الجمهور والاضطهاد

موضوع هذا الكتاب هو اضطهاد الحكومات للناس، ولكن قد يكون الجمهور هو الباعث للحكومة على الاضطهاد كما رأينا في الأندلس، وقد يعمد الجمهور أيضًا إلى أن يأخذ الأمر بيده مباشرة، ويضطهد الخارجين على عاداته في الدين أو غير الدين، في حين تكون الحكومات متسامحة، راضية بوجود هؤلاء الخارجين.

فالبيض في الولايات المتحدة يضطهدون السود، ويقتلونهم، ولا تقوى حكومات الولايات على حماية السود منهم، وكان الرومانيون يضطهدون اليهود كلما سنحت فرصة لانتهاب أموالهم، وكان الأتراك — إلى وقت قريب — يختصرون عدد الأرمن بالسيف، ويمنعونهم من التزايُد المفرط، كذلك سمعنا عن مشاجرات كانت تقع بين الهندوكيين والمسلمين في الهند، وكثيرًا ما كانت تنتهي بقتل عدد كبير من الطرفين.

وهذا الاضطهاد لا تُمكن معالجته بالقوانين، فإنه قائمٌ على درجة الثقافة الفاشية في الأمة، ومقدار ما فيها من اعتراض وعصبيات قديمة؛ لأن القوانين تعجز عن تأديب الجمهور إذا لم يكن من ورائها رأي عام يدعمها ويؤيدها، فإذا كان هذا الرأي العام يروج التعصب، ويدعو إلى الاضطهاد؛ فإن الحكومة بكل ما فيها من نيات حسنة لا تستطيع الإصلاح إلا بنشر الثقافة، وقشع غيوم الخرافات من رءُوس الجمهور، وهذه طريقة بطيئة، ليست فيها سرعة الأمر والنهي التي تتسم بها القوانين.

وماذا يمكنك — مثلًا — أن تقول في قصة الطبيب المسلم الذي يرفض أن يعالج غير المسلمين؟ ليس في مستطاعك أن تتهم الإسلام بتعصبه؛ لأن هذا التعصب قد يرجع إلى مزاجه الشخصي؛ إذ لم يقل الإسلام قط: إن العلم حرام على غير المسلمين، فقد ذكر «طبقات الأطباء» عن رضا الدين الرجبي — الطبيب أيام الملك العادل — أنه «لم يقرئ في سائر عمره عن أهل الذمة سوى اثنين لا غير … بعد أن أثقلا عليه بكل طريق، وتشفعا عنده بجهات لا يمكن ردها.»

وكذلك لا يمكننا أن نخوض في موضوع كراهة الأمم المختلفة لليهود؛ لأن هذه الكراهة قائمةٌ على عصبيات وأغراض قديمة، تحتاج إلى تربية طويلة لقَشْعها عن العقول.

ولكن يجب أن نذكر أن الحكومات مؤلفة من الجماهير، وقد تكون من صفوة الجماهير، ولكنها تبقى مع ذلك متأثرة بروحها، تحسب لها وتقدر عواقب غضبها، وتتملقها باضطهاد من ترغب في اضطهاده، وقد اضطهد «دريفوس» حديثًا في فرنسا بفرط ضغط الجمهور — الذي يكره اليهود — للحكومة، وكانت حكومات الأندلس تضطهد اليهود، وتضطهد العلماء؛ تملقًا للجمهور.

وبهذه المناسبة يحسن بنا أن نذكر المذبحة التي أصابت نحو أربعة آلاف يهودي في إسبانيا سنة ٣٥٩ﻫ على يدي جمهور جاهل، استفزتْه العاطفة الدينية؛ فقد كان باديس أمير غرناطة قد استوزر يهوديًّا يُدعى ابن نغزالة، فألَّف أبو إسحاق الفقيه قصيدة حضَّ فيها قبيلة صنهاجة على اليهود وأغراهم بقتلهم، قال نفح الطيب: «وهي قصيدة طويلة» فثارت صنهاجة على اليهود، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وفيهم الوزير المذكور «ابن نغزالة» فأراح الله البلاد والعباد ببركة هذا الشيخ «أبو إسحق الفقيه» الذي نور الحق على كلامه بادٍ.

ويقول أبو إسحاق الفقيه هذا — في قصيدته المشئومة:

ألا قل لصنهاجة أجمعين
بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي ثقة مشفق
يعد النصيحة زلفى ودين
لقد ذل سيدكم ذلة
تقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافرًا
ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخوا
وتاهوا، وكانوا من الأرذلين

ويقول في الإغراء بقتل الوزير وطائفة اليهود:

فبادر إلى ذبحه قربة
وضَحِّ به فهْو كبش سمين
ولا ترفع الضغط عن رهطه
فقد كنزوا كل علق ثمين
وفرِّقْ عُراهم وخذ مالهم
فأنت أحق بما يجمعون

فهذا مثال من تعصُّب الجماهير، وسفالة أديب، انتهت بمأساة فظيعة.

وقد كان جمهور الأندلس أغبى جمهور في العالم الإسلامي كله، قد ركبه الفقهاء واستغلوه لمصالحهم، مع أن حكام الأندلس وأمراءه كانوا على غاية بعيدة من التسامح، وذلك في حين أن الجماهير المسلمة في الشرق كانت مسالمة موادعة، وحياة المعري وحدها تكفي برهانًا على ذلك، فإن هذا الأديب العظيم عاش إلى الشيخوخة الهنية في بلدته «المعرة» ولم يُلاقِ من الجمهور أو الحكومات المسيطرة عنتًا مع ما كان يمكن أن يؤاخذ عليه، ويكون كافيًا للحكم عليه بالقتل؛ فقد شك في الدين، وأعلن شكوكه في أبيات عديدة تُنوقلت عنه، وشاع عنه الكفر والإلحاد، ومع ذلك لم ينله أذًى.

ويحسن بنا هنا أن ننقل شيئًا من أقواله؛ لكي يعارضها القارئ بمقتلة اليهود في إسبانيا، فالدين الذي كان يخضع لسلطانه ذلك الأديب أبو إسحق الفقيه هو نفسه الدين الذي كان يخضع لسلطانه أبو العلاء المعري، وإنما اختلفت الثمرة لاختلاف التربة.

فمما يُروى عن المعري ويؤاخذ عليه قوله:

قلتم لسنا صانع قديم
قلنا صدقتم كذا نقول
ثم زعمتم بلا زمان
ولا مكان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليست لنا عقول

وقال عنه ياقوت: «كان متَّهمًا في دينه، يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحمًا، ولا يؤمن بالرسل ولا بالبعث والنشور.»

ومما يؤاخَذ عليه المعري: قوله يخاطب الله:

أَنَهيتَ عن قتل النفوس تعمُّدًا
وبَعثتَ تأخذها مع الملكين
وزعمت أن لها معادًا ثانيًا
ما كان أغناها عن الحالَين

وأيضًا قوله:

إذا ما ذكرنا آدمًا وفعاله
وتزويجه لابْنَيِهِ بنتيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر
وأن جميع الخلق من عنصر الزنا

وأيضًا قوله:

هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
ومجوس حارتْ واليهود مُضللهْ
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا
دين وآخر دَيِّنٌ لا عقل لهْ

فكل هذه أقوالٌ صريحةٌ في الكفر، لم يتحرك لها الجمهور أو السلطان إلا حركةً ضعيفة جدًّا، نرى بعضها في بيتين من قصيدة القاضي أبي جعفر الزوزني يقول فيها:

كلب عوى بمعرة النعمان
لما خلا عن ربقة الإيمان
أمعرة النعمان ما أنجبت إذ
أخرجت منك معرة العميان

وقد مات المعري سنة ٤٤٩ﻫ.

فجمهور الشرق كان قد تربى ونشأ على التسامح، وكان فقهاؤه قد تثقفوا بعض الشيء بثقافة الفلاسفة والأدباء، فلم يجدوا حرجًا في أقوال المعري يستوجب العقوبة الصارمة، في حين أن جمهور الأندلس كان مطية الفقهاء، يوجهونه إلى أَيَّة ناحية يُريدونها. والشرق والغرب كانا يؤمنان في ذلك الوقت بدين واحد هو الإسلام.

ويجب ألا ننسى أيضًا أن السهروردي قُتل بأمر صلاح الدين بعد وفاة المعري بنحو ١٤٠ سنة، ولعله لم يقل نصف ما قاله المعري من التنديد بالأديان والحمل عليها، ولكن صلاح الدين كان رجلًا كرديًّا غير مثقف، فاستطاع الفقهاء أن يؤثروا فيه.

وخلاصة هذا الفصل:
  • (١)

    أن تهور الجماهير وتعصبها لا يمكن أن يعزى إلى الدين؛ لأن الدين يحتاج إلى ثقافة لا تصل إليها الجماهير، وهذه الجماهير تتأثر باعتبارات عديدة الدين واحد منها فقط، فالفرنسيون مثلًا يكرهون اليهود الآن لاعتبارات وطنية تجارية.

  • (٢)

    أن التعصب يرجع إلى القابض على السلطة الدينية، وفهمه للدين يختلف باختلاف ما هو حاصل عليه من الثقافة، فالدين المسيحي — الذي تؤمن به أوروبا الآن والذي يقول المؤمنون به بالتسامح — هو نفسه الذي كان يقول المؤمنون به بعدالة أحكام محكمة التفتيش في القرون الوسطى، والإسلام الذي تسامح في وجود المعري هو نفسه الذي توسل به الفقهاء لقتل السهروردي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤