الفصل الثامن

لو استثنينا وقعة الجمل لرأينا أن السيدة أم المؤمنين قطعت المرحلة الطويلة من الحياة — من السَّنَة العاشرة للهجرة إلى الثامنة والخمسين منها — في العبادة وتلاوة القرآن والتضرع في وجوه البر والمواساة ورواية الأحاديث وتخريج المسائل الفقهية.

على هذا المنوال البديع سارت السيدة عائشة في حياتها الجميلة، تلك الحياة التي وقفتْها على سبيل إعلاء كلمة الله، من أجل ذلك أحبها الناس، ومن أجل ذلك كان يتباهى بها أهل مكة ويفتخر بشخصها الكريم أهل المدينة.

أقرَّ علماء زمانها وفحول الرجال من معاصريها نبوغها وتفوقها حتى ذاعتْ شهرتها في الممالك والأمصار.

صفحة حياتها الخالدة، تلك الصفحة المشرقة من صفحات الإسلام انتهت وقائعها في العام الثامن والخمسين من الهجرة.

وكانتْ وصيتها عندما وافاها القدر المحتوم أن ينزلها «ذكوان» مولاها في قبرها ثم يُعتق نظير هذه الخدمة.

وما كادت تلك الروح الشريفة تصعد إلى بارئها، حتى علا النحيب واشتد بكاء مَن في الدار، فأرسلتْ أم سلمة جاريةً لها تستوضح الأمر، وما كادت تنقلب إليها بالخبر المشئوم حتى بكتْ هي أيضًا ثم قالت: «كانت عائشة من أحب الناس إلى الرسول بعد أبيها الصديق.»

تُوُفِّيَتْ إلى رحمة ربها في الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان المكرم، ودُفنت في تلك الليلة ومشى جميع أهل المدينة في جنازتها، وقد صلى عليها أبو هريرة — رضي الله عنه، أما الذين نزلوا قبرها فهم عبد الله وقاسم ولدا محمد بن أبي بكر، وعبد الله بن عبد الرحمن، وعروة وعبد الله ولدا الزبير — رضي الله عنهم.

ماتت هذه السيدة الفاضلة عن خدمات جليلة وحسنات شهيرة حببتها إلى الأمة الإسلامية، فخلفت العالم وراءها في ظلام دامس لا مثيل له.

شعر أهل المدينة بعظيم رُزْئهم وجليل خطبهم كما أحسوا بيُتْم حالهم بعد أُفُول تلك النجمة العالية من بينهم، فبكاها الكل، بكاها الرجال قبل النساء، والشيوخ قبل الشباب؛ إذ كانت قد شملتهم جميعًا بأَرْدِية فضلها وأغطية برها وخيراتها.

إن المُخدَّرات الإسلامية في تلك الأزمان السعيدة؛ أي من بدء عهد الإسلام، كُنَّ قد ارتقَيْن إلى مستوى عصرهن الراقي فوهبْنَ أنفسَهن العالية إلى أعمال الخير والفضل حتى النَّفَس الأخير، فكان عُمْر إحداهن عصرًا قائمًا بنفسه، وترجمةُ حياةِ الواحدة منهن صفحةً جليلة من صفحات التاريخ، ولقد سطعْنَ في سمائه ببهجة وإيناس كما كُنَّ الشهبَ الثاقبة في سماء الإسلام في العهد القصير الذي تلألأتْ فيه أنوارهن الباهرة.

لاحتْ أنوارهن زمنًا قصيرًا في سماء الإسلام، شأن كواكب الأسحار، إلا أننا ما زلنا نلمس آثار وميضهن في طيات الصحف، وهذا ما يبعث فينا الأمل والسرور، فها نحن أولاء نبدأ اليوم، بفضل تلك الأنوار والإسلام في محنته وقتامه، يملؤنا الشعور والأمل بأن نخلف بعدنا صحائف خالدة مثل صحائفهن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤