الفصل الثالث

البرامكة الذين كانوا غُرَّة في جبين الدولة العباسية وتاجًا على مفرق أيام الرشيد، هم أحفاد بعض المماليك من الفرس الذين استوطنوا بغداد أيام خلافة المنصور، كانوا قديمًا على دين المجوس ثم أسلم منهم مَن أسلم وحَسُن إسلامُهم، استوْزَر المنصورُ جدَّهم خالدَ بنَ بَرْمَك فكانت لهم الكلمة النافذة والسيطرة التامة في شئون الحكم والإدارة، وضُربتْ بمكارمهم الأمثال، وشُدَّتْ إليهم الرِّحال ونِيطَتْ بهم الآمال، بذلتْ لهم الدنيا أفلاذ أكبادها ومنحتْهم أوفرَ أسعادها، فكان يحيى وبنوه كالنجوم زاهرة والبحور زاخرة والسيول دافقة والغيوم ماطرة، أسواق الآداب عندهم نابقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة.

أما يحيى بن خالد، وهو والد جعفر، فكان فخر العائلة البرمكية، وكان من عادته إذا ركب أن يُعِدَّ صِرارًا في كل صرَّة مائتا درهم يدفعها إلى المعترضين له يمينًا ويسارًا فإذا رآه الناس بشَّروا بعضُهم البعض بتدفُّق غيوث خيراته وحسناته عليهم.

يُحكَى أن أحد أعدائه البخلاء اضطر في أحد المجالس أن يصافحه، إلا أنه ما كاد يضع يده في يد يحيى حتى أرجعها خائفًا مذعورًا فنظر إليه يحيي نظرة المستغرب الناقد فأجابه: أخاف إن صافحتُك أن تسري إليَّ عدوى جودك وكرمك.١

كان قصر البرامكة على شاطئ الدجلة قُبالة قصر الخلافة، وكانتْ أبوابه مفتوحة ليلَ نهارَ للزائرين من غادين ورائحين، وكان أبو نواس يسمي دارهم ملجأ الإسلام وهو القائل فيهم:

سلامٌ على الدنيا إذا ما فُقِدتُم
بني برمك من رائحين وغادِ
أراد يحيى بن خالد البرمكي أن يُلقِي على الهادي — وقد كان ضعيف الرأي٢ — درسًا محسوسًا في أيام وزارته له؛ رغب الهادي في شراء جارية حسناء بمبلغ مائة ألف دينار، فاستعظَم وزيره هذا المبلغ وأفهمه غُبْن هذه القيمة الباهظة، إلا أن الهادي أصرَّ في رغبته ولم تُجدِ نصائح الوزير نفعًا، فتلمَّس يحيى وسائل أخرى لتسوية الأمر، وبينما كان يفكر فيما يجلبه مثل هذا الإسراف من الخراب على الدولة خطرتْ بباله حيلة جميلة؛ جمع من الدراهم ما يوازي قيمة المائة ألف دينار وبعثرها في صحن الجامع الذي يصلي فيه الهادي، وعند وصول الهادي إلى الجامع في صلاة الجمعة ومعه يحيى نظر إلى الدراهم المالئة أرجاء الجامع شرقًا وغربًا، فقال: ما هذا؟ ما أكثر هذا المال!

فوجد الوزير الفرصة سانحة وأخبره بأن هذا القدر من المال هو ثمن ما سوف يُدفَع لمشتري الجارية فاستعظم المبلغ ورجع عن عزمه، وكان يحيى يعجبه أخلاق هارون الرشيد ويفضِّله على أخيه الهادي، وعندما حاول الهادي خلع أخيه من ولاية العهد والمبايعة لابنه جعفر بن الهادي حادَثَ يحيى في ذلك فقال له: يا أمير المؤمنين، إن فعلتَ حملتَ الناس على نكْث الأيمان ونقض العهود وتجرَّأ الناس على مثل ذلك لو تركتَ أخاك هارون على ولاية العهد ثم بايعتَ لجعفر كان ذاك أوكد في بيعته.

فصوَّب الهادي رأيه، وكان الرشيد بعد ذلك يرى هذه من أعظم أيادي يحيى بن خالد عنده.

بعد انتهاء عهد الهادي وقد ظلَّ عامًا واحدًا، بايع الناس أخاه هارونًا، والفضل في ذلك راجع إلى يحيى فعظمتْ منزله البرامكة من نفس الرشيد، وأظهر امتنانه لهم في كل فرصة سنحتْ، كان يُنزِل يحيى منزلة الوالد، استوزَرَه في أوائل خلافته وترك مقاليد الأمور وديعة له يعمل فيها برأيه الثاقب وحنكته وتجاريبه في الحياة، فكانت أكثر النواحي والأمصار تحت زمام حكمه وسيطرته، وبعد أن تقلَّد الوزارة بضع سنوات أصبح ابنُه جعفر الوزير المخلص للرشيد ورفيقه ونديمه وصديقه العزيز، ذا المكانة السامية في سويداء قلبه لا يفارقه لحظة من اللحظات، كان جعفر إذ ذاك في العشرين من عمره، وكان أخا الخليفة في الرضاعة،٣ فكانت أبواب القصر ودائرة الحريم مفتوحة الأبواب له على الدوام، ولحسن محضره ولطف حديثه أصبح محبوبًا مألوفًا من أفراد عائلة الرشيد.

كان جعفر طويل القامة، نحيف البنية وسيم الوجه أبيض اللون، مستدير اللحية، ذا عينين براقتين وابتسامة حلوة حديد المزاج، فاضلًا كريمًا على جانب عظيم من العلم والفضل، وله من موارد الثروة ما لا يقل عن الخليفة، فلا يكاد يوجد في بغداد إنسان لم يُصِبْه جانب من كرم فضله ومروءته، فكان محبوبًا من الجميع، يعتبره الناس النجم المتألق في سماء عرش العباسيين.

وكان يرى بنفسه كل المسائل المعضلة فيحل عقدتها برأيه الثاقب ويُريح الخليفة من هموم الإدارة وأعبائها، ومع أنه لا يغمض له جفن ولا يستريح في ساعة من ساعات الليل فضلًا عن النهار في مصالح السلطنة، فكان لا يفارق الخليفة في مجالسة أو منادمة، وكان أديبًا أريبًا يعلم الشعر ويفهم الموسيقى؛ ولذلك لم يبقَ إنسان في بغداد لا يُقدِّر قيمة هذا الوزير المقطوع القرين.

أحضر العلماء والحكماء وأمرهم بترجمة الكتب الأجنبية، وشجَّع الفلاسفة والمفكرين وأسَّسَ دُور العلم ونشر التجارة والطبابة والحكمة في ربوع بغداد حتى أصبحت محطًّا لرحال العلماء وقطب رحى الآداب والفنون، ولم يمضِ على هذه المدينة إلا القليل حتى سُمِّيت «أسواق الآداب».

كان الرشيد يغدق النعم والخيرات على مَن يجلب له السرور ويسبب له الغبطة، فيضحى إيراد بيت المال وضياعه الخاصة في سبيل شخصه، أما جعفر فكان يصرف ماله في سبيل المحافظة على مجد الرشيد وأبهة ملكه وخلافته التي يتفانى في خدمتها، وكان مع ميله إلى اللذَّات يصرف نصف أمواله في وجوه البر والحسنات.

اشتهر الرشيد بحسن إدارة جعفر، وما نال ألقاب الحمد والثناء إلا بفضل سخاء جعفر، ثم كان بعد ذلك من أصحاب الحكمة والحِجَى باستعداد جعفر وكفاءته كما أصبح قرين العلماء، جليس الأدباء، نديم الشعراء بإرشادات جعفر، وبجعفر فحسب كان الرشيد رشيدًا.

ما أجلَّها روحًا! تلك الروح العالية والنفس الأبية التي تستنسخ مزاياها من أشخاص أخرى، ولا تفقد بذلك بهجتها وأضواء كمالها.

كان الرشيد في بداية حكمه مسوَّدة لوحة فنية تحتاج إلى ألوان عديدة وإصلاحات كثيرة، وبمرور الزمن أصبحتْ تلك المسوَّدة الناقصة في أيام وزارة جعفر لوحة فنية نفيسة، وظهرتْ في معرض التاريخ بتلك الأبهة والعظمة.

وإليك الحكاية الآتية دليلًا على الروابط القوية والألفة المتينة الموجودة بين الرشيد وجعفر.

قيل: إن جعفر بن يحيى جلس يومًا للشرب وأحب الخلوة فأحضر نُدَماءه الذين يأنس بهم وجلس معهم وقد هيَّأ المجلس ولبسوا ثيابًا مصبغة، وكانوا إذا جلسوا في مجلس الشراب واللهو لبسوا ثياب الحمر والصفر والخضر، ثم إن جعفرًا تقدَّم إلى الحاجب ألَّا يأذن لأحد من خلق الله سوى رجل من النُّدَماء كان تأخَّر عنهم اسمه عبد الملك بن صالح ثم جلسوا يشربون، ودارت الكاسات وخفقت العيدان وكان رجل من أقارب الخليفة يقال له عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس، وكان شديد الوقار والدين والحشمة، وكان الرشيد قد التمس منه أن ينادمه ويشرب معه وبذل له على ذلك أموالًا جليلة فلم يفعل، فاتَّفق أن هذا «عبد الملك بن صالح» حضر إلى باب جعفر بن يحيى ليخاطبه في حوائج له، فظن الحاجب أنه هو عبد الملك بن صالح العباس، فأدخله على جعفر بن يحيى، فلما رآه جعفر كاد عقله يذهب من الحياء، وفطن أن القضية قد اشتبهتْ على الحاجب بطريق اشتباه الاسم، وفطن عبد الملك بن صالح أيضًا للقصة، وظهر له الخجل في وجه جعفر بن يحيى، فانبسط عبد الملك وقال: لا بأس عليكم أحضِروا لنا من هذه الثياب المصبغة شيئًا فأُحضِر له قميص مصبوغ فلبسه، وجلس يُباسِط جعفر بن يحيى ويمازحه، وقال: اسقونا من شرابكم.

figure
الرشيد يراقب الجموع المحتشدة أمام قصر البرامكة.

فسقوه رطلًا وقال: ارفقوا بنا فليس لنا عادة بهذا.

ثم باسطهم ومازحهم وما زال حتى انبسط جعفر بن يحيى وزال انقباضه وحياؤه، ففرح جعفر بذلك فرحًا شديدًا وقال له: ما حاجتك؟

قال: جئتُ — أصلحَك الله — في ثلاث حوائج أريد أن تخاطب الخليفة فيها؛ أولها: أن عليَّ دينًا مبلغ ألف ألف درهم أريد قضاءه، وثانيها: أريد ولاية لابني يَشْرُف بها قدْرُه، وثالثها: أريد أن تزوِّج ولدي بابنة الخليفة، فإنها بنتُ عَمِّه، وهو كفء لها.

فقال له جعفر: قد قضى الله هذه الحوائج الثلاث؛ أما المال ففي هذه الساعة يُحمل إلى منزلك، وأما الولاية فقد وليتُ ابنك مصر، وأما الزواج فقد زوجتُه فلانة، ابنة مولانا أمير المؤمنين، على صداق مبلغه كذا وكذا فانصرِفْ في أمان الله.

فراح عبد الملك إلى منزله فرأى المال قد سبقه، ولما كان من الغد حضر جعفر عند الرشيد وعرَّفه ما جرى وأنه قد ولَّاه مصر وزوَّجه ابنته، فعجب الرشيد من ذلك وأمضى العقد والولاية، فما خرج جعفر من دار الرشيد حتى كتب له التقليد بمصر وأحضر القضاة والشهود وعقد العقد.٤
١  لعلَّ الأميرةَ تعني بذلك قولَ الشاعر:
لا تراني مصافحًا كفَّ يحيى
إنني إن فعلتُ ضيعتُ مالي
لو يمسُّ البخيلُ راحةَ يحيى
لسَخَتْ نفسُه ببَذْل النَّوَالِ
٢  إننا لا نُقِرُّ الأميرةَ على هذا الرأي؛ لأن المعروف عن الهادي أنه كان متيقظًا غيورًا، كريمًا شهمًا شديد البطش جريء القلب مجتمع الحسِّ ذا إقدام وعزم وحزم. (المعرِّب)
٣  ظِئْر الرشيد إنما هو الفضل وليس جعفرًا، وكان الرشيد يأنس بجعفر أكثر من أنسه بأخيه الفضل لسهولة أخلاق جعفر وشراسة أخلاق الفضل.
٤  الفخري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤