الفصل الخامس

كان الرشيد حانقًا غاضبًا بعد تلك الحادثة، وأخذت مكانة جعفر تتضاءل في نفسه شيئًا فشيئًا وكأني به وقد اختلى بغرفته على أثر سماع هذا النبأ وأوصى مسرورًا السيَّاف بأن يمنع كائنًا مَن كان من الدخول عليه، يقول في سِرِّه: ما هذه الجرأة كيف يستطيع جعفر أن يعصي لي أمرًا وأنا الخليفة صاحب النهي والأمر، إنه قد وصل من استبداده إلى حدٍّ لا يمكن السكوت عنده، وكأني به وقد حادث نفسه بمثل هذه الأقوال يشرف من نافذة غرفته، محاولًا تسلية نفسه بزئير الأسود المحجوزة في أقفاصها الحديدية بحديقة القصر.

بلى، هذا ما حدث، فإن التاريخ نقل إلينا أنه نزل بعد سماعه هذا النبأ إلى حديقته، حيث أقفاص الليوث وهنا طلب من الحارس أن يحضر له رضيعًا مذبوحًا من الغنم.

أخذ قطعة صغيرة ورماها إلى أعز الليوث عنده فالتهمها في الحال، وقف بعد ذلك ينتظر أن يلقي إليه الباقي، انتظر كثيرًا ولكن عبثًا؛ لأن الخليفة أمر الحارس بأن يمنع عنه الباقي، عيل صبر الأسد وكان يزأر من حين لآخر كأنما يطلب بلسان الحال فريسته، وقف الرشيد يتأمل طويلًا هذا المنظر ويقارن بين حالة الأسد وحالته الروحية، وكأني به الآن وقد امتزجت نفسيته بنفسية الأسد مشفقًا عليه، ونادمًا على منع الفريسة عنه، وكأني به وهو ينظر إلى الحارس شذرًا ويلومه لأنه ينفذ في صديقه الأسد هذا الأمر القاسي، يجد في الأسد شبيهًا به وبالحارس مثيلًا لجعفر عدوه الآن.

وعندما عيل صبره لم يُطِقِ احتمال رؤية الأسد يتعذب فأمر بأن تُلقَى إليه الشاة كاملة، فأُلقيتْ وهجم الليث على فريسته وقطعها إربًا بين براثنه وأخذ يقضم العظام بأنيابه، وبعد أن استقرت كاملة في معدته ربض ربضة الآمن المطمئن وأخذ يصوب نظراته إلى الرشيد، تلك النظرات التي لم يذهب عنها بريق الحِدَّة والغضب.

أما الرشيد فبعد أن وقف طويلًا أمام هذا المنظر عاد إلى قصره وقد هدأت الثورة القائمة بين جوانب نفسه.

إنه ليفكر فيقول في سِرِّه: لو كنتُ الآن داخل القفص فأي شيء كان يمنع الليث من أن يهاجمني فيفترسني افتراس قطعة اللحم، كان يرى في نفسه وهو يمشي نحو القصر بين طرقاته المزينة بأصص الرياحين، أسدًا ظامئًا إلى الافتراس، نفسًا طموحة إلى الانتقام، كان توَّاقًا إلى التشفِّي من عدوِّه اللدود جعفر، ولكن هيهات لم تحن الفرصة بعد، فهو ينتظر الفرصة بفروغ صبر ولا يدعها تفلت من يده بعد اليوم.

وصل الخليفة إلى القصر وصعد توًّا غرفته الخاصة، وكان منظر الغروب جميلًا يجذب الروح فجلس متكئًا على النافذة يتأمل بحزن وإطراق ألوان السحب المتماوجة في السماء، وما لبث أن مدَّ ببصره إلى الضفة الأخرى من الدجلة حيث يوجد قصر البرامكة.

ارتعشتْ نفس الرشيد داخل جسمه، كان الناس عند مدخل القصر ينتظرون أوامر الوزير، بين داخل وخارج، يهرولون ذات اليمين وذات اليسار وبينهم الجنود ورجال المعية في هرج ومرج، هنالك الضجيج، هنالك الحركة، هنالك كل شيء.

ارتكزت عيناه عند هذه النقطة من الضفة الأخرى وكلما لجَّ به النظر، اشتدَّ حنقه، وارتفع صدره بنيران الغيظ المضطرمة بين أحشاء قلبه، كانت أهداب عينه تهتز بحركة عصبية وهو يرى أن سكون الماء وهدوء الطبيعة لا يتخللها سوى حركة واحدة في تلك الساعة، هي الحركة الآتية من الضفة الأخرى أمام قصر جعفر.

أيقن الآن أن جعفرًا هو حاكم بغداد وأمير الدولة وخليفة الإسلام، علم الآن أن جعفرًا كان كل شيء، ولكن أين هو من هذا الضجيج؟ أين مكانته من هذه الحركة؟ أين عز الخلافة وشرف الجاه؟ هنالك في قصر البرامكة الذي يلمع بالأضواء ويموج بالحركة، أما قصر الرشيد فقد تسربل رداء السكون والصموت.

تبطنت أعماق نفسه بآلام خفية في هذه اللحظة فنسي كل شيء.

نسي صداقة جعفر وإخلاصه وفطانته، نسي أن هؤلاء المحتشدين حول دار وزيره جاءوا يلتمسون نداه، يستعطفون مروءته، يلتجئون إلى ظل شهامته، نسي أنهم وافدون إليه لقضاء مصالحهم، نسي أن جعفرًا أخذ على عاتقه هذا الحمل ليخفف عنه العبء، نسي فصاحة وزيره وحسن تدبيره ودرايته، نعم، نسي كل شيء ولم يبقَ في عقله وذهنه إلا أمر واحد اهتزت له أرجاء روحه وأخذ قلبه يخفق لأجله من الحدة والألم، وكأني به يقول: «لست أنا الخليفة، وإنما الخليفة جعفر، ما أشد بلائي! كيف لم أفطن إلى هذه النتيجة؟! ماذا أستطيع أن أعمله الآن لو أن جعفرًا نزع إلى انتزاع الحكم من يدي وسيَّر رجال الجيش عليَّ، وجُلُّهم من الأعجام صنائع معروفه ونداه؟»

هذا ما كان يردده الرشيد في مثل هذا الظرف، لا سيما وقد اشتدت هجمات الأعداء ووشاياتهم في حقه، فلا يلتفت حتى يسمع واشيًا ولا يمشي خطوة حتى يجد من يحدثه بخيانة جعفر له، وما أكثر الأوراق التي كان يجدها في سريره تحذره بعاقبة الحال وسوء المنقلب!

فكَّر كثيرًا واستعرض وجوه الرأي للتخلص من هذه الحال، فخطر بباله أن يوفده إلى الخراسان، ولكن أحجم عن هذا الرأي لخطورته؛ لأن جعفرًا قد يجتمع مريدوه وأشياعه حوله هناك، فيؤلف منهم قوة كبيرة لا تقاوَم، فلم يجد إلا القتل داء شافيًا، ولكن كان عليه أن يلتمس لقصده هذا عذرًا وينتظر الفرصة السانحة؛ ولذلك لم يجد مندوحة من الصبر والتأني فنادى مسرورًا وأمره بأن يذهب إلى وزيره ويدعوه إلى تناول طعام العشاء.

كان الرشيد ينتظره بوجهٍ باسمٍ ومحيًّا طلْقٍ وهو على أريكة مزركشة قائمة على عرش مذهب، وعلى مقربة منه مائدة تنوء بأطباق الفضة المحتوية على صنوف الفواكه والمشمومات، بجانبها أكواب من البلور، تتلألأ داخلها أشربة ملونة وقد فاحت القاعة بعنبر العنبر والصندل والعود.

في الغرفة المجاورة، على مقربة من القاعة التي فيها هذه النفائس، كان أبو نواس وأبو زكار وإبراهيم الموصلي يتشاورون فيما بينهم على الأغاني والألحان التي يطربون بها في تلك الليلة مسامع مولاهم الخليفة.

لم يمض على انتظار الخليفة زمن كبير حتى وصل مسامعه صليل السيوف وصهيل الخيول، حضر جعفر مع رجال حاشيته.

صوَّب الخليفة أنظاره نحو الباب الذي سيدخل منه الوزير، وعندما رفع الوزير السجف الحقيقية المتدلية على الباب نظر إلى الخليفة ثم إلى نظراته المنطوية على الغيظ والحقد فكاد يصعق في مكانه، ولكنه لمَّ شعثه وخطا نحو الخليفة خطوات ثابتة، يقدم له تحية الاحترام.

أخفى الرشيد ما بين جوانحه من الغيظ والحقد وابتسم للوزير ليخفي ما تنطوي عليه جوارحه فقال له معترضًا على لباسه: ما هذا يا أخي إننا سنتناول الطعام على حِدَة، فلماذا اعتنيتَ بلباسك إلى هذا الحد؟

كان الخليفة في هذا المجلس ضاحكًا لاهيًا، يملأ الأقداح ويسأل جعفرًا عن شئونه الخاصة، ويداعب الندماء ويطرب لنغمات الموصلي وإنشاد الشعراء، أما جعفر فكان يحاول إسكات خفقان قلبه واضطرابه ليشارك الخليفة في هذا السرور والنشاط، كان يحاول أن يرفع عن نفسه أثر تلك النظرات الأولى التي قابله الخليفة بها، كان يجاهد نفسه ليبتسم وليضحك، ولكن كانت كلمات الخليفة وابتساماته ونظراته تتسدد في صدره كأنها سهام مسنونة، علم جعفر كل شيء وأيقن بزوال مكانته من نفس مولاه، وأيقن بالسقوط على أثر تلك النظرة المعنوية.

أيمكن أن يكون الخليفة وقف على سره واطَّلع على ما بينه وبين العباسة؟ محال أن يكون ذلك، فمن يستطيع أن يخبر الخليفة بهذا الأمر ليستهدف غضبه، هل وصلتْه وشاية أو سعى إليه أحد أعدائه، لا ريب في ذلك، فإنه كان يشعر بأن أعداءه يتألَّبون عليه وأن كلمتهم اشتدت في الأيام الأخيرة وبأن نفوذهم أخذ في الاستفحال.

قارب الطعام على الانتهاء، وكان الرشيد ووزيره يتناولان الفاكهة، وكان الخليفة قد مد يده إلى إجاصة فقال له فجأة: كدتُ أنسى كيف حال يحيى بن عبد الله الطالبي؟ فارتبك جعفر إلا أنه قال: هو في الحبس يا مولاي.

فقال الرشيد: بحياتي؟

ففطن جعفر وأجاب: لا وحياتك، ولكن أطلقتُه؛ لأني علمتُ أنه ليس عنده مكروه، فقال له الرشيد: نِعْمَ ما فعلتَ، هذا ما كنتُ أنتظره من حسن فطانتك.

انتهى الطعام وجلسا يتنادمان قليلًا، وخاضا في شئون مختلفة، وفي النهاية عندما قام جعفر نظر الرشيد إليه وهو يقول في نفسه: قتلني الله إنْ لم أقتلك.١
١  الفخري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤