت زوجتى وبدأت تنفخ، وقالت: «ألا تسكت؟ مالك أنت.. إن لك أن تأكل والسلام.. ثم أنها مسلمة وكذلك زوجها فيوم الجمعة أوفق لهما».

قلت: «وهل من الضرورى أن تتزوج هذه الدميمة وذلك المغفل»؟

قالت، وهى تتمطى: «إنى أشعر بفتور وخدر فاعفنى بالله من وجع الدماغ.. وحسبى همّ إطعامك فى هذا اليوم الثقيل».

فقلت، وقد خطرت لى فكرة: «اسمعى، أقل لك».

قالت وهى تضحك: «وهل ترانى اليوم هنا إلا لأسمع؟ تفضل يا سيدى ونور عينى.. وماذا أيضا»؟

قلت: «وتاج رأسك.. اسمعى.. إن الفتور يغشى جسمك كما تقولين، وأنا رأسى يكاد يطير مذ عرفت أن هذه الطباخة الكريهة الوجه قد تخلت عنا فى يومنا هذا، فما قولك فى أكلة ناشفة خفيفة نصنعها هنا أو نشتريها»؟

فاعتدلت وقالت وقد لمعت عينها: «لماذا»؟

قلت: «وندعو فلانة وفلانا — من أقربائنا — ونذهب جميعا ومعنا الأولاد إلى القناطر الخيرية، فنقضى يومنا هناك بين الخضرة والماء».

قالت: «ولكنه سينقصك الوجه الحسن».

قلت: «يا خبيثة.. هل تظنين أنى تزوجتك وأنا مغمض العينين»؟

•••

وحشرتهم جميعا فى السيارة، ودسست السلة التى فيها الطعام والشراب فى مكان مجعول لما يحمل المسافر من زاد ومتاع، وكانت الساعة الثانية مساء حين انطلقنا فبلغنا القناطر بعد نصف ساعة، فحملنا أشياءنا وتركنا السيارة فى حراسة رجل من الواقفين هناك المستعدين لهذه المهمات. وتخيرنا مكانا يشرف على الماء وتظلله أشجار باسقة، وبسطنا السجادة وألقينا عليها صفحات من جرائد الصباح والمساء، ووضعنا عليها الصحون والصوانى ثم شرعنا نأكل، ولم يكن الطعام فيما يبدو لعيوننا الفارغة كثيرا.. فجعل بعضنا يخطف من بعض فكانت ألذ أكلة وأهنأها، ثم طرحنا الوسائد على السجادة واستلقينا فنام من نام. ولما آذنت الشمس بالغروب ركبنا زورقا فى ترعة أشمون، ثم بدا لنا أن نعود لندرك الشيخ رفعت وهو يتلو القرآن الكريم — فما نحب أن يفوتنا ذلك منه قط — فرجعنا إلى حيث السيارة.. فاذا بها قد اختفت..

بهتّ حين رأيت مكانها خاليا فوقفت كالصنم، وأقبلت علىّ زوجتى تسألنى وتهز ذراعى، فقلت لها وقد أفقت قليلا: «نعم.. هزى ذراعى بقوة.. إن بى حاجة إلى الشعور بأنى لست أحلم وأن هذا ليس كابوسا..».

قالت: «أين ذهبت»؟ قلت: «فتشينى.. لقد كانت هنا.. تركتها فى هذا المكان.. وليس فى الأرض ما يدل على أنها انشقت وابتلعتها … ولست أعرف أن لها أجنحة، فلا يمكن أن تكون طارت. إن الطريقة الصحيحة للاهتداء إلى الحقيقة هى أن يبدأ المرء بنفى كل الاحتمالات غير المعقولة، كما تريننى أصنع الآن».

فصاحت «لولو» قريبتنا: «لقد سرقها اللصوص».

فصحت بها: «تالله ما أذكاك يافتاتى.. ولكن كيف لم نفطن إلى هذا بمثل هذه السرعة المدهشة»؟

فقالت لولو: «وماذا تكون مزية العبقرية وفضيلتها إذن»؟

قلت: «صدقت يا فتاتى النابغة..».

فقالت زوجتى مقاطعة: «هل هذا وقت الكلام الفارغ! ألا تفكرون فى طريقة لاستردادها»؟

فقلت: «آه.. هنا أيضا عبقرية ولكن من ضرب آخر — ضرب عملى لا يرتاح إلى النظريات.. عبقرية يمكن أن ننعتها بأنها نابليونية، ولست أرى أنه ينقصنا — لنوقن أن السيارة عائدة باذن الله — إلا ضرب ثالث».

فقالت زوجتى متهكمة: «نعم يا سيدى.. تفضل».

فقلت بحدة: «لا تتهكمى يا امرأة.. نعم ينقصنا الضرب الشرلكمزى».

فصاحوا جميعا: «إيه»؟

فقلت: «أعوذ بالله.. مالكم تصرخون هكذا؟ نعم الشرلكمزى يا جهلة.. لو كنتم تعنون بثقيف عقولكم الفارغة قدر عنايتكم بخلافى والمكابرة معى وإنكار نعمتى عليكم وجحود فضلى.. لعرفتم أن الشرلكمزى نسبة إلى شرلوك هولمز».

فقالت زوجتى وهى تضع كفها على فمها: «طيب اسكت بقى».

فلثمت راحتها وسكت.. كما أمرت.

•••

وقال سليم — أخو لولو: «إن من الواضح أن علينا أن نتفرق».

قلت: «بديهى.. حتى لا يرانا اللصوص فيخافوا.. نعم يحسن أن لا نضع شيئا يزعج اللصوص ويفسد عليهم متعتهم».

فصاح بى: «يا أخى ألا تكف عن هذا العبث»؟

قلت: «كففت بإذن الله.. تفضل.. ولكن اسمح لى أن أسأل هل تعنى أن ترسل الأطفال وحدهم فى ناحية، وأمهم وأختك فى ناحية وتذهب أنت إلى حيث ألقت، وأعود أنا إلى البيت وقد تخلصت منكم جميعا؟ إن كان هذا مرادك فأنا من الآن موافق والسلام عليكم، ولا تكلفوا أنفسكم إرسال عناوينكم».

وبعد أن هدأت الضجة التى أثارتها هذه الكلمات البريئة، قال سليم: «تأخذ أنت الأطفال وهاتين أيضا — وأشار إلى زوجتى وأخته — وتركب تاكسى وتمر أولا بمركز البوليس ثم لا تتكل عليه بل تذهب تبحث.. وأنا أذهب أبحث من ناحية أخرى».

فقالت زوجتى لسليم: «أكون أنا معك فإنى لا أكاد أطيق مزاحه فى مثل هذه الساعات.. إنه لا يفرق بين جد وهزل كل وقت عنده صالح للضحك … شىء فظيع..».

قلت: «أشكرك.. على أنى أستطيع أن أهذب لك خطتك العقيمة..».

فقالت زوجتى: «بالله اسكت.. أرجوك.. أر.. جوووووو».

قلت: «حالا. حالا. كل شىء فى وقته يا امرأة.. وهل هذا وقت رجاء؟ إنه وقت العمل.. ألا تفهمين؟ اسمع يا هذا. تذهب أنت إلى البوليس وتعفينى من هذه المهمة التى لا أرتاح إليها ولا أعتقد أن فيها فائدة، وتأخذ معك هذه الزوجة الجاحدة الناكرة للجميل، وأفعل بعد ذلك ما تستطيع.. وإلى الملتقى فى البيت العامر إن شاء الله».

فقالت زوجتى: «أيوه.. أنا أقول لكم ماذا ينوى أن يصنع.. سيذهب إلى البيت مباشرة ولا يكلف نفسه أى عناء فى البحث عن سيارته.. وسترون».

وكنت مقتنعا بهذا الرأى حتى لقد اشتريت «صفيحة» بنزين من القناطر وضعناها معنا فى التاكسى، وقلت للولو: «لهذا فائدة أخرى هى أن يعتقد سائق التاكسى حين نتركه ونركب سيارتنا أنا ما استأجرنا سيارته إلا لهذا السبب، فلا يروح يعجب أو يسأل عن شىء ولا يبدو له شىء غريب فى عملنا».

وقد شاء الله أن يحقق ظنى، فما كدنا نقطع خمسة كيلومترات من الطريق بعد أن تركنا القناطر وأخذنا فى سكة قليوب حتى وجدنا السيارة. وأوجز فأقول أنا ركبناها فرحين، وعدنا إلى القناطر عسى أن نجد بقيتنا. فلما لم نجد أحدا تركنا لهم خبرا عند الحارس النائم، ثم حملناه معنا إلى مركز البوليس لنسرهم ونعفيهم من البحث، فعلمنا أن أصحابنا أبلغوهم خبر السرقة، وأن بعض الشرطة خرج للبحث وأن الخبر طير بالتليفون إلى قليوب والقاهرة ولجهات أخرى أيضا لضبط السارق فى الطريق. فشكرنا لهم هذه الهمة التى لم تكن متوقعة ثم قلت لهم: «إن المهم الآن هو البحث عن زوجتى».

فصاح الرجل: «إيه»؟ قلت: «إنها مع قريبى وقريبها» قال: «انتهينا».

قلت: «كلا لم ننته.. وما أدراك أن هذه ليست سرقة أخرى أفظع وأشنع»؟

فضحك الرجل.. وجرتنى لولو وهى تحتج.

•••

تركنا السيارة أمام رصيف البيت وجلسنا فى الشرفة نأكل لحم الغائبين — أعنى ننتظرهما — وإذا بهما عائدان بعد نحو ساعتين فى سيارة — هى أخت سيارتنا بلا فرق — فانحدرت إلى الطريق بسرعة فوجدتهما يتأملان هذه المعجزة، فقلت: «تمام.. لقد سرقت هذه السيارة يا صاحبي، ولم أكن أعرف أن قريبى ونسيبى لص.. ولكن ماذا أصنع؟ لقد أخفوك عنى قبل أن أتزوج، فصار واجبي أن أخفيك عن أعين الناس بعد أن تزوجت».

فهم بكلام فمنعته ودعوته أن ينظر إلى السيارتين، فاقتنع وقال: «ما العمل الآن»؟ قلت: «تستعد للسجن.. لقد كان هذا واجبا من زمان طويل فى الحقيقة، ولكن ما أكثر من يستحقون السجن وهم طلقاء.. والآن اذهب بالسيارة إلى الجراج — السيارة المسروقة ثم أبلغ البوليس بالتليفون وقل له إنك عندى تنتظر حضوره للقبض عليك».

وعرفنا منهما بعد ذلك أنهما ركبا القطار ثم الترام إلى العتبة الخضراء وإذا بهما يريان السيارة عند رصيف إدارة البريد، فذهبا إليها يعدوان فألفياها خالية فركبا، وانطلقا بها من غير أن يعنيا بالنظر إلى رقمها وانحدرا بها فى شارع فاروق.. وتركا صاحبها المسكين يجرى وراءهما ويصيح ويصرخ ويستنجد، وهما يضحكان مسرورين.. بارك الله فيهما من لصين جريئين.

وقلت لهما: «لا عليكما.. ستكون العتبة الخضراء كلها عندنا بعد دقائق ببوليسها وصبيانها وباعتها.. إلى آخره.. إلى آخره.. وسيشهد الجيران وجيران الجيران أمتع رواية رأوها أو يمكن أن يروها فى حياتهم أو حياة هذا الشارع الرزين».

وجاء الشرطة والمسروق المسكين فى تاكسى. وكان لابد أن يروا السيارة وأن ينزلوا، وكنت واقفا إلى جانبها أنتظر هذه التشريف، فقال الرجل: «هذه هى» ومسح العرق المتصبب ودنا منها وهم بأن يفتح بابها فتصديت له وقلت: «عفوا.. هل من خدمة»؟

فصاح: «خدمة؟ يا حرامى يا مجرم.. أين أخفيت شريكتك؟ المرأة التى كانت معك»؟

فنظرت إلى الشرطى وأنا أبتسم — فقد كان الموقف يتطلب الهدوء والكياسة، وقلت: «هذه سيارتى يا حضرة الشاويش، فما خطب هذا الرجل»؟

فصاح الرجل: «سيارتك يا حرامى يا صفيق الوجه»؟

– إنى أسمح لك بأن تتأملها.

فدار حولها ونظر إليها من الأمام ثم من الخلف، ثم وقف أمامى وهو يرعد وينتفض ويقول: «أما مجرم.. بسرعة غيرت أرقامها؟ ولكن هل تظن أن هذا ينفعك؟».

فبدا على وجه الشرطى التردد حينما سمع أن الأرقام مختلفة، وإذا كان المفجوع فى سيارته قد طار عقله، فإن الشرطى لا يوجد ما يدعو إلى ذهاب عقله أيضا، وقلت أنا: «المسألة بسيطة. ومن المعقول أن أغير لوح رقم المرور بسرعة، ولكن ليس من المعقول أن أغير رقم الشاسيه المحفور على محرك السيارة، فتفضل واذكر هذا الرقم بعد مراجعة رخصتك إذا شئت، ثم ارفع غطاء المحرك وانظر».

ففعل فإذا الرقم مختلف جدا، وشعر بالهزيمة وأدرك أنه تجنى على جدا فبدأ يعتذر.. فسألته: «ولكن كيف يمكن أن تخطئ إلى هذا الحد..؟ هل يعقل ألا تعرف سيارتك»؟

قال: «إنه لا فرق بينهما على الإطلاق لا من الداخل ولا من الخارج».

فقال الشرطى وهو يريد أن يفض النزاع الذى تهور فيه صاحبنا: «ما دامت السيارتان متشابهتين إلى هذا الحد فإنه معذور».

قلت: «وهل كنت تعذرنى لو كنت أخطأت مثل خطئه وذهبت أسب الناس وأتهمهم بالسرقة»؟

قال: «طبعا.. صحيح إنه تهور فى الاتهام قبل التثبت، ولكنه معذور فى خطئه فى معرفة السيارة».

قلت: «وإذا دللتك على سيارتك هل تشكرنى.. أم تستأنف اتهامك لى بالسرقة»؟

فعاد إلى الاعتذار، وأكد لى أنه يكون شاكرا جدا. فلم يبق داع للإطالة فرويت له وللشرطى القصة من أولها إلى آخرها كما وقعت، وقلت لهما إننا أبلغنا مركز البوليس أنا وجدنا السيارة الأخرى التى ظنها قريبى سيارتنا، وأن البوليس لاشك سيحضر بعد قليل ليتسلمها. وبهذا انتهى الحادث..

وقلت لزوجتى وأنا أدخل بعد الفراغ من ذلك: «هل تعترفين الآن أن الذى كان يضحك ويمزح كان هو الحكيم السديد الرأى الصحيح النظر»؟

فآثرت المكابرة وقالت إنها مصادفة واتفاق، فشهدت لولو بأنى أحسنت التقدير.. فعادت زوجتى تلوم لأنى كتمت رأيى الحقيقى وتركتها تذهب وتلف وتدور مع سليم، وأنى آثرت لها التعب ولنفسى الراحة.

فقلت: «ليكون هذا لك درسا … ألم أقل لك أن تربيتك ناقصة»؟

فهاجوا بى وثاروا، ولكن هذا لا يعنى القراء لا قليلا ولا كثيرا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤