مقدمة

رجل يسير في جادة ميشيجان بشيكاجو، يتشارك رصيفًا للمشاة يعجُّ بأناس غرباء. يري ناطحات سحاب ولافتات تمتد في الأفق. تحدث أمور كثيرة؛ أشخاصٌ يتحدثون، وآخرون يسيرون ويلعبون ويتشاجرون ويصرخون ويقودون سياراتهم ويبتسمون. يشاهد مقهًى يثير انتباهه. يُخْرِج هاتفه، ويسجِّل دخوله على شبكة تواصُل اجتماعي معتمدة على الموقع المكاني، فيضع التطبيقُ ملاحظةً عن موقعه (الجغرافي) ويسجِّل نقطةَ توقُّفه الأولى في اليوم. يلمس علامة تبويب «التلميحات» في البرنامج، ويتصفح ما ذكره آخرون عن مواقع أماكن قريبة، ويكتشف أن كثيرين اشتكوا من فظاظة الخدمة في ذلك المقهى وأسعاره المرتفعة. وبينما يفعل ذلك يصله تنبيهٌ على هاتفه الذكي بأن فتاةً ما من شبكته الاجتماعية قد سجَّلَتْ توًّا تواجُدَها بمقهًى آخر في الشارع نفسه، فيذهب إلى هناك ليلتقي بها.

لا تنتهي المدينة بالنسبة إلى هذا الرجل عند حدِّ ما هو جليٌّ للعين، بل تحتوي على تعليقات توضيحية وروابط، ومعلومات وتوجيهات من شبكةٍ من الأشخاص والأجهزة التي تمتد أبعدَ كثيرًا مما يراه أمامه، وهو ليس وحده. إنه لَمِن الصعب هذه الأيام أن تجد هاتفًا محمولًا يؤدي دور الهاتف فقط؛ فمعظم الهواتف ترسل رسائل نصية، وتتصل بالإنترنت، وتُشغِّل تطبيقات، وتحوي مُستقبِلًا للنظام العالمي لتحديد المواقع (جي بي إس)، فيصبح ممكنًا تعيين موقعها في العالم المادي. اعتدنا أن نتحدَّث عن الشبكة العنكبوتية العالمية (الويب) على أنها فضاءٌ معلوماتي مترابِط ولكنه منفصل عن العالَم الذي نحيا فيه، بَيْدَ أن العالم الذي نحيا فيه والويب لم يَعُدْ ممكنًا الفصل بينهما بسهولة.

تمتلئ الفضاءات التي نتفاعل فيها بصورة يومية ببيانات — كالصور، والأفكار، والتقويمات، والتوثيق التاريخي — مُجمَّعةً في صورةِ معلوماتٍ متاحة وصالحة للاستخدام، ويكشف بحث «جوجل» سريعًا عن آلافٍ من المعلومات التي تُعرَض تبعًا لموقع المستخدم. ويمكن لهاتف محمول — من خلال العديد من التطبيقات — أن يحدِّد موقعَ مستخدِمه، وأن يجد المعلومات القريبة وذات الصلة به؛ فالتكنولوجيات التي نستخدمها للدخول إلى الويب هي تكنولوجيات ذات إدراك مكاني. وينمو مقدارُ البيانات المتوافرة على الإنترنت — من المواقع الإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر»، إلى الرسائل النصية والصور — بأضعافٍ مُضاعَفة. وهذه البيانات تقترن على نحوٍ متزايد بإحداثياتها الطولية والعرضية، حتى إنه يمكن تصنيفها ليس فقط من حيث هُوِيَّة المستخدِم أو طبيعة الاستخدام أو وقته، ولكن من حيث «مكان» الاستخدام كذلك. وكلما انخفضَتْ أسعارُ الهواتف ذات الإدراك المكاني في الكثير من دول العالم، ازداد عددُ الأشخاص الذين يحصلون على البيانات العالمية وينتجونها إلى العالَم ازديادًا ملحوظًا.

تغذِّي الويب المواقعَ المادية شيئًا فشيئًا بمصادر البيانات، فتجعل تلك المواقعَ المادية جزءًا من الويب. وهناك الملايين من الكمبيوترات والأجهزة المحمولة المتصلة معًا، ويمكن كشفها بواسطة الأقمار الاصطناعية؛ وهو ما يصنع خريطةً شبه مفصَّلة لمكانِ تواجُدنا بالنسبة إلى كلِّ شيء آخر. لقد جعلَتْ شبكتنا العالمية من الأجهزة أمرَ تحديدِنا لموقعنا (وتحديد الآخرين لموقعنا) أكثرَ سهولةً؛ فنحن نتواجد حيثما تتواجد أجهزتُنا، ودومًا نترك خلفنا آثارًا من البيانات القابلة للتَّتبُّع على الخريطة في عالمنا المادي؛ ولذلك — بينما ظللنا دائمًا على إدراكٍ بالمكان، وظل الآخرون دائمًا على إدراكٍ بموقعنا — فعندما ننغمس في المعلومات يصير لإدراك المواقع دلالاتٌ جديدةٌ تمامًا.

يتناول هذا الكتاب صورةً ناشئةً حديثًا من الإدراك المكاني، نطلق عليها المكانية المترابطة شبكيًّا (أو الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة). يدور الكتاب حول ما يحدث للأفراد والمجتمعات عندما يصبح كلُّ شيء فعليًّا محدَّد المكان أو قابلًا لتحديد موقعه المكاني. والأهم من ذلك أنه يدور حول ما يستطيع الأفراد والمجتمعات فعله عند توافُر هذا الإدراك المكاني؛ من تنظيمِ تظاهُرات سياسية مرتجلة إلى البحث عن أصدقاء ومصادر في الجوار.

(١) الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة

في يناير عام ٢٠١٠ بدأت «جوجل» في دمج بيانات الموقع الجغرافي في كل بحث؛ فموقعُ عنوان بروتوكول الإنترنت (عنوان الآي بي) الخاص بكمبيوتر مكتبي، أو إحداثيات النظام العالمي لتحديد المواقع لهاتفٍ ما، صارت عواملَ مؤثرةً في نتائج البحث. ويستعلم العديد من تطبيقات «آي فون» من المستخدِم عن موقعه قبل البدء، وحتى لو لم يوجد استخدامٌ فوري واضح للموقع فإن البيانات تُجمَع تحسُّبًا لوجودِ قيمةٍ مستقبلية لها. الحقيقةُ المجردة أن البيانات المستخدَمة في سياق محلي مفيدة وعملية؛ فهي تُحوِّل الصلة التي كانت مجازية فحسب فيما مضى إلى صلة طبيعية. إنها تأخذ الويب بكل اختلافها وتضعها حيثما تكون أنت؛ فلا حاجةَ للولوج إلى الويب أو حتى الذهاب إلى مكانٍ ما للوصول إليها. هذه هي «المكانية الرَّقْمِيَّة». تنطوي الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة على شيوع المعلومات الشبكية؛ وهي مقارَبة ثقافية نحو شبكة المعلومات عندما تتناغم بحميميةٍ مع حقائق الحياة اليومية المدرَكة حسيًّا. لم نَعُدْ نَلِجُ إلى الويب، ولكن الويب صارت حولنا في كل مكان. وهذا أمر جذَّاب، فهو يُمنِّي بتجاوُز مشكلات الازدواجية؛ حيث نقضي أيامَ العمل الأسبوعية في عالَمنا المادي، والعطلات الأسبوعية في العالَم الافتراضي.

ما تعنيه الأمكنة الرَّقْمِيَّة (الفضاءات الفعلية حيث يحدث هذا) لمؤسساتنا (الحكومية أو التعليمية)، ومجتمعاتنا (أحيائنا السكنية أو أصدقائنا)، وفضاءاتنا (مدننا أو مراكز تسوُّقنا)؛ هو موضوع هذا الكتاب. ونصف فيه التحوُّل الذي سيبدِّل ما تعنيه المحلية في عالَمٍ آخذٍ في العولمة تبديلًا جوهريًّا. إمكانيةُ الدخول إلى شبكة عالمية للمعلومات مع التواجُد في شارعٍ محليٍّ، أو حي سكني، أو بلدة، أو مدينة؛ يمكن أن تُعِيد ترتيبَ طريقة تعامُل الفرد مع نطاق خبرة المستخِدم. لم يَعُدِ الشارع محدودًا بالأفق المُدرَك حسيًّا للشخص الذي يسير فيه؛ إذ إن شبكة المعلومات التي يمكن الدخول إليها من جهازٍ محمولٍ تضيف إليه الكثير، ومن الممكن لمدينة ريفية صغيرة، منعزلة جغرافيًّا عن بقية العالم، أن تكون عالميةً بسبب دمج المعلومات بشوارعها. وعلى ذلك، فالطريقة التقليدية التي أدرَكَ بها الجغرافيون مفهومَ النطاق لم تَعُدْ دقيقةً. المكانيةُ الرَّقْمِيَّة تجعل الجغرافيا أكثرَ سلاسةً، دون أن تمحو أبدًا أهميتَها، مثلما كان يُخْشَى في تسعينيات القرن الماضي (كاويكليس، ٢٠٠٧).

وبالمثل، تصبح الجغرافيا المنطقَ التنظيمي للويب؛ فيمكن لفضاءات تفاعُلِنا أن تَنشأ ضمن نطاقات متعددة ومتزامنة. فتطبيق مثل «يِلب» (خدمة بحث وتعليق معتمدة على الموقع) — على سبيل المثال — يربط بين الأشخاص والأشياء القريبة منهم بشبكةٍ معلوماتيةٍ ممتدة، يمكن أن تكون عالميةً. وبينما يعطي أولويةً للمكان في نتائج البحث — مثلما قد يعطي المرءُ أولويةً للسعر عند إجراء بحثٍ تقليديٍّ على الويب — فهو يُمَكِّن المستخدِم من الحركة بسلاسةٍ بين ما هو قريب فعليًّا وما هو قريب نظريًّا؛ فإيجادُ متجرٍ قريب لبيع الكعك يقبع على بُعْدِ نقرةٍ واحدة من القراءة حول متجرٍ للكعك في الطرف الآخر من العالم. يحدث هذا التصغير للنطاق في عددٍ من الجبهات: من تصفُّح الويب، إلى حضورِ اجتماعٍ في الحي، حتى استخدام تطبيقٍ للواقع المعزَّز لرؤية الشارع الذي سرتَ فيه مئات المرات بصورةٍ مختلفة بعض الشيء عمَّا مضى.

تعتمد المكانيةُ الرَّقْمِيَّة بوجهٍ عامٍّ على الأدوات التكنولوجية التي تجعلها ممكنةً، ولكن الأدوات نتاجٌ للاحتياجات الاجتماعية ولا شك؛ فعلي سبيل المثال: لم تكن المطرقة لتوجد لولا الحاجة إلى دقِّ المسامير في الخشب. وعلى غرار ذلك، استُخدِم النظام العالمي لتحديد المواقع، وتحديد الهُوِيَّة بالموجات الراديوية، وتحديد المواقع عبر «الواي فاي» وتكنولوجيات تحديد المواقع الأخرى لتخزين المعلومات على الإنترنت واسترجاعها، بسبب الرغبة الاجتماعية لتحديد موقعنا بالنسبة إلى المعلومات. ومن المؤكَّد أنه عندما تُبتكَر الأدوات، تأتي باحتمالاتِ استخدامٍ جديدة. فلم يكن من الممكن تطوير لعبة تعتمد على الموقع، مثل «فورسكوير»، لولا وجود «الجي بي إس»، والبحث عبر الإنترنت، والهواتف الذكية، والأجهزة المماثلة. يتقدَّم الإدراك المكاني بالتوازي مع التكنولوجيات التي تُتِيحه، وهو سببٌ ونتيجةٌ لاستخدام هذه التكنولوجيات على حدٍّ سواء.

fig1
شكل ١: مشهد من فيلم «مَيْنوريتي ريبورت» (دوبون وكيرتس ومولِن وباركز وسبيلبيرج، ٢٠٠٢) عندما يدخل الشخص الذي يؤدِّي توم كروز دوره إلى متجر «جاب»، وتحيِّيه لوحةٌ إعلانية تفاعلية تعرف اسمَه وتاريخَ تسوُّقه.

ومع ذلك، فعندما تَجُول فكرةُ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة بأذهان غالبية الناس، فإنها تستدعي صورةَ عالَمٍ بائس من المراقبة والترصُّد أكثر ممَّا تستدعي صورة التطورات المفيدة للمجتمع. تأمَّلْ مشهدًا من فيلم «مَيْنوريتي ريبورت» (دوبون وآخرين، ٢٠٠٢) حيث يدخل الشخص الذي يؤدي توم كروز دوره متجرَ «جاب»، فتتعرَّف عليه لوحةٌ إعلانية تفاعُلية، وتشير إليه باسمه، وتسأله إنْ كان قد استمتع بالقمصان التي اشتراها الأسبوع السابق. قلَّمَا نُبْدِي أيَّ انزعاجٍ تجاهَ إعلانات «جوجل» الموجَّهة المستندة إلى عمليات البحث السابقة، ولكنْ حينما يُنْقَل هذا الإعلانُ المُلِم بالبيئة المحيطة إلى العالَم المادي، فإنه يعكس على نحوٍ ما اختراقًا مُقلِقًا لفضائنا الشخصي المُتصوَّر. إن تفاصيل هذا المشهد لم تَعُدْ خيالًا علميًّا، ولكنها صارت واقعًا؛ فالتقنياتُ القادرة على ابتكار هذا النوع من اللوحات التفاعلية متاحةٌ تمامًا، ولكنها تظل محصورةً في الإطار النظري فقط لكونها تخرق إدراكَنا المكاني الحالي، وتطلب منَّا أن نَقْبَل بشيوع الأمكنة الرَّقْمِيَّة. ولذلك، بينما ندرك الموقع، تعترينا المخاوف بهذا الشأن. في هذا الكتاب نتناول طريقةَ اندماج الإنترنت مع فضاءاتنا المادية، وكيف يُغيِّر ذلك من تفاعُلاتنا اليومية مع العالَم، وفيما بيننا.

(٢) تنظيم الويب

لنبدأ بحكايةٍ. في عام ١٩٩٤ أنشأ ديفيد بونيت وجون ريزنر شركةَ استضافةِ مواقع إنترنت تُدعَى بيفرلي هيلز إنترنت. بدآ بفكرةٍ مبتكرة، وهي استعمال أسماء الأحياء السكنية لتنظيم وتصنيف صفحات الإنترنت؛ فالمستخدمون، أو كما كان يُطلَق عليهم «مُلَّاك العقارات السكنية»، كان بمقدورهم إقامة صفحاتِهم على الويب مجانًا داخل الحي السكني الافتراضي الذي يختارونه، وأُعطِيَت كلُّ صفحة ويب عنوانًا إلكترونيًّا (يو آر إل) فريدًا، شمل اسمَ الحي السكني وعنوانَ الشارع، وحملت الأحياء الأولى أسماءً مثل: «كولسيوم»، و«هوليوود»، و«روديو درايف»، و«صنست ستريب»، و«وول ستريت»، و«ويست هوليوود». كانت الفكرة هي أن ينجذب المستخدمون إلى اسم الحي الذي يعكس اهتماماتهم على أفضلِ نحوٍ؛ فعلى سبيل المثال: الموقع الإلكتروني الترفيهي سيكون في «هوليوود»، والموقع الإلكتروني المالي في «وول ستريت»، والموقع الإلكتروني الموسيقي في «صنسيت ستريب». والواقع أن تلك «الأحياء» بدأت تصبح ذاتَ أهميةٍ للناس خلال معاناتهم لإيجاد مكانٍ على الويب لصفحاتهم الرئيسية. وفي ديسمبر ١٩٩٥، توسَّعَتْ شركة «بيفرلي هيلز إنترنت» إلى ١٤ حيًّا، شملت «طوكيو» و«باريس» و«سيليكون فالي»، وتغيَّرَ اسمها رسميًّا ليصبح «جيوسيتيز».

في عام ١٩٩٩ اشترت «ياهو» «جيوسيتيز»، ولم تلبث أن صارت واحدًا من أكبر مواقع استضافة مواقع الإنترنت في العالَم؛ فتَصوُّر أنه يمكن تنظيم الويب في صورة أحياء مجازية كان فعَّالًا جدًّا. وكما يُظهِر مثال «جيوسيتيز»، كانت بداياتُ الويب عامرةً بالرغبة في تنظيم المعلومات الرَّقْمِيَّة تنظيمًا دقيقًا بطريقة مماثلة لتنظيم المعلومات غير الرَّقْمِيَّة، وهي: تنسيق الأشياء تبعًا لتصنيفات معينة. في كتابه «كل شيء تحت تصنيف المتفرقات» (٢٠٠٨)، يقول ديفيد واينبرجر إن المعلومات يمكن ترتيبها بإحدى ثلاث طرق. أول ترتيب — أو سيد الترتيبات كما يصفه واينبرجر — هو حرفيًّا وضْعُ الأشياء في كَوْمات، على سبيل المثال: في دواليب ملابسنا يضع معظمنا الجواربَ في درجٍ، والقمصان في درجٍ آخَر، وهذا ينجح نجاحًا غير متوقَّع. ولكنْ ماذا يحدث عندما يكون لدينا عددٌ من الجوارب أكثر من أن يحتويها درجٌ؟ في هذه الحالة سنحتاج إلى نظام ترتيب مختلف. أو لنُعطِ مثالًا قد يكون أكثر إيضاحًا: ماذا يحدث عندما يكون لدينا عدد كبير من الكتب أكثر من أن يسعها رفٌّ واحد؟ نصنع سجِلًّا بأسماء الكتب والمؤلفين — وربما أيضًا بالموضوعات — ونبتكر نظامَ تصنيف يمَكِّننا من استعادتها بسهولة. تُعَدُّ بطاقة المكتبة مثالًا رئيسيًّا للطريقة الثانية للترتيب، وتُعَدُّ «جيوسيتيز» أيضًا مثالًا آخَر لهذه الطريقة؛ فبوضع الروابط في تصنيفاتٍ صارَتْ مثبتةً في نظامِ ترتيبٍ له معنًى بدهي. هذه المواقع الإلكترونية (بما تحويه من روابط لكلمات الأغاني المفضَّلة، وصورٍ لقطط، وصورِ الإجازة العائلية) قدَّمَتْ نموذجًا للتفاعلية صار يُشار إليه باسم «ويب ١٫٠». وعلى حد قول ستيفن جونسون (٢٠٠٣)، كان هذا مثالًا واضحًا لعلاقةِ واحدٍ لواحد: فرد واحد يستطيع إنشاء رابطٍ، وآخَر يستطيع أن يقرِّر ما إذا كان سينقر على هذا الرابط أم لا.١
fig2
شكل ٢: امتلكَتْ «جيوسيتيز» ٢٩ حيًّا مختلفًا في أكتوبر ١٩٩٦.

نظرًا للكفاءة المحدودة لمحركات البحث في عام ١٩٩٥ — التي كانت تتراوح بين المحركات اليدوية (حلقات المواقع) والمحركات التي تكاد تكون عديمةَ النفع («ألتا فيستا») — كان يجب حفظ عناوين المواقع الإلكترونية المحدَّدة التي يوصي بها المستخدمون ما لم يضعوها على صفحاتهم الشخصية. ومع نهاية تسعينيات القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، بدأ شيءٌ ما يتغيَّر في طريقة تنظيم الناس وتشكيلهم واستعادتهم للمعلومات على الإنترنت؛ فنُظِّمَت الشبكةُ المعاصرة (التي يُشار إليها عادةً ﺑ «ويب ٢٫٠») وفق نظام ترتيب أكثر مرونةً من سابقه. نظامُ الترتيب الثالث لا يعتمد بتاتًا على تصنيفات ثابتة؛ فحلَّ محلَّ البطاقاتِ التناظرية محركاتُ بحث مثل «جوجل»، تحلِّل المعلومات كي تخلق نتائجَ صالحةً للاستخدام ومؤقتةً، اعتمادًا على خوارزميات البحث؛ فعلى سبيل المثال: لم تَعُدْ مواقعُ الويب الترفيهية تحتاج إلى أن تُوضَع في تصنيف «هوليوود» حتى يمكن العثور عليها، بل يمكن العثور عليها اعتمادًا على مصطلحات البحث الفردية والسياق الخاص بالمستخدم وحده وتفضيلاته. وكما يقول واينبرجر فالمعلوماتُ الرَّقْمِيَّة «متفرقاتٌ». لم يَعُدِ الموقعُ الإلكتروني العادي يُوضَع ضمن عددٍ محدودٍ من التصنيفات التي يحدِّدها خبيرٌ في إدارة المحتوى، بل يمكن اكتشافه عن طريق مصطلحات ومنصات متعددة، مثل متصفحات الإنترنت، وتطبيقات تجميع الأخبار، وتطبيقات الهواتف الذكية.

أدَّت «جوجل» دورًا فعَّالًا في إعادة إنتاج هذه الكمية الضخمة من البيانات المتاحة؛ حيث ساهَمَ محركُ البحث في تحويل الويب من قاعدة بيانات غير عملية من المعلومات المصنفة بعنايةٍ، إلى كومةٍ من المعلومات المتفرِّقة يمكن تجميعها بمرونة؛ فمثلًا: لم يَعُدْ ضروريًّا أن تقبع صفحاتُ الويب الشخصية التي تحتوي صورًا للقطط وكلمات الأغاني المفضَّلة داخل حي «سيليكون فالي»، ولكن أصبح بالإمكان العثور عليها بالبحث عن «قطط» أو اسم مؤلِّفك الموسيقي المفضَّل. جعلَتْ «جوجل» كوْنَ المعلومات متفرقاتٍ أمرًا مقبولًا، إنها جعلت غياب التصنيف للمعلومات أمرًا لا مناصَ منه.

على مدى ١٥ عامًا منذ تطوير «جيوسيتيز»، تغيَّرَت الويب تغيُّرًا كبيرًا؛ فزاد تواصُل الأشخاص اجتماعيًّا، واستهلاكُهم المواد الترفيهية والأخبار، وبحْثُهم عن المعلومات على الإنترنت. لم نَعُدْ نزور المواقعَ الإلكترونية فعليًّا، بل صرنا نزور الويب نفسها ببساطة. أشار تيم أورايلي إلى أن الويب نفسها صارت منصاتِ التفاعُل وليس المواقع الإلكترونية الفردية؛ فنحن نستخدم المُجَمِّعات أو خدمات الشبكات الاجتماعية لنستهلك وننتج ونشارك المحتوى الشديد الصِّغَر مثل التدوينات والتغريدات وتحديثات الحالة.٢ فالتدوينة — لا المدوَّنة ذاتها — هي وحدةُ التفاعُل المهمة. باختصارٍ، تترابط «الأماكن» التي نزورها على الويب جميعًا ترابُطًا وثيقًا، وتنبثق من اهتماماتنا الشخصية ومُجمِّعاتِنا الآلية. وبسبب الانتشار الكبير للويب، نجد أنه لم يَعُدْ بَنَّاءً أن نميز بين الويب (التي تُفهَم بين مستخدِمِي الويب عادة على أنها المحتوى الكائن داخل المتصفحات) وبين الإنترنت؛ وهي البنية التحتية للشبكات التي تجعلها جميعًا ممكنة. فجميع ما سبق هو الويب. ومثلما يظل البرنامج التليفزيوني برنامجًا تليفزيونيًّا حتى إنْ عُرِض على الويب، فإن الويب تجاوَزَت عتادها المادي وبرمجياتها، وأصبحت تدل على شبكة المحتوى التي تسود ساحةَ اتصالنا.

تمتد الويب الآن إلى المواقع المادية. عندما تتاح للناس فرصةُ إدراجِ بياناتٍ أولية في خرائط مجمَّعة (بيرنرز لي، ٢٠١٠)، والدخول إلى الويب من هواتفهم المحمولة ذات الإدراك المكاني، فثمة مُجددًا تغييرٌ هائلٌ في كيفية تنظيم المعلومات: من «أرضٍ قاحلةٍ مليئة ببيانات غير مُنقَّحة» (ستول، ١٩٩٥) يُشار إليها عادةً ﺑ «الفضاء الرقمي»، إلى خريطةٍ للمعلومات موضوعةٍ في سياق مادي. فالمنطق التنظيمي الجديد للويب صار يعتمد على الموقع المادي، وصارَتْ أشكالُ المعلومات التي نجدها ونصل إليها على الشبكة تعتمد بقدر متزايد على مكاننا.

هذا الارتباط مع المواقع المادية لا يمثِّل فقط منطقًا جديدًا لتنظيم المعلومات على الشبكة، ولكن يمثِّل أيضًا تغيُّرًا جذريًّا في طريقةِ فهمنا للويب ذاتها. مثَّلَتْ «جيوسيتيز» أسلوبًا للتفكير في الويب وَضَعَ عالَمَ المعلومات بمعزل عن العالَم المادي. وبالصياغة الشهيرة لنيكولاس نيجروبونتي (١٩٩٥)، كان يوجد اختلاف جَلِيٌّ «بين الذرَّات والبِتَّات»؛ فما كان ممكنًا في عالَم المعلومات الخالصة كان شديدَ الاختلاف عمَّا هو ممكنٌ في عالمنا المادي الذي تحكمه قوانين الفيزياء. أما الآن، فما يجري تنظيمه ليس فقط المعلومات، ولكن أيضًا العالَم المادي الذي يحتويها.

(٢-١) توسيع نطاق الويب

كان الاعتقادُ بأن عالم الذرات مختلف عن عالم البِتَّات ناتجًا إلى حد ما عن التقنيات التي كنا نستخدمها للاتصال بالويب؛ فاستخدام كمبيوتر مكتبي ثابت «للولوج» إلى الويب كان يعني عادةً حتميةَ أنْ يكون المستخدمون جالسين أمام شاشةٍ، وهو وضعٌ حالَ دون الكثير من الأنشطة في العالم المادي. وإضافةً إلى ذلك، فإن خبرة تصفُّح الويب غالبًا ما كانت خبرةً فرديةً. وحتى لو كان الغرض من دخول الويب هو الانخراط اجتماعيًّا مع الآخرين، فإن انتشار العوالم الافتراضية وغرف المحادثات على الإنترنت، قاد الكثيرين إلى الاعتقاد بأننا قد ينتهي بنا الحال إلى التواصل فيما بيننا في المقام الأول في فضاءات رقمية. قاد ذلك إلى الاعتقاد بأنه لو استطاعت الويب أن تعطينا إحساسَ «التواجُد في مكانٍ ما»، فلن توجد حاجةٌ إلى الخروج للفضاءات العامة والتواصُل اجتماعيًّا مع الآخرين وجهًا لوجه.

بعد مرور خمس سنوات على اختراع أول عالَمٍ افتراضيٍّ على الإنترنت — «الزنزانة المتعدِّدة المستخدمين» (إم يو دي) التي ابتكَرَها ريتشارد بارتل وروي ترابشو — وصفَتْ روايةُ الخيال العلمي «نيورومانسر» (١٩٨٤) لويليام جيبسون عالَمًا معلوماتيًّا يُدعَى «المصفوفة»، ويتصل به المستخدمون بواسطة شرائح عصبية مزروعة فيهم. في هذا العالَم، يستطيع الأشخاص حرفيًّا أنْ «يُجْرُوا عمليةَ تنزيلٍ رقمية لأدمغتهم»، وأن يتخلَّوْا عن أجسادهم المادية. الشخصية الرئيسية في هذه الرواية وهي «كيس» تنال عقابًا في بداية القصة؛ فلا يعود في استطاعتها الاتصال بالفضاء الرقمي، وتظل حبيسَة جسدها المادي. وثمة شخصيةٌ أخرى هي «بوف» ليست سوى وجهةَ نظرِ، وتتكون كليًّا من بياناتٍ، وهي متحررة تمامًا من جسدها المادي. استمر هذا التصور طوال تسعينيات القرن العشرين، وجُسِّد في كتبٍ مثل «مايند تشيلدرن» لهانز مورافيتش (١٩٩٠)، وأفلامٍ مثل «ترون» (كوشنر وستيفن ليزبرجر، ١٩٨٣)، و«ماتريكس» (أوزبورن واتشوسكي وواتشوسكي، ١٩٩٩)، وفيلم «الطابق الثالث عشر» (إيميريش وآخرين، ١٩٩٩). وباقتران هذه المراجع الروائية مع المجال الأكاديمي الناشئ لدراسات الإنترنت أسَّسا نموذجًا للتفكير بشأن الويب، كان كامنًا بشدةٍ في مفهوم أن الشبكات الرَّقْمِيَّة تمضي بالتوازي مع «الحياة الحقيقية»، ولكنها تظل منفصلةً عنها.٣

دفعت إمكانية التواصل اجتماعيًّا مع الناس عن طريق الشبكة بعضَ الأشخاص للقلق من احتمالية اختفاء الفضاءات العامة النابضة بالحياة؛ فلو أنَّ في استطاعة المرء أنْ ينجز كلَّ شيء عن طريق الإنترنت — كالعمل والتسوق والمعاملات البنكية وطلب الطعام — فما الداعي لمغادرة المنزل؟ ولا شك أن استعمال الهواتف المحمولة والاتصال بالإنترنت من خلالها ساهَمَا في تحرير الناس من فضاءات أعمالهم الثابتة وقيامهم بأنشطة أثناء الحركة مثل: الحديث، والتسوق، والتنسيق مع الآخرين. لهذه الأسباب، كثيرًا ما كان يُنظَر إلى الهواتف المحمولة أيضًا على أنها تفصل الناسَ عن أماكنهم المادية، والأهم من ذلك أنها تفصلهم عن التفاعل الاجتماعي في تلك الأماكن. في مرحلةٍ ما شعر كلُّ شخصٍ منَّا بالانزعاج من استخدام الهواتف المحمولة في المطاعم ووسائل المواصلات العامة وفي الفضاءات العامة.

ولكن الأمر يتعدَّى مجرد الإزعاج؛ فقد غيَّرَ ذلك طريقةَ تفكيرنا في الويب؛ فلم تَعُدِ البياناتُ متفرقة فقط، ولكنها أصبحت واسعةَ الانتشار ومحدَّدةَ الموقع أيضًا، وتغيَّرَتِ الفكرةُ الرئيسية السائدة بشأن الويب؛ من الافتراضية إلى الحركية. عكست الدراساتُ الجديدة الطرقَ المتغيِّرة التي يستطيع بها المستخدمون التفاعُلَ مع شبكة الاتصال، وفيما بينهم. وبالرغم من كون القدرة على فعل أشياء (كالتواصُل مع الآخرين والوصول للبيانات) أثناء الحركة ليسَتْ أثرًا مباشرًا لرواج الهواتف ذات الإدراك المكاني، فإنها تحدَّتْ الِافتراضاتِ القديمةَ عن حالة الفضاءات المادية ومفهوم الويب. ما أُطلِق عليه نموذجُ الحركيات (شيلر وأوري، ٢٠٠٦) لا يختصُّ بالويب وحده، ولكن تركيزه على الفضاءات المادية والقدرة على الاتصال هيَّأَ الأجواءَ أمام طريقةٍ جديدة للتفكير بشأن ثنائية الافتراضي/المادي. لو أن الاتصال بالويب خلال تسعينيات القرن العشرين كان يعني التحديقَ في شاشة ثابتة، فاليومَ صار الاتصالُ يعني بصورةٍ متزايدة السيْرَ في فضاءات عامة، ومشاهدة شاشات إعلانية مختلفة، وشراء ملابس، والتحدُّث إلى شخصٍ ما على هاتف محمول.

أغلقَتْ «جيوسيتيز» أبوابها رسميًّا في ٢٦ أكتوبر ٢٠٠٩، وتنحَّى جانبًا تصوُّرُ الشبكة بوصفها مدينة رمزية، وترَكَ الساحةَ لواقعية الويب بوصفها «جزءًا» من المدينة. كلما واصلت معلومات العالَم طريقَها نحو الارتباط بالموقع والقابلية للبحث، وازدادت سرعة الشبكات ذات النطاق العريض والشبكات الخلوية، وارتفع «ذكاء» الأجهزة المحمولة؛ فقَدَت الويب انفصالَها عن العالَم الذي سعت إلى تصنيفه. «لم تَعُدِ الإشاراتُ إلى الفضاءات المادية على الويب (مثل: هوليوود وسيليكون فالي) إشاراتٍ رمزيةً إلى المعلومات الرَّقْمِيَّة، بل صارت الفضاءات المادية هي سياق هذه المعلومات.» لم يَعُدْ بمقدورنا الحديث عن حياتنا «الحقيقية» وحياتنا الرَّقْمِيَّة، يمكننا فقط الحديث عن الواجهات البينية التي تتجمع خلالها قنوات اتصالنا المتعددة (وجهًا لوجه، والرسائل الإلكترونية، والرسائل النصية القصيرة، ووسائل أخرى كثيرة). في تسعينيات القرن العشرين سيطرَتْ فكرةُ «المدينة الافتراضية» على أخيلة الناس (دوناث، ١٩٩٧؛ ميتشيل، ١٩٩٥)، أما في وقتنا الحاضر، فلا توجد مدينة ويب رقمية، وبدلا من ذلك، بالنسبة إلى غالبية الناس، لا توجد مدينة مادية دون الويب.

(٣) الإدراك المكاني

تُشَكِّل الخدمات المعتمدة على الموقع القطاعَ الأسرع نموًّا في مجال تكنولوجيات الويب مع نموٍّ متوقَّعٍ للأرباح من ٥١٥ مليون دولار في عام ٢٠٠٧، إلى ١٣٫٣ مليار دولار في عام ٢٠١٣ (آلايد بيزنيس إنتليجانس للأبحاث، ٢٠٠٩). ومن بين الخدمات المعتمدة على الموقع، تُعَدُّ الملاحةُ الشخصية (وهي خدمات تتيح للمستخدِمين الوصولَ إلى الموقع والبيانات ومشاركتهما مع الأصدقاء) الأسرعَ نموًّا، وكل المؤشرات تدل على أن دمج بيانات الموقع في التطبيقات الاجتماعية والتجارية لن يتباطأ. أعلن «تويتر» في ديسمبر عام ٢٠٠٩ أنه سيتيح بيانات مواقع التغريدات. وفي مارس عام ٢٠١٠ أعلن «فيسبوك» أنه سيبدأ في إلحاق بيانات الموقع بتحديثات الحالة من خلال ما كان يُطلَق عليه «أماكن فيسبوك». وأُطلِق موقع باز الذي يمثل محاولة «جوجل» لِلَّحَاق برَكْب شبكات التواصُل الاجتماعي، في عام ٢٠١٠ مع خاصية الإدراك المكاني. قاد توافُر بيانات الموقع إلى ظهور تطبيقاتٍ مثل: «جيو تشيرب» أو «تويتر ماب» الذي يضع التغريدات في سياقٍ يعتمد على الإحداثيات الجغرافية، أو «تويت أراوند»، وهو خريطة واقع معزَّز تمزج بين خاصية الكاميرا في الهاتف الذكي والتغريدات المرتبطة بالموقع.

fig3
شكل ٣: واجهة تطبيق «جيو تشيرب» على موقع www.geochirp.com. من إنتاج شركة «كيو بلوكس تكنولوجيز الخاصة المحدودة». ٢٠١٠ كيو بلوكس تكنولوجيز الخاصة المحدودة. جميع الحقوق محفوظة. نُشِرت بتصريحٍ من كيو بلوكس تكنولوجيز الخاصة المحدودة.
fig4
شكل ٤: واجهة تطبيق «تويت أراوند» لهاتف «آي فون». نُشِرت بتصريحٍ من مايكل زولنر.

وبالرغم من أنه من المرجح أن تتغير هذه التطبيقات وكل التطبيقات التي نناقشها في هذا الكتاب، نودُّ أن ننبه إلى ما تفعله هذه التطبيقات وطريقة فعله؛ لذلك، حتى لو لم تَبْقَ تلك التطبيقاتُ متاحةً، أو لو تغيَّرَتْ تمامًا في مرحلتها الاختبارية النهائية، يمكن استخدامُ هذه الأمثلة لعرض وظيفتها الأشمل.

الموقع المكاني شكلٌ متزايد النفع لتجميع البيانات لمتصفِّح الويب على الأجهزة الثابتة، ولكنه «أساسي» بالنسبة إلى تطبيقات الأجهزة المحمولة. ولا شك في أن من خصائص الهواتف المحمولة (الذكية) الرئيسية قدرتها على تحديد مكان الشخص ووضع سياقٍ لتعامُله مع الويب؛٤ فعلي سبيل المثال: تتيح الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع، مثل «فورسكوير» و«لوبت»، للمستخدمين رؤيةَ مكانِ تواجُد «أصدقائهم» على شاشات هواتفهم المحمولة. وبالمثل، يمكن الإعلانَ المعتمِد على الموقع إيصال قسائم شرائية أينما كان المستخدِم في نطاقٍ محدَّدٍ لمتاجر بعينها،٥ وتسمح تطبيقات الأجهزة المحمولة التي تتيح التعليقات التوضيحية — مثل «ويكي مي»، و«جيو جرافيتي»، و«مازجات خرائط جوجل» — للأفراد بالوصول إلى المعلومات الخاصة بالأماكن وتحميلها. ولأنه باستطاعة المستخدمين تخصيص المعلومات التي يرغبون في التفاعل معها (أيًّا من الأصدقاء يرغبون في رؤيتهم، وأيَّ قسائم شرائية يرغبون في الحصول عليها، وأيَّ بياناتٍ يرغبون في الوصول إليها)، فالآن يستطيع الناسُ استخدامَ تلك الأجهزة لإضفاء طابعٍ شخصيٍّ على خبراتهم مع الفضاءات المادية والتحكم في تلك الخبرات؛ فالعالم المادي مليء بالمعلومات، ويستطيع مستخدمو الويب تنظيمَ تلك المعلومات في الأماكن التي قد يتواجدون بها.

تحيط قاعدةُ البيانات بنا من كلِّ مكان، وبينما يفتح هذا التصورُ البابَ أمام بعض الاحتمالات المشوِّقة لصِيَغ جديدة من التفاعل مع العالم وفيما بيننا، فليس صعبًا تخيُّل الأخطار الموازية؛ فإحدى عواقب قدرة المرء على تحديد موقع الأشياء والأشخاص هي أنه يمكنك أنت نفسك تحديد موقعك، وقد تكرَّرَتْ كثيرًا نظرةُ الشك والخوف من التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني بدعوى التهديدات المحتملة للخصوصية الشخصية والمراقبة العليا والموازية الوشيكة.

ومع ازدياد تَقبُّل الناس لفكرة السماح لأجهزتهم بتتبُّع إحداثياتهم المكانية، ومع تنامي اعتيادهم على تأثير موقع عنوان بروتوكول الإنترنت الخاص بهم على نتائج البحث، ومع توقعاتهم برؤية إعلانات مرتبطة بالموقع، أصبحوا منفتحين على البيئة المحيطة. المراقبةُ أكثر من مجرد كاميرا مخبَّأة وضابطِ شرطةٍ متخفٍّ، فالبيئاتُ المحيطة تتعقَّبُنا من خلال البيانات الشخصية التي نكشفها طوعًا. عندما قدَّمَ روجر كلارك (١٩٨٨) مفهومَ رصد البيانات في عام ١٩٨٨، كان يشير في الأغلب إلى تعقُّب البيانات الشخصية خلسةً باستخدام آلات مركزية، أما في وقتنا الحاضر، فقد جعلَتِ الأجهزةُ ذات الإدراك المكاني رصْدَ البيانات أمرًا طبيعيًّا، بل مكوِّنًا ضروريًّا أيضًا لتعاملاتنا اليومية مع الويب. فتُعَدُّ مشاركتنا للبيانات أمرًا ضروريًّا لكي نحسن «استخدام» الويب.

يوفِّر رسم خرائط للمعلومات والناس البنيةَ التحتية التي يمكن من خلالها وضع المستخدم على مسافة نسبية من كل مكان في العالم. ولكننا لا نقول إن المستخدمِين يشعرون بالضرورة بأنهم قد صاروا أقربَ إلى العالم المرسوم في الخرائط؛ فقد أشار الفيلسوف مارتن هايدجر (١٩٧١) إلى أن الراديو في خمسينيات القرن العشرين لم يقرِّب بين أنجاء العالَمَ؛ فالاستماع إلى صوت المذيع، بينما يبدو شديدَ القرب كما لوكان بالغرفة ذاتها، ليس في واقع الأمر سوى الفهم الخاطئ لانعدام المسافة. عادةً ما يُشَغِّل الناس الراديو عندما يشعرون بالوحدة، ولكن لا يوجد أي حميمية في الاستماع إلى ذلك الصوت، فقط يوجد انطباعٌ بوجودِ حميميةٍ، وهذه الحميمية في جانبٍ كبيرٍ منها مصطنعة.

في الممارسة الفعلية، للقُرْب المادي والقُرْب عن طريق وسيطٍ، تأثيراتٌ متباينة على سلوك الناس؛ فإذا تصوَّرْنا — مثلًا — شخصين يجلسان متجاورين في حافلة ركاب، فإن لكل منهما مسئوليةً تجاهَ الآخر ليسَتْ موجودةً لدى شخصٍ يستمع إلى آخَر عبر الراديو. فلو جرح الشخصُ الجالس بجوارك ذراعه أثناء جلوسه، فستسأله على الأرجح عمَّا به، أما لو وصَفَ الصوتُ الذي تستمع إليه في الراديو إصابتَه بشيءٍ مماثل، فمن المستبعد تمامًا أن تتصل بمحطة الإذاعة لتسأل عن حالته. تتضح المسافة عندما نتذكر وجودنا في الموقع المادي.

ولكن مع تغيير تكنولوجيات الإدراك المكاني وممارساته الطريقة التي يدرك بها الناس موقعهم المادي، يضيق تدريجيًّا الفارقُ بين القُرْب وانعدام المسافة. يصطنع الإعلامُ المسموع إحساسًا بالحميمية بجعل الأمر يبدو وكأنَّ مذيعَ الراديو موجودٌ معك في الغرفة نفسها ويتحدَّث إليك، وهذا الأمر يحدث من طرفٍ واحدٍ فقط؛ فالراجح أن مذيع الراديو لن يبادِلَ كلَّ مَن يستمع إلى برنامجه هذا الشعورَ نفسه. ولكنْ أن يضع المرءُ نفسَه في موقعٍ يربطه ببقية العالَم، فإن في ذلك تحدِّيًا للتمايُز الصارم بين ما يبدو قريبًا من خلال وسيطٍ وبين ما هو قريب حقًّا (كولدري ومارخام، ٢٠٠٨). عندما يصبح المرء مُدْرَجًا على خريطة، وموضوعًا في علاقةٍ جغرافيةٍ مع أشياء محددة على الخريطة، فإن ذلك يُوجِد نوعًا من الإحساس بانعدام المسافة، وكأنَّ هناك وصولًا عالميًّا لكل شيء، ولكنْ يوجد مع ذلك شعورٌ بالقرب، وفي هذه الحالة فإنَّ كلَّ شيء يُقاس بالمسافة الفعلية بينه وبين المراقب.

لم يَعُدْ تحديدُ المرء لموقعه مجردَ صورةٍ من المشاركة، مثل إضافةِ تعليقٍ إلى مدونة أو نشرِ تعقيبٍ على يِلب، بل صار يهيِّئ فعليًّا ظروفَ التفاعل ويوفِّر السياقَ الذي تُؤَوَّل المعلومات وتُستخدَم من خلاله؛ ولذلك فإن للموقع أهميةً أكبر مما لبقية صور الهُوِيَّة الشبكية. يَبْني اسمُ المستخدم والصورة التي ترمز إليه (الأفاتار) الهُوِيةَ (تيركل، ١٩٩٥؛ دوناث ١٩٩٧)، أما الموقع فيَبْني الإطار الذي يمكن من خلاله للهُوِيَّة أن تتشكَّل؛ فهو يحدِّد موضعَ المستخدم في شبكةٍ ما، ليس فقط بوصفه عضوًا في مجتمعٍ على الإنترنت، ولكن في علاقته بالشبكة عمومًا. يخلق الوضوحُ الجذري للبيانات المحددة الموقع للمستخدمين «إمكانيةَ» أن يختبروا قُرْبًا ذا مغزًى من الأشياء والأشخاص (كولدري ومارخام، ٢٠٠٨؛ سكانيل، ١٩٩٦). إن تحوُّلَ التفاعل الاجتماعي عبر الوسيط من مجرد انعدام المسافة — كما وصفه هايدجر — إلى القُرْب هو مسألة ممارسة.

(٤) قراءة هذا الكتاب

لم تَنْفُذ الويب نفاذًا تامًّا إلى كلِّ منحًى من مناحي حياتنا، ولكن يبدو الأمر كتصدُّعٍ في سدٍّ، تفيض منه البيانات الشبكية إلى فضاءاتنا المادية. وتستحِثُّ التكنولوجيات الجديدة هذا الفيضان؛ ومع ذلك فالرغبة في ربط المعلومات بالموقع تسبق كثيرًا التكنولوجيا التي نستخدمها في الوقت الحالي.

الخرائط هي أولى التقنيات التي تعمَد إلى تيسير الإدراك المكاني. وبدلًا من الكتابة في تاريخ عمل الخرائط، نتناول في الفصل الأول الممارساتِ الخاصةَ بصنع الخرائط الاجتماعية، أو استخدام الخرائط لإنجاز أهداف جماعية؛ فندرس تاريخَ ممارسات صنع الخرائط الاجتماعية، بدءًا من تفشِّي وباء الكوليرا في لندن، إلى التجارب الأولى مع نظام المعلومات الجغرافية، إلى وضع الخرائط المعتمدة على الويب، الذي جعل نشاطَ ربْطِ الخرائط بالمعلومات والناس طبيعيًّا في الحياة اليومية. وندرس طريقةَ تغيير «خرائط جوجل» للبحث عبر الإنترنت بوجهٍ عامٍّ، بالإضافة إلى عملها كأداةِ ملاحة. لقد أصبح الموقع محوريًّا بالنسبة إلى طريقة تصفح المعلومات؛ ونتيجةً لذلك صار محوريًّا أيضًا بالنسبة إلى الطريقة التي نتوقَّع أن يجري بها تصفحنا نحن.

الأجهزةُ المحمولة هي الأداة الرئيسية التي تتيح لنا إمكانيةَ الوصول إلى الموقع المكاني. ويأتي الكثيرُ من البيانات المنتَجة والمحددة على الخريطة من تكنولوجيات الأجهزة المحمولة ذات الإدراك المكاني. ومع استمرار أنظمة الجي بي إس وأنظمة تحديد الموقع بأبراج الهواتف المحمولة في تسجيل بيانات الموقع في معظم الأجهزة المحمولة، فإن خاصيةَ وضْعِ المعلومات في سياق الفضاء المادي أصبحَتْ آليةً. وبالرغم من الدور الكبير للهواتف «الذكية» الحديثة، مثل «آي فون» وهواتف نظام «أندرويد»، في نشر التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني، فإننا نشير في الفصلين الثاني والثالث إلى تاريخٍ من المشروعات الفنية والبحثية، من أدوات إضافة التعليقات التوضيحية المرتبطة بالمكان، إلى الألعاب المعتمدة على الموقع، التي أثَّرَتْ في الوضع الحالي للإدراك المكاني. بينما يركِّز الفصل الثاني على مشروعات تطبيقات الأجهزة المحمولة التي تتيح إضافةَ التعليقات التوضيحية — القدرة على إرفاق المعلومات بالمواقع — يناقش الفصل الثالث تطوُّرَ الشبكات الاجتماعية المعتمدة على الموقع، ويوضِّح كيفيةَ تزايُد اعتماد التفاعلات الاجتماعية في الأمكنة الرَّقْمِيَّة على موقع المستخدِم. يثبت هذا التاريخُ الثري من التجارب وجهةَ نظرِنا التي مُفادُها أن الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة ليسَتْ نتاجَ تكنولوجياتٍ بعينها، ولكنها ظهرَتْ من الحاجة الاجتماعية لوضع أنفسنا في سياقِ شبكةِ معلوماتٍ متنامية.

لهذا الأمر تداعيات كبيرة على المدن. يتناول الفصل الرابع ما يحدث في المدن، وطريقةَ تغييرِ هذه الأدوات وهذه الممارسات للفضاءات العامة والتفاعلات فيها. فالفضاءات الحضرية تتحوَّل لتصبح هجينة (دي سوزا إي سيلفا، ٢٠٠٦)؛ ما يعني أنها تتألف من اندماج الممارسات المادية والرَّقْمِيَّة معًا. فبالنسبة إلى كل شخص، تنشأ البيئةُ الحضرية من خلال الإدراكات الحسية للمعلومات والبشر القريبين، وتُتَرْجِم خبرةُ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة ما ندركه على أنه قريبٌ، وطريقة إدراك الوجود المشترك للأشخاص الآخرين. إن إدراكَ مكانِ وجودِ شخصٍ ما في لعبةٍ للأجهزة المحمولة تعتمد على الموقع، أو متابَعةَ تحديثاتِ موقعِ شخصٍ ما على شبكة تواصُل اجتماعي تعتمد على الموقع؛ يغيِّر إدراكات المرء بشأن تركيب البيئة وحدودها. وإذ نحرص على ألا نمدح كثيرًا تلك التغيُّرات في ظروف الفضاءات العامة الحضرية، نعتقد بأهمية تأسيس إطارٍ ندرسها من خلاله، ويكون مختلفًا عن إدراكنا التقليدي لما يصنع «الفضاءات العامة الجيدة».

كيف يؤثِّر هذا، إذًا، على الطريقة التي نتفاعل بها في مجتمعاتنا وفي المحيط العام؟ يُمكِّن الوعي بديناميكيات الموقع المستخدمين من العمل ضمنَ تلك الديناميكيات. ندرس في الفصل الخامس كيف تُغَيِّر الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة التفاعُل المجتمعي والسياسة المحلية والمشاركة المدنية. من الخدمات المجتمعية الخاصة بإرسال رسائل بريد إلكتروني إلى قوائم من الأشخاص ذوي الاهتمامات المتماثلة، إلى المدونات الخاصة بالمجتمعات الصغرى (كالمدن الصغيرة والأحياء والقرى)، إلى «أدوات المشاركة» التي ترعاها الحكومة؛ يتغيَّر مشهدُ المشاركة المحلية. مَن الذي يمكنه المشاركة، وبأي صفة؟ هو سؤال مفتوح، تبحث له المنظماتُ الشعبية الأهلية، والمبدعون المحليون، وإداراتُ المدن عن إجابةٍ. وليس الإدراك المكاني بالطبع متاحًا للجميع؛ فالفجوةُ الرَّقْمِيَّة مشكلةٌ حقيقية بينما تصبح الأمكنةُ الرَّقْمِيَّة هي منصة السياسة العامة.

وتمامًا مثلما يُعاد تنظيم المحيط العام، فكذلك المحيط الخاص. لنَقُلْ بوضوح إن الأجهزة المتصلة بالشبكة تستطيع تتبُّع مواقع مستخدميها، وتُجَمِّع الشركاتُ الخاصة والوكالاتُ الحكومية بيانات الموقع لتتمكَّن من متابَعةِ أبرز النَّزْعات العامة، ويتتبَّع المستخدمون بياناتِ «أصدقائهم» ليعزِّزوا التواصُلَ معهم ويتابعوهم. ويتحدَّى هذا النمطُ من المراقبة فكرةَ الخصوصيةِ التقليديةَ. ونشير في الفصل السادس إلى حاجتنا إلى إعادة النظر فيما تعنيه الخصوصية، وذلك في ضوء الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة. وتُعَدُّ الخدمات المعتمدة على الموقع أسرعَ قطاعات الويب نموًّا؛ لأن شعور الناس بالارتياح حيال الكشف عن موقعهم يزداد ما داموا يشعرون بأنهم يجنون شيئًا في مقابل ذلك الكشف، وهذا الشيء هو وضع المرء نفسه في سياقٍ ضمن تلك الشبكة الرَّقْمِيَّة الممتدة، ويُصوَّر ذلك على أنه تضحية مقبولة فقط في حالةِ شعورِ المستخدم بأنه يستطيع التحكُّم في مدى ما يكشف عنه، ومن الذين يُكشَف لهم. وما زال معظم الناس لا يمتلكون أية فكرةٍ عمَّا يفعله مقدِّمو الخدمة ببيانات الموقع التي يجمعونها.

الأمثلة التي نستخدمها خلال هذا الكتاب مستقاة في الأغلب من الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وقد يكون مبالغةً في الطموح أن نشير إلى قابليةِ تطبيقِ هذه الظاهرة في كل أنحاء العالم؛ ومن ثَمَّ فإننا نحاوِل في الفصل السابع توسيعَ مناقشتنا لتشمل بيئاتٍ ثقافيةً أخرى، تحديدًا من خلال دراسةِ دولتين آسيويتين هما الصين واليابان. فالممارساتُ التي نذكرها في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، ومعاييرُ السلوك المبنية حولها، ليست ساريةً في جميع أنحاء العالم؛ فكلُّ ثقافةٍ لديها افتراضاتٌ متفردة بشأن الخصوصية والعمومية، والحياة الاجتماعية وأسلوب الحكم. وبالنظر إلى الفروق الدقيقة في طرق الإدراك التي تؤثِّر في استخدام التكنولوجيا، فإننا نقترح إطارًا يمكن من خلاله فهْمُ المكانيات الرَّقْمِيَّة في سياق عالمي. ليس المقصود من هذا الفصل أن يكون دراسةً مستفيضةً عن بلدَيْن، ولكن أن يكون حُجَّة معارضة لعالمية ما نشير إليه؛ فالْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة ظاهرةٌ عالمية حقًّا، ولكن لا بد من التفكير فيها محليًّا؛ فطريقةُ تخصيص كل ثقافةٍ بعينها للتكنولوجيا، وتكييف الممارسات الاجتماعية، وإنتاج مرجعيات ثقافية، ستؤثِّر على مدلول الموقع.

وأخيرًا، في خاتمة الكتاب، نتناول مستقبلَ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة والإدراك المكاني على نحوٍ أكثر عموميةً؛ فالبنية الأساسية للتكنولوجيا يجري بناؤها في كل أنحاء العالم، ويشمل ذلك شبكةً عالميةً لهواتف الجيل الرابع الخلوية ستغيِّر تغييرًا جذريًّا كيفيةَ تعامُل الناس مع الإنترنت؛ فهي أسرع وأفضل وقادرةٌ على استيعاب الاتصال بين الأجهزة. لن يعود هاتفك وكمبيوترك محصورَيْن في نطاقات ضيقة؛ فالأجهزة — التي تشمل تليفزيونك وجهازَ ألعابك — ستصبح نقاطَ وصولٍ لشبكة موضوعة في سياقها وواسعة الانتشار. وبالطبع ستوجد آثارٌ لهذا المستوى من الاتصال؛ فمثلًا: وكما ذكرنا من قبلُ، التكنولوجيا التي تسمح بإرسال إعلانات مخصَّصة لك مباشَرةً إلى جهازك المحمول الذي يشير إلى الأماكن التي تتواجد فيها وما اشتريتَه من قبلُ؛ متاحةٌ بالفعل. ولكن المعايير الاجتماعية التي يمكن من خلالها جعْلُ تلك التكنولوجيات مقبولةً على نطاقٍ واسعٍ لا وجودَ لها بعدُ. وسنتمتع بمزيدٍ من الإدراك المكاني مع بَسْط الشبكات التكنولوجية لتأثيرها على كل منحًى من مناحي حياتنا. على أية حال، يبقى التساؤل حيال ما إذا كان هذا الإدراك سيعرِّض للخطر حريتَنا الشخصية وقدرتَنا على الفعل، أم أنه سيُعلِي منهما في عالَم معقَّد ومتشابك.

هوامش

(١) ومع ذلك فنوعُ التفاعلية الذي استحوَذَ على «روح عصر الويب في عام ١٩٩٥» (جونسون، ٢٠٠٣) كان بعيدًا عن النماذج الأصلية لتنظيم واستعادة المعلومات التي تصوَّرَها روَّادُ الشبكة العالمية فانيفار بوش وتيد نيلسون وتيم بيرنرز لي. في مقاله المؤثر «كما قد نظن»، اقترَحَ بوش (١٩٤٥) طريقةً ثوريةً لتنظيم المعلومات، اتبعت طريقةَ عملِ تفكيرنا: بواسطة الربط بدلًا من طريقة التسلسل الهرمي. فمن وجهة نظر بوش، لم يكن وضْعُ الأشياء في تصنيفات، مثلما تفعل دائرة المعارف، غير مُجْدٍ فحسب (لأنه لم يماثِل الكيفيةَ التي نربط بها بين أفكارنا)، ولكن يعجز أيضًا عن الوصول إلى القدر المتزايد من المعلومات واستعادتها. وبعد حوالي ٢٠ عامًا، قدَّمَ تيد نيلسون (١٩٦٥) — متَّبِعًا أفكارَ بوش — نظامَ كمبيوتر سماه «زانادو»، كان يسمح بالربط غير التسلسلي بين الوثائق الإلكترونية. ثم مستندًا على تصوُّرات بوش ونيلسون الخاصة بتنظيم المعلومات عن طريق الربط، صمَّمَ تيم بيرنرز لي (بيرنرز لي وآخرين، ١٩٩٤) الشبكة العنكبوتية العالمية للمرة الأولى.
(٢) أتاحَتْ مواقعُ الشبكات الاجتماعية سهولةً ومرونةً في مشاركة المعلومات؛ فبدايةً من عام ٢٠٠٩، كان أكثر من ٥٥٪ من مراهقي الولايات المتحدة (تتراوح أعمارهم بين ١٢ و١٧ عامًا)، و٧٥٪ من البالغين (تتراوح أعمارهم بين ١٨ و٢٤ عامًا) يستخدمون مواقع الشبكات الاجتماعية، ونحو ٦٠٪ من متلقِّي الأخبار كانوا يحصلون على بعض أخبارهم أو كلها عبر الإنترنت. وبتفصيلٍ أكثر، أشار تقريرٌ من «بيو إنترنت آند أمريكان لايف بروجكت» إلى أن تلقِّي الأخبار أصبح «عبر الأجهزة المحمولة، وأصبح مخصَّصًا ويتَّسِم بالمشاركة»، مع حصول ٣٣٪ من مالكي الأجهزة المحمولة على الأخبار عبر أجهزتهم المحمولة، وتخصيص ٢٨٪ من مستخدمي الإنترنت صفحاتِ البداية الخاصة بهم لتوصيل الأخبار، وتعليق ٣٧٪ من مستخدمي الإنترنت على الأخبار أو نشرها عبر فيسبوك أو تويتر (بورسِل وآخرين، ٢٠١٠).
(٣) لتفاصيل أكثر حول هذا الموضوع، انظرْ تيركل، ١٩٩٥؛ كاستيلز، ٢٠٠٠؛ نيجروبونتي، ١٩٩٥.
(٤) لتحليلٍ أكثر تفصيلًا حول هذا المفهوم، انظرْ هَمفريز، ٢٠٠٧؛ دي سوزا إي سيلفا، ٢٠٠٦، ٢٠٠٩؛ دي سوزا إي سيلفا وسوتكو، ٢٠٠٩؛ جوردون، ٢٠٠٨.
(٥) أصدرَتْ محلات «تارجت» تطبيقًا لهاتف «آي فون» مُعَدًّا خصوصًا لهذا الغرض في بدايات عام ٢٠١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤