الفصل الخامس

المجتمع

في كتابه «لعب البولينج وحيدًا»، يفترض عالِم الاجتماع روبرت بتنام (٢٠٠٠) أن الأمريكيين ماضون في الانفصال بعضهم عن بعض. وكما توحي الاستعارة في عنوان الكتاب، فهم يستمرون في المشاركة في أشياء، ولكنهم لا يفعلونها معًا؛ فهم يلعبون البولينج، ولكن ليس في جماعات. ويفترض أن المشاركة المدنية تتلاشى سريعًا من حياة الأمريكيين اليومية، وأن الناس لا يشاركون في بنى المجتمع التقليدية بالاستمرارية ذاتها التي كانت فيما مضى؛ فمن المستبعد تقريبًا أن يدلوا بأصواتهم، أو أن يشاركوا في اجتماعات الحي، أو أن يتطوَّعوا في منظمةٍ محليةٍ. في العام الأول من الألفية الجديدة، حينما أُصدِر الكتاب، كانت المؤشرات كلها سوداوية، وتبعًا لبتنام، فإن المشاركة المدنية في خطر؛ فهي مهدَّدة بأشياء منها: ثقافة الضواحي، والتليفزيون، وكل تكنولوجيا أخرى يمكن أن تفصل الناس بعضهم عن بعض.

في عام ٢٠١٠، نشر بتنام وزميله توماس ساندر مقالًا متابِعًا للكتاب، بعنوان «أَمَا زلنا نلعب البولينج وحيدين؟» سجَّلَا فيه ارتدادًا في هذه النزعة. وكما يفترضان، يعيد جيل «ما بعد الحادي عشر من سبتمبر» من الشباب انخراطَه في المجتمع. شهدت انتخابات الرئاسة الأمريكية لعامَيْ ٢٠٠٤ و٢٠٠٨ انتعاشًا في مشاركة الشباب في العملية السياسية، وكان الشباب يتناقشون في الموضوعات السياسية بتواتُر أكبر، وأَبْدَوْا تفاؤلًا أعظم بقدرتهم على إحداث تغييرٍ في الدولة. يربط ساندر وبتنام بين هذا التحوُّل وبين الفاجعة القومية التي جلبتها أحداثُ الحادي عشر من سبتمبر، ويفترضان أن هذه الفاجعة استثارت وعيًا إيجابيًّا بدور الحكومة والأُمَّة بين الشباب، وجمَعَتْهم حول جرحٍ مشتركٍ.١
وبالطبع، يصعب تمامًا ربْطُ هذا التحول في توجهات الشباب بمسبِّبات معينة؛ فكما يلحظان في مقالهما، كان لصعودِ برمجيات التشبيك الاجتماعي بعضُ الأثر بالتأكيد، ولا يمكن تجاهل التدوين والاتصال باستخدام الأجهزة المحمولة، والتكنولوجيات الاجتماعية الأخرى. وبينما استمر بعض المعلقين في الاستخفاف بالتنامي السريع للاتصال الرقمي، على اعتبار أنه يؤثر تأثيرًا ضارًّا بالحياة الاجتماعية، مُفسِدًا أشكالًا أكثر تقليديةً من التواصُل، فهناك معلِّقون آخَرون شديدو التفاؤل بالطريقة التي شكَّلَتْ بها هذه الوسائطُ روابطَ وطيدةً بين الشباب، واستحثَّتْهم على المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية.٢ يبدي ساندر وبتنام (٢٠١٠) تفاؤلًا حَذِرًا بشأن الوسائط الرَّقْمِيَّة، ملاحظَيْن أن «هذا الاختراع المدني التكنولوجي ما زال في مهده»، وأن الجهد الحقيقي مطلوبٌ لكي تنتج الأدواتُ المستندة إلى الإنترنت «تأثيراتٍ مدنيةً حقيقية ودائمة» (صفحة ١٥)، خاصةً إذا كان عليها أن تتصدَّى للفجوات الاجتماعية التي لا شكَّ أنها ساعدَتْ على تكوينها.

يستلزم فهم الارتباط بين التكنولوجيات الشبكية وبين المشاركة السياسية، أن ننظر في الآثار المترتبة على الإدراك المكاني. لا يأخذ ساندر وبتنام في اعتبارهما التداخُلَ بين الويب والمواقع المكانية؛ فهما يستمران في رؤية الويب على أنه هذا الفضاء الآخَر الذي قد يصنع سلوكياتٍ معضِّدةً للمجتمع، مقابلَ رؤيتها على أنها أداة أدمَجَها الناسُ في حياتهم لكي يُنجِزوا مهام الحياة اليومية. إذا نظرنا نظرةً مدقِّقة إلى ما يجعل الناس، وخاصةً الشباب، أكثرَ انخراطًا في الحياة العامة، فلا يمكننا أن نتجاهل المزايا التي تتيحها المكانيات الرَّقْمِيَّة للفعل المدني؛ فكلما أصبح الناس على إدراك بالمكان أصبح بإمكانهم اكتسابُ وعي بالتأثير السياسي للمواقع المكانية. تناولنا هذا بالفعل ضمن مناقشتنا للتغيُّرات في الفضاءات الحضرية العامة، ونريد الآن أن نعالج هذا الأمرَ من زاوية الانخراط في المجتمع المدني. كيف تستحثُّ المكانيةُ الرَّقْمِيَّة العملَ المدني؟ وكيف تعزِّز قدراتِ الناس في أحيائهم ومجتمعاتهم المحلية؟ والأمرُ الأكثرُ أهميةً هو: ما التهديدات المصاحبة لها من حيث تعميق الفجوات القائمة في المشاركة؟

(١) المجتمع المحلي والمجتمع

تؤثِّر الدراية بالموقع المكاني في حياة المجتمعات المحلية بطرقٍ لا حصرَ لها؛ في كل شيء، من الاحتجاجات الحاشدة، إلى جيران يتواصلون عبر الإنترنت، إلى أناسٍ يتعاملون مع الخدمات الحكومية. نحن نشير إلى اتجاه في الحياة المحلية في المدن؛ حيث يسخِّر الناسُ والحكومات إمكانيات استخدام المكانيات الرَّقْمِيَّة لينظموا مجتمعاتهم المحلية، وليطوِّروها (كما هو مأمول). إلا أن ذلك لا يحدث بالطبع دون خلافات؛ فالبعض يدَّعِي أن لهذا النوع من الاتصال آثارًا وخيمةً على المجتمعات المحلية. تستند هذه الفرضيةُ — كما ذكرنا في الفصل الرابع — إلى تاريخٍ خَصْب من الدراسات الأكاديمية التي تربط بين التكنولوجيا وتصدُّعات المجتمع المحلي. في عشرينيات القرن الماضي، افترض روبرت بارك (بارك وماكينزي وبيرجس، ١٩٢٥) أنه بينما زادت تكنولوجيات الاتصال الحديثة، مثل الهاتف، من فرص التفاعل الاجتماعي، كان لها أثرٌ مدمِّر على الصِّلات الاجتماعية المحلية؛ فالناس كانوا يتحدَّثون بقدرٍ أكبر، لكن حديثهم لم يَعُدْ موجَّهًا إلى الناس المجاورين لهم. وهذا نوع معتاد من النقد، يبدو أنه يُبعَث من مرقده مع كل تكنولوجيا جديدة تدخل إلى حياة الأحياء الشعبية. أُلقِي اللوم على أجهزة التليفزيون لتسبُّبها في عزل الناس؛ إذ حوَّلَتْ غرفَ المعيشة إلى مجال عام خاص (سبيجل، ١٩٩٢؛ ميرويتز، ١٩٨٥)، ونُعِي على الويب أنه سهَّل على نحوٍ مفرط ربْطَ الناس بأولئك المتواجدين خارجَ حيِّهم السكني (كابور، ١٩٩٣). وفي الآونة الأخيرة، اتُّهِمت الهواتف المحمولة (كما ناقشنا في الفصول السابقة) بالإضرار بالأماكن العامة، بإعطاء البعيدين أفضليةً على القريبين (كاتز وآكوس، ٢٠٠٢؛ مورز، ٢٠٠٤؛ بلانت، عام ٢٠٠١).

لا نبتغي التقليلَ من قدر هذه الانتقادات كليًّا، لكن هذا الشعور المعادي للتكنولوجيا يسرف في الاعتماد على فرضية خاطئة بأن التواصل بمساعدة التكنولوجيا يحل محل شكل نموذجي للمجتمع المحلي كان موجودًا قبل ظهوره. أشار عالم اجتماع القرن التاسع عشر، الألماني، فرديناند تونيز إلى هذا الشكل النموذجي باسم «جاماينشافت» Gemeinschaft. و«الجاماينشافت» (تُترجَم الكلمة ترجمةً فضفاضةً إلى «المجتمع المحلي») هو شكل اجتماعي جمعي قائم على الثقافة الشعبية والأواصر الوطيدة، ويَشِي بأسلوبِ حياةٍ سماتُه الفطريةُ والعفوية والتناغم، رَبَطَه تونيز بالكيفية التي يجب أن تكون عليها الروابط الإنسانية النموذجية من الألفة والدوام والثبات والخُلُق. «الجاماينشافت» مجتمع محلي يظهر للوجود بشكل طبيعي، وأعضاؤه مرتبطون بروابط قوية من القربى والصحبة، والتاريخ والمعتقدات والقواسم المشتركة. ومن وجهة نظر تونيز، كان مجتمع «الجاماينشافت» المحلي، بآلياته القوية المستمَدة من المساندة الاجتماعية، هو مصدر التضامن داخل البلدات الصغيرة والمجتمع ما قبل الصناعي. على النقيض، «جيزيلشافت» Gesellschaft (في أحط صوره) وهو المجتمع؛ فهو «يناقض «الجاماينشافت» في الكراهية الخفية والازدراء» (صفحة ٢٥٢) اللذين يحويهما. يتسم «الجيزيلشافت» بالتفرقة، وتفاوت أساليب الحياة، والتفاعلات العقلانية التي تَنْتُج عمومًا من المصلحة الشخصية والعقود الرسمية. اختصارًا، «الجيزيلشافت» هو المدينة. يرتبط الناس معًا عبر التنظيم المكاني بدلًا من العُرف والتاريخ المشترك، ويُنظَّم السلوك بإنفاذ القوانين الرسمية بدلًا من المعايير الاجتماعية. اعتقد تونيز أن «الجيزيلشافت» سيطر سيطرةً كاملةً على الحياة الاجتماعية، وأن هناك مجرد بقايا من «الجاماينشافت» ما زالت ملحوظة، وهي في طريقها إلى الزوال.

لكن هذا الحديث عن «المجتمع المحلي المفقود» هو حديث مفرط في السطحية؛ فافتراضُ أن كل الإضافات التكنولوجية إلى حياة المجتمع المحلي تُدمِّر تماسُكَه الأساسي هو افتراض ينطوي على إشكاليات جمة؛ فأجهزة الهاتف والتليغراف والسيارات والهاتف المحمول أسهمت كلها في إعادة تنظيم الحياة الاجتماعية؛ الوصل بين الناس خلال الفضاءَيْن المادي والافتراضي، وكذلك تقديم مبرِّر لقطع الاتصال. زادت هذه الأجهزة، كلٌّ بقدرٍ معينٍ، من الاتصال الاجتماعي ومن العزلة الاجتماعية في آنٍ واحد.

والويب ليس مختلفًا، هو فقط مبني، أكثر من غيره من التكنولوجيات، على خطاب المجتمع المحلي. الواقع أن كلمة «مجتمع محلي» ابتُذِلت إلى حد يصعب احتماله. يُشار في وسائل الإعلام الشعبي إلى غالبية أنشطة الويب بوصفها مجتمعاتٍ محليةً عبر الإنترنت، من مُجمِّع آلي صغير لقوائم البريد الإلكتروني إلى مجمل «الفيسبوك»؛ لذا فالمجتمع المحلي ليس هو «الجاماينشافت»؛ فمفهوم «الجاماينشافت» هو تصور مثالي، بينما يُفهَم المجتمع المحلي شعبيًّا على أنه شبكة من الناس على الإنترنت. والسبب في أن الويب عادةً ما تُقرَن باضمحلال «الجاماينشافت» هو الإسراف في الموازاة بين معنيَيِ اللفظ؛ فلو أن تطبيق «فيسبوك» عمومًا هو المجتمع المحلي الجديد، لَكان لدينا بالفعل شيء نخشاه. إن لفظ مجتمع محلي أصبح بلا معنًى، ولكن لو استطاعَتِ استخداماتٌ معينة لمواقع التشبيك الاجتماعي، مثل «فيسبوك»، أن تمد يدَ العون لمجموعات الجيران والأسرة والأصدقاء لينسجموا بطرقٍ تعزِّز حسَّ التضامن لديهم، فهذا يعني شيئًا مختلفًا كليًّا. هذا هو ما نفترض أنه يمكن أن يحدث في المكانيات الرَّقْمِيَّة.

ولكن، بالطبع، سيكون من الخطأ بالقدر نفسه أن نفترض أن المكانيات الرَّقْمِيَّة هي الشكل الجديد من «الجاماينشافت»؛ فالمكانيات الرَّقْمِيَّة تمثِّل بالفعل عمليةَ عقلنةٍ للحياة المحلية؛ فهي تترجم المعلومات والمعرفة المحليتَيْن إلى بياناتٍ يمكن للآلة قراءتها، وهي تنظم التوجه التقليدي الأساسي الذي تتَّسِم به النزعة المحلية في نظامٍ خوارزمي قابل للاستخدام وللتوسع، ولكنها أيضًا — بحكم تحفيز الاتصال المحلي جغرافيًّا — تجمع بين الشكل الذائع للمجتمع المحلي على الإنترنت، وبين دوافع «الجاماينشافت» التي تزداد انحسارًا. وهي تَمْزِج مزايا الاتصالية المستمرة مع الإجراءات الاعتيادية الطقوسية اليومية التي تتَّسِم بها مكانية ما.

كيف إذًا تُنظِّم المجتمعاتُ المحلية نفسَها لتلبِّي احتياجات فضاءاتها المحلية؟ كيف تستوعب الحكومات مزايا المكانيات الرَّقْمِيَّة أو تقاومها؟ طالما كان هناك نموٌّ سريع في استخدام الفضاءات الاجتماعية عبر الإنترنت، ذات التوجُّه المحلي؛ مثل: المنتديات على الإنترنت، والعوالم الافتراضية، والتطبيقات الهاتفية القائمة على الإدراك المكاني. تسهم هذه الفضاءات على الإنترنت في الحياة اليومية في الأحياء، وفي إعادة ترتيب العلاقات التقليدية بين الجار وجاره. بالإضافة إلى ذلك، تتزايد صناعة الأخبار من قِبَل أعضاء المجتمع المحلى، لا من قِبَل مصادر الأخبار الراسخة. وتبتكر الحكوماتُ المحلية وسائلَ للمشاركة المدنية، بإدماج التشبيك الاجتماعي والشفافية في إمكانية الوصول إلى البيانات في قائمةِ خدماتها الأساسية. تُعِيد منصات التفاعل الاجتماعي الجديدة هذه صياغةَ الطريقة التي يتشارك بها الناسُ معًا في مجتمعاتهم المحلية.

(٢) إمكانية الاتصال في الأحياء

حينما نفكر فيما يعنيه أن نعيش في حي سكني نشط ومترابط، عادةً ما يأتي في مخيلتنا الحدائق والمقاهي الشعبية والشرفات الأمامية والمراكز المجتمعية، ولا يتبادر إلى الذهن عامةً منتدى ويب. ومع ذلك، أصبح التفاعُلُ عبر الإنترنت في عددٍ متزايد من الأحياء في مختلف أنحاء العالم أمرًا مهمًّا للمشاركة في هذه الأحياء. وبينما كانت الشبكات التي تُبتكَر بهذه التكنولوجيات مقصورةً تقليديًّا على جمعيات الأحياء المرفهة — كانت المجمِّعات الآلية لتبادُل الرسائل الإلكترونيَّة وتوزيعها تُستخدَم تاريخيًّا لتوسيع جمعيات الأحياء القائمة (كالينبيرج، عام ٢٠٠٥) — فهذا الأمر آخِذٌ في التغيُّر. بحلول عام ٢٠٠٩، بلغت نسبة إشباع الويب في أمريكا الشمالية ٧٤٫١٪، بمعدل نموٍّ مقدارُه ١٣٤٪ منذ عام ٢٠٠٠ (إحصائيات الإنترنت العالمية). ويوحي هذا بزيادة ملحوظة في تنوع الأشخاص المتصلين بالإنترنت. ومع أنه ما زال من الأرجح أن الأحياء المرفهة هي التي تستخدم الويب في شئون الحي، فالفجوة آخذة في الانكماش. يمتلك المزيد من الناس إنترنت عالية السرعة في منازلهم، وتتزايد سهولة استعمال الأدوات الاجتماعية مثل «جوجل جروبس»، و«ياهو جروبس»، وقوائم البريد الإلكتروني.

غَيَّرَ الدعم الرقمي الذي قدَّمته هذه الأدوات من ديناميكيات المشاركة المحلية؛ فهي، أولًا وقبل كل شيء، تُقاوِم منهجَ المحلية المتدرجة من أعلى إلى أسفل، المقترن بجمعيات الأحياء التقليدية. وبدلًا من المشاركة في منظمة مركزية، يستطيع الناس في المنتديات على الإنترنت أن يتواصلوا من خلال شبكات غير هيكلية أو أقل هيكليةً؛ فهي تتيح إمكانية اندماج الحوارات العارضة مع الرسمية (هامبتون وويلمان، ٢٠٠٣؛ هامبتون، ٢٠٠٧). كما أن تكاليف المعاملات المرتبطة بالاتصال بالجيران منخفضة جدًّا؛ فلا يحتاج المرء لأنْ يدفع أيَّ رسوم، أو أن يكون هناك احتمالٌ للتعامُل وجهًا لوجه مع شخصٍ ما. بَيْدَ أن محتوى المبادلات في نهاية الأمر ليس هو الشأن الأهم؛ فمجرد وجود الاتصال على هذه المنتديات يكوِّن درايةً بمجتمع محلي قائم، يمكنها أن تؤدِّي إلى اتصالٍ أكثرَ استدامةً بشبكة محلية من الناس.

وبينما يزيد منتدى الاتصال على الإنترنت من سهولة الحوار وتكراره، يكفل الاتصال المحلي المقيَّد بالمكان قدرًا من الاحتراز في المعاملات. عادةً ما يستخدم الناس الذين يتواصلون عبر الإنترنت في الإطار المحلي هُوِيَّتهم الحقيقية، وهم إما يَعرف بعضُهم بعضًا مسبقًا، أو يمكن أن يتقابلوا في الشارع (ومن ثَمَّ فمن المحتمل أن يكون لديهم معلومات عن شخصيات المستخدمين الآخرين أو مسلكهم).٣ وهكذا، يقلُّ احتمال حدوث سوء الفهم والمناكدات الإلكترونية اللاذعة في هذه المواقف (كافانوه وآخرين، ٢٠٠٥)، ويؤهِّل هذا الأمرُ المنتدى لأداءِ دورٍ مسانِدٍ، وليس قياديًّا، في تشكيل المجتمع المحلي.
تدعم دراساتٌ تجريبية عديدة تصوُّرَ أن منتديات الأحياء تساعد على زيادة نشاط الاتصال داخل الأحياء.٤ فالمنتديات على الإنترنت يمكن أن تقدِّم نوعًا من الدعم أو المساندة للتفاعلات المحلية الاعتيادية؛ تذكير عام بنقاشٍ على رصيف المشاة، أو تقرير عن جريمة. لا يَحُلُّ النشر في مدونات الإنترنت محل الاتصال المباشر عادةً، ولكنه يعظِّمه. وهو لا يفعل ذلك بتعميق الروابط، ولكن بمدها إلى عددٍ أكبر من الناس. يفرِّق علماء الاجتماع بين الأواصر القوية والهشة؛ فالأواصر القوية تشمل الأسرة والأصدقاء المقربين، أما الأواصر الهشة فعادةً ما تشمل الاتحادات المهنية، والناس ذوي الاهتمامات المشتركة، والجيران. ويوضِّح كيث هامبتون أنه، في الحقيقة «ليست فقط الأواصر القوية والحميمة مع الجيران هي الاستثناء، ولكنْ وجود الكثير من الأواصر الهشة يمكن أن يكون عظيمَ النفع، والإفراط في الأواصر القوية يمكن أن يكون مُقيِّدًا» (٢٠٠٧، صفحة ٧١٩).٥ الأحياء ليست حيث يعيش كل أصدقائك، وليس ذلك مرغوبًا؛ فالعدد المفرط من الأواصر القوية في منطقةٍ ما يمكن أن يقود إلى الفكرِ القروي، ونوعِ ثقافةِ البلدات الصغيرة الطاغية الذي حذَّرَ منه جورج سيمل (١٩٧١)؛ حيث يبدو أن الشواغل المحلية تغطِّي على المسائل العالمية أو الكلية التي تواجِه منطقةً ما.

إن إضافة مكوِّن شبكي ما إلى حياة الأحياء الشعبية ليسَتْ ترياقًا لكل الأسقام الحضرية. ومع ذلك، فثمة ارتباط قوي بين الاتصال الجيد فيما بين الجيران وبين مؤشرات تماسُك الحي الأخرى (جيفريز، ٢٠٠٨). وعلى الرغم من أن هناك تفاوتًا كبيرًا في تماسك الأحياء استنادًا إلى الظروف الاجتماعية الاقتصادية ومستويات الحَراك والفقر والتمييز وملكية المنازل؛ فالاتصال الجيد هو عنصر يمكن أن يحدَّ من بعض نقاط الضعف هذه. جادَلَ البعض بأن نقاط الضعف هذه تجعل تطبيق منتديات الحي أقل كثيرًا في تأثيرها (كافانوه وآخرين، ٢٠٠٥). ولكنَّ آخَرين أظهروا أن التكلفة القليلة جدًّا للمعاملات داخل المنتديات الرَّقْمِيَّة (مثلًا: لا يوجد هناك أيُّ التزام اجتماعي مثلما يوجد في الاتصال المباشر أو الهاتفي)، تحدُّ كثيرًا من تأثير العوامل السياقية، مثل الفقر والتحيُّز، على كفاءة الاتصال الرقمي داخلَ سياق الحي (هامبتون، ٢٠١٠).

لننظر إلى حالة مشروع «آي-نيبورز» الذي بدأ بوصفه مشروعًا بحثيًّا منبثقًا عن كلية أنينبيرج للاتصال والصحافة بجامعة بنسلفانيا. لم ينتشر مشروع «آي-نيبورز»، الذي أُطلِق عام ٢٠٠٤ في الولايات المتحدة وكندا، إلا عبر التداول في الأحاديث، وهو يستضيف حاليًّا ما يربو على ٣٠ ألف مستخدم، يؤلفون ما يزيد على ٦٠٠٠ «حي رقمي»، من أحياء ذات خلفيات اجتماعية اقتصادية متنوعة تنوعًا كبيرًا. وفي دراسة حديثة للمنصة، أُجرِي تحليلٌ لخمسين حيًّا من أكثر الأحياء نشاطًا في النظام (هامبتون، ٢٠١٠). من بين تلك الأحياء الخمسين، كانت الغالبية هي ضواحي الطبقة المتوسطة، لكن نسبة ٢٨٪ صُنِّفت (استنادًا إلى أرقام إحصاء السكان لعام ٢٠٠٠) بأنها تعاني حرمانًا شديدًا، عُرِّف بمدى التمييز العنصري (قِيسَ بحسب نسبة السُّود)، ونسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر، ومعدل البطالة. وعلى الرغم من أنه سبق توضيح أن منتديات الأحياء الرَّقْمِيَّة في ضواحي الطبقة المتوسطة تؤدِّي إلى مستويات متزايدة من التماسك الاجتماعي والعمل الجمعي (هامبتون وويلمان، ٢٠٠٣)، فإن دراسة «آي-نيبورز» تُظهِر أنه حتى في الأحياء التي تعاني حرمانًا شديدًا، في الواقع، نجد أن مستويات التماسك الاجتماعي والضبط الاجتماعي غير الرسمي التي تجلَّتْ في استخدام النظام الرقمي، مساويةٌ لتلك التي تجلَّتْ في الأحياء الأكثر حظًّا (هامبتون، ٢٠١٠).

مع تزايُد شهرةِ هذه المنتديات في حياة الأحياء، ومع تجاوُز المنتدياتِ الحدودَ الاجتماعية الاقتصادية، تزايدت الحاجة الاجتماعية إلى الإنصاف في توزيع هذه المنتديات؛ فالسلطة تُمارَس، كما يشير مانويل كاستيلس (عام ٢٠٠٩): «ليس بالإقصاء من الشبكات، ولكن بفرض قواعد الإدماج» (صفحة ٤٣). بعبارة أخرى، يمكن أن تؤدي الأمكنة الرَّقْمِيَّة إلى رغبةٍ في تماسكٍ محليٍّ أقوى، بقدر ما يمكنها إعادة تعريف مدلول التماسك. وهذه معضلة؛ فقواعد الأمكنة الرَّقْمِيَّة مفروضةٌ بالتساوي على المجتمعات المحلية، سواءٌ التي تمتلك وسائلَ استخدام التكنولوجيا المناسبة أو التي حُرِمت من هذه الوسائل. وحتى إن لم يكن مجتمعٌ محليٌّ ما مجهَّزًا للتشارُك في الاتصال الرقمي، فسيكون متوقَّعًا أن تفعل ذلك. وهذا عَرَض جانبي مثير تقدِّمه الويب؛ فكلما ازدادت اتساعًا، زادَتِ القوة التي تستخدمها في ترسيخ الانطباع بشموليتها (جوردون، ٢٠١٠). ومع تزايد المناطق التي تجد مكانها في الشبكة، يصبح هناك قدرٌ أكبر من الضغوط لاتباع قواعد النظام الراسخ.

يضع هذا جدلية الانقسام الرقمي ضمن منظور مختلف؛ فهو ليس مجرد مسألة بِنْيَة تحتية تكنولوجية تتجاوز شطرًا معينًا من السكان؛ فالبنية الأساسية لهذه الأدوات راسخة إلى حد مقبول، حتى في المجتمعات المحلية المحرومة. فما نراه يحدث في الربط الشبكي للأحياء يتفق مع ما يدعوه هنري جنكنز (٢٠٠٦) «فجوة المشاركة»؛ حيث لا يعود الأمر مجرد امتلاك التكنولوجيا، ولكنه يصبح معرفةَ ما يمكن فعله بها. المشاركة بفعالية في مكانيةٍ رقميةٍ تعني أن يكون المرء مُطَّلِعًا على القواعد، وتعني معرفةَ أفضل طريقة للاتصال بالجيران ولاستشارة السياسيين، وتعني، ما يتجاوز إتاحة أداة الاتصال، إلى معرفة كيفية استخدامها لتحقيق مكسب سياسي واجتماعي. القدرة على القص واللصق والمشاركة عبر الإنترنت هي معرفة رقمية أولية تنطوي على نطاق واسع من القدرات (جنكنز، عام ٢٠٠٦؛ ولينهارت وآخرين، ٢٠٠٧)، وتتوقَّف كيفيةُ استخدام هذه القدرات لتعبئة المجتمع ورعايته على كفاءة تصميمها ودعمها ببنية تحتية اجتماعية قائمة.

(٣) تصميم المشاركة

طالما كان هناك مَأْخَذ على الكثير من مشروعات المشاركة المحلية؛ فمسائل سهولة الوصول، والاستخدام، والاندماج في الحياة اليومية في الأحياء لم تَحْظَ باهتمام كافٍ. عادةً ما يُستبعَد السياق من قرارات التصميم، بسبب الاعتقاد الشائع بأن تطوير منصة للاتصال يكفي لتشجيع المشاركة الاجتماعية والسياسية. ومع ذلك، فلكي تستجيب هذه المشروعات للنقد المتصاعد بشأن انعدام المساواة، وبشأن القابلية للاستخدام، فإنها تحتاج لإدخال التوظيف وديناميات الجماعة إلى المعادلة؛ إذ تستلزم الأدواتُ المناسبة والمُستدامة وقتًا وتنسيقًا حتى تبني وتُنجِز.

على سبيل المثال: في اسكتلندا موقع إلكتروني للمشاركة المحلية يُدعَى «ديجيتال فايف»، تعامَلَ مع تلك المشكلة مباشَرةً. يوظف منظِّمو هذا الموقع الإلكتروني المستخدمين ويدرِّبونهم بنشاط، ويقدِّمون دروسًا عبر الإنترنت في تصميم المواقع الإلكترونية، وورشات عمل للتعلُّم المجتمعي في العالم المادي لمساعدة منظِّمي الجماعات على استخدام الأدوات. عمل هذا الإجراء الاستباقي الذي جرى فيه جلب المكانية بأسلوبٍ ماديٍّ إلى الشبكة على زيادة التنوُّع والاستدامة للأحياء المُشارِكة.

هذا النهج الداعم يتَّبِعه أيضًا مشروع «نيبورز فور نيبورز» في بوسطن، بولاية ماساتشوستس، وهو منصة للترابُط الشبكي بين الأحياء المحلية، أُطلِقت في مارس عام ٢٠٠٨ لتخدم احتياجات حي «جامايكا بلين» بالمدينة. في عام ٢٠٠٩ وبالتعاون مع مدينة بوسطن، أُطلِق المشروع في نطاق المدينة، وابتداءً من يناير عام ٢٠١٠، زعَمَ الموقعُ وجودَ ما يربو على ٢٦٠٠ مستخدمٍ مُسجَّلين به، وأكثر من ١٠ آلاف زيارة للموقع من أشخاص مختلفين في كل شهر. بدأ مشروعَ «نيبورز فور نيبورز» الناشطُ المجتمعي جوزيف بورسِلِّي الذي يقول إنه أُلهِم ابتكار هذه الشبكة الرَّقْمِيَّة بسبب أنه «ليس الجميع يرغبون في ارتداء بطاقات تعريف» (مقابلة شخصية، ٢٠١٠). وبورسِلِّي هو أيضًا القائم على مشروع «بطاقة التعريف»؛ ففي عام ٢٠٠٧، ارتدى يوميًّا بطاقة تعريف، ووزَّعَ ما يزيد على ١٩ ألفَ بطاقةِ تعريفٍ في كل أنحاء بوسطن، كي يشعر الناس بقدرٍ أكبر من الراحة للتحدث مع جيرانهم. وقال: «أثبَتَ المشروع أمرًا مهمًّا، ولكنه لم يكن صالحًا للاستدامة.» وأردف: «كان مشروع «نيبورز فور نيبورز» هو خطوتي التالية. كانت فكرة الشبكة الرَّقْمِيَّة هي جعل الناس يتحدثون بعضهم إلى بعض في الحياة الواقعية دون حاجةٍ إلى ارتداء بطاقات تعريف» (مقابلة شخصية، ٢٠١٠).

صُمِّم مشروع «نيبورز فور نيبورز» كي يسهِّل تشكيل الجماعات والعمل المدني، ولا يعتمد المشروع في تنظيمه على الحدود الجغرافية وحدها، ولكنه يعتمد أيضًا على الاهتمامات المدنية في نطاق الحي. شُكِّلَت الجماعات بحسب مجالات: الأمان، والأطفال، والفن، والتجول في الحي، والعَدْو، والألعاب اللوحية، وألعاب القُرْص (على سبيل المثال لا الحصر)، وألهم المشروع الاجتماعات المادية والعمل المدني، مثالُ ذلك: أنه في ٢٤ سبتمبر عام ٢٠٠٩ وقعت ثلاثة اعتداءات بدافع السرقة في خمس ساعات في شارعٍ بعينه في حي جامايكا بلين. أرسل بورسِلِّي رسالةً مختصرةً إلى جماعةِ حيِّه، وحثَّ المئات من الناس على أن يخرجوا ويلصقوا منشورات في المنطقة، لينشروا خبر تلك الأحداث. «ظل الناس طوال أسبوع يتناولون عَشاءهم في شرفاتهم الأمامية، كي يراقبوا الشارع.» وتوقَّفَتْ وقائع الجريمة في الشارع، وبسبب شيءٍ نُشِر عبر الإنترنت، غيَّرَ الناس سلوكهم في الحي.

كان مشروع «نيبورز فور نيبورز» فعَّالًا في نشر المعلومات، ومنَحَ الناسَ الفرصةَ للعمل بناءً على تلك المعلومات؛ لأنه حجَّمَ مطالبه من مستخدميه. صُمِّم النظام بحيث يتطلَّب فقط انتباهًا متقطعًا من المستخدمين، وقد صِيغَ هذا الانتباه من هموم المجتمعات المحلية المادية، وتجلَّى في هيئةٍ رقميةٍ، ولم يكن لينجح بطريقة أخرى. بدأ الناس يَشْكُون من إنهاك «فيسبوك» و«تويتر»؛ لأنهم يشعرون بأنهم مُجتاحون بسيل البيانات الدائم. وبالفعل، نُشِر عنوان في يونيو عام ٢٠١٠ على مدوَّنة «فيسبوك» الرسمية، هو: «كيف تتجنَّب إنهاكَ الشبكات الاجتماعية؟» فمستخدمو «فيسبوك» يصارعون المتطلبات المستمرة التي تضيفها منظومة التطبيق إلى حياتهم، ثم تأتي الأمكنة الرَّقْمِيَّة لتزيد من هذه المتطلبات. إن الأنظمة التي تحسِّن استغلالَ الفضاءات المادية التي تأتي إلى الإنترنت هي تلك التي تتعامل مع المواقع المادية على اعتبار أنها هيكل آخَر مُنظِّمٌ للحياة الاجتماعية، وتسعى إلى تكييفها مع منصات مقبولة من أجل التفاعل عبر الإنترنت.

على سبيل المثال: مشروع مركز إيضاح مدينة برمنجهام الافتراضي (بي-سكيب) هو مشروعٌ نشأ في المملكة المتحدة، وعمل المشروع في مجال «النماذج الافتراضية» للمدينة، لتنسيق التفاعلات عبر الإنترنت. كان المشروع مَزْجًا بين عالَم «سَكَنْد لايف» الافتراضي وبين تطبيق «جوجل إيرث»؛ حيث تستطيع تجسيدات الأشخاص الرَّقْمِيَّة (الأفاتار) أن تتجوَّل من خلال «جوجل إيرث» في بيئةِ «سَكَنْد لايف». وبحسب فيليب ماكجراهان، عضو مجلس مدينة برمنجهام، فإن المشروع مُصمَّم ليُشرِك عددًا أكبر من عامة الناس في عمليات التشاوُر، وتحديدًا، حين يجري التخطيط لتطويرات حضرية جديدة. ستتيح الخرائط الثنائية الأبعاد والثلاثية الأبعاد لمنطقة وسط مدينة برمنجهام عرْضَ أعمالِ البناء المخطَّطة، على نحوٍ يسمح — للأفراد من عامة الناس، سواء أكانوا من أهل المدينة أم من المجتمع المحلي الأكبر (سكَنْد لايف) — بالتعليق على مدى تناسُب البناء مع المنطقة المحيطة، ورأيهم في الطريقة التي سيحسِّن بها مدينةَ برمنجهام (أو العكس).٦

كان هدف هذا المشروع هو إشراك الناس في بيئة برمنجهام المادية عبر إنتاج خبرة افتراضية، وكان الهدف الأهم هو تشجيع التشاور الشعبي بشأن التغييرات في البيئة المادية من خلال التصفح المرتَّب لبيئةٍ افتراضيةٍ. يقول المختص بالتكنولوجيا ويد راوش: «يُظهِر التجول في أنحاء «سكند لايف» إلى أي مدًى يمكن أن يكون طبيعيًّا أن تبني وتستكشف تكويناتٍ وبيئاتٍ ثلاثيةَ الأبعاد عبر أفاتار يتَّخِذ هيئةً بشريةً ويتصرَّف كالبشر.» ويقول: «إن تصفُّح «جوجل إيرث» يوضِّح القدرَ الهائل من الإحساس بالحرية والسيطرة اللذين يشعر بهما المرءُ عندما تكون في متناول أطراف أنامله إمكانيةُ الوصول إلى بياناتٍ جغرافيةٍ توازي الكرةَ الأرضية بأكملها، وبدرجاتٍ متعدِّدةٍ من الوضوح» (راوش، ٢٠٠٧). أثبَتَ هذا النوع من خبرة المستخدم أنه أداة مفيدة من أجل إشراك الناس في الفضاء الحضري وفي المسائل المدنية. أُنشِئ مركز الإيضاح من أجل ربط الناس ببيئاتهم المحلية. وبينما اعتُبِرت العوالم الافتراضية عادةً فضاءاتٍ تفصل المستخدمين عن الفضاء المحيط بهم، تعيد هذه التجربةُ بفاعلية تحديدَ الهدف من العوالم الافتراضية لتأكيد الصلة مع ما هو محلي.

وبالرغم من أنه كانت هناك ادِّعاءات بأن الواجهات النصية هي في الواقع أقدرُ على جعْلِ المستخدمين ينغمسون في فضاءٍ (افتراضيٍّ) آخَر (موراي، عام ١٩٩٩؛ وديبل، ١٩٩٩)، فمن الواضح أنه عندما يتعلَّق الأمر بتحسين الصلة بالفضاءات المادية القائمة، يمكن أن تكون الواجهات الرسومية شديدةَ القوة؛ فالاستكشاف عبر تصميمٍ ثلاثيِّ الأبعاد على محطةٍ طرفيةٍ كمبيوترية يمكن أن يستدعي صِلاتٍ بالغةَ القوة مع الفضاء المستكشَف، على سبيل المثال: أُعِيد تشييد حرم جامعة فيكتوريا باستخدام محرك لعبة الفيديو «أَنْريل تورنمنت» لمساعدة المستخدمين على تصوُّر التغييرات التي صاحبَتْ تشييدَ الحرم الجامعي (عام ٢٠٠٥). وبينما احتوت واجهةُ المستخدم على كل وظائف لعبة التصويب من منظور الشخص الأول (مع حذف الأسلحة التي تحتويها اللعبة الأصلية)، ركَّزَتِ التجربةُ على الاستكشافِ وسهولةِ الحركة الافتراضية، لا على لعب لعبة الفيديو. في هذه الحالة يتعرَّض المستخدِم مرةً ثانيةً لتحدِّي تشكيل صلاتٍ بين الفضاءَيْن المادي والممثَّل.

وعلى الرغم من أوهام الفورات التلقائية للمشاركة المدنية، فإن الحراك المتأنِّي للأمكنة الرَّقْمِيَّة يتطلَّب جهدًا؛ فمشروع «نيبورز فور نيبورز»، على سبيل المثال، اعتمد على قادةِ أحياءٍ متطوِّعين لتحفيز النقاشات، وأنفَقَ بورسِلي كثيرًا من وقته في التنسيق مع موظفي المدينة وإدارة الشرطة لانتقاء معلومات ومشاركات مناسبة. وتطلَّبَ مركزُ الإيضاح التنسيقَ مع مكاتب تخطيط المدينة، وتنظيم فعاليات يتجمَّع فيها الناس في فضاء الإنترنت. إذا كان من المؤكد إمكان حدوث مشاركة واسعة الانتشار بمجرد إنشاء منصة (يثبت «آي-نيبورز» صحة ذلك)، فالتنسيقُ التقليدي المحلي ضروريٌّ للحفاظ على المشاركة وتنويعها في سياق محلي (جوردون ومانوسيفيتش، ٢٠١٠).

(٣-١) التفاعل وجهًا لوجه

كان «هَب ٢» مشروعًا تفاعليًّا من تصميم إيريك جوردون وجين كو، تَقدَّمَ خطوةً أبعد في هذا المجال بالربط بين خبرةِ التشاور عبر الفضاء وخبرةِ التشاور وجهًا لوجه.٧ كان جوهر المشروع هو سلسلة من ورشات العمل المجتمعية؛ حيث كان السكان يجتمعون في فضاءِ اجتماعٍ مادي، ومع كلٍّ منهم كمبيوتر محمول. وتفاعَل المشاركون فيما بينهم في الفضاء المادي للغرفة والفضاء «الافتراضي» للكمبيوتر.
fig27
شكل ٥-١: مجموعة من المشاركين تجمَّعوا بورشة عمل في مشروع «هَب ٢» في عام ٢٠٠٨، مع وجود فضاء «سكند لايف» في الجزء الأمامي. أُعِيد تقديمها بتصريح من إينجيجمنت جيم لاب.

جرى مشروع «هَب ٢» في صيف عام ٢٠٠٨ ضمن عملية التخطيط المصاحبة لإنشاء حديقة حي، وبوصفه وسيلةً لرفع كفاءة اجتماع التخطيط التقليدي الذي يتجمَّع فيه بضعةُ أشخاص في صالة ألعاب مدرسةٍ ما، ويُطالِعون عرضًا باستخدام الباوربوينت، سعى مشروع «هَب ٢» لأنْ يجعل من هذا الحدثِ البالغ المحلية تجربةً أكثر تشارُكيةً؛ فكان كلُّ واحد من الحضور في الاجتماع حاضرًا أيضًا في «سَكَنْد لايف». وأُدِير الاجتماع بطريقةِ تكامَلَ فيها الحديثُ الفعلي مع أنشطةٍ في الفضاء الافتراضي. استخدم المشاركون تجسيداتهم الرَّقْمِيَّة لنقل البنى من حولهم، ولطرح أفكارٍ لبنًى جديدة، ولترك تعليقات نصية. كما تحدَّثوا معًا في الغرفة ليناقشوا خبرة «وجودهم في الحديقة»، قال أحد المشاركين، على سبيل المثال: «بإمكاني أن أشعر حقًّا بالفضاء. في البداية لم أشعر به، لكنني بعد ذلك شعرتُ به. كان الشعور يشبه التواجُد فعليًّا في الحديقة.» وشرح آخَر: «تصوُّرُ الفضاء أسهل في «سكند لايف». إذا أردتَ أن تتفحص الشوارع، يمكنك أن تنتقل إليها مباشَرةً، وإذا كنت تريد تكوين فكرةٍ عن منطقةٍ ما، يمكنك أن تشاهد رسمًا ذا بُعْدٍ واحد، أما إذا كنتَ تريد أن تنغمس في المكان، فأنت تستخدم «سكند لايف»» (جوردون ومانوسيفيتش، ٢٠١٠). عزَّزَ هذا المشروعُ إنماءَ عملية التشاوُر؛ حيث بنى الناسُ على الارتباط بين ما كان يحدث في البيئة الافتراضية، وما كان يحدث في الفضاء المادي، مستخدِمِين أفعالًا في فضاء «سكند لايف» لتسويغ اقتراحاتهم بشأن الحديقة.

fig28
شكل ٥-٢: أعضاء المجتمع المحلي في الحي الصيني في بوسطن، يلعبون لعبةً تدور حول حيِّهم تُسمَّى «بارتيسيبيتوري تشايناتاون». تصوير ناثانيال هانسن وماثيو هاشيجوتشي. أُعِيد تقديمها بتصريحٍ من ماثيو هاشيجوتشي.
أُطلِق مشروعٌ آخَر يُدعَى «بارتيسيبيتوري تشايناتاون» في ربيع عام ٢٠١٠.٨ كان هذا المشروع الذي استلهم الرغبة ذاتها في إنماء التشاوُرِ لعبةً استخدَمَتْ أداءَ الأدوار لتحسين صلة اللاعب بفضائه المحلي. أُتِيحت هذه اللعبة للمجتمع المحلي في نسخةِ لاعبٍ فردي عبر الإنترنت، وفي نسخة متعددة اللاعبين، مصمَّمة لأجل اجتماعات المجتمع المحلي. أثناء الفعاليات المباشرة، كان المشاركون يجلسون حول واحدة من خمس موائد مستطيلة مصطفة، ومعهم كمبيوترات محمولة متصلة شبكيًّا، وكلها تعرض اللعبة. بعد ملاحظات تمهيدية قليلة، كان المشاركون يُوجَّهون إلى أن يختاروا شخصيةً من شاشة الاختيار، وبعد ذلك يأخذ كلُّ لاعب الشخصيةَ المخصَّصةَ له، ويجوب شوارع تشايناتاون مُكمِّلًا مهماتٍ مرتبطة بالعيش والعمل وإقامة علاقات اجتماعية في الحي. وأثناء هذا الوقت، كان اللاعبون يُوجَّهون للحديثِ بعضهم مع بعضٍ، وتَشارُكِ الموارد في بيئة اللعبة وخارجها. أجبَرَ أداءُ الأدوار داخلَ اللعبة اللاعبين على الخروج لفترةٍ وجيزةٍ من أوضاع الشخص الذاتي النزعة، والتجاوب مع الحي بصفتهم أشخاصًا مختلفين. ومن الأمور الثابتة أن أداء الأدوار في ألعاب الفيديو يمكن أن يقود إلى فهم أكثر تعاطفًا للموقف الاجتماعي.٩ كان الهدف هو تحويل هذا التعاطُف إلى قرارات أفضل، وتحسين التغذية الراجعة إلى المخطِّطين الحضريين. تجاوَبَ اللاعبون تجاوُبًا مُرضيًا مع خبرة اللعبة عمومًا، وذكروا، تحديدًا، كَمْ كان بنَّاءً أنْ يرى المرءُ حيَّه من وجهة نظر شخصٍ آخَر. ودلَّتْ وجهةُ النظر الخارجية هذه على قراراتهم في بقية عملية التخطيط، وتركَتِ انطباعًا دائمًا عن تلك الخبرة، وأُتِيحَتْ تعليقات كلِّ اللاعبين للمخططين ومسئولي المدينة، ونُشِرت عبر الإنترنت للاستخدام والتعقيب العامَّين.

الشيء المميز في «هَب ٢» و«بارتيسيبيتوري تشايناتاون» في نهاية الأمر هو تأكيدهما المشاركة الحية المحلية بالإضافة إلى التعليق الشبكي، وسهولة الوصول إلى البيانات. على الرغم من أن تصميم مشاركةٍ وجهًا لوجه أمرٌ مكلِّف، ويتطلَّب عملًا كثيفًا، فهو يستجيب مباشَرةً للانتقادات الخاصة بغياب المساواة التي تلازم العديد من مشاريع الربط الشبكي للأحياء؛ فمشروع «بارتيسيبيتوري تشايناتاون»، مثلًا، لم يستلزم من المشاركين أن يمتلكوا هواتف أو كمبيوترات عالية الجودة من أجل المشاركة، بل كانت غالبيةُ المشارَكة ميسَّرةً في فضاء مادي باستخدام تكنولوجيا في متناول اليد، ولم يستلزم أن يتحدَّث المشاركون اللغةَ الإنجليزية، إذ كان نص اللعبة مترجمًا إلى اللغة الصينية، بالإضافة إلى وجود مترجمين فوريين بالغرفة.

تُبَرْهِن هذه المشروعات على أهمية التخطيط لسياق التفاعل المادي؛ فبينما استغلَّتِ المعلوماتِ الشبكيةَ، وأداءَ الأدوار، والمؤثرات البصرية الاستغراقية، كان الهدف النهائي هو خلق خبرات ذات مغزًى، معتمِدةً على الموقع المادي ومتمحورة حوله. كثيرًا ما يغفل الناس عن الانتباه إلى الشواغل التي تتطلَّب تكنولوجيا بسيطة، مثل الحديث وجهًا لوجه، وخاصةً مع تزايُد سهولة الوصول إلى البيانات وسهولة الاتصال الفرديتين تزايُدًا قويًّا.

(٤) الأخبار المُغْرِقة في المحلية

لا ينحصر وجود المشاركة المجتمعية في المسائل المحلية في صورة منتديات الأحياء والأوساط الاجتماعية على الإنترنت؛ فقدرة الناس على التواصل مباشَرةً عبر الويب والأجهزة المحمولة لا تزيد فقط من درايتهم بما يحدث في مجتمعاتهم المحلية، ولكنها تقلب بشدة النموذجَ الراسخ لإعداد الأخبار وتوزيعها أيضًا. تطوَّرَتِ الصحافة التقليدية على هيئة نظام تراتبي هرمي، كانت الأخبار تُصنَع فيه من قِبَل عددٍ محدود من الصحف وتُوزَّع بين السكان، بَيْدَ أن سهولة رفع المعلومات المحلية إلى الويب تعطي الناسَ القدرةَ على إنتاج أخبارٍ عن أحيائهم، ومن ثَمَّ المساهمة في مزيدٍ من الدراية بفضاءاتهم المحلية.

تنبَّأ نيكولاس نيجروبونتي، في كتابه الصادر عام ١٩٩٥ بعنوان «أن تكون رقمية»، بنهاية عصر الصحيفة اليومية إذ يحلُّ محلَّها «أنا اليومية»، أو سَيْل معلومات رقمية قابل كليًّا للتخصيص تبعًا للميول الفردية.١٠ فقصصُ الأخبار يمكن تحديثها في غضون ثوانٍ عبر الإنترنت دون حاجةٍ إلى انتظار إصدار الغد. وبدلًا من التصفح خلال ما يراه محرِّرٌ ما «أخبارًا رئيسية» عبر قارئات مقتطَفات الأخبار، أو حتى عبر مواقع الصحف، يستطيع المستخدمون أن ينتقوا الأخبار تبعًا لاهتماماتهم الخاصة. سواءٌ أكانت أخبارًا عن التكنولوجيا، أم الأعمال، أم السياسة الصينية، أم عن موقع جغرافي، في مقدور كل مستخدم أن ينشئ صيغته التحريرية الخاصة استنادًا إلى أي عدد من المُرشِّحات. يذهب كلي شيركي (٢٠٠٨) إلى القول بأن الأخبار انتقلت من نموذج «الانتقاء ثم النشر» إلى نموذج «النشر ثم الانتقاء»؛ فتصبح الانتقائية جزءًا من فعل الاستهلاك.
fig29
شكل ٥-٣: واجهة موقع «آوتسايد.إن»، تُظهِر كيفية ترتيب الأخبار تبعًا للموقع المادي. حقوق الطبع عام ٢٠١٠ «آوتسايد.إن». أُعِيد إنتاجه بتصريحٍ من روبرت ديلاكروز.

انعكَسَ هذا الزخم في التحولات الحديثة العهد في صناعة الصحف؛ فنموذج الصحيفة التقليدية يستخدم طريقةَ «وصفة واحدة تصلح لعلاج جميع الأمراض»، ترتكز على موقع جغرافي (مدينة أو دولة)، وتلك الطريقة في السوق المعاصرة المائلة إلى التخصيص هي مفرطة في الكبر إلى حدٍّ لا يمكن أن تكون معه ذات مغزًى. صحيحٌ أن وظيفةَ كلِّ صحف المدن هي أن تنشر أخبارًا محلية ووطنية ودولية، لكنْ بما أن كل محتوى الأخبار متاحٌ مجانًا على الإنترنت، فلم يَعُدْ خبرٌ وطني في صحيفة «كنساس سيتي ستار» أكثرَ مناسَبةً لقاطني مدينة كنساس من خبرٍ وطنيٍّ في صحيفة «نيويورك تايمز». وبالنظر إلى مصادر أقسام الأخبار في معظم الصحف، فمن الأرجح أن يكون مقالُ صحيفةِ «نيويورك تايمز» أفضلَ. إذًا، ما الذي يجب أن تفعله صحيفةُ مدينةٍ متوسطة الحجم؟ الإجابة هي أن تركز على المحتوى الذي لا تستطيع «النيويورك تايمز» ولا المدوِّنون السياسيون، الذين يصبُّ محتوى مدوَّناتهم في «أخبار جوجل»، التركيزَ عليه؛ وهو المحتوى المحلي. مع تضاؤل أقسام الأخبار الوطنية والدولية في صحف المدن الصغيرة والمتوسطة الحجم، تتحوَّل الصحف إلى «الإغراق في المحلية»؛ أيْ تركيز الأخبار عند مستوى الشارع أو الحي، لا مستوى المدينة أو المستوى الوطني. إن مقارَبةَ الصحف لاستغلال الإغراق في المحلية هي من أجل المُطالَبة بحصةٍ في التجميع الآلي للمحتوى؛ فالموقع المكاني هو ما يبرِّر إضفاءَ الطابع المحلي بالضرورة على السلطة.

بَيْدَ أن ذلك لا يعني أن تُعْهَد السلطة إلى صحفيين تقليديين؛ فممَّا يزيد ذُعْرَ الأقسام الإخبارية المحلية أن المدوِّنين المحليِّين طالما كانوا أفضلَ في التغطية المغرقة في المحلية (فارحي، ٢٠٠٧). فمثلًا: كان لدى صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» دائمًا قسمٌ خاصٌّ بأخبارِ مدينة لوس أنجلوس، ولكنها لا تملك المواردَ البشرية ولا المادية كي تَفِي بحاجاتِ كلِّ حيٍّ؛ فالشخصُ الذي يبحث عن أخبارٍ حول مالك المتجر المحلي لن يجد على الأرجح ما يبحث عنه. لكن، على العكس من ذلك، سيكون لدى الشخص الذي يسكن بجوار المتجر — والذي ربما يعرف من التفاعُل الشخصي مع المالك سببَ إيقاف العمل به بعد مضي ثلاثة شهور فقط — الكثيرُ ليحكيه.

على سبيل المثال: يغطي موقع «باريستانت» ضاحيتَيْ نيويورك مونتكلير وبلومزفيلد، بولاية نيوجيرسي، ويضمُّ فيضًا لا ينضب من مقتطَفات الأخبار المحلية. وقالت الشريكة المؤسِّسة ديبي جالانت عن الموقع: «نحن نختلف عن الصحيفة المحلية في وجهة النظر: لدينا وجهة نظر» (ويليامز، ٢٠٠٥). بحلول عام ٢٠٠٧، اجتذبَتْ وجهةُ النظر هذه أكثر من ٨٠ ألف زائر مختلف كلَّ شهر، وهو ما نتج عنه تيارٌ ثابت من الدخل من المُعلِنين المحليِّين. أو لنتأمَّلْ «فريزنو فيموس»، وهي مدوَّنة محلية من منطقة فريزنو بولاية كاليفورنيا، وكانت ناجحةً جدًّا، واشترَتْها الصحيفةُ الكبرى بالمدينة، «فريزنو بي». من الواضح أن هناك قيمةً لما هو محلي.

هذه الرغبة في المحتوى المحلي ليست أمرًا جديدًا، فطالما أثبتَتْ صحفُ الأحياء أنها نموذجُ عملٍ موثوقٌ به لدى المعلنين المحليين والقراء المحليين على حدٍّ سواء. إلا أن المدوَّنات رفعَتْ أسهمَ التغطية المحلية للأخبار، لأنها كانت قادرةً على تحقيق الالتقاء بين استهلاك المعلومات المحلية وإنتاج المعلومات المحلية. حينما فشلَتِ الصحف في تغطيةِ شيءٍ ما، أخذ الناسُ على عاتقهم أمرَ تغطيته.

استغلَّ الموقع الإلكتروني «آوتسايد.إن» تلك النقطة لصالحه؛ فالمحتوى المغرِق في المحلية ومنصة الإعلان يشكِّلان تطبيقًا بالغَ السهولة. لا يحتاج المرء إلا إلى أن يكتب الرمز البريدي أو العنوان، وسيمدُّه النظام بتدوينات مناسبة، فابتكاره يكمن في بساطته، وفي نموذج عمله. واعتبارًا من يناير عام ٢٠١٠، قدَّمَ «آوتسايد.إن» خدماته إلى ٥٧٨٣٠ حيًّا، والخدمةُ التي يقدِّمها الموقع مجانيةً لمعظم المستخدِمين، وتحقِّق الشركةُ دخْلَها من تجميع ذلك المحتوى المحلي الطابع، وتوصيله إلى المؤسسات الإعلامية الرئيسية. في ديسمبر عام ٢٠٠٩، أعلنَتِ الشركة أنها في سبيلها إلى تزويد الموقع الإلكتروني لشبكة «سي إن إن» بتلقيمات الأخبار المحلية، وكسبت ضخًّا ماليًّا موازيًا بقيمة سبعة ملايين دولار في حساب التمويل الاستثماري، وهو ما أوصَلَ مجموعَ رصيدِ الشركة إلى ١٢ مليون دولار. من المحتمل أن هذا كان ردًّا على بيع مُجمِّعِ الأخبار المحلِّية «إفريبلوك» لشبكة «إم إس إن بي سي» الإخبارية في أغسطس عام ٢٠٠٩. كان عام ٢٠٠٩ هو العام الذي شهد تحوُّلَ الأخبار المغرِقة في المحلية إلى صناعة كبرى. وعلى نحوٍ متوقَّع، كان كذلك هو العام الذي توقَّفَ فيه عن العمل العديدُ من المدونات المغرقة في المحلية الصغيرة. وكما قال جون سميث: «إنها فكرةٌ متناقضة، فكرةٌ يبدو أنها تضرب فكرةَ الصحافة «المفرطة في المحلية» بمجملها: كي تظلَّ صغيرًا جدًّا، قد يتعيَّن عليك أن تصبح كبيرًا جدًّا» (فارحي، ٢٠٠٧). يتيح التجميع المحلي لما هو مفرط في المحلية أن يكون عالميَّ الانتشار، على سبيل المثال: في أوائل عام ٢٠١٠ أعلنَتْ شركة «إيه أو إل» أنَّ مشروعَها للأخبار المحلية الذي يحمل اسم «باتش» سيمتدُّ إلى «مئات» الأسواق بنهاية العام. وقالت «إيه أو إل»، في تصريح إخباري رسمي، عن مشروعها للأخبار المحلية، إنه يَبْغي أن يكون قائدًا في «واحد من أكثر «الفضاءات غير المستخدمة» الواعدة على الإنترنت» (كارلسون، ٢٠١٠).

أخذت الصحف الإقليمية أو صحف المدن الكبيرة — على سبيل المثال: صحف «شيكاجو تريبيون»، و«لوس أنجلوس تايمز»، و«بوسطن جلوب»، و«نيويورك تايمز» — هذا الدرسَ مأخذَ الجد، وهي تسعى لأنْ تملأ ذلك الفضاء غير المستخدَم عن طريق الاستفادة من الصحافة المحلية وصحافة المُواطن؛ فمثلًا: أطلقَتْ صحيفةُ «نيويورك تايمز» — التي أصبحَتْ على ما يبدو إصدارًا وطنيًّا — موقع «ذي لوكال» في مارس عام ٢٠٠٩. يستخدم الموقع شعار «مدينتك، حيك، مربعك السكني، بتغطيتك»، وهو يغطي خمسةَ أحياء بمنطقة نيويورك. تطمح الفكرة إلى المزج بين جهودِ صحفيِّي «نيويورك تايمز» الذين يعملون بدوامٍ كاملٍ و«الصحفيين المواطنين» لابتكار موقعٍ محلي بمذاقٍ محلي، دون التضحية بمنافع الانتماء إلى صحيفة كبرى، ومنها سهولة الوصول إلى المؤسسات والفعاليات. يشتمل الموقع على تحديثات يومية، وأخبار ينقلها أُناسٌ محليون عن شواغل محلية، ومن خلال التوجيه الذي يقدِّمه مراسلون محترفون، يسعى الموقعُ إلى الحفاظِ على معايير التايمز الصحفية. وإضافةً إلى نقل الخبر، هناك منتديات للآباء، ومُفكرة للفعاليات، ولوحاتٌ إعلانية لأخبار الوفيات. يهدف الموقع إلى الإحاطة بشواغل الحي المحلي، والحفاظ في الآنِ ذاتِه على المكانة والظهور اللذين تتمتع بهما صحيفةُ مدينةٍ كبيرة. من خلال استقطاب القراء المحليين المدفوعين بالمحتوى المحلي، تُرسِّخ صحيفةُ «التايمز» ترسيخًا جوهريًّا علامتَها التجارية الوطنية عبر تقديمها ما هو محلي.١١

(٥) الحكومة ٢٫٠

كما تسعى الصحف الكبرى إلى اتباع نهْجِ الصحافة المغرِقة في المحلية كي تستعيد الصلةَ مع المجتمعات المحلية، تناضِلُ الحكوماتُ المحلية لكي تجد دورَها في هذا الشأن. تسعى حكومات المدن — وخاصةً في الولايات المتحدة وأوروبا — إلى إشراك مواطنيها في وقتٍ يتزايد فيه حدوث المشاركة الشعبية بعيدًا عن متناول الحكومة. بينما تستمر الحكومة في التحكُّم في حدائق المدينة ومناطق التنزه، يُدارُ معظمُ الفضاءات الأخرى على نحوٍ عامٍّ دون القالب العام الرسمي للحكومة، وخاصةً بعدما أصبحَتْ متصلةً عبر الإنترنت. تُجبْر الأمكنةُ الرَّقْمِيَّةُ الحكوماتِ على تقويم الدور الذي تؤديه في الحياة «الشعبية».

لا جديد تحديدًا في تواجُد الحكومات المحلية على الويب، بل حتى أنْ تكون لديها خدمات متاحة عبر الإنترنت (مثل تسديد رسوم الانتظار والضرائب). بَيْدَ أن هناك ضغطًا متناميًا عليها لكي تُدرِج في هذه الخدمات مشاركةً ذات مغزًى أكبر، لكي تؤدي دورًا في تسهيل الحوار العام (وربما حتى الحوار الديمقراطي). تُستغَل مواقع الشبكات الاجتماعية، والموسوعات الحرة، وتطبيقات الأجهزة المحمولة في الخدمات الحكومية فيما تشيع الإشارة إليه بمفهوم «الحكومة ٢٫٠» (بِين، ٢٠٠٨). وهناك دلائل عديدة على أن وجود الويب يزيد فرصَ المشاركة القيِّمة في الحياة المحلية (هامبتون وويلمان، ٢٠٠٣؛ أوري، ٢٠٠٣). ومن ثَمَّ، تناضِل حكومات المدن لكي تجد طريقةً لإشراك هؤلاء السكان المرتبطين شبكيًّا. يتوقَّع الناس أنواعًا مختلفة من المداخل إلى الخدمات والمعلومات. وحتى مع تزايُد المعلومات المحلية التي أصبح يسهل استكشافها من خلال الويب، تظل المعلومات التي تقع في نطاق الحكومة — مثل الضرائب وحدود مِلكية العقارات، والخدمات المدرسية، ومسارات وسائل المواصلات، وما شابَهَ ذلك — يتعذَّر الوصول إليها في معظم الأحيان. وتتلكأ الحكومات في استخدام هذه الأدوات، والسبب الرئيسي أنها تخشى من شفافية البيانات التي تلازم المكانية الرَّقْمِيَّة؛ فهي لا تنطوي على احتمالِ تهديدِ الخصوصية الفردية فحسب، ولكنها تتحدَّى قدرةَ الحكومة على أن تعمل دون أمنٍ مستمرٍّ. وبينما يحتفي بعضُ الباحثين بإمكانية الانفتاح على بيانات الحكومة (نوفيك، ٢٠٠٨)، ويلمحون إلى أن الأمن ضروريٌّ من أجل الديمقراطية، يشكِّك آخرون في الارتباط الإيجابي بين الديمقراطية وشفافية البيانات (ليسيج، ٢٠٠٩)، ويجادلون بأن الأمن المعتمد على مصادر بيانات غير مكتملة يمكن في بعض الأحيان أن يقود إلى الفوضى. وعلى الرغم من فاعلية الشفافية، فإن ثمة شأنًا أكثرَ ضخامةً يواجه الحكومةَ؛ أَلَا وهو توقُّعات ناخبيها. لقد بات العديد من الناس يتوقَّعون نوعًا معينًا من إمكانية الوصول إلى البيانات والقدرة على المشاركة؛ ومن ثَمَّ، فإن حكومات المدن الكبرى (وبعض البلدات الصغيرة) أدمجَتِ التشبيكَ الاجتماعي والوصول إلى البيانات ضمن قائمة خدماتها الأساسية، متنافِسةً على القدرة على التزام «الابتكار» و«العلنية».

في أكتوبر عام ٢٠٠٩، نظَّمَتْ «نِكِسْت أمِريكان سيتي ماجازين»، بالشراكة مع مؤسسة روكفلر، مؤتمرًا في مدينة واشنطن، سُمِّي «المدن المفتوحة: الدور الجديد للوسائط في تشكيل السياسة الحضرية». وتراوح المتحدثون في المؤتمر ما بين مسئولِي مدن، وأصحاب مشاريع تكنولوجية، وأعضاء في إدارة أوباما. كان المبحث الرئيسي للحدث الذي استمرَّ يومين هو العلنية في البيانات الحكومية. ركَّزَ المؤتمر على بناء الائتلافات بين المختصين بالتكنولوجيا وحكومات المدن، في ظلِّ انحيازٍ عامٍّ نحوَ الاعتقاد بأن بياناتٍ أكثرَ تساوي مواطَنةً أفضلَ. حينما لا تكون البيانات العامة — التي تشمل: بيانات سجلات الضرائب، وتقويمات الإسكان، ومواقع الأشجار المزروعة بالمدينة، والجريمة، والمواصلات — متاحةً فقط، ولكن يسهل توزيعها بصيغ الملفات المعتادة أيضًا، تكون الإمكانيات غير محدودة. في عام ٢٠٠٩ وحده، أعطت حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا ونيوزيلاندا وأستراليا الأولويةَ لإطلاق البيانات المقروءة آليًّا لتصبح في متناول العامة. وحتى في حدودِ تواجُدِ هذه البيانات في ذلك الوقت، أدَّى هذا إلى تهافُتٍ على تطبيقات «آي فون» من أجل ضمان الوصول عبر السياق المحلي إلى بيانات المدن؛ فمثلًا: يقدِّم تطبيق «آي ترانزيت بادي» المواقعَ المكانية المحددة باستخدام اﻟ «جي بي إس» لحافلات المدينة في مناطق المدن الكبرى مثل: شيكاجو، ودنفر، ولونج آيلاند، وفيلاديلفيا؛ ويؤدِّي تطبيقَا «آي كوميوت إس إف» و«آي بارت لايف» الغرضَ نفسه فيما يخص مدينةَ سان فرانسيسكو، أما تطبيقُ «سيتيزنز كونيكت» فهو خطٌّ ساخن للمدينة، يعتمد على الموقع في مدينة بوسطن. ولدى مدينة نيويورك أكثر من عشرة تطبيقات لوسائل الانتقال، بالإضافة إلى تطبيق «إن واي سي ٣١١» الخاص بشكاوى المواطنين.

تستخدم هذه التطبيقات خاصيةَ «جي بي إس» في الهواتف ذات الإدراك المكاني، لوضْعِ بيانات المدينة في سياقٍ ملائمٍ لموقع المستخدم. وسواءٌ أكانت تبحث عن أفضل طُرُقِ الدراجات، أم تفحص إحصاءات الجرائم، أم تحدِّد موقعَ حافلة، أم تبلغ عن حفرة في الطريق، تتجاوز هذه الأدوات بخطوات عديدة المواقعَ الإلكترونية غير السياقية التابعة لهيئة النقل أو مواقع المدن؛ فالقدرةُ على تحديدِ خدماتِ المدينة أو إرسالِ الشكاوى المتعلقة بالسياق المكاني المحلي للمستخدِم تنقلُ خبرةَ المستخدم من كونها خبرةَ بحثٍ نَشِطٍ إلى جعل الشخص محلًّا للبحث. بعبارة أخرى، تعطي هذه التطبيقات الانطباعَ بأن مجرد كون المرء في مكانٍ ما هو الخطوة الأولى نحو التفاعل مع البيانات الحضرية؛ ومن ثَمَّ التفاعل مع المدينة.

هذا انطباع قيِّم؛ فطالما كان تيسير استخدام مرافق المدينة هدفًا للمعماريين والمخطِّطين لعقود (جوردون، ٢٠١٠). فالشوارع الصالحة للمشي، ومسارات المواصلات السالكة، وسرعة استجابة الحكومة؛ هذه الأهدافُ لا جديدَ فيها. كان التخطيطُ الحضري لأمدٍ بعيدٍ أمرًا حيويًّا لمشاعر المشاركة. إلا أن السؤال هو: هل يمكن أن يكون للتخطيط الرقمي للبيانات الحضرية، وما يستتبعه من تخصيص واجهة المدينة بحسب تفضيلات المستخدم؛ تأثيرٌ على شعور المرء بالانتماء لمكانٍ ما، أو على مشاركته في الحياة المدنية لمدينةٍ ما؟ أم أن التركيز على هذه الأدوات، كما يدَّعِي البعض، ليس سوى إلهاءٍ عن المشكلات اليومية في إدارة المدن؟ على سبيل المثال: في خطابٍ إلى صحيفة «بوسطن جلوب» عن تطبيق «سيتيزنز كونيكت»، كتبت ليزا مكدوناه:

من الغريب أن أرى الأصوات تتعالى بأنَّ هذا هو أحسن شيء على الإطلاق، وبالرغم من أني أوافق على أنه أداةٌ فعَّالة، فبمجرد أن تعتبر المدينة نفسها «غارقة» مرة ثانيةً، ستقع المدينة في المأزق ذاته. إذا كانت قد حدثَتْ في وجود التكنولوجيا الأقدم، فلماذا لا تحدث ثانيةً ما إنْ يَتَّبِع عددٌ أكبر من الناس التكنولوجيا الجديدة؟ إن مدينة بوسطن في حاجةٍ إلى تغيير كامل في التوجُّه، وهذا التغيير ينبغي أن يمتد إلى الناس الذين يستخدمون أيَّ شكل من التكنولوجيا، وفي هذا الشأن، حتى الذين يستخدمون البريد عتيق الطراز. (مكدوناه، ٢٠١٠)

شكوى مكدوناه هي أن المدينة مخطئة في الظن بأن كل جديد جيد، وتلمح إلى أن المشكلات الأخرى الأكثر تقليديةً بشأن التحضر والحوكمة يجب أن يكون لها الأولوية على استحداث أدوات جديدة. وتركز الحجج الأخرى ضد هذا النوع من الخدمات على انعدام المساواة؛ ففي إشارة إلى مبادرات «الحكومة ٢٫٠» بوجه عام، يسأل المدوِّن جوشوا آلان (٢٠١٠) الأسئلة التالية: «هل نشعر بالرضا حقًّا عن نظامٍ يعطي معاملة تمييزية للأشخاص الذين يستطيعون تحمُّل نفقات باقات الإنترنت والأجهزة التي تدعم اﻟ «جي بي إس»؟ هل أصبحنا منعزلين عن الناس الحقيقيين، إلى درجةِ أننا نقبل بسذاجة أن كريج نيومارك (مؤسس شركة كريجزليست للمجتمعات المحلية عبر الإنترنت) يمثِّل الرجلَ العادي؟»

ابتُلِيت جهود «الحكومة ٢٫٠» بمعضلات الإقصاء (التي سنناقشها بالتفصيل في الفصل السادس)، إلا أنه في حالة الحكومة، هناك احتمالية لتعزيز الممارسات الإقصائية الفردية من خلال السياسة؛ فبناء بنية تحتية، لا يتمكَّن من الوصول إليها سوى بعض الناس، قد لا يجعل منها حقًّا بنيةً تحتيةً عامة. بَيْدَ أن ذلك يشبه القولَ بأن بناء جسر، بينما لا يمتلك الجميع سيارات، لا يجعل منه حقًّا بنيةً تحتية عامة؛ فالجسر يخفِّف من حدة الزحام، وينظِّم أنماطَ الانتقال في المدينة. وحتى بالنسبة إلى أولئك الذين لا يمتلكون سيارات، فالأرجح أن الجسر سيُسفِر عن تأثيرٍ واضح. والأمر ذاته صحيح في حالة تطبيقٍ من تطبيقات «آي فون» يسهِّل الاتصالَ المباشِر الذي يحدث محليًّا مع مكتب حكومي. لا يمتلك الجميع الأجهزةَ أو المعرفةَ اللازمتَيْن للاتصال، ولكن، كما في حالة الجسر، يصبح وجودُ التطبيق إحدى الأدوات العديدة المستخدَمة في تيسير التدفق الحضري. ومع ذلك، فعلى خلاف الجسر، تُمكِّن مرونةُ الوسيط، وعملياتُ التطور غير المكلفة نسبيًّا والسريعة، المدنَ من استخدام هذه الأدوات، دون إقصاءِ أشكالِ التواصل الأخرى المتاحة بقدر أكبر (مثل المواقع الإلكترونية أو خطوط الهاتف الساخنة). وإضافةً إلى ذلك، تستثمر المدن في التعليم والتوعية على نحوٍ متزايد لإشراك الناس، ومنح الناس في بعض الحالات مدخلًا إلى التكنولوجيات اللازمة للمشاركة. وعلى الرغم من هذا، يظل إنفاقُ مواردَ محدودةٍ، على ما يراه البعضُ أدواتٍ رقميةً محدودة النطاق، مغامرةً خَطِرة سياسيًّا.

ربما يكون هذا هو سبب تطوير الكثير من الأدوات الحكومية من خلال أطراف ثالثة تسعى إلى تكوين شراكة مع الحكومة؛ فمثلًا: مشروعُ «فيكس ماي ستريت» الموجود بالمملكة المتحدة، هو أداة إبلاغ (عبر موقع إلكتروني أو تطبيق هاتف «آي فون») تتيح للمستخدمين أن يبلغوا عن المشكلات في أي مدينة في المملكة المتحدة وكندا. عندما يُبلِغ شخصٌ ما عن كتابات على الجدران أو حفرة في الطريق، يُنشِئ الموقع تقريرًا، ويرسله إلى الوكالة المعنية بالمدينة. ثم تُستَحَثُّ الوكالات على الاستجابة باتخاذ إجراء، وتحديث حالة الشكوى على الموقع. بنهاية عام ٢٠٠٩، كان هناك ما يربو على ٦٨ ألفَ تقريرٍ مُنشَأ أو معلَّق عليه في المملكة المتحدة وحدها، وهذه أرقامٌ رائعةٌ تبرهن على جدوى الأدوات من هذا النوع. ومع ذلك، برزت المشكلات مع نجاحها؛ فهناك كمية متزايدة من التقارير المُتجاهَلة؛ إذ صارت أعدادُ التقارير أضخمَ من قدرة الوكالات الحكومية على معالجتها. يحدُّ من نجاحِ هذه الأدوات، محدوديةُ قدرةِ المؤسسات العاملة على التعامل مع المستويات المتزايدة من المشاركة. وإذ يركِّز بناءُ القدرات على التجاوُب مع هذا الفيض الجديد من المُدخَلات، يتصاعد القلقُ بشأن موارد الجهود الحكومية المحدودة بالفعل التي تُحَوَّل لاستيعاب تلك المُدخلات.

تقدِّم شركة «سي كليك فيكس» الموجودة في الولايات المتحدة خدماتٍ مشابِهةً. يُبلِغ المستخدمون عن المشكلات، ويطَّلِعون على المشكلات الأخرى التي سبق الإبلاغ عنها، ويتابعون قضايا أو مجتمعات محلية معينة أو يشتركون فيها. ومثل «فيكس ماي ستريت»، يُنشِئ «سي كليك فيكس» تقاريرَ، ويرسلها إلى الوكالة المعنية بالمدينة. وعلى العكس من «فيكس ماي ستريت»، اتخذ «سي كليك فيكس» إجراءاتٍ مهمةً للتصدي لمعضلات المشاركة التي ذُكِرت سابقًا. في محاوَلةٍ لإقناع الناس بأن تلك الأداة التي تعمل بطريقةِ «وصفة واحدة تصلح لعلاج جميع الأمراض» مناسِبةٌ لمنطقتهم، تطلب الشركةُ متطوِّعين مواطنين، أو مَن يُسمُّونهم «نقرات جانبية» ليؤدوا دورَ سفراء للبلديات المحلية. ويسعى القائمون على الشركة إلى تقليل التوجس الذي يصاحب الكثيرَ من أدوات الحكومات المحلية من أنَّ ما هو محليٌّ يُصفَّى من خلال شبكة عالمية، بإقناع السكان المحليين بالتبشير باستخدام الخدمة، وبالترويج للأداة في الاجتماعات المحلية، وبالتواصل الشخصي مع المسئولين المحليين، ومداوَمة الاتصال مع الشركة لتقديم تقويمات عن الخدمة. بالإضافة إلى ذلك، تتصدَّى «سي كليك فيكس» لمسألة الاهتمام المستدام. وإحدى معضلات هذه الأدوات هي أن القليل منها يقدِّم الحافزَ على المشاركة خارجَ إطارِ الرغبة في فعل الخير، أو الحاجة الفورية للحصول على المعلومات. استخدمت «سي كليك فيكس» عناصرَ اللعبة، في شكلِ «نقاطٍ مدنيةٍ» لتعزيز الاهتمام المستدام. يجني المستخدمون نقاطًا بالتسجيل في الموقع الإلكتروني، وبالإبلاغ عن مسألةٍ ما، وبدفع الآخَرين للتعليق على مسائلهم، وبرفع فيديوهات، وبدخول الموقع سبعةَ أيام متتالية، وبالوصول إلى حلٍّ لمشكلةٍ ما. يهدف نظام النقاط إلى أن يوفر التنافُسَ بوصفه حافزًا على المشاركة، مع إظهار أعلى الحائزين على نقاطٍ مدنيةٍ في كل مدينةٍ إظهارًا متميزًا. يحاول طابعُ الموقع الإلكتروني المشابِه لِلُعبةٍ أنْ يُحَوِّل العناءَ اليومي الذي تنطوي عليه المشاركةُ المدنية إلى شيء مَرِح، ومتصل بالشبكات الاجتماعية، وأهم شيء أن يكون ملائمًا (كان وميدو وإيفِنْس، ٢٠٠٨). هذا التداخل بين أدوات العمل المدني وبين الألعاب هو أمر مماثل للتداخل الذي ناقشناه في الفصل الثالث بين الشبكات الاجتماعية والألعاب. تُنَفَّذ عناصرُ اللعبة لتقديم حافزٍ على المشاركة، على الرغم من أن التطبيقَ ذاته لا يمكن وصْفُه بأكمله بأنه لعبة.

تُفعَّل المكانيات الرَّقْمِيَّة في المدن في الوقت الراهن من خلال شكل الشراكة العامة/الخاصة التي نراها في الأمثلة السابقة، وهذا النوع من المقاربات الابتكارية للمشاركة التي تتضح في «سي كليك فيكس» لا يُرجَّح أن ينشأ من خلال إدارة التكنولوجيا التابعة للمدينة؛ فإنفاق دولارات المدينة على لعبة، مثلًا، ليس أمرًا مستساغًا سياسيًّا بعدُ. القطاعُ العام أقلُّ مرونةً وأكثر تثاقلًا من القطاع الخاص (هانسل، ٢٠٠٩). وعادة ما يسير الحكم المدني مدفوعًا بروح تجنُّب الأخطاء، والتقدُّم بثبات، بينما يُرجَّح أن يُقدِم القطاعُ الخاص على المجازَفة في سبيل فكرة جديدة. ويدور دور الحكومة في هذا الشأن حول تقديم المواد الخام التي يجري بها البناء، وهذا منعكس في مذكرة باراك أوباما بعنوان «الشفافية والحكومة المنفتحة» (عام ٢٠٠٩). أرسى أوباما في هذه المذكرة أولويةً للشفافية، آمِرًا معظم الإدارات الحكومية بأن تُتيح بياناتها على الموقع الإلكتروني http://data.gov، وهو فهرس الحكومة الفيدرالية للبيانات المقروءة آليًّا. وبالمثل، أطلقت المملكة المتحدة موقع http://data.gov.uk للغرض نفسه. وبالإضافة إلى مجرد إتاحة البيانات، أقامت الإدارات الحكومية منافَسَات بين المطوِّرين المحليين لاستخدام البيانات المتاحة حديثًا (صحيفة «الإيكونومست»، ٢٠١٠).
يتنامى إدراك الحكومات لمنافع الاستعانة بمشاركة المواطن؛ إذ يتطلَّب تطويرُ الأدوات الجديدة المرتبطة بهذه الممارسة القديمة خبرةً متخصِّصةً نوعًا ما. من أبرز الأمثلة تطبيقُ مدينةِ واشنطن «تطبيقات من أجل الديمقراطية»؛ حيث تشاركَتِ المدينةُ، في عام ٢٠٠٨، مع شركةٍ تُدعَى «آي استراتيجي لابس» لإطلاق مسابقة في استخدام البيانات الحكومية.١٢ وفي خلال عام واحد، أثمر مبلغ ٥٠ ألف دولار المخصَّص للجائزة ٤٧ تطبيق «آي فون» و«فيسبوك». وتُقام مسابقاتٌ مماثِلةٌ أيضًا في قطاعاتٍ عادةً ما تكون محافظةً هي أيضًا، على سبيل المثال: نشرَتْ وكالةُ مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية (داربا) في الولايات المتحدة الكثيرَ من بياناتها من أجل مسابقة تطبيقات.

ومع وصول هذا السيل من البيانات إلى المستخدِم العادي للويب أو للهاتف الذكي، تبرز تحدياتٌ أخرى لها صلةٌ بالتنسيق بين المستخدمين والوكالات، وتبادُلية التطبيقات الزائدة عن الحاجة. ربما يكون هناك شيء بالفعل يُدعَى الإفراط في شيءٍ حَسَن عندما يتعلَّق الأمر بسهولة الوصول إلى البيانات. هذا الإفراط في البيانات والمشكلات التي تصاحبه لهما دلالةٌ على الأمكنة الرَّقْمِيَّة؛ حيث لا يحدُّ من تواجُد البيانات والتوقعات الخاصة بإمكانية الوصول إليها سوى إشارة الشبكة المتاحة والجهاز الذي يحمله المرء. وأشار بعض الكتَّاب إلى هذا الفرد الحضري الجديد باسم «المواطن ٢٫٠» (دريبو، ٢٠١٠)؛ أيْ تلاؤم المواطنين مع «الحكومة ٢٫٠»، ومع الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة على نحوٍ أعم. وفي هذه الفورة من منظومات البيانات الجديدة، والتطبيقات المستخدَمة لقراءتها عليها، يتعيَّن على الحكومة أن تعيد النظرَ في دورها في إشراك الناس. ينبغي أن تتجاوز ما أطلق عليه دونالد كيتل (عام ٢٠٠٩) «حكومة ماكينة البيع» التي يتحدَّد فيها مجملُ الخدمات مقدَّمًا، وأن تتجه نحوَ ما دعاه تيم أورايلي (عام ٢٠٠٩) «حكومة في هيئة منصة»، حيث يسهم المواطنون في تحديد القضايا وفي حلها.

طبقًا لأورايلي، يجب أن تكون الحكومةُ منصةً مفتوحة، تتيح للناس من داخل الحكومة ومن خارجها أن يسهموا في نظامٍ للابتكار يتَّسِم بالتواصل والتفاعل بين أجزائه وبالنمو المستمر. ويقارن بين هذه الرؤية للحكومة وبين نوعِ النظام المتواصِل المتفاعِل الذي تمكَّنَتْ شركةُ «أبل» من إقامته في تطبيق «آيتيونز»؛ فهناك نموذج عمل مثمر نتيجةً لكونها منصةً، وهناك حافزٌ كبير للناس على استخدام المنصة. وطبقًا لأورايلي:

بدلًا من إتاحة بيانات الحكومة لقلةٍ مُختارةٍ من مقدِّمي «القيمة المضافة»، الذين يتيحون بعد ذلك البيانات للمستويات الأدنى، تبدأ الحكومة الاتحادية (وكثير من حكومات الولايات والحكومات المحلية) في تقديم منصة مفتوحة تمكِّن أيَّ شخصٍ لديه فكرة حسنة من بناء خدمات ابتكارية من شأنها أن تربط الحكومة بالمواطنين، وتتيح للمواطنين أن يظهروا في ممارسات الحكومة، بل تسمح أيضًا للمواطنين بالإسهام المباشر في صنع السياسات. (أورايلي، ٢٠٠٩)

إن نموذج الحكومة التي تتخذ هيئة منصة هو نموذج واعد جدًّا من حيث إنه مصمَّم ليلائم توقعات ناخبيها. ومع ذلك، سيكون أكثرَ الجوانب تحدِّيًا في هذا النموذج الجديد للحكم هو الحفاظُ على تبادلية النظام ومرونته. وإذا فشل بعضُ هذه الأدوات في العمل معًا، وإذا كان هناك فائضٌ يفوق الحد، فسيتوقف النظام بالكامل عن العمل؛ فلا يوجد شيء أسوأ من منصة مليئة بالأعطال، خصوصًا منصة تدفع لها الضرائب.

(٦) سياسة الأمكنة الرَّقْمِيَّة

سواءٌ أكان مَن يُيسرون عمل الشبكات الرَّقْمِيَّة هم المواطنون أم الحكومة، فوجودُها يغيِّر في الحياة المحلية من طبيعة المجتمعات المحلية؛ فما يعنيه ظنك أو شعورك بأنك «تعرف جارك» يتبدَّل في الأمكنة الرَّقْمِيَّة. تمتزج عناصر «الجاماينشافت»، أو نظيره الطقوسي المحلي، مع تراكيب المجتمع المحلي الخوارزمية التي أصبحت مألوفة في مواقع الشبكات الاجتماعية؛ فالحديث مع الجار يمكن أن يحدث في شرفة أمامية، أو في لقاء مجتمعي محلي، أو في احتجاج، أو في غرفة دردشة. وبالمثل، يتبدل في الأمكنة الرَّقْمِيَّة ما تعنيه المشاركة في السياسة؛ فالإبلاغُ عن حفرةٍ في الطريق باستخدام تطبيق «سي كليك فيكس» هو مشاركة، ومشاركةُ المعلومات على تطبيق «نيبورز فور نيبورز» هي مشاركةٌ، ولعب لعبةٍ تدور حول مبادرة للتخطيط المحلي هو مشاركة، والمشاركة في مسيرة في ميدان عام هي مشاركة بالتأكيد. فالمنصات التي يشارك المرء من خلالها تزداد انتشارًا، إلى حدِّ أن المشاركة المحلية في السياسة أصبح من الصعب تمييزها من المشاركة الأعم في الأمكنة الرَّقْمِيَّة. المشاركةُ والتعليقُ والتنظيمُ هي ما يفعله الناس على الإنترنت، وكوْنُ تلك الأنشطة ذات تبعات على مجتمعاتنا المحلية الجغرافية هو النتيجة الحتمية لسكانٍ يمتلكون إدراكًا مكانيًّا.

من ثَمَّ، تجد الحكومات نفسها في مأزق مثير للاهتمام؛ فهي يجب أن تحكم الأمكنة الرَّقْمِيَّة من أجل الحفاظ على أهميتها، ولكنها يجب أيضًا أن تُدرِك انعدامَ المساواة في هذه الفضاءات لكي تظل مؤثرة. ومع ذلك، فإن هذه المعضلة لا تكاد تبطئ من حماس القطاع العام حيال الإتيان بأدوات جديدة للتأثير على الحكومة وعلى المشاركة. وقد بذلت تقريبًا كلُّ مدينةٍ كبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا بعضَ الجهد في تعهُّد الأمكنة الرَّقْمِيَّة، بتشكيل أدوات، أو بالاشتراك في الشبكات المحلية الموجودة. لم يَعُدْ دورُ الحكومة يتعلَّق بإدارة الحياة العامة؛ إنه يتعلق بتقديم منصة عامة للتفاعل بين الناس والبيانات المحلية.

إلا أن انتشار المنصات الاجتماعية عبر الإنترنت والتطبيقات المعتمدة على الإدراك المكاني للتفاعل مع المجتمعات المحلية والفضاءات العامة، يقود إلى مخاوف متزايدة من فقدان الخصوصية والسيطرة على الفضاءات الشخصية. هذه المسائل ستُطرح في الفصل السادس.

هوامش

(١) لكن هذا لا ينطبق على الجميع؛ فعلي سبيل المثال: تستمر المشاركةُ فيما بين الأمريكيين من أصل أفريقي، وشباب الطبقة العاملة في الانخفاض؛ وهذا ما يشيرون إليه باسم «انقسام ما بعد الحادي عشر من سبتمبر».
(٢) انظرْ: كار، ٢٠١٠؛ لانيير، ٢٠١٠، فيما يختص بالمحاورات حول التأثيرات الاجتماعية السلبية للاتصال الرقمي. وبخصوص التأثيرات الإيجابية على الحياة السياسية والاجتماعية، انظرْ جِنكِنز، ٢٠٠٦؛ كان وميدو وإيفِنْس، ٢٠٠٨؛ شيركي، ٢٠٠٨.
(٣) بينما أنشأت العوالم الافتراضية الأولى على الإنترنت المجتمعَ بإخفاء الهُوِيَّة (أيْ إن المستخدمين عادةً لم يكونوا يكشفون عن هُوِيَّاتهم، وكانوا يتفاعلون مع الآخرين باستخدام الشخصيات الرَّقْمِيَّة، المعروفة أيضًا بالأفاتار)، تُبنَى مواقع التواصل الاجتماعي على فرضية أن الناس هم حقًّا ما يَدَّعونه. ويحدث ذلك لأن الروابط في مواقع التواصل الاجتماعي عادةً ما تعكس صلاتٍ سابقةً كانت موجودةً من قبلُ. فكما لاحظ بويد وإليسون (٢٠٠٧)، تنشأ العلاقات في مواقع التواصل الاجتماعي خارج الإنترنت، ثم تُنقل إلى الإنترنت، وهذا يتناقض مع نموذج العالم الافتراضي على الإنترنت، الذي تُنمَّى فيه روابط جديدة عبر الإنترنت، ويمكن أن تُنقَل هذه الروابط في نهاية الأمر خارج الإنترنت.
(٤) لأمثلة للتواصل في الأحياء، انظرْ: هامبتون وويلمان، ٢٠٠٣؛ هامبتون، ٢٠٠٧؛ وكافانوه وآخرين، ٢٠٠٥.
(٥) بَرْهَنَ مجالُ تحليل الشبكات الاجتماعية على أن الأواصر الهشَّة في إطار الأحياء، بدلًا من أن تؤدِّي إلى عُزلة اجتماعية، تُشكِّل الأساسَ الذي تستند عليه المجتمعات المحلية القوية. يوضح كيث هامبتون (عام ٢٠٠٧) أن هذا النوع من الشبكات الاجتماعية أثبَتَ قدرتَه على تقديم مكاسب جليلة للمجتمع المحلي؛ مثل: المساعدة في التحسينات المنزلية، ورعاية الطفل الطارئة (ويلمان وورتلي، ١٩٩٠، الصفحتان ٥٦٩-٥٧٠). وبُرهِن أيضًا عن أنها تؤدِّي إلى معدلاتِ جريمةٍ أقل (سامبسون وجروفز، ١٩٨٩)، واضطرابات عقلية منخفضة (إليوت، ٢٠٠٠؛ روس، ٢٠٠٠).
(٦) مراسلة شخصية مع جوردون، ٢٠١٠.
(٧) لتفاصيل أكثر حول هذا المشروع، انظرْ: فوث وآخرين، ٢٠٠٩؛ جوردون وكو، ٢٠٠٨؛ جوردون ومانوسيفيتش، ٢٠١٠.
(٨) كان مشروع «بارتيسيبيتوري تشايناتاون» يُموَّل من قِبَل مؤسسة ماك آرثر، وكان جهدًا مشتركًا بين ثلاث منظمات من منطقة بوسطن: كلية إمرسون، وشركة تنمية المجتمع الصيني، ومجلس تخطيط المنطقة الحضرية.
(٩) لأبحاثٍ حول المشاركة الوجدانية، انظر: دي نيف وهيبنر، ١٩٩٧؛ سيمكينز وشتاينكيولر، ٢٠٠٨؛ يي وبيلنسون، ٢٠٠٦.
(١٠) بالطبع، لم يكن متحمِّسًا فقط للإمكانية. وبصرف النظر عن الأثر المُدمِّر الذي ستُحدِثه على وسط طباعة الصحف، حذَّرَ من الآثار على المستهلك. وأعرَبَ عن أسفه من أن المبالغة في تخصيص المعلومات تبعًا للميول الفردية يمكن أن تقود إلى حالةٍ من الاستقرار الداخلي تُضيِّق بالضرورة نطاقَ المعلومات لدى كل فردٍ كلما ازدادَ مقدارُ البيانات المتاحة. وأبدى آخَرون هذا الخوفَ نفسه (جونسون، ٢٠٠١)، وعرضوا الآثارَ المترتبة على حلقة تغذية استرجاعية إيجابية نراها واضحةً في خدمات المستهلكين المعروفة مثل «أمازون رشَّح لك» (صنستاين، ٢٠٠٦)؛ حيث تؤثِّر قراراتك بالأمس على ما تراه اليومَ.
(١١) قد تبدو هذه الجهود المحلية جيدة للأحياء التي تخدمها، ولكنها لم تَخْلُ من الانتقادات. في ردٍّ على التدوينة الاستهلالية لموقع «ذي لوكال»، قال قارئ يُسمَّى «كلينتون هيللر» ما يلي: «بالرغم من سعادتي لأنكم تستعرضون مزايا حيِّي (انتقلتُ منذ عامٍ مضى من منهاتن)، يقلقني أن هذه المدونة الرائعة ستجعل الحي أكثر شهرةً، وستتسبَّبون في خروجي منه بسبب ارتفاعِ سعره مثلما حدث لي مع حيٍّ آخَر (هكذا كُتِبت). هناك الكثير من المدونات بالفعل عن بروكلين وعن هذا الحي. لا توجد حاجةٌ للإخراج على نطاقٍ واسعٍ لمدوَّنة لن تفعل شيئًا إلا رفع الإيجارات، وتغيير المتاجر والأشخاص الذين يرتادونها، وفعليًّا، تدمير الحي الذي تحاولون الارتقاء به. استمروا في الترويج لجاذبية القرية الغربية وتفرُّدها، ولوضاعةِ القرية الشرقية. دعونا نحافظ على حيِّنا كما هو.» فالتخوُّف من أن يجلب المدوِّنون المحليون اهتمامًا غيرَ مرغوبٍ فيه إلى منطقةٍ ما، هو تخوُّفٌ شائع جدًّا استجابةً لمشروعات مشابِهة (ليندجرين، ٢٠٠٩). إذا كان نقلُ الأخبار المحلية يجلب اهتمامًا إيجابيًّا إلى حيٍّ ما، فقد يؤدي فقط إلى رفع قيمة العقارات. إن الموازنة بين احتياجات المجتمع المحلي للخصوصية ورغبة الصحيفة في الانتشار، هي واحدةٌ من أكبر التحديات التي تواجه الصعودَ السريع للصحف نحو الإفراط في المحلية.
(١٢) كان كبير مسئولي التكنولوجيا في العاصمة واشنطن رجلًا يُدعَى فيفيك كُندرا، وعُيِّن في منصبِ كبيرِ مسئولي التكنولوجيا في إدارة أوباما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤